غسان زقطان
ghassanzaqtan@yahoo.com
(فلسطين)

  • مثل رجل يتذكر
  • قلائد يابسة
  • سيرة بالفحم
  • الخروج من دمشق الشام إلى "أين"
  • أربع أخوات من "زكريا"
  • أعمى
  • سيرة بالفحم
  • أحمد العوضي
  • نقش
  • حصان
  • تهويم
  • الكرامة 1965
  • سلال ملونة
  • عمان 1966
  • مومس المخيم
  • عمّان 1975
  • غرفة الشركسي
  • بيروت آب 1982
  • دمشق 1988
  • تخطيط أولي
  • بيت- تونس 1992
  • تونس 1994
  • رام الله
  • ولد بكّاء
  • وصف
  • ذهاب
  • ***

    مثل رجل يتذكَّر

    الرحلة (1)

    ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة، متكئاً على سيرتي، ومتأملاً خزائنَ الموتى وطيورَهم، ممتلئةً بالنسيان وحوادثَ يوجِزُها رحالةٌ قلقون ومتعثراً بنوايا جوّالين أخّرتهم أمنياتُهم، وبلصوصٍ لم يتوقفوا ليسألوا عن الدروبِ المؤديةِ للتلال، ومهتزاً في حقولِ الذرةِ الفقيرةِ تنفرُ من تحتِ قدميّ الطيورُ مثلَ فراشاتٍ متربة...

    الأمرُ كلُّه:

    يشبهُ النومَ في غرفِ الميتين
    التجوّلَ أعزل
    في الرائحة.. ،
    حيثُ أحلامهم، دونَ باقي الرواية،
    منسيةٌ في الظلالِ
    وحيثُ انتهى الأمر
    ...
    ...
    ... وفي الظلِّ، أيضاً،
    ستلمعُ أكتافهنَّ النساءُ القتيلاتُ،
    متروكةً في التذكّر.

    مَنْ نثرَ الكحلَ في جنباتِ الكلام ِ
    وقادَ البخورَ إلى الترنيمةِ
    مَنْ استغفرَ ونَوَى
    على هذهِ المصاطبِ المفرودةِ لغيرِ العابرينَ والطرّاقِ
    مَنْ أحبك حتى لا يوقظك
    وبكى عنك
    وتنهدَ فيك
    وإذ تتذكّرُ كلَّ شيء
    : القشَّ والكتفَ
    الحفيفَ والظلَّ
    الماءَ والشهقةَ
    التعثرَ والمناداةْ

    لا تراهُ.. لا تلمسه!

    الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ
    يأتونَ بالمنفى إلى البيتِ
    ويرمّمونَ الماضي
    في مرثيةٍ عادلةٍ
    يعيدونَ صنعَ القهوةِ
    بهمّةِ ميتٍ
    ويطوونَ الرغبةَ مثلَ حاشيةٍ ملّونةْ.

    الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ
    يختارونَ مقعداً منـزوياً
    مثلَ اسمٍ ذابلٍ لشجرةْ
    ويبدأونَ بوصفِ الماضي مِن جديد:

    المرأةِ المتزوِّجةِ حديثاً
    الخيانةِ الممهّدةِ في حديقةِ الجار
    الدرجِ المعتمِ
    وخزانةِ العائلة
    السيرِ على حافةِ الروايةِ
    وتفتيشِ المارّة

    زراعةِ النساءِ في المخيِّلة
    وإعادةِ النظرِ في الندم
    ترتيبِ المنحنياتِ القليلةِ على الرفوف
    وإشعالِ شمعة...

    ها هي البيضاء
    أختُ الناسِ
    صوتُ الذاهبينَ إلى التلالِ
    تفرُقُ المعنى أمامَ الماء.

    نبدأُ من هناكَ إذنْ
    ونذهبُ في هناك.

    مآذن بيضاء
    سور أبيض
    والنوم أبيض
    صيحةُ الأسماء تعبرُ من أعاليَ السورِ
    نحوَ قلوبهِم بيضاءَ.

    ممتلئةٌ بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة
    ناقصةٌ ومشغولةٌ بالنسيان..
    ... مَنْ لم يغطِّ الجبالَ
    ومَنْ أهملَ السهلَ حتى اطمأنَّتْ أفاعيه
    مَنْ كانَ ينسى أحابيلَه في مسَّراتِ هذي القرى،
    في زراعتها وهي تنأى عن البرِّ
    حين "المكلاّ" التي صَعَدَتْ.. سلَّماً غائراً
    كي تنقِّبَ سوقَ النساءِ وما تركَ الذاهبونَ، الذكورُ،
    على القشِّ من نومهم
    حيث أكتافُهم لم تزل تُشتهى
    والضحى يدفعُ اليومَ من ظهره مثلَ ثور؟! مَنْ لم ينمْ كالغبار على دككِ السوق،
    سوقِ النساءِ، ولم يتئدْ،
    أو يُرى في المساءات يأوي إلى الخان
    أبيضَ من أثرِ الكلسِ والجيِر والحرِّ؟!
    ومن لم يثقْ بالرضى، أو يربّي النسورَ على حجرِهِ
    أو يفق نائحاً
    أو يُنادى من الليلِ سبعاً
    كما تفعلُ الطيرُ؟!

    مَنْ أنتَ لتتذكَّرَ وترى
    العابرَ متمهِّلاً في أحجياتِ الآخرينَ وعجائبهم
    من أنت لتتذكر!
    العابَر! متمهِّلاً في عتمتهم
    وفي أثرِكَ لعنةُ أشيائهم
    ... الشالُ في الواجهةِ المضاءةِ قبلَ ثلاثينَ سنة
    حين كنّا عائدين من النهرِ بأعضاءٍ مبلّلة
    أجراسُ الخطايا في الظلال
    وثرثرةُ الفضيلةِ في الصالة
    إشاراتُ المثليينَ في الحدائقِ العامة
    وتعاليمُهم
    اُعذر البيتَ
    والدرجاتْ
    اعذر الضوءَ والذاهباتْ
    مضت زوجةُ الآخرين إلى بيتِها وحدها
    واعذر الخائناتْ. مَنْ أنت لتتذكَّر
    مَنْ أنتَ لتمرَّ في احتفالاتهم المطفأة
    وتتعثرّ في أحلامِهم دونَ رأفة؟!

    مَنْ أنتَ لتفعلَ ما تراه
    وتروي فننصت:
    ضيوفي عشرةُ عميان
    يتوكأون على الليل
    بيضاً من العمى
    يحيطون بنومتي

    بينما كلبٌ أسودُ يتنفسُ فيهم
    ضيوفي عشرة عميان
    وصدَقَتي جاريةْ.

    ****

    الرحلة (2)

    لم تكن أنتَ
    رغمَ أنَّ العطرَ أضاءَ الهواء
    لم تكنْ أنتَ
    رغم أن الشراشفَ تبلّلتْ
    وثمة مَنْ ابتسمَ في العتمة
    لم تكنْ أنتَ
    رغم أنَّ المرأةَ التي بالفحمِ
    تنهدتْ
    وحرَّكَتْ كتفها في البياض !

    أفكِّرُ بكِ، وأتندَّمْ..
    بيضاءُ وفقيرةٌ
    مسالكُ الكهوفِ
    حين صعدنا لنتلامسَ
    هالكةً الرغبات، ومتعثرةً، كانت
    وأنت تبكينَ؛
    لأنّنا لا نعرف.

    أفكِّرُ بكِ وأتندَّمُ
    قلبي مثقلٌ بالمرايا
    ويداي متعلِّقتان بالدم..
    وعينايَ برفقةِ الملكِ وطرائدِهِ
    لومُكِ يصلُ إلى نومي
    ومثلَ عتمةٍ صغيرةٍ أحملُكِ معي
    بقشِّكِ وترابِكِ ونهديكِ المرنين
    وأتندّم إذ أتذكّر
    لأنَّ
    الزمنَ
    يمرّ.

    الكتابُ في زاويتهِ
    مهملٌ قليلاً
    الحكايةُ فيه كما هي
    الأسماءُ
    والأضواءُ
    العائلةُ
    المظلّةُ وصبيُّ الحلاّقِ وبائعُ التمرِ
    المشربية والقوسُ والبسملةُ في الأعلى..
    حيث البياضُ وحجاب الحفيدة المريضة.
    في الأسفلِ بهتتْ ملابسُ المارّة
    بهتت قليلاً، وأصواتهم، ربما...
    لأنَّ الزمنَ يمرّ.

    المرأةُ بالفحمِ
    مخططةٌ ومدروسةٌ على مهلِ
    العنقُ مظللٌ
    ويشي بالرغبة
    ذكورةٌ مغلقةٌ
    تسبّبت في كل هذا !

    سنذهبُ في هذهِ الأحجية
    سنذهبُ من مشهدِ البابِ
    من تمتماتِ الممرِّ
    وموعظةِ الشمعِ
    كي نلتقي غامقينَ على حافّةِ الضوءِ
    لا شيء يوحي بنا،
    أو يشي بانتظارٍ يساوي الذهاب.

    أفكِّرُ بكِ
    ويأكلُ قلبيَ الندمُ
    الهواءُ يهجمُ على أصابعي
    وأنّى حللتُ
    يتبعني ترابٌ وقشٌ
    والرجل نفسه، لم يأتِ، ويدُه في يدي
    تبدّلَ شعرُه، قليلاً
    وانحنى
    واختلطت عاداته
    وهو يجفُّ على العتبةِ
    وبينما الزمنُ يمرُّ..
    يكسر طفولتَه مثلَ جوزة ٍ
    ليرى الحكاية كما شهدها:

    الرنيُن الذي كانَ يوقظني، دونَ أهلي،
    وحيداً
    وثّمة صفّارة تقسمُ النورَ
    في مدخلِ النومِ بيضاء، أو هكذا خلتها،
    وهي تفتح أنفاقها في السواد
    الذي مرَّ عنَّا على مركباتٍ منَ الشرِّ

    ... أو رميةِ النردِ في منزلٍ في التذكُّر!
    .....
    أسماؤُهم.. في الظلالِ.. مقسّمةً
    مثلَ خبزٍ.. تنهّد في النارِ واسودَّ

    ظلٌّ لمئذنةٍ في الجوارِ
    ثلاثةُ أولاد في الكرمِ
    والجدتان..
    ...
    سيعبُر ضوءٌ من الحافلاتِ السريعة
    لسنا هنا، كي نحبّكَ لكنها عتمةٌ
    في الممّرات تخلط أصواتهم..
    حين لا نهتدي للخيوطِ التي تمسكُ
    الأبَ والعمَ والجد.

    ... انحدارُ الطريق، الحصى والترابُ
    التوجُّسُ من ضحكةِ الضبعِ... في ثَنيةِ الوادِ
    والريبةُ المصطفاةُ على الخيرِ...
    والتينُ والصبُر

    ترنيمةٌ من كلامٍ عجيبٍ..
    وسيدُنا الخضرُ...
    عشرون بنتاً سيعبرنَّ من "بيت جالا"
    إلى الديرِ..
    حيثُ الغريبةُ عن أهلِها، جدَّتي،
    تشتري ما أحبَّت ْ
    وترسلُ منديلَها للحكايةِ..
    أبيضَ من فتنةِ الصبرْ..

    زيتٌ على ساحلِ الكتفِ
    يهبطُ نحو المرايا مِنَ الظهرِ...

    من دلَّ أمي عليّ وقد تهتُ
    في صلواتِ النصارى..
    ومسّت تراتيلُهم نومتي؟

    في النهارِ الذي كان لي
    حين نعبُر من تحت أقواسِهِ، أو صبيحتهِ
    حبلُه في يدِ الأبِ
    أحلامُه في المباخرِ
    أمواتُه في الحديقةِ يرمونَ زهراً على الصاعدينَ
    وفي شرفةِ المسلماتِ زهورٌ وشايٌ
    تزيّنهُ.. كي يصيرَ الأحدْ!

    ومَنْ قادني مِن يدي كي أرى
    نعمةً في الثمارِ
    وعلّيةً
    تنعقدْ!

    الطائرُ المُستَردُّ من النومِ
    أعمى ومستوحشٌ..


    بينما كنتُ طفلاً
    وقد سمّياني على اسمِ مَيْتٍ
    فأيقظتهُ دونَ قصدْ.

    قد سمّياني إذنْ لا مجالَ لإيجازِ أمري
    وعطشان من مشي أهلي على هدي أمواتهمْ
    حولنا

    طائرٌ لا يُرى ظلَّه ُ
    والمساءُ له..
    كلَّما اكتملَ القوسُ يُوتى به،
    وهو أعمى ومستوحشٌ،
    مثلُنا!

    رام الله

    ***

    الجبل

    مغموراً بغبارِ الليلِ سأصعد هذا الجبلَ
    مغطّىً بصعودِ الملكةِ
    يتبعني، منذُ الصيحةِ، ومن شيّعتُ
    ولا أتبعُ أحداً
    كالمفردِ..
    كثّرتُ النومَ
    وقسَّمتُ النعمَة والوقتْ.

    متبوعاً بعطايا الحكمةِ
    حيثُ تأمَّلني الأغرابُ
    وأخرّني ترتيبُ الإثمْ..

