أطراف منتقاة من سيرته، أراد علي الدميني إسالتها على »صخور الجبال، ومسايل نهر الوادي، وخطوات أهله«. أو هذا ما حاوله بنص روائي مركب لم »يهبط من عليائه ليشتغل في الواقع« فقد تقاسم »الغيمة الرصاصية« مع بطله، أو تشظى هو، بمعنى أدق، إلى نصين يحايث المتخيل منهما أصله الواقعي »ليفنى أحدهما في الآخر« لكن الروح التشفيرية العالية للنص، وذاكرته الموجهة بواسطة الأيدلوجيا، وكذلك الذكريات المستعادة بشكل مدبّر، لم تسمح له بالتواري خلف »سهل الجبلي« بما يكفي ليتحول تخييله النثري إلى واقع حي، أو إلى كتابة لا زمنية.
هكذا يمكن فهم كثافة تدخلاته الصريحة كراوٍ، وكثرة الحواشي التفسيرية لمفردة »النص« فثمة إصرار مبيت على التورط في التزييف الجمالي للحياة، بما هي نص يقاربه الوعي دائما بهاجس الخوف من التدوين المحرف بأوهام الكتابة، فالدميني يريد نصاً، كما يبدو، وثيق الصلة بالتجربة الفردية داخل حواضنها التاريخية والاجتماعية، وقد حاول تعضيده بمفاصل من سيرة فرد إشكالي، يعاند الواقع بالرواية، بما هي الصيغة التعبيرية المضادة لكل ما هو استبدادي، حيث التأكيد على العلاقة المضطربة بين الرواية وكل مظاهر السلطة، والتجابه الحتمي مع مقومات المجتمع البطركي. بنص يرتكبه كائن أحمق، كما تم وصفه بشيء من التحقير، لكن الراوي يصر على نص أصله ’’ ليس صخرة وإنما نسغ شجرة تعيد أعضاؤها الولودة - ما دامت حية - رسم الأصل من جديد ’’ فيما تبدو مرافعة خطابية أمام التاريخ، وليس مجرد حكاية.
ويبدو أن كثافة الشفرات المستزرعة في النص، أحالته إلى خطاب ملغوز، أقرب إلى الإبهام منه إلى التلميح، لدرجة أن الراوي اضطر لنحت علامة استفهام جوهرية هي بمثابة العصب المحرك للسرد عمن »يخون النص، الكاتب أم الواقع؟« أو هكذا صار السؤال يدور في رأس »صاحب النص« الذي يغامر برواية سيرية، تراوح بين سطوة »النص الأيدلوجي« والمغالاة في السرد بنبرة شعرية، أو بلغة ترميزية يتموضع بها على مسافة من الواقع، إذ لا يسمي الأشياء إلا من وراء مواربات غشاء أدبي، ومن خلال إسقاطات نفسية وتاريخية متعددة، وهو ما أسبغ على الفحوى الاجتماعية والسياسية للرواية سمة الموضوعات أو المفاهيم، فالذات بقدر ما تنروي داخل عناوين عريضة، تفاوض الأصدقاء والأماكن حتى على منسوب حضورهم، أو المسافة التي يتوجب عليهم قياسها نحوه، في نص الحياة، وما تشترطه مواضعات الرواية، رغم إشارات الراوي إلى عدم قدرته على التحكم في شخوصه كاندساسات عزة المباغتة، وغناء جعفر الهجري لقصائده في المعتقل.
إذا، ثمة تجاذب حاد بين ميثاق السيرة المعاش، وما تريد »الأنا المثقفة« إثباته أدبيا، دون أن ينحسم السرد لأي جانب، فالغيمة الرصاصية كنص محتشد بالخبرات اللغوية واللا لغوية، يتمدد خارج بناه التركيبية والتقنية. وبمحاولات التفافية لتأوينه ضمن مدارات جمالية أوسع، يختبر الدميني منسوب حاجته إلى الوضوح والمدلولية في آن، دون انحراف عن الظروف الموضوعية التي استولدته، وذلك هو ما يفسر انفتاح مسامات النص على السجال كمعادل لما تطلبه الرواية من حوارية تعكس التعدد والتنوع، فالحداثة مثلا، لا تنطرح كموضوع يتم التجادل بشأنه داخل الرواية وحسب، بل هي النسق الذي تم بموجبه تركيب »الغيمة الرصاصية« لاختراق واقع متخثر.
ولأنها كتابة من خارج الحدث، تصفه بعد انقضائه، لم تتكامل مركبات النص في لحمة عضوية، الأمر الذي سمح بإعادة بناء مفاصل، أو تدبير حوارات بشكل غامض، وإطلاق مسميات مموهة، لم تصمد أمام عناوين الحياة الملموسة، انطلاقا من وعي السارد بأن ما يقع خارج النص » يتماهى مع الداخل في لحظة مؤاتية معينة ليصبحا تشكيلة واحدة« فروح الرواية تشير إلى انكتابها بعد انقشاع غيمة حرب الخليج الرصاصية، من خلال ذاكرة - لا شعورية - معوّقة بسطوة وعي أيدلوجي، أو مثقلة باللهاث وراء الحدث.
إنها رواية تعيش في قلب الأزمنة وتعكس الحداثة الاجتماعية في آن، بل إن راويها كائن مسكون بنزعة التغيير، وعلى درجة من الوعي بأنه يعبر لحظة اجتماعية متغيرة، أو هذا ما يحاوله داخل الرواية وخارجها، وبموجب هذا التعقيد الأسلوبي كتبت، حيث التقصد الصريح والدائم لتفتيت الحبكة، ومخاصمة السرد لمحسوسية صور الواقع، والميل إلى ما يسمى بالأساطير التأليفية أحيانا كما حاولها مع شخصية ابن عيدان، وكأن مادية نص الحياة أقل جاذبية مما تعكسه الأوهام على شاشة الذهن.
ولأنها رواية تنهض على النزعة الفردانية، تم تكديس عناصر السرد في تابوت ورقي تلتف حوله أحلام سهل الجبلي، الذي يروي جانبا من خيباته وتطلعاته بنبرة شخصانية، فيها من العناد والتحدي ما يصيب حميمية البوح الذاتي بشيء من الخفوت، حتى زوجته »هذه المرأة المنسوجة من نصوص متعددة« لا تحضر إلا للتدليل على التضاد بين نص أدبي يمارس تلفته الدائم إلى الوراء، ونص الحياة كما يتحشد في كائن يتحول السرد كلما ارتطم به إلى كتلة من المفاهيم، حيث الأفكار المدبرة وحالات التذكر التفصيلية، فيما يشبه المرافعة الحقوقية عن بطل يوحي اسمه اللا شخصي أيضا، بنزعة الخروج على الواقع، وينقسم بدوره - حتى على مستوى الإسم - إلى نصين متناظرين، تترتب على اثرهما دلالات سرد يشتق روحه من تضاريس التقابل بين الرقة والصلابة، كما عبر عن رمزية الاسم بشجرة لا تستحق الحياة لأنها »لا تستطيع امتصاص الماء من قلب الصخر والرمل«.
إذاً، تسلط الوعي السياسي على السرد، مرتدا إلى جدلية تاريخية، تعزز من ارتباط النص الكلي بشخصية نضالية مطمورة تحت طيات كثيفة من التوريات المجازية، فسهيل الجبلي هو الشكل الاستظهاري لشخصية مقدودة من الواقع، تمتلك من الطباع والأفكار وإلحاحية الرغبة في الممارسة ما يستوجب فرض سلطتها المعنوية على شبكة العلاقات الرابطة بين الشخصيات، وهو ما يفسر انفراطها، أو تبددها في الضمائر، بأنوية أقرب إلى »الأنا الغفل« أو الكائن كلي القوة والدراية.
هكذا استقطبت أنا الدميني كل عناصر السرد، لدرجة أن شخصية سهل الجبلي كانت تطفو فوق النص ولا تذوب داخل سياقاته، فيما يبدو انقلاباً على شاعرية نص أريد أن يحتله الأطفال بحراكهم في كل مكان حتى في حبر الكتابة »فالنص لم يهبط من عليائه ليجادل الواقع، ولم يتلاش فيه، بقدر ما أبقى السؤال معلقا« عمن يخون النص ومن يفي له، الذي حرض عليه؟ كاتبه.. بطل حكايته.. أم هو مؤوله؟
الأيام
19 – 6 - 2005
أقرأ أيضا: