«لمن تُهدي قطرةً من بكاء/ على إنسانيةٍ فاقدةِ الهمّة». هكذا تبدأ قصيدة «سأم» للشاعرُ الإيطالي الكبير أونغاريتّي (1888-1970)، إحدى القصائد التي نطالعها في المجلد الضخم الذي يضم، للمرة الأولى، الأعمال الكاملة لأونغاريتّي في صيغتها العربيّة عبر ترجمة رفيعة المستوى أنجزها الفنان التشكيليّ المصري عادل السيوي عن الإيطالية مباشرة. وهي المرة الأولى أيضاً يتم فيها، عبر أية لغة عدا الإيطالية، تجميع كل المنجز الأدبي لهذا الشاعر من قصائدَ ودراسات في مجلد واحد. هذا ما أكدته المنصّة التي ناقشت الكتاب الذي صدر قبل أيام عن دار «ميريت» في القاهرة في ندوة نقدية عقدت في المجلس الثقافي الإيطالي في حي الزمالك. وحاضر في الندوة الشاعران الإيطاليان إيدورادو سانغونيتّي وأنتونيو ريكاردي. والأخير هو مدير تحرير دار «موندادوري» ناشرة أعمال أونغاريتّي في إيطاليا. أدارت الندوة الإيطالية ستيفانيا انغرانو، زوجة الرسام عادل السيوي التي شكرها في مقدمة الكتاب مع كثيرين من الشعراء الذين ساعدوه ودعموه منذ العام 1992 لكي يخرج هذا المنجز إلى النور. والحق أن هذا ليس المنجز المهم الأول الذي يقدمه السيوي للمكتبة العربية. فهذا الرسام وإن كان همّه الكبير هو التشكيل، فقد هجر الطبَّ من أجله، إلا أن فكرة «الإبداع» في إطلاقها لا تني تؤرقه. وكان أن وهب حياته لمشروع ثلاثي يمر بثلاثة منعطفات زمانية حاسمة في تاريخ الفن التشكيلي! الكلاسيكية، الحداثة، ثم اللحظة الراهنة. واكتمل، حتى اللحظة، منعطفان. فترجم في المرحلة الكلاسيكية عن الإيطالية أحد الكتب الأساسية وهو «نظرية التصوير عند ليوناردو دافنشي». وفي الحداثة ترجم كتاباً تنظيرياً تطبيقياً هو «نظرية التشكيل عند بول كلي».
هل حقاً ان الشعرَ لا يترجمه إلا شاعر؟ هذا السؤال غالباً ما يُطرح. ولكن أليس التشكيليُّ شاعراً؟ بالتأكيد نعم. لا سيما إذا كان يمتلك ذائقةً أدبية وفنيّة رفيعة. سألت السيوي كيف له بأن يضحي بخمس عشرة سنة من عمره، المدة التي أنجز فيها ترجمة أونغاريتّي، في عمل خارج دائرة همّه الإبداعي؟ فأجابني بأن أونغاريتّي في نظره ليس شاعراً فحسب، بل فنان قدّم أجوبة عن أسئلة إبداعية كانت تؤرقه شخصياً في مسيرته التشكيلية. ومنها كيفية قتل «المناضل» داخل النفس انتصاراً لحضور «المبدع». وكلاهما، الشاعرُ والمترجِم، مثقفان عضويّان، بتعبير غرامشي، فاعلان في المجتمع خاضا التظاهرات والثورات ولم يعتكفا في برج الفن العاجيّ. على أنني، بعد قراءة الكتاب، وجدتُ المناضلَ حاضراً بقوة داخل القصيدة، حاضراً ولكن على نحوٍ لم يطغَ المبدع على فنيّته. ومن الأشياء التي يعلن السيوي أنه تعلمها من أونغاريتّي كيفية تنقية العمل الإبداعي، قصيدةً كان أو لوحة، من الترهلات والنتوءات حتى تشرقَ القطعةُ الإبداعية رائقةً صافيةً متقشفة ما أمكن. هذا عدا أسباب أخرى كانت وراء اضطلاعه بترجمة أونغاريتّي ومنحه جزءاً غير يسير من جهده وعمره. وأهمها أن الشعر بدأ ينحسر من الوجود كقيمة فلسفية في عالم طغت فيه المادة، ثم شرع منطق السوق يلفظه.
يرى السيوي أن الشعر ينظّم علاقتنا بأجمل كنز يمتلكه الإنسان: اللغة. ويقول: :أنا كعربي أؤمن أن شاعرَ القبيلة كان بوسعه أن يوقف حرباً بقصيدته، فالشعر مرجعية حاسمة في ثقافتي العربية، ولذلك سأظل منحازاً له ولو عبر ترجمته». ومن الأسباب أيضاً أن أونغاريتّي عاش في مصر(الإسكندرية) مثل كفافيس، وأمثال هؤلاء الشعراء يمثلون عيناً أخرى تطل على ثقافتنا المصرية ويعيدون إلينا روائح أو أصواتِ مرحلةٍ كادت تمّحي من ذاكرتنا هي بدايات القرن الماضي.
مصرية أونغاريتّي
وبالفعل نجد في قصائد أونغاريتّي الكثير من الإشارات التي تؤكد أنه كان سابراً لغور «الدارجة» المصرية وشعبياتها. أما السبب الفنيّ الذي دفع عادل السيوي، الفنان التشكيلي والأكاديمي صاحب التجربة العريضة سواء على مستوى الرسم أم على مستوى الكتابة التنظيرية، إلى الغرق في لجّة هذا الشاعر الإيطالي وترجمته فيقبع في هذه القصيدة القصيرة التي افتتحت الكتاب وعنوانها: «أبدي»، تقول: «بين زهرةٍ قُطفتْ/ وأخرى أُهدِيَتْ/عدمٌ/ لا يمكن التعبير عنه.» هذه اللحظة التي بين قطفِ الزهرة وإهدائها هي لحظة محذوفة من الزمن: عدم. والشاعرُ في مجمل تجربته لا يني يحاول القبض على هذه اللحظة لتجميدها واستلهامها وتأطيرها. وكتب أونغاريتّي دراسة كاملة عن تلك اللحظة الزمنية المفقودة ومحاولة استرجاعها. وربما نرى في هذا انعكاساً للتعريف الذي وضعه الفلاسفة للزمن «الحاضر» بصفته وجوداً يقع بين عدميْن: الماضي والحاضر.
من الأمور الجميلة في هذه الترجمة الفريدة وقوع المترجم على «مسودات» بعض القصائد بخط يد الشاعر، بحيث تم له الوقوف على لحظة تكوّن النص كلمةً فكلمة. فمحوٌ هنا وشطبٌ هناك وكتابة على كتابة وهلمّ جراً... والتلصص على مطبخ أو مختبر العمل الإبداعي هو في ذاته قراءة نقدية فريدة تسمح للمترجم في أن يفتح نوافذ رأس الشاعر والتسلل إلى أسراره الخبيئة. وهذه ميزة مضافة تُحسب لهذه الترجمة الناقدة، إضافة الى كونها قراءة مبدع لمبدع وليس مجرد ترجمة على يد مترجم محترف. القصائد في مجملها قصيرة وخاطفة، ودرسٌ بليغ في التقشف الشعريّ وجمالية الحذف لا الإضافة. تصل بعض القصائد إلى سطر شعري واحد مكوّن من كلمتين: «ألا نواصل...».
قارئ هذه الملحمة الشعرية يكتشف بسهولة أن أونغاريتّي كان مُطلّعاً بامتياز على التجربة الصوفية والشعر العربي القديم إجمالاً. نلمس الوقوف على الطلل في قصيدة تقول: «لم يتبق من هذه البيوت/ سوى طلل من جدار/ ولم يتبق/ حتى القليل/ من كثيرين/ كانوا يشبهونني/ ولكن لم يضع من القلب/ صليبٌ واحدٌ/ إنه قلبي/ البلد الأكثر حسرةً.» ونلمح النَفَس الصوفي حينًا والحِكَميّ حينًا آخر في ديوانه «الأمثال» الذي كتبه بين عامي 1966و1969: «مَنْ ولدَ كي يغني/ يغني وهو يموت.»، «مَنْ وُلدَ ليحبَّ/ مِنَ الحبِّ سوف يموت.» والنَفَسَ الوجوديّ: «نحملُ التعبَ الذي لا نهايةَ له/ تعبُ الشقاء الخفيّ لهذه البداية التي/ لا تفكُّ الأرضُ قيودَها/ كلَّ عام.» أو «توقفوا عن قتل الموتى/ كُفوا عن الصراخ/ لا تصرخوا/ إذا أردتم أن تستمتعوا إليهم ثانية/ إذا أردتم ألا تموتوا/ همساتهم لا تُسمَع/ وصخبهم لا يزيد عن صوت عشبٍ/ ينمو فرِحاً/ حيث يخطو إنسان.»
هذا السِّفر الضخم (650 صفحة)، الذي زيّنت غلافه إحدى لوحات عادل السيوي من مجموعته الجميلة «وجوه أفريقيا»، يضم إلى جوار الأعمال الشعرية الكاملة لأونغاريتّي، دراستيْن نظريتين كتبهما الشاعرُ هما بمثابة شهادة حول تجربة اونغاريتي الشعرية ومفهومه لماهية الشعر، إضافة الى بيبليوغرافيا كاملة عن حياة الشاعر ومحطّاته الإبداعية والجوائز التي حصدها وأسفاره الى مصر وفرنسا والبرازيل وسواها من البلدان. وكذلك مقدمة المترجِم الضافية التي هي قراءةٌ إبداعية نقدية في حياة شاعر رصدتها عينُ فنان وخطّها قلمٌ متمرّسٌ في الكتابة الأدبية التحليلية المعمّقة.
الحياة
03/02/2007