    كأنيّ أتذكّرُ صوتاً.. فأراه
    ونافذةً.. فأطلُّ على سُررِ الموتى
    أغنيةً.. عالقةً منذُ الفطرةِ في المعنى
    فتتم!

    وكأنّي أتذكّرُ جبلاً محروساً بتمائمَ زرقاءَ
    وأدعيةٍ من صنعِ سواي!

    كأنّ صياحَ رجالٍ كانَ هنا
    وهبوبَ خطىً
    وحديثاً من خشب الآراكِ
    وحجراً ملموماً في السهل!
    ضباعٌ تضحكُ حينَ وصلْتُ
    وقد صَمَتَتْ!

    من يصعدُ هذا الليلَ الموحشَ
    نحو دروبٍ ترسمها ضحكاتُ الضبعِ وتعويذة أنثاه؟!

    ... ومن يتعثّرُ في الأوديةِ وحيداً
    حيثُ العتمةُ، أُمُّ الظلِّ... وراوية الألغاز
    تنفِّضُ ليلتها وتشدُّ حبالي؟!

    من يرسمُ نومي بالألغازِ ليدخلَ من نافذةِ الحلمِ...
    سواه !
    *
    هكذا نحنُ
    نعبرُ من فلواتِ الرضى
    حيث تهوى الجبالُ،
    التي ذُكرت في حديثٍ مضى،
    هادئينَ من النفي
    خطّارَ ليلٍ
    دهاة..
    وقد قلّبتنا الحياةُ.

    أيُّنا في المنامِ، إذن، كي يُنادى من الحلم؟!
    أو في الرواية كيما ينادي ويذكرُ كالصيف؟!
    أو يستردُّ من الشعر!

    أو أنّه جبلٌ يحلم العابرينَ، مشاةً من الجرف!

    من مرَّ عليكَ ولم يفتنكْ!

    ... لا العشبَ
    ولا خطّارَ الليلِ المشمولينَ برحمة وجهتهمْ
    ... لا الوحشَ
    ولا الطيرَ المرزوقَ بنيّتهِ
    ... لا الصاحبَ
    لا الصاحبةَ
    ولا المشدوهَ بماءِ الملكْ
    .. لا الزاهدَ
    لا الغالبةَ بفتنةِ حُجَّتِها
    ... لا العابرَ
    لا المغلوبَ
    ولا النّباحَ وراءَ الفلكْ.
    *
    وثمَّةَ أنتَ
    حيثُ الوحشةُ، حين خسرتَ
    وحيثُ ملكتَ تمامَ الغيِّ
    وبينَ يديكَ ترابُ "الديلمِ" مبثوثٌ
    وسهولُ "الريِّ"
    وأدعيةٌ ستكونَ "الشامَ" إذا أصغيتَ
    وماءَ "طليطلَة" المرسومةِ بالأزرقِ في الليلِ
    بريشةِ "نصراني"!*

    * توليدو في الليل "لوحة الفنان "الغريكو"/ القرن السادس عشر.

     

    ****

    خيول سوداء

    قتلى الأعداء يفكِّرونَ بي في نومتهمُ الأبديةِ دونَ رأفةْ
    بينما تصعدُ الأشباحُ سلالمَ البيتِ ومنحنياتهِ
    الأشباحُ التي التقطتُها من الطرقاتِ وجمعتُها مثلَ قلائدَ
    من أعناقِ الآخرينَ وخطاياهم

    تذهبُ الخطيئةُ إلى العنقْ.. وهناك أربِّي أشباحي وأطعمُها،
    الأشباحُ التي تسبحُ مثلَ خيولٍ سوداءَ في مناماتي.

    بهمّة ميتٍّ تنهضُ أغنيةُ "البلوز" الأخيرةُ
    وأنا أفكِّرُ بالغيرةِ
    البابُ مواربٌ والتنفسُ يدخلُ من الشقوق، تنفّسُ النهرِ والسكارى
    والمرأةُ التي تصيح في الحديقةِ العامةِ على ماضيها...

    وحيَن أغفو
    أجدُ حصاناً يرعى العشب َ
    كلّما غفوت
    يأتي حصانٌ ليرعى أحلامي!

    على طاولتي في "رام الله" رسائلُ ناقصةٌ وصورٌ لأصدقاءَ قدامى،
    مخطوطةٌ لشاعرٍ شابٍ من "غزة"، ساعةُ رملٍ
    ومطالعُ تخفُق في رأسي مثلَ الأجنحة.

    أريدُ أن أحفظَكِ مثلَ تلكَ الأغنيةِ في الصفِ الابتدائيِ
    تلكَ التي أحملُها كاملةً دونَ أخطاءٍ
    اللثغةُ والرأسُ المائلُ والنشاز..
    الأقدامُ الصغيرةُ التي تطرقُ أرضيةَ الأسمنتِ بحماسٍ
    والأيدي المفتوحةُ التي تطرقُ المقاعدَ..

    ماتوا جميعاً في الحربِ، أصدقائي وأولادُ صفّي..
    وبقيْت أقدامُهم الصغيرةُ وأيديهمُ المتحمسةُ.. تطرق أرضياتِ الغرفِ
    والموائدَ وأرصفةَ الشوارعِ وظهورَ المارة وأكتافَهم..
    وحيثُ ذهبتُ
    أسمعُها
    وأراها.

    *******

    مثل رجل يتذكر

    الرضى عثرةُ الموتى وتخاذُلُهُمْ
    هكذا قالْ،

    وقالْ:
    مثلَ بحيرةٍ هادئةٍ
    تهبطُ روحي على الأرض
    كلامي في العشبِ
    وصُراخي في الشجر ِ
    وتردّدي في الظلَّ..

    وما لم أقلهُ
    يتراكم كالعتمةِ في الآبار...
    أمّا وقد وصَلتَ إلى هنا
    فلن ترى أبعدَ من ذلك
    وأضافْ:
    أمّا أنا
    فأمشي على هَدْيِ مولاي.

    وقال في مكانٍ آخرْ:
    مثلَ جنازةٍ مقتضبةٍ
    تتعثّرُ الرؤيةُ
    وينقضي اليومُ

    ويبدو الموتُ حادثاً متطرفاً
    سبّبتهُ العجلةُ

    وأيضاً:
    مثلَ حقلٍ مرتبكٍ
    أضعُ مطالعاً في التذكّر
    وأنصتُ لخبطِ أجنحتها.

    *******

    نهايات

    نهايات (1)

    بعدَ مصادفةِ المقهى
    والخطابِ الرثِّ للابنِ العائدِ
    قربَ المدخلِ
    كانت النادلةُ
    تمسكَ يدَ اللِّص ِ

    وتقبّلها.

    نهايات (2)

    حيثُ يتعانقُ المارّةُ
    بسببِ الوقت.

    نهايات (3)

    حيثُ يسقط الرجلُ
    على مقعدِ الحديقةِ
    بينَ أرجلِ الصبية.

    **********

    قلائد يابسة


    صيحة فوق الحرش

    في العتمةِ متسعٌ
    ليدٍ سوداء َ
    بخمسِ أصابعَ
    وذراع.

    في العتمةِ بيتٌ
    منهمكٌ بمشاغلِ موتاهُ
    المنهمكينَ
    بنقلِ نواياهمْ
    في القوس.

    في العَتْمةِ أصواتٌ هلكتْ
    وصراخٌ ظلََّ على الأحجارِ
    وأسيجةُ القرّاصِ
    وماءُ الحوشْ.

    ومثل لحاءٍ خشنٍ تبدو الصيحةُ
    فوقَ الحرشْ.

    في العَتْمةِ
    حيثُ يحومُ الماضي
    حولَ السلّمِ
    منطوياً
    كقميصٍ باردْ

    تتعثّرُ أفئدةِ الموتى
    وحفيفُ تجوِّلهم في الردهة..
    يبدو مثلَ نباتٍ غائر
    أو عينينِ موافقتينِ تماماً

    يمضي السلّمُ متكئاً ووحيداً
    نحو بياضٍ تضمرهُ الأقواس

    لا وقتَ ليكفيهمْ
    لا وقتَ، ومخذولينَ
    نواياهمْ معهم، بيضاءَ،
    وعزلتهُمْ
    فيهم.


    ... من فكّرَ فينا كي ننهضَ، في العَتْمةِ،
    ملدوغينَ بصورتِنا
    بِيْضاً من أثر النوم ِ
    وثّمة أقواسٌ تتفّرقُ منا
    شاحبةٌ تبهتُ في الردهات؟!


    من فكَّر فينا، نحن المنسيّينَ،
    ذهبنا في العرباتِ إلى المنفى
    ورجعنا
    منسيين
    بلا عربات!

    *************


    الأخدود
    عجيبةٌ أيامُ الملحِ
    كأنها لِسوانا !
    ومثلَ مأساةٍ محكمة ٍ
    اكتملتْ للتوِّ
    يبدأون بالتنفس، إذ نتذكّرها.

    التلالُ المنسيةُ في سأمِ المنحدرات
    الجبالُ التي تشهقُ إلى الغرب
    عرباتُ القتلى الطوّافة
    وإيمانُ الميتِ كاملاً .

    الأيدي التي تظهرُ من العَتْمةِ لتُخبِرَكَ بكلّ شيء
    الأخوّة العميقة التي لا تؤدّي إلى حكمة..
    الكلامُ الذي لم يعد مناسباً للأمكنة العالية..

    عجيبةٌ أيامُ الملح ِ
    مذمومةٌ مثل زرعٍ فاسدٍ
    ووحيدةٌ في الهوّة الآن.

    وفيما نحنُ نصعدُ، لأنَّ الأمرَ كذلك،
    تتدحرجٌ، مهجورةً، خلفنا إلى غيِر رجعة
    بشراتنُا الغامقة
    وتجاربُ النوم
    ... أسماء وألقابٌ طويلةٌ إلى الأبد
    لهجات، أيضاً، تشي بريفٍ لم يَعُدْ ضرورياً...

    عجيبة أيام الملح
    حتى أنها لا تصلح للتذكّر!

    **********

    اتبع الرائحة

    اتبع الرائحةَ يا ضبعُ
    اتبع الرائحة
    اتبعها وحيداً، مرقّطاً، هائماً...
    كأنّكَ لا تدري
    واضْحك في وديانٍ وعرة
    يشحبُ صخرُها ويَسوَدُّ.

    ... اتبعها يا ضبعُ
    اتبعْ قتّاليكَ حتى نوافذهم المنخفضة
    واعُبْر بسراجَيك نومتهُم
    وبدِّل برائحتك أجسادَهُم

    ... ادفعهم إلى الليل بلطفِ حيلتك َ
    دائخينَ، يتعثّرونَ في أحلامهم

    اتبع الرائحة يا ضبعُ
    يا أبانا
    الضاحكَ
    في
    الوديان.

    ********

    قلائد يابسة

    العربةُ
    ... تتدحرجُ منذ الجدِّ الهارب
    في منحدراتٍ لا مصبّاتَ لها

    العائلةُ
    ... تطرقُ رؤوسنا بحجارةِ الرواية
    وسبعة نداءاتٍ ميتةٍ.

    جدولُ الدمِ
    يتبدّدُ في الهوَّة مختلطاً بالغبارِ
    والحصى وريشِ الطيورِ وأغبرةِ الطلع.

    السلالةُ
    مبنيةٌ على سبعة ضباعٍ عادلة

    حمولاتٌ
    وصلت الآن َ
    وستصلُ، أيضاً، الآن َ

    الأشباحُ
    في الداخلِ موصوفةٌ بأمانةٍ

    الوصايا
    تتدلّى مثل قلائدَ يابسةٍ

    العربةْ
    والعائلة
    وجدولُ الدم.

    السلالةُ
    والأشباحُ
    والقلائدُ
    تتحطّمُ دون ألمْ.

    ***********

    عربات في العتمة

    لن يبصرَ طرّاقُ الليلِ يداً
    ستؤشِّرُ نحوَ جنوبٍ منخفضٍ في الظلِّ
    طريقاً من أكفانٍ بيضٍ
    وحصائرَ زرقاءْ..

    أيقظ أبناءَك يا أبتي
    واتركْ كتفيكَ المائلتيِن على الشبّاكِ

    ... لمشيكَ في جنباتِ الصيفِ
    حفيفٌ من أسفٍ غلاّب.

    أيقظ أبناءكَ
    سوفَ يميلُ الحلمُ بِِهِم ْ
    وسينقرُ دفٌّ
    في العاشرةِ تماماً
    في المنحدرِ
    ويصعدُ من أقصاه ِالمعتم ِ
    رفُّ ذئاب.

    **********

    ذئاب

    هجرةُ الطيِر عن قلبهِِ
    تتركُ السهلَ أبيضْ.
    حينَ الحكاية بيضاءْ
    والنومُ أبيض
    والصمتُ أيقونة للمنادى.

    ضحكةٌ من ترابٍ، ستنشأُ، إذْ يُفتحُ البابُ من جهةِ الخوفِ
    ترنيمةٌ للشتاءِ الكبيرِ
    وأصواتُ من غادروا منذُ وقتٍ طويلٍ ستقفزُ مثلَ الجنادبِ
    إذْ يُفتحُ البابْ.

    انتظرْ لحظةً كي نجفَّ.
    وانتظرْ لحظةً
    إن في إِثرنا أسفاً طائشاً
    طائراً من خزفْ
    انتبه للقلائدِ في السقفِ...

    لو تشعلُ الضوءَ
    أو تكتفي بالجلوسِ

    انتبه للثمارِ على الأرض...

    صوتكُ في غرفتي يُهلِكُ الصمتَ
    صمتَ الأواني
    وصمتَ الرفوف ِ
    وصمتَ الكتابةِ
    صمتَ الإضاءة ِ
    صمتَ البقاءِ...
    الذي كنت أجمعه من سنين،
    على مهلِ مَنْ يختلي في ذهابِ الحديقةِ بالصيفِ،
    أو يستردُّ الغيابَ،
    الغيابَ
    الغيابَ الذي لا يقفْ!

    ********

    ذئاب، أيضاً

    حينما اقتربتْ واهتدتْ...

    كان صوتُ التنفُّسِ يأتي بها
    ثمَّ رائحةُ البابِ.

    مرّتْ خطىً
    ثمَّ دبّتْ.

    ... واختفى كلُّ شيءٍ هنا
    أنت والآخرونَ
    الثيابُ البعيدةُ والجالسونَ
    الزهورُ القليلةُ في الحوض ِ
    لونُ النبيذِ
    القصيدةُ:

    يأتي العدوُ ليشربَ من شاينا في المساءِ
    ويسندَ غدّارةً للجدار ...

    القصيدةُ
    كانت لدرويشَ
    هل قال: غدارةً أو بندقيته؟!
    كانت ابنتهُ في الظلالِ، العدو،
    وكان لها حاجبانِ كثيفانِ ...
    كان لها طعمُ نهرٍ بطيءٍ
    صوتٌ من النومِ يعدو ورائحةٌ من ذهابْ!

    اختفى الزائرونَ،
    كراسيُّهُم تحتَهمَ تختفي في ضبابٍ خفيفْ،
    الممِّثلُ في مشهدِ الموتِ
    ، قبلَ النهاية، ِ

    أغنيةُ الجازِ
    ، في حانةٍ لم يعد اسمُها واضحاً،
    ليلةَ السبتِ في قلبِ "ممفيس"...

    شكلُ المعاطِف في المدخلِ الجانبيِِ..

    وظلّتْ تنادي عليَّ الذئابُ!

    **********

    عدو يهبط التلال

    حين يهبط
    أو يُرى هابطاً
    حين يوحي لنا أنَّه يهبطُ الآنَ.

    التمهلُ والصمتُ


    نقصانُه كاملاً
    وهو يصغي أمامَ النباتاتْ.


    ريبتهُ وهو يهبطُ
    المؤجَّلُ من صمتهِ
    من أنّهُ ليسَ "نحنُ"
    وليسَ "هنا"
    يبدأُ الموتْ.

    اشترى زهرةً
    زهرةً، ليسَ إلاّ،
    لا وصايا لها أو إناء.

    من التلِّ يمكُن أنْ يُبصرَ الحاجزَ العسكريَ، جنودَ المظلاتِ..
    أنْ يبصرَ القانطينَ، حوافَ الجبالِ، الطريقَ الوحيدةَ ..
    حيثُ ستتركَ أقدامُهم أثراً في الصخورِ وفي الطينِ والماءْ.

    الخساراتُ، أيضاً، ستبدو من التلِّ
    متروكةً دونَ جهدْ.

    الهشاشةُ في الظِلِّ
    حيثُ اليهوديُّ ذو الشاربينِ،
    الذي يشبهُ العربَ الميّتينَ هنا

    في حوافِ الجبال، ستبدو الكهوفُ مسالمةً كلُُّها
    والطريقُ على حالها.


    بينما كانَ يهبطُ
    كانت كهوفُ الجبالِ تواصل تحديقَها
    وهيَ ترمشُ في البرد.

    رام الله /2002


    سيرة بالفحم

    أربع أخوات من "زكريا"

    أربعُ أخواتٍ يتسلَّقنَ الجبلَ
    وحيداتٍ
    بثيابٍ سودْ.

    أربعُ أخواتٍ يتنهدَّن أمامَ الحُرشْ

    أربعُ أخواتٍ في العتمةِ

    يقرأنَ بريداً مبتلْ.

    كان قطارٌ يعبرُ خلفَ الصورةِ
    من "عرتوف
    كانَ حصانٌ يحملُ بنتاً من "زكريا"
    يصهلُ في المنحدرِ وراءَ السهلْ.

    كانَ الغيمُ يمرُّ بطيئاً
    في الأخدودْ.

    أربعُ أخواتٍ من "زكريا"
    عند التلِّ
    وحيداتٍ
    .. بثيابٍ سودْ.

    أعمى

    أين تمضي
    ، حين تنطفئُ الدورُ،
    الطرقُ؟!

    حين أمشي
    مثل تلويحٍ من الماضي
    وحيداً في هسيسِ الأربعين؟!

    أين أمضي
    حينما أخرجُ من أيقونةِ الذكرى
    وقد نوديت
    في أرضٍ من الجان؟!

    سعيداً
    هائماً كالصوت ِ
    أو
    أعمىً
    يدبُّ على المكان!

    سيرة بالفحم

    سيشبهني من يقولُ لها:
    نامت الناسُ
    والخيلُ تهرمُ في عدوها.

    ثم يشبهني من يُنادي على أهله
    كي يقال:
    سمعنا من الليل صوتاً
    كأن أراجيحَه من شعورِ النساء!

    وينحتني الصوتُ حتى أغيبَ
    ليذكُرني من رأى.

    المغنيّ إذن
    والأغاني
    سواء!

    أحمد العوضي

    عمّي الذي قال لي:
    جئتُ من بركةِ الخَضْرِ*
    أمّي التي ولدتني.. رأتْ.

    كان يسبقُنا بينَ تلك الخرائبِ
    يهرسُ أعناقَ أزهارها بانتباهٍ
    ويرقصُ بينَ الممراتِ
    يخرجُ أنفاقها عتمةً.. عتمةً

    أو يصيح بأدراجها وهي تهبطُ
    فرحانَ
    فرحانَ
    حتى اختفى..
    عمّي الذي لم يطقهُ أبي
    أو يُحطهُ بعينيهِ
    أو يشعلُ الضوءَ حتى يرى
    كيف ترقصُ في روحه، مثل جنيّةٍ،
    يا أخي.

    عمّي الذي صدّه عمّهُ
    كالغبارِ الغريبِ عن العائلةِ
    كان ينحتُ أحجارَ عزلته
    وهو يضحكُ من أهلهِ
    من أعاجيبهمْ
    من حريرِ السلالة ِ

    * بركة تشبه الفسقية التي تجمع الماء شرق قرية الخضر قرب بيت لحم.


    من صفوها
    .. ثم يضحك من قلبه
    أو ينقرُ أحلامَنا كي نراه.

    لم يُرد غيرَ عشرٍ وألقى لنا ما تبقى
    وقبرينِ لم يحملا زهرةً من يديه..

    سيأتيهِ زهرٌ من العَتْمتينِ
    وماءٌ ليشربَ في الليل ِ
    جنيّةٌ كي تغطيهِ
    هفهفةٌ كي يرى أمه، جدّتي، في المنامِ
    فيرضى كثيراً عن الناسِ والشاي والماء ِ
    والخبزِ في صحنهِ
    ثم يغفرُ حتى ننام.

    وحيدٌ وأبراجهُ حوله
    حيث لا يصعدُ السالكونَ ،
    وأين التقى الخوفُ
    والمُلْتَفِتْ؟

    .. وأخبرني بينما كانَ يضحك:
    من بركةِ الخِضرِ، يا ابنَ أخي،
    بركة الخِضر..
    أمي التي ولدتني رأتْ.

    نقش

    الذي سوفَ يأتي..
    أتى!
    الذي كان يمسكُ بي، مثلَ عرّافةٍ،
    من كلامي
    ومن مِشيَتي

    والذي كنت أرقبه من مكامنَ سوداءَ
    يمشي إليها
    وتمشي له.

    مثل نقشٍ عميقٍ يوضّحُ ألغازَه وهو يمشي.

    والذي كنتُ في طرق النوم ألقاه
    يغرفُ من ضحكتي الماءْ
    .. ..
    جاء!

    حصان

    كلما غفوتُ
    أجدُ حصاناً يرعى العشبَ

    دائماً
    يأتي حصانٌ ليرعى العشبَ

    حين أغفو.

    تهويم

    ليتني لا أراكِ
    ولا أسمعُكْ.

    ليتني جئتُ وحدي إلى هذهِ الأرضِ
    أحبو على فضّةٍ كالغيابْ.

    ليتني لم أبعْ جنّتي بالترابْ.

    ولم أتبعْكْ.

    الكرامة 1965

    الهديرُ الذي كانَ يصعدُ منذُ الطفولة ِ
    من جهةِ النهرِ،

    حيثُ التلالُ ستهبط للماء لمّا ننام،
    وحيثُ الحقولُ ستنهضُ في الليلِ بعدَ العشاءِ
    وتصعدُ للديرِ...

    الهديرُ الذي كنتُ أسمعهُ، غامضاً،
    وهو يصعدُ نحوَ "الكرامةِ" و"السلطِ"،
    حيثُ الكلابُ التي نَبَحَت دون جدوى

    الهديرُ الذي كانَ يذرعُ تلكَ النواحي
    ويزحفُ تحتَ المصاطبِ والدورِ والقشِّ...

    يتبعُني من جديدْ

    نحنُ في تونسَ الآنَ
    والخيلُ تعدو إلى حجرِ الأربعينْ
    ومن أولِّ العمرِ.. أقصَى التذكُّر
    تنبحُ تلكَ الكلابُ العنيدةُ في الحوشِ.

    سلال 2ملونة
    عمان 1966

    الكلابُ التي نَبَحَت في "الكرامة" لمّا مرضت
    الرجالُ الذين أتوا كي ينادوا أبي
    النساءُ اللواتي قلبنَ فناجينهنَّ على البابِ
    الثيابُ التي بردتْ فوقَ حبلِ الغسيلِ
    الغبارُ الذي جاءَ بالأمسِ
    أمي وضحكتُها، حين تصفو لنا،
    أخوتي كلّهم
    والذي مات، أيضاً، أتى وهو يضحكُ، خلفَ الزجاجِ من البردِ.

    شايُ السحور
    العيونُ الكثيرة في الثالثِ الابتدائي
    والشمسُ والشمس..
    والطقمُ فوقَ المدرس في حصةِ الكيمياءِ الطويلةِ
    والديرُ والدير..
    والحافلاتُ التي وصلتْ في الصباحِ من "القدسِ"
    أغراضُ أهلي التي تصعدُ الغورَ نحوَ الجبال إلى "السلط"
    أحمالُهم فوق أكتافِهم، بينما يصعدونَ وينحدرُ الوقتُ
    تلك السلالُ، السلالُ، السلالُ
    التي أكملُ الآن زينتَها وهي تضحكُ
    مما سأصنعُ
    أو ما صنعتْ!

    مومس المخيم

    نوايا العابرينَ إلى منـزلها
    يمكن أن تُلمس بالأصابعِ
    عفيفةً ومتباهية.

    المتأخرونَ في الحقولِ
    سيجدونها عالقةً على الشجرِ القصيرِ
    والدرجاتِ الخمسِ المعشبةِ
    ونباتِ المجنونةِ على المدخل.

    أساورها التي تخشخشُ مثل فرسٍ غامضٍ في نومِهم
    ثيابُها الداخليةُ التي تلوّنُ أحلامَهم
    ونهداها المطروقان مثل دربِ طاحون
    حركتُها المرسومةُ بين المغسلةِ والسريرِ
    مثلَ محفوظةٍ شعبيةٍ رائجةٍ

    لوحةُ الفاكهةِ على الحائط
    الشراشفُ والمخدتان
    ورائحةُ الكولونيا الرخيصة
    المساميرُ خلفَ الباب
    حيث تَرَكَتْ ملابسُهم رائحتها،
    والياسمينةُ خلف النافذة.

    انحناءاتهُا الذاهلةُ
    وصمتُها المرجومُ بالمشقّة.

    نوايا العابرينَ إلى منـزِلها
    المارّة والطرّاقُ،
    الطلبةُ والموظفونَ والدجاجُ،
    العرباتُ والحرسُ والكلابُ،
    الحمّالونَ والقططُ وبائعو الخضار
    الآباءُ والأبناءُ
    كلُّ من لهُ رائحةٌ خلفَ نومها المشقّق
    كانوا هناك،
    خلفَ الأولاد
    والعربةِ
    والنعشِ
    طاهرين في طريقهم إلى القصدْ.

    عمّان 1975
    غرفة الشركسي

    لا شكّ بأنّ نوافذها انطفأتْ
    وتغيَّر لونُ ستائرِها

    لا شكَّ بأنّ الجيرَ تشقّق حولَ اللوحةِ..
    لوحةُ زيتٍ لنساءٍ يقطفنَ زهوراً
    في حقلٍ يصفرُّ...
    وثمة خيطُ دخانٍ..
    أو زوبعةُ ترابٍ
    ثمة ما يتحقّقُ عند العتمةِ، ظلُّ بياضٍ
    أو فرسٌ تتهيأُ أنْ تبدو،

    في الليلِ
    وفي آخرِه كنت أمرُّ
    فأسمعُ صوتَ سنابِكها
    .. تعدو..
    في الحقلْ
    فأركضُ مسحوراً
    وبيوتُ الشركسِ تتبعني
    من "وادي السير"
    إلى "ناعور"
    تبلّلنا أعرافُ الخيلْ.

    دمشق 1986

    لم تكن لي رنّةُ المفتاحِ
    والشمسُ التي ناديتها من درفةِ الشباكِ
    والوقتُ القليلُ من المودّة.

    ليس لي هذا الصباحُ الضيّقُ
    المرشوشُ فوقَ حديقةِ الجيران
    من طرفِ المخدّة.

    لم تكن لي..
    ضحكةُ البنتِ التي لمعَت وراءَ المزهريةِ
    في الهواءِ.

    لا بُدّ أنَّ يداً تقطّف ياسميناً في الجوار

    لو تغلقُ المذياعَ، جارتُنا، فأسمع
    كيفَ تنكسرُ المياهُ على يديها وهي تغسلُ.. !

    كنتُ سأفتحُ الشبَّاكَ..
    كنتُ سأطفئُ الأضواءْ.

    بيروت- آب 1982

    ليتهُ لم يمُتْ،
    الذي ماتَ في غارةِ الأربعاءْ،

    كان يعرجُ في "نزلةِ البيرِ"
    أشقرَ،
    ، مثلَ الذين يجيئون من أنهرٍ في شمالِ العراقْ

    على مهلها.. مثلّ أمٍّ "مخبّلةٍ"،
    كانت الحربُ تغزلٌُ في ذلكَ الصيفِ مغزلها،
    مثلما الآن!

    ثمّة أغنيةٌ في الإذاعة تبدأُ: "يا بيرْ.."
    أغنيةٌ تملأُ البيتَ،
    بيتَ أبي في "الكرامةِ"
    أو، ربما قبله، "بيتَ جالا"
    التي كلّما زرتُها لا أجد بيتَنا!

    ما الذي لم تقُله الأغاني لنا!

    شارعٌ ضيقٌ
    مهملٌ
    .. في الضواحي الفقيرةِ للحربِ
    إلاّ من الصيفِ والطائراتْ

    فيما الفتى من شمالِ العراقْ،
    الذي كان يحسبُني مغربياً من الريفِ،

    يعرجُ في موتهِ..
    أشقرَ..
    لم يبهّتهُ لونُ الفنارِ
    ولا الذكريات.

    تخطيط أولي

    الكلامُ الذي ظلَّ في البيتِ، لمّا خرجنا
    وحيداً
    ومنفعلاً
    .. مثل ذئبٍ عنيدٍ..

    الكلامُ الذي ظلَّ فوقَ الفراش ِ
    وبينَ المقاعدِ
    في تمتماتِ الممرِّ
    على لوحةِ الزيتْ
    والنرد.
    كلما عدتُ من مكتبي،
    حيثُ أخسرُ يوماً جديداً وغدْ،
    كنتُ أبصرُه وهو يبحثُ مثلَ المجانينِ
    عن ثغرةٍ في السكوت.

    كنت أرقبهُ وهو يقتلُ أولادَه دون قصدْ!

    بيت / تونس 1992

    ها هو البيت
    واجهةٌ من زجاجٍ
    وبوابةٌ من قصبْ.

    عتمةٌ في الممرِّ
    وليمونةٌ أزهرتْ منذُ يومين

    لوزٌ على الجانبين
    و"نارجيلة" دون ماء
    ستبصرنا حالما نفتح الباب نحن الثلاثة

    ظِلُّ الحديقةِ يمشي
    ورائي
    ورائحة الياسمين.

    سأجلسُ حيثُ تعوّدت ُ
    ظلُّ الحديقة فوقَ البساط
    ورائحةُ الياسمينِ على الثوب

    ثوبٌ من الصيف،
    من أولِ الصيفِ،
    ثوبُ الفتاةِ التي لم أحبْ.

    تونس 1994

    كان النهارُ قوياً وراءَ النوافذِ..
    لما انتبهنا.
    وكانت هناكُ المدينةُ ترزحُ تحتَ الضحى
    وهو يلمعُ في ظهرها مثلَ ثورٍ عنيد.

    .. والفتاةُ التي أمسكت بيدي طيلةَ الليلِ
    لم أستبنْ وجهها
    كنتُ أسمعها وهي تبكي
    أو تغنِّي بصوتٍ خفيضٍ بلهجةِ أهلِ البلاد،

    ثمةُ الآن كأسٌ من الماء
    عِقْدٌ من الياسمينِ على المائدةِ
    وكانت يدي
    في الهواء!

    رام الله

    تذكرُ هادئةً، تلكَ الرحلةِ
    حيثُ تلالٌ مهدّها "الحدادين (1)" بدهشتهم
    وتلفّتُ أولادٍ بيضٍ
    متروكين لنهبِ رواةِ الليلِ وسُبِلِ الضبعِ
    وذعرُ امرأةٍ
    إذ تتوجّس في نومتها بينَ الشوكِ
    وبين القَلْعِ توسوسُ فتنتها في النومِ..
    كأنّ أساورَ من ذهبٍ تخرجُ من مكةَ عندَ الفجرِ لتلبسَ معصمها المبتلّ!

    وتذكر، أو تتذكّرُ
    طرقاً وطواحيَن وماءً في فجوات الصخرِ
    قرىً تتعثّرُ مثلَ قلائدِ بدوٍ في الأنحاء ِ
    سماءً من فَخّارِ يشحبُ
    نجّارين سعاةً خلفَ الشجرِ
    وحجّارين تُشقّقهم أحلامُ الجبلِ
    وعصّارين على الهضباتِ
    قوافلَ تجارٍ منسيينَ تطوفُ الخِرَبْ

    وتذكرُ هادئةً، أصواتَ النومِ وموتَ الذميينَ
    مراكبَ ذات قلوعٍ سودٍ تعبرُ منذُ الأبدِ السهلَ
    وأشرعةً تبطئ في السيرِ
    ويمشي بين الناس حنينُ البرجِ وجرسُ الديرِ

    وحيث سَهَت، تبصرُ مغمضةً...

    أن نصاراها في الطرق مشاةٌ في المعجزةِ كما ولدوا
    وبأنّ العبرانيينَ على البوابةِ مأخوذونَ بصوتِ البوقِ
    وأنَّ العربَ الساميينَ على الأبراجِ وخلفَ السورِ وتحتَ الأرضِ
    على مهلٍ...
    يسقون الوقت.

    رام الله/ 2002
     


    ولد بكّاء
    بيرزيت 1998

    ولدٌ بكّاء
    ابنُ جارتنا المسيحيةِ
    يكسرُ غصنَ الهدهدِ على الصنوبرةِ
    ويبكي..
    ... ...
    قشّاتٌ خفيفةٌ
    تطير في إثرهِ وتلسعُه.
    ...
    ريشٌ ونحلٌ وطيورٌ في إثرهِ
    وهو يركضُ تحتَ النافذة.
    ... ...
    صنوبرةٌ معوّجة تتبعه.
    والولدُ يركضُ نحو الشارعِ
    ويبكي...
    والبكاءُ يحيطُ به
    ويدفعه
    ... ...
    والولد البكّاء يركضُ نحوَ الخرائبِ..
    .. بينما
    أفعى الخرائبِ، ذاتُ الأجراسِ،
    تنصت، متيقظةً،
    لكلّ هذا
    في بئرِ الزيت.

    وصف

    إلى حسين البرغوثي

    زهَّرَ اللوزُ يا صاحبي، يا حسين.
    زهّرَ المشمشُ البلديُ على طرْفِ "جفنا"*

    .. منذ يومين،
    عندَ الظهيرةِ،
    مرّتْ بناتُ الجامعة،
    ثلاثُ بناتٍ
    على مهلِهنَّ تسيرُ الطريق
    وعشرونَ تنهيدة
    في النباتِ العتيقِ من السكنِ الجامعي
    إلى موقفِ الحافلات.

    في الربيع الذي مرَّ
    كنا هنا في التلال،
    نفتّشُ عن ثعلبِ الفاكهة
    مثلَ ظلّينِ في مأتمٍ
    نحتفي بالذي لا يراهُ الغزال ُ
    ولا يشتريه الغريبُ
    ولا يستعيدُ من الموت ميْت.
    حينما أزهرت، فجأة، غابة اللوز
    يا صاحبي،
    يا حسين،

    أطفأَ العابرونَ قناديلَهم

    * جفنا : قرية تقع شمال مدينة رام الله وبمحاذاة بلدة بيرزيت .


    في الطريق إلى "بيرزيت".
    ...
    ذلكَ وصفٌ لـ "كوبر"*
    في شهر أيار
    من عام ألفين واثنين.

    أيار/ 2002

    * كوبر: قرية تقع شمال غرب رام الله، وهي مسقط رأس حسين البرغوثي رحمه الله.



    ذهاب

    اتركْ لنا شيئاً
    سنحزنُ لو ذهبتْ،

    اُترك لنا، مثلاً،
    إذا أحببتَ
    صورتَك الأخيرةَ عند بابِ الدار.

    رحلتَنا معاً في الصيف.

    رائحةَ الصنوبرِ، تلك،
    .. تبغَكَ أو كلامكْ؟!

    ثم لا تذهبْ
    وحيداً
    كاملاً
    .. كالسيفْ.

    الخروج
    من دمشق الشام
    إلى "أين"

    - الخروج من دمشق الشام إلى "أين"
     

    الخروج من دمشق الشام
    إلى "أين"

    تركنا دمشقَ على حالِها
    محصّنةً بالمجازِ ومشغولةً بالبرابرةِ القادمين
    على خيلِهم مِن حصونِ الجنوب.

    ثلاثٌ وخمسونَ مملكةً تحتَ حكمِ المجوسْ
    ثلاثٌ وخمسونَ بريّة في الشمالِ
    مُوثّقةٌ في صكوكِ الجباةِ
    ومحسوبةٌ حبّةً حبّةً في حسابِ المكوسْ.

    ثلاثٌ وخمسونَ مقتلةً في السهولِ..
    سيؤتى بها
    كي تُسمّى برسمِ الأميرْ
    ويرفعها شاعرٌ في كتابِ الزمانْ

    ثلاثٌ وخمسونَ جارية
    في الطريقِ إلى أصفهانْ!

    تركنا دمشقَ التي أطعمتْ خيلَنا في الفتوحِ
    محايدةً مثلَ جبٍّ قديم
    ومحكومةً من قبور المماليك في برِّ مصر
    ".. وقد نغتدي.."
    لا نطيع الكلامَ
    ولا نُشترى بالبلاغةِ مثلَ الطواويس!

    وكان لنا في مجالِسها أخوةٌ في اللِسان
    عصاةٌ وتجّارُ إبلٍ
    رواةٌ وقرّاء.. أصحابُ قولٍ
    وطرّاقُ معنى وسمّارُ حانْ
    ..عصبةٌ من سوادِ العراقِ وأحياءِ بغدادَ
    يلقونَ حجَّتهم للكلامِ
    كما يطلقُ القانصُ الصقرَ خلفَ الطرائدِ
    بيضاً وسمراً
    وفيهم من الكردِ والزنجِ والتركمانْ

    على بابِها ودّعتنا الجيادُ
    وودعنا الجندُّ
    قال لنا القاطنونَ بها، أهلُها،
    ما يقالُ على البابِ للذاهبينْ.

    رددنا لها "قاسيونَ" بأوصافه
    مثلما ينبغي للأماناتِ إذ تُستردُّ.

    تركنا لها نهرها جارياً، وهو نهرٌ صغيرٌ،
    وأسماءَ جاراتها
    والبغالَ التي حملت صيفَها كاملاً للثغورْ.

    تركنا لها "بابَ توما"
    وقبرَ ابن أيوبَ
    والشيخَ..
    والخانَ للقاصدينَ المعرّي..

    كانت توابيتُ جيشِ الكنانةِ
    تخرجُ من بابها في طريقِ الجنوبْ

    وكان التقاةُ المملونَ في بهوِها يقرأونَ

    وكان السكارى يعيدونَ رسمَ الحواشي ويبكونَ
    تحتَ الحجارةِ حيثُ الكتاب..

    كانَ الغلاةُ من الباطنيةِ يلقونَ أولادَهم من حوافِ الجبال

    وكان الدعاة على عجل يعبرونَ المسالكَ
    من سهلِ حوران..

    كان الشمالُ بعيداً ومحتشداً بالرجال.

    وكان الدهاةُ يسدّونَ أروقةَ الحكمِ
    بالحيلِ المنتقاةِ من الشعرِ والسُّنةِ الظاهرة..

    تركنا النساءَ الغريباتِ في "باب توما"
    وظلّت علينا عطورٌ
    أضاءت لنا سبلاً للذهابْ.

    تركنا الفتاةَ ممددّةً في سريرٍ عريض ٍ
    ووقتاً يفيضُ على الجانبينِ
    وبابَ الزقاقِ
    الذي دونَ بابْ.

    تركنا دمشقَ على حالِها
    مصطفاةً ومأهولةً
    في التباسِ المجازْ.

    على مهلها تجمعُ الجوزَ
    من شجرٍ عارضٍ..
    حيث ينتظرُ الذاهبونَ إلى "أين"
    حافلةً في قطارِ الحجازْ!