لا يستطيع المرء وهو يقرأ رواية الكاتب التونسي الحبيب السالمي "أسرار عبدالله" الا ان يتأثر بها تأثراً كبيراً، رواية محبوكة بحرفية مذهلة، تدل على ان الكاتب له دراية كبيرة في كتابة الرواية. مائتان وسبعون صفحة تمسك القارئ من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة. ومع ذلك هناك رجل واحد اسمه عبدالله، وزوجته الشابة، ومطلقته التي تقيم مع ابنتها، أي ابنته، ثم ظلال لرجال لا نراهم. ليس هذا فقط، فعبدالله هو الأساس والكل بالكل في الرواية، زوجته الشابة خديجة نموذج للمرأة التي لا تتكلم الا اذا سألها زوجها، ولا تفعل الا ما يأمرها به، شخصيتها ممسوحة تماما، كأنها موجودة وليست موجودة، مطلقته "العكري" يتلصص عليها في البيت المقابل للحوش دون ان يستطيع الكلام معها، وهو رجل متقاعد كان دركيا في تونس على زمن "الفرنسيس" وكانت له هيبة ابن الحكومة، وقبل ذلك وهو فتى باع الدجاج في "أسواق العلا" وعندما أصبح دركيا، عمد بدون توقف، إلى شراء الأراضي، إلى ان كون لنفسه حقلا مترامي الأطراف، وبئر ماء، سمح لكل أهل القرية ان يشربوا منه ويأخذوا حاجتهم من الماء.. لكنه كان ايضا يتلصّص على النساء بخفر وحياء، فأصوات النساء تثير فيه مكامن شهوته، لكن خديجة، الزوجة الصبور، تفرغ له هذه الشهوات أينما شاء في أي وقت، وهو تقدم في العمر، وأصبح قلبه معتلا، وفي كل مرة يعلن انه سيذهب إلى القيروان لمراجعة الطبيب، ثم يستنكف في اللحظة الأخيرة،
مفضلا الدخول على زوجته حيث يفرغ فيها توتره ويستعيد صفاء نفسه.
الرواية بمجملها حوار ذاتي عبر مونولوج طويل بين عبدالله ونفسه، صحيح ان هناك راويا يروي، لكن لبساطة النص، يشعر القارئ ان كل هذا الكلام، كل هذه الأحاسيس، كل هذه العواطف هي عبدالله نفسه.
رائق
كان كل شيء رائقا في حياته، والأمور كلها على ما يرام، ما من شيء يعكر هذه الحياة التي انتهى إليها عبدالله، حيث أصبح سيد نفسه، ولم يعد يحتاج إلى احد.
ولكن، فجأة، تتناقل الأخبار عن عصابة، تدخل إلى الدوار وتقتل كل من تعاون مع الفرنسيين الذين، ظنهم عبدالله، في البدء، انهم قادمون من الجزائر، حيث كانت الجزائر في ذلك الوقت تثور على الفرنسيين. هذه الحادثة وهذه الأخبار قضت مضجع عبدالله. وبات قلقا من ان الدور سوف يصل إليه. وهو الشجاع الذي كان يلقي القبض على المجرمين وبعضهم في السجن، وكان عندما يمر بالعلا والدوار وهو يمتطي جواده كفارس، لا يهاب أحداً. يضطر، بل يجد نفسه، في أواخر أيام عمره لأن يختبئ في المرحاض خوفا من العصابة المذكورة، ويتألم كثيرا عندما يجد نفسه في المرحاض مختبئاً من وهم بات يلاحقه في الليل والنهار، ان هذه العصابة لا بد ان تبطش به ان لم يكن اليوم فغداً. هذا الهاجس أصبح رعبه اليومي، يتخيل الطريقة التي سيقتلونه بها، خصوصا عندما كان يسمع أخبار من قتلوه وكيف مثلوا بجثته ووضعوا ذكره في مؤخرته، فيقشعر بدنه خوفا، ويلجأ إزاء ذلك إلى خديجة الزوجة المتواضعة المسكينة التي أنجبت له ابنا ما زال طفلا ويجد في الجنس معها فشة خلق من خوفه وذعره الذي يغمر نفسه ولا يجرؤ على البوح به، وكيف يجرؤ، وهو الرجل الشجاع الذي تتحدث عن شجاعته العلا والبلدات المجاورة، حيث كان عندما يمر على صهوة جواده يقف الناس احتراما له.
وفي كل مرة يصل إليه خبر هذه العصابة، ومن قتلت وشوهت جثته ومثلت بها، يزداد خوفا، اذا، لا بد، أخيراً، من ان يأتي دوره، ويقتل كما يقتل الآخرون. فيخرج بندقيته القديمة ويعمل على تنظيفها وصيانتها، ويخرج علبة الخرطوش التي تحتوي على خمس وعشرين خرطوشة، استعدادا لمواجهات هؤلاء، ومقاتلتهم بشجاعة كما كان يفعل عندما كان دركيا، وليفعلوا به بعد ذلك ما يفعلون، فما ضرّ الشاة بعد تقطيعها وقد ذبحت قبل ذلك، لكن أقصى ما كان يخاف منه التمثيل بجثته، وهنا يستسلم للهواجس والأفكار السوداء حتى بدأ يشعر انه وحيد في هذه الدنيا، هنا يشتاق إلى زوجته الأولى، التي ظن الآن انه ظلمها، لأنها امرأة قوية وشجاعة، وممكن له ان يصارحها بهواجسه وخوفه، وان تقف إلى جانبه وتحميه، لكن زوجته الحالية، خديجة المسكينة لا تستطيع ان تحميه، ولا يستطيع هو ان يصارحها بهواجسه وخوفه، لئلا تقل قيمته بنظرها وهي التي تعتبره أعظم رجل في العالم.
ينام خائفا ويستيقظ خائفا، يرى أحلاماً ويرى العصابة قد جاءت إلى بيته، ويكاد لشدة خوفه، يسمعهم وهم يقتربون من منزله. هو في الحلم واليقظة يراهم بكل بشاعتهم وتعطشهم لقتله بـ"أفراد عصابة الغرابة" انهم هم بدون شك. ها هم يأتون كالعادة في قلب الليل، حين ينام كل شيء ويحكم الظلام قبضته على العالم، وبالرغم من انه أصبح يتوقع مجيئهم كل ليلة منذ ان بلغه خبر الضحية الأخيرة. ها هم يفاجئونه مثلما فاجأوا بالتأكيد كل الذين ذبحوهم ثم يكتشف انه كان يحلم، فلا احد من العصابة كان قريبا الا انه وهمه بقدومهم.
الاختباء
هاجس الخوف الذي يركبه ليلا ونهارا جعله ينهار تماما، وأصبح عليه ان يجد وسيلة للاختباء من العصابة، وبالهول، عندما يجد المكان الوحيد الذي قد يحميه هو المرحاض. هذا المرحاض الوحيد، والجميل، الذي يتفرج عليه أهل العلا كشيء حضاري لم يألفوه، فهم تعودوا ان يقضوا حاجاتهم في البراري والبساتين، وهو نفسه كان يتذكر كيف كان يقضي حاجته في الحقل متمتعا بالهواء العليل الذي يخفف من الرائحة الكريهة، وها هو يجد نفسه الآن مضطرا ان يجعل من المرحاض نفسه المكان الآمن.
لكن عبدالله رغم كل هذه الاحتياجات، أدرك ان لا بد ان ينالوا منه، وأول ما فعله هو العودة إلى الصلاة، ومراجعة أوراق أملاكه واطلاع زوجته خديجة على كل صغيرة وكبيرة، مستغربة ذلك لأنها لم تعتد ان يطلعها على أسراره وأسرار أمواله وممتلكاته ثم حنينه إلى "العكري" زوجته القديمة التي بدأ يفكر بمصالحتها، واذا تم له ذلك فسوف يصارحها بمخاوفه، وسوف يسمع رأيها وكيف يجب ان يتحاشى الذبح على يد تلك العصابة المجرمة. كان دائما يتلصص عليها وعلى ابنته زهرة وزوجها عبر فجوة بين شجر الصبار، خصوصا عندما تخرج من البيت هربا من الحر وتجلس قريبا من الباب، كان يشتاق لها فعلا ويشتاق إلى معاشرتها، صحيح انها كبرت وشاخت. لكنها ما زالت جميلة. وكان تمنى في ذلك الوقت لو لم يطلقها، لو رضيت بزواجه مرة ثانية، لكنها رفضت، وهو المحب للنساء الجميلات. ويرغب بالعديد منهن. وخصوصا اللاتي حلم بالزواج منهن قبل زوجته الحالية خديجة.
وهم
لقد وصل عبدالله إلى حالة من الاستسلام ليد قاتليه، وفي الواقع لم يكن هذا الا وهما اختلقه بنفسه وفبركه، ورسم خططه بنفسه. كما لو كان، هو، احد أعضاء العصابة، وجاء لقتل نفسه والتمثيل بجثته. إزاء هذا الإحساس القاسي، قرر بشكل من الأشكال مصالحة زوجته الأولى، حتى اذا قتل، تكون قد سامحته على فعلته عندما بدلها بامرأة في عمر ابنته، صارت مصالحة زوجته الأولى همه الآخر، وبأي شكل وبأي صورة. وعندما اتخذ قراره النهائي بالذهاب إليها لم ينس كيس الحناء ليهديها إياه، وخرج باكرا من البيت، قبل ان تشرق الشمس قليلا، واقترب من الحاجز الذي يفصله عن البيت. ولا بد لي هنا ان أنقل المشهد الأخير بحذافيره، لجماله
ومفاجأته ايضا: "ولكي يتخلص من التوتر الذي بدأ يعتريه، يخطو بضع خطوات بمحاذاة السياج وعينه على باب دار ابنته، وعندما يعود إلى مكانه يدخل يده إلى جيبه
ويمسك بكيس الحناء، وبعد لحظة يخرجه يقربه من انفه، يتشممه طويلا، وبدلا من ان يعيده إلى الجيب يبقيه في يده، لم تعد تفصله سوى بضع دقائق عن لقاء العكري الذي ينتظره منذ بداية الفجر. كل الأمور تسير حتى الآن على نحو جيد. بل أفضل مما كان يتصور، الا ان هناك شيئا أخذ يسبب له إزعاجاً. وهو ان الألم في الصدر الذي خف منذ حين بدأ يتزايد فور توقفه عن السير بمحاذاة السياج يستند بظهره إلى جذع أقرب شجرة. ولا يقوم بأي حركة لوقت طويل. لكن الألم لم يخف هذه المرة بل اشتد، ينفعل ويتفاقم توتره. انها المرة الأولى التي يدوم فيها إحساسه بالوجع كل هذا
الوقت، يشعر برغبة قوية في الجلوس، غير انه يبقى واقفا خوفا من ان تخرج العكري (زوجته القديمة) ولا يراها.
يدير رأسه ببطء في كل الاتجاهات كما لو انه يبحث عن شيء يستعين به على تحمل ألمه في هذه اللحظات الحرجة، ومواجهة هذه المشكلة التي لم يحسب لها حسابا عندما وضع خطته. الأشجار المنتصبة حوله تبدو له وسط الصمت الذي يلفها موحشة. لا شيء يتحرك فيها سوى قممها العالية. وفي البئر الخالية وطريق العلا والحقول المجاورة لا حركة ولا أصوات، الشيء الوحيد الذي يتناهى إلى سمعه هو نباح الكلاب. يرفع رأسه ويتطلع إلى السماء من خلال أغصان الشجرة القليلة المتباعدة، يفاجأ بأن
السماء شديدة الصفاء. بيد ان ما يدهشه حقا هو انها تبدو له قريبة جدا. لم يشعر أبدا من قبل ان السماء قريبة إلى هذا الحد. يحدق فيها طويلا لمعرفة ما اذا كانت لا تزال فيها نجوم تماما مثلما كان يفعل وهو طفل. وفي اللحظة التي يلقي فيها نظرة أخرى على دار ابنته، يفطن إلى ان كيس الحناء قد سقط من يده من دون ان ينتبه لذلك، ينظر إلى الأرض حوله فيكتشف انه بين قدميه. ينحني ببطء ويلتقطه.
وعندما يتراجع بجذعه يشعر ان ساقيه صارتا عاجزتين عن حمله وانه لم يعد قادرا على الوقوف من شدة الألم فيتهالك على الأرض. ومن حسن حظه ان المكان الذي كان فيه لا يبعد سوى خطوتين أو ثلاث عن الفجوة، ينبطح على الأرض فورا. ويشرع في الزحف في اتجاهها غير عابئ بتفاقم ألمه وحين يبلغها يتطلع إلى الدار، الباب مفتوح على مصراعيه، يلمح ابنته زهرة، بعد لحظة تخرج العكري، تتوجه إلى الزريبة بسرعة. وعندما تظهر من جديد يرفع رأسه ويمد عنقه إلى أقصى حد ويناديها. لكن لا شيء يخرج من فمه سوء حشرجة خفيفة".
الكتاب: أسرار عبدالله
رواية
الكاتب: الحبيب السالمي
الناشر: دار الآداب ـ بيروت 2005
(عن المستقبل) البيروتية.