ياسين رفاعية

Yaseen

منذ أواخر الأربعينات حتى يومنا هذا سيطرت حركة الشعر الحديث على مسار الشعر العربي، حتى أنها طغت طغياناً كبيراً على الشعر التقليدي، شعر المتنبي وأبي تمام والعتاهية وعمر بن ربيعة وغيرهم، كذلك على الشعر التقليدي المعاصر مثل بدوي الجبل وعمر أبو ريشة وشوقي وحافظ وغيرهم من الذين حافظوا على تقليدية الشعر فأصابوا هنا وفشلوا هناك.
ومن أهم الكتب التي ألقت الإضاءة على هذه الحركة الحديثة والحداثة والمستمرة في التطور كتاب الشاعر الراحل كمال خير بك.. حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر.. الذي من خلاله أشار إلى أن أزمة الشعر هي أزمة اليقظة العربية وتحديث العالم العربي. فيحاول عبر الشعر الحديث القبض على تجليات هذه اليقظة في ولادة حركة الحداثة في الشعر العربي وتوجهها العام من أجل تحقيق ذلك. فعمد إلى التطرق إلى الوضعية الشعرية التي ولدت في هذه الحركة، محاولاً عرض المميزات الأساسية للشعر الحديث. فيتبنى مقاربة شكلية تقوم على تفحص البنى اللغوية والإيقاعية والشاملة للقصيدة العربية الحديثة الجديدة، موضوعة كلها في سياق تطور الشعر ما قبل الحديث. ويشير كمال خير بك إلى أن القطيعة مع التراث العربي والالتقاء مع الأنماط الغربية لم تتم دراستهما بطريقة مقارنة. وإنما عبر انعكاساتهما وأثرهما المباشر على الوضعية الشعرية، لهذا، فإن الإحالات إلى التراث لم تكن ـ باستثناء البعض منها ـ مستقاة من المصادر القديمة، وإنما من امتداداتها الحالية، ذلك ان تراث شعب لا يتمتع، خارجاً عن قيمته التاريخية بأي أهمية حقيقية، ما لم يعرب عن نفسه في حياة هذا الشعب وتعابيره، وبالنحو ذاته، فإن تأثير النماذج والمفاهيم الغربية كان واضحاً في الشعر العربي الحديث. وفي تحولات الشعر العربي المعاصر التي تتبلور في بعض الأعمال الشعرية العربية.

وهنا نشير إلى صدور انطولوجيا للشعر العربي المعاصر قبل أشهر باللغة الألمانية، اختار قصائدها وترجمها إلى الألمانية الشاعر والكاتب السوري المقيم في ألمانيا سليمان توفيق، حيث يجد القارئ الغربي هذا التقارب الكبير في شكل ومضمون القصيدة العربية الحديثة مع القصيدة الغربية، وخصوصاً ما يتصادف ويتقارب بين ت. اس. اليوت والشاعر السوري أدونيس.
عنوان الانطولوجيا "قصائد عربية حديثة" اختارها وترجمها إلى الألمانية سليمان توفيق، وجاءت أسماء الشعراء تباعاً على الشكل التالي: أدونيس (سوريا) ممدوح عدوان (سوريا) أولد أحمد (تونس) لميعة عباس عمارة (العراق) فرج العشه(ليبيا) شوقي بغدادي (سوريا) عبد الوهاب البياتي (العراق) محمد بنيس (المغرب) عباس بيضون (لبنان) سركون بولس (العراق) شربل داغر (لبنان) محمود درويش (فلسطين) أمل جراح (سوريا) سليمان الشوادي (جزائر) أمل دنقل (مصر) محمد الفيتوري (السودان) انسي الحاج (لبنان) محمد عابد الحربي (السعودية) خليل حاوي (لبنان) أحمد عبد المعطي حجازي (مصر) نزار بريك هنيدي (سوريا) أمل الجبوري (العراق) نزار قباني (سوريا) سميح القاسم (فلسطين) يوسف الخال (لبنان) ظبية خميس (الإمارات العربية المتحدة) محمد الماغوط (سوريا) عادل مايسي (تونس) نازك الملائكة (العراق) مرام المصري (سوريا) إيمان مرسال (مصر) عبد العزيز المقالح (اليمن)، أمجد ناصر (الأردن). سيف الرحبي (عمان) عبد المُنعم رمضان (مصر) فؤاد رفقة (لبنان) صلاح عبد الصبور (مصر) سعدي سلموني (مصر) سنية صالح (سوريا) عدنان الصايغ (العراق) توفيق صايغ (فلسطين) بدر شاكر السياب (العراق) فدوى طوقان (فلسطين)، عبده وازن (لبنان) سعدي يوسف (العراق) وأخيراً عبد الله زريقة (المغرب).

وكان المترجم توفيق قد ترك بعض القصائد المترجمة إلى جانب مختارات منها بالعربية، للمقارنة مع الأصل، وهنا بعض القصائد العربية التي ترجمت إلى الألمانية.


أول الطريق
لأدونيس
قرأ الأيام كتاباً
فرأى
ان العالم يصبح قنديلاً
في ليلة مرارته
ورأى
ان الأفق يجيء إليه صديقاً
ورأى
وجه النار، ووجه الشعر
طريقاً"

ومن الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة قصيدة بعنوان "أنا"
"عبر شطوط لا جسر عليها
عشاق لا أعرفهم
يطربهم ذكري
وأنا
جسد مدفون في الثلج
ليظل جميلاً معشوقاً
أبد الدهر"

أما الشاعر المغربي محمد بنيس فله "نجوم"
"لأني نخلة أتيت
وأي نخلة رأيت
هي النجوم
ربما فيك احتضنت
أجراسها
ثم ارتخت
عند ارتفاع شهقة
بين مسالك الوجوم"
"عشاء" عنوان قصيدة الشاعر المصري الراحل أمل دنقل:
"قصدتهم في موعد العشاء
تطلعوا الي برهة
ولم يرد واحد منهم تحية المساء
... وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة
في طبق الحساء

نظرت في الوعاء
هتفت: "ويحكم.. دمي.. هذا دمي فانتبهوا"

لم يأبهوا
وظلت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة
وظلت الشفاه تلعق الدماء".

وتحت عنوان "حجاب الحرية" جاءت قصيدة العراقية أمل الجبوري:


"الحرية باردة حينما تفتح الأبواب كلها
الحرية فارغة حينما تقفل الأبواب
تحاول الحروب ان تجعل شقي الباب حرية مفتوحة
الأبواب حرية مملوءة
يحاول السلام ان يزور الأبواب بحرية دافئة
لكن الشعارات التي هوت ومالت،
مع ريح الشمال
فتحت شفاه الأبواب
لتخرج الحرية باردة وفارغة"

"أيضاً" عنوان مقطع للشاعر اللبناني عبده وازن:
"ليست الحياة غائبة فقط
الموت غائب أيضا
لم تترك الحياة إلا وردة
على مائدة أيامنا
في سماء عيوننا
لم يترك الموت إلا غيمة"


أما الشاعرة الراحلة أمل جراح، فقد اختارت لها الانطولوجيا ثلاث قصائد منها واحدة من أجمل قصائدها بعنوان: يا الله أطلق سراحي، لم تقدم منها مقاطع بالعربية، ويمكن ان نختار منها، وهي قصيدة نشرت في كتابها "صاح عندليب في غابة":

"حلمت مرة
إني مستلقية على غيمة كثيفة
تمشي بي كبساط الريح
رأيت الأعراس هنا والأفراح
رأيت العزاء هناك والأموات
رأيت المراكب التي تغرق
رأيت المراكب التي تحمل العشاق
رأيت الحروب والحراب
رأيت الآلاف يقتتلون
الآلاف الآلاف يولدون
وما حزنت
مثلما حزنت لطفل ينادي أمه
فلا تستجيب
في داخلي
تتكوّن رؤيا لا أعرف مداها
في داخلي
أحس الضحى مأساة الغروب
أحس الغروب مأساة الضحى
كل شيء يهتز
في داخلي
يا الله
أطلق سراحي"

ولا بد أن نشير ايضاً، في هذه المطالعة السريعة، إلى ان انطولوجيا أخرى للشعر العربي الحديث صدرت بالانكليزية وثالثة بالفرنسية. إلا ان هذه الانطولوجيا، حرصت على تقديم صورة متكاملة عن شعر الحداثة في العالم العربي.

المستقبل - الجمعة 30 أيلول 2005 -