النارُ في الميثولوجيا الإغريقية هي المعرفة. وبرومثيوس، سارق النار الأشهر، أبى إلا أن تنالَ البشريةُ شعلةً منها ضد رغبة زيوس، الذي أراد أن تكون المعرفةُ وقفاً على الماوراء وحسب، فاستحق برومثيوس العقاب الأشهر بأن تظلَّ تنهشُ النسورُ كبدَه إلى الأبد. حتى في الفلسفات المحدثة كانت النارُ حجرَ الزاوية لفكرة الثقافة كما عند الفيلسوف الألماني شليغل وكانت حلم اليقظة والرقص الجحيمي عند غاستون باشلار كما ورد في كتابه «التحليل النفسي للنار». فماذا لو تحلّق أربعةُ عشر سارقاً حول مائدة النار؟
في كتابها الفريد «صحبة لصوص النار»، الصادر عن «دار النهار»، تحاوِر جمانة حدّاد ثلاثة عشراً من لصوص النار من مختلف أنحاء العالم! هل جاء هذا الرقم صدفة أم له دلالة أخرى؟ أما اللص الرابع عشر فكان المحاوِرةَ ذاتَها، التي كانت أكثر من حفارٍّ في عقول مجموعة من أهم أدباء العالم المعاصرين.
لا يبالغُ المرء إذا قال إن هذا الكتاب هو أحد أهم ما أُضيف إلى المكتبة العربية منذ عقد من الزمان في أقل تقدير. أما أهميته فلها أسباب عدّة. منها أن «المحاوِرَ» شاعرةٌ عربية وصحافية مميزة، فيما المحاوَرون أدباءُ غربيون من بلدان شتى لهم ثقلهم ومنجزاتهم المهمة. وهذا في ذاته يجعل من هذه الحوارات عملية «شحذ ذهني» بالتعبير الفلسفي، وجدلاً راقياً بين حضارتيْن إحداهما عربية والأخرى هي «الآخر» بمعناه الأوسع. كذلك فإن المحاوِرةَ تجيد لغات عدّة، ومن ثَمَّ حاورت معظمهم بألسنتهم الأم، وهذا من شأنه أن يجعلَ الجدلَ بِكراً يتم في صورته الأصفى لأن المسؤول حينها لن يشعر بالغربة اللسانية فتتدفق الإجابات من عقله من دون عوائقَ أو مصدّاتٍ أو جسورٍ دلالية. ثم بعد ذلك يأتي تمكّن حدّاد الرفيع من العربية ليتجلى في ترجمة هذه الحوارات إلى عربية رائقة لا انكسارات فيها مما نجد كثيراً في الترجمات.
صدّرت حدّاد كتابها بمقدمة ضافية هي بحقّها الخاص درسٌ صحافي «تقنيّ» يمكن الرجوع إليه حال الرغبة في إجراء حوار. نعرف من هذه المقدمة معنى أن تكون صحافيّاً ناجحاً والأثمان التي تدفعها لقاء ذلك من عمل وجهد وجدٍّ وجدية والتزام. ولأن المحاوَرين والمحاوِرةَ جميعَهم لصوصُ نار، فكان لابد من أن تتمَّ مراوغاتٌ ومناوراتٌ عدة من أجل «الإيقاع» بهم و»اقتناصهم» أولاً على مستوى المكان، أعني اللقاء المباشر، ثم الشروع في «تشريحهم» العقليّ من أجل الوقوف على دقائقهم الخبيئة التي أنتجتْ أعمالهم الأدبية الفارقة. وهذا أمر صعبٌ على مستويات عدة. أولاً لأن اللقاءات تمت عادة في بلادهم، ما يعني أن هذه الصحافية الجادة قد اختصمت من وقتها الكثير كي تلتقي بكل أسد في عرينه الخاص. على ما يلازم ذلك من فرار المشاهير عادة من الحوارات والصحافة و«القنص». دوّنت حدّاد في مقدمتها قصة كل حوار، «فكل حوار مغامرة ورحلة وحكاية» كما تقول. يتم كل هذا، بطبيعة الحال، بعدما تكون المحاورِةُ قد قامت «باقتناصهم» الفكري الأدبي بأن قرأتهم وتأملتهم طويلاً في خلوتها كي تقف على مكامنَ ونقاطٍ بعينها مما يمكن أن تسدد إليها نبالَها. فالشاهد أن كل حوار في هذا السِّفر الجميل هو «حياكة تفصيل» دقيق لكل مبدع منهم لا يناسب أحداً غيره. فلم تقع جمانة في شرك التكرار أو الأكليشيهات التي نراها في حوارات الصحافيين الكسولين ممن يحملون حقيبة بوقراط الجاهزة ويجوبون بها أروقة المبدعين ومكامنهم. المبدعون الذين تمت محاورتهم هم حسب ترتيبهم في الكتاب: الإيطالي: امبرتو إيكو، البرتغالي: جوزيه ساراماغو، الفرنسي: إيف بونفوا، الأميركي: بول أوستر، البرازيليّ: باولو كويللو، النمسوي: بيتر هاندكه، البيروني: ماريو فارغاس، النمساوية: الفريده يلينيك، الايطالي: انطونيو تابوكي، المغربي: الطاهر بن جلون، الاسباني: مانويل فاسكيت مونتالبان، التركي: نديم غورسيل، والأميركية: ريتا دوف.
الحداثة الشعرية
من الصعوبة بمكان أن نقف على كل الأفكار المهمة التي وردت في هذه الأنطولوجية الحواريةّ، ولا على معظمها، مما يجب أن نسلط الضوءَ عليه. لأن كل سؤال في الحقيقة هو وثبةٌ واسعة ثم رميةُ لغمٍ من حدّاد في حقل كل من هؤلاء الأعلام. لذلك فقط سأضرب ضربَ عشