بمفردات غير ملتبسة، وبعيدة عن الغلو البلاغي، يكتب الشاعر العراقي سعدي يوسف قصيدته، متكئاً على حساسية شفوية، تلتقط العابر والزائل، وترمق التراث الشعري بعين مثقفة، تزاوج بين الأصالة والتجديد. هذه الحساسية تبتعد عن الإطناب، وتدخل في حوار مباشر مع العالم، من دون الوقوف طويلاً على الأطلال، أو العزف على وتر الرثاء، ونبش الموتى من قبورهم. في ديوانه (الشيوعي الأخير يدخل الجنة)، الصادر في دمشق، عن دار المدى (2007)، تقابلنا تلك القصيدة الواقعية، المتجدّدة، التي تؤمن بقيمة الحلم الإنساني في تحقيق قيم أخلاقية ومثالية عليا، والتي ترتبط عضوياً بشرطها التاريخي، وتولي أهمية قصوى لضرورات التجربة الحياتية، ودور الكائن في صنع مصيره. قصيدة تنشدُ الحقيقةَ، وتسمح للرؤيا الجمالية بمدّ جذورها عميقاً في تربة المشهد، لتدبّ الحركة في نسيج اللغة، وتذهب الاستعارات إلى نهاياتها، خالية من الأوهام.
ولأنّ الحركة الداخلية للرموز والشخوص ملموسة، ومسموعة إيقاعياً، يعزّزها نظام التفعيلة الذي يتبنّاه الشاعر، نجد أن السّردية سمة طاغية في أغلب النصوص، فكل قصيدة تختزن نواة قصصية تنمو وتتطور مفعمةً بالتشويق. هنا لا يكمن سرّ القصيدة في بؤرة نصية بعينها، كأن نقول في هذه الصورة يختبئ القصد النهائي، وفي تلك الاستعارة تنهض ذروة الحدث، وفي هذه الخاتمة يجد الموضوعُ ضالّته، فنصّ سعدي يوسف واضح وشفاف، يكاد يخلو من الفجوات الدلالية المعتمة، ويمتدّ أفقياً وعمودياً في فراغ الصفحة، ليتلاشى مع كلّ قراءة، حيث في كلّ جملة نواة لمركز يجمعُ المعنى ويبعثرُه. إن سرّ قصيدته مبثوث في كل طبقاتها، كامن خلف كلّ مفردة من مفرداتها، لا يستقرّ في بؤرة مجازية أو رمزية بعينها، بل نراه يغيب ويتداخل ويتشتّت في نسيج العمل ككلّ.
السفر
هذا التشتّت تعزّزه رؤيا الشاعر القائمة على هاجس الارتحال في الزمان والمكان والثقافة. فبطل سعدي يوسف عوليس آخر، أدمن السفر، واختبار العالم، وهو يقدّم مفهوماً جديداً للبطولة في الزمن الحديث، مرتبطاً بالأشياء الصغيرة، والتفاصيل اليومية المهملة، واضعاً نفسه في تضادّ جلي مع شعرية المفاهيم الكبرى. إنه البطل البروليتاري، فكراً ولغةً وأداءً، يسمّيه يوسف بالشيوعي الأخير الذي يقطع شوارع كثيرة، وينام في محطات عديدة، ويتجول في مدن مختلفة، ويقع في الحبّ مرات ومرات، ويقرأ بالطبع كارل ماركس، ثم ينتظر قطارات تأتي ولا تأتي، بادئاً سفره من ومضة أو حلم أو ضوء عابر: «ثمّة، في أسفل التلّ، تلمحُ ضوء المحطةِ/ إنّ القطاراتِ تصفرُ/ والضوءُ يصفرُ/ والمطرُ النزرُ يرسمُ لألاءَه في الزّجاج المضاعف../ ما أجمل السفرَ!» ص (29) من هذا السّفر تستعير لغة الشاعر نبرتها، ففي كلّ قصيدة تقريباً إعلان عن رحلة علنية أو سرية، تصوّر أكثر من بيئة، وتبتكر أكثر من طقس، لتتعزّز العلاقة التفاعلية بين المعنى والمجاز، أو بين التجربة الداخلية والوظيفة الإحالية (referential) للغة الشعرية، عبر اشتباك الاثنين معاً، والتقائهما في بؤرة الدلالة الحية، ليبرز أكثر من صوت في سياق السرد، وتتجاور رموز وشخوص شتى تنتمي إلى ثقافات وأزمنة مختلفة. فابن الرومي وامرؤ القيس نجدهما جنباً إلى جنب مع جاك بريل وولت ويتمان، وتحضر مدن عربية وغربية كثيرة مثل عدن ودمشق وباريس ولندن والبصرة وبرشلونة وبيروت ونيو أورليانز، لتحتضن الحدث وتؤطّره. فقصائد السفر هذه تلتصق بلحظتها وموضوعها وشخوصها، وتقيم عند حدود الفعل، لا التسمية. ليس المعنى، من هذا المنظور، نتاجاً حتمياً لفعالية المجاز وحده، بل تتويج لحركية الحياة ذاتها، ولمعنى الإقامة في الوجود، كما يلمّح الشاعر بقوله: «أنا المعنيّ بالمعنى/ بما تهبُ الحياةُ/ أنا الشّيوعي الأخير!» ص (72). بكلام آخر، يصعب عزل الجملة عن سياقها، أو فصل النص عن إطاره الزماني والمكاني، فالقصيدة تتحرّك كتلة واحدة، قوية الحبكة، متداخلة العناصر، تشدّها خاتمةٌ افتراضية لا تفتأ تبتعد وتنأى. ولهذا السبب يستحق الشاعر أن يوصف بالتروبادور الجوّال، الذي يرى العالم رصيفاً صغيراً لتسكّعه وارتحاله. والرّحلة هنا أممية أو كونية، تبدأ من نقطة صغيرة على الأرض لنقل من حانة أو مقهى أو نزل صغير ثمّ ما تلبث أن تكبر وتمتدّ لتعانق «الجنّة» نفسها في الأعالي، كما يفصح العنوان: «ملاكٌ جاء يصطحب الشيوعيّ الأخير إلى جنان الخلد» ص (70). وخلال الرحلة، لا يغفل هذا التروبادور رصد لحظات إنسانية فريدة، هامشية ومحورية في آن، كما في سلسة قصائد الشيوعي الأخير المتتالية، التسع عشرة، التي تحتل المساحة الأكبر في الديوان، وفيها يرتحل سعدي يوسف مع بطله أو شبيهه «س»، في أكثر من مشهد، فيذهب أولاً إلى برشلونة لحضور احتفالات أوّل أيار، ويزور السينما ليحضر فيلماً عبثياً، مستنتجاً «أن العالم اليومَ يظهرُ بالمقلوب...» ص (65)، ثم يتوجّه إلى البصرة ليسخر من الملكة إليزابث الثانية، ومن التاريخ الدامي الذي يعيد نفسه هناك، ويذهب إلى باريس للبحث عن فتاة في الضواحي «أخلفت موعدَها»، ويسبح في خليج عدن، ناسياً أتعابه وأثوابه هناك، ثم يعود من الشاطئ بعد أن أضاع مفاتيحه، مقتنعاً بأن «ليس في القاع سواي» ص (77)، ثم يشتري قميصاً غير قابل للبيع في مزاد السّوق، وينتظر الحافلة، بعد أن باع السائق باص الثورة الحمراء، ليدخل النفق المعتم ويسرد كيف أن الأميركيين «أقاموا حفلة قتلٍ لعراقيين شباب» ص(84)، ويشعلُ عود الثقاب لامرأة تنتظر في مقهى، ثم يكتب شعراً، ويعدّل النشيد الأممي، متوجساً من الكلمات التي لن يسمعها أحد، ثم يتعلّم الهبوط بالمظلة، ويمازح الحلاّق والصعلوك، ويخرج في مظاهرة شعبية، وأخيراً يدخل الجنّةَ، في سلسلة أفعال شعرية، تؤرخ للسيرة اليومية لهذا البطل اليومي. كأن سعدي يوسف يحاول، من خلال بطله، أن يبرز أهمية الواقع في تشكيل القصيدة، ودوره في بلورة مصائر أولئك البشر الواقفين أمام الهاوية. وفي هذا السياق، يوجّه الشاعر نقداً جارحاً إلى الشعر المنقطع عن لحظته الراهنة، المعزول عن حركية التاريخ، قائلاً: «تَعَالينا، تعالينا، تعالينا/ إلى أن لم يعد خيطٌ ولو واهٍ يشدّ عروقَنا بالأرض». ص (94)
الحسية
ولأن خيوط قصيدته مشدودة بقوة إلى الأرض، تخفت النبرة الفلسفية الموغلة في التجريد، في قصيدته، ليتحوّل النصّ إلى لوحة ناطقة، شفافة، وشفوية، يمكن بسهولة القبض على أسرارها، بعيداً من غموض المفاهيم وعتمة الأفكار. إذ ثمة شمس في كل قصيدة، وسنجاب يتدلى من كل عبارة، ونهر يجري في كلّ سطر، كما في هذه الافتتاحية التي يلعب فيها الشاعر دور الشاهد لحدث يحدث أمامه، فيسجّله بريشة رسام حاذق
: «والوردُ الأيرلندي تفتّح كالبرقِ،/ وجاء النحلُ ليمتصّ رحيقَ بنفسجةٍ/ وترجّحَ سنجابٌ من غصن صنوبرةٍ دانٍ/ وتبدّت في المرجِ خيولٌ تلعبُ». ص (83) ولأن قصيدة يوسف متفائلة بطبعها، تنشد للحياة والإنسان، يبزغ الحب مرتدياً ألواناً نشوانة، حسّية وروحية معاً. هنا لا تأتي الصورة قبل الفكرة، أو الحبّ قبل اللمسة، بل للحدث حضوره، وللأشياء سطوتها، وللمكان تأثيره على المخيلة: «أمسِ تركتِ صحوناً في المطبخ لم يألفها أحدٌ./ وتركتِ على العشبِ أريجَ نبيذ إسباني/ وتركتِ على أهدابي صورتكِ/ الشمسَ على الخدّين/ وملحَ البحرِ على الفخذين/ وبرقَ زمرّدةٍ في العينين» ص (117) إن تألّق اللغة العشقية في هذا الوصف، وإيغالها في الحسّية، يُنزل الحبَ من عليائه البلاغي والمثالي، ويرسم صورةً ناطقة للجسد الأنثوي، المستحمّ بالعشب والنبيذ والشّمس والبحر.
لكن، ورغم هذا الافتتان بالطبيعة والحبّ والضوء، لا يخفي الشاعر التزامه بقضية وطنه، جاعلاً المأساة العراقية موسيقى خلفية للكثير من النصوص، ولكن من دون ولولة أو نحيب مسموع. هنا نرى الشاعر يتعامل مع رموز واضحة، سياسية وأيديولوجية، وفي الوقت ذاته يحافظ على التوتر الشعري، وجماليات المجاز في القصيدة. فمثلاً، نراه يغنيّ للون الأحمر، رمز النضال الشيوعي، فيرى الرايةَ حمراء، والباصَ أحمر، والحقيقة حمراء، متجاوزاً نمطية الترميز السياسي، ليلعب باللون على هواه، ويبث روحاً جديدة في الدلالات: «ومثل البرق يقتنعُ الشيوعيُ الأخير بأنّ لونَ قميصِه أبهى، وأنّ تجارة القمصان ليست شأنَه؛/ أنّ الحياة تريدهُ حرّاً وأحمرَ/ أنّ لون قميصهِ سيظلّ أحمرَ/ قانياً»، ص(80) نعلم أنّ بلوى الشعر السياسي تكمن في التقريرية، وطغيان الديماغوجيا اللفظية على قاموس الشاعر، لكن سعدي يوسف، بخبرته الطويلة يعرف كيف ينجو من ذلك، عبر استخدام الترميز الخفيف، والاستعارة الواضحة، والإحالة المباغتة، كما في قصيدة (العودة) حيث يقول في وصف القمر: «قمرٌ من تراب/ قمرٌ من رصاص مذاب/ قمرٌ في البلاد الخراب». ص (19) أو كما في وصفه لكارثة الاحتلال في قصيدة (العالم كما لا نعرفه) حيث يقول: «كأن جلموداً من البازلت أسودَ جاء منقضّاً، ليكتمَنا ويكتمَ، في غدٍ، أنفاسَنا» ص (54). في هذا الإطار، يوجّه الشاعر اللوم إلى بعض شعراء جيله، الذين فشلوا في مواكبة الحدث الدامي، وأقفلوا حواسّهم أمام ما يجري، ليسأل: «كيف يصمتُ، عن أنين النخلةِ، الشعراءُ؟/ كيف يكون أوّلهم، كآخرهم، أصمّ، وأبكمَ؟» ص (88) كل هذا يأتي في سياق دفاع سعدي يوسف عن قيمة اللحظة الراهنة، وأثرها في تشكيل وعي القارئ والنص ومعاً: «لن يكون اليومَ أمسِ، ولن يكون غداً. أقيمُ على ذؤابةِ لحظة». ص (112) هذه الإقامة في قلب اللحظة تمنح لغة الشاعر الكثير من النضارة والحرارة والشفافية. فالشاعر لا يستسلم لقاموس منجز، ولا يكرّر عبارات جاهزة، نمطية، ولا يستسلم لذاكرة، مقفّاة، منتهية ومسلوبة. إنّ رؤياه الجمالية منبثقة من واقع حياتي لا يتوقّف لحظة عن الحدوث، وبالتالي تختفي الحذلقة، وتقلّ الزخرفة، وتسطعُ شمس المعنى: «تريدني أن أخفي الأشياءَ؟ أن أرخي القناعَ حقيقةً؟/ أن أخدعَ الأبصار بالألوان؟» ص (100)
يميط، إذاً، سعدي يوسف القناع عن وجه الحقيقة، مطلقاً سراح اللغة من سجنها البلاغي، ومبقياً على التزامها بقضية الإنسان في العالم. وإذا كان عنوان مجموعته يضمر تناقضاً فلسفياً أو فكرياً، فإنما لكي يجسرَ الهوة بين المادّي والروحي، أو الحقيقة والمجاز. فالبطل البروليتاري، الشيوعي، يدخل الجنة لأنه يصرّ على الدفاع عن العدالة المفقودة، ويرفض الهزيمة أمام التاريخ، لأنه لا يريد لكابوس جيمس جويس أن يسحق حلمه الطوباوي، ويحيل حياته أثراً بعد عين.
السفير
يوليو 2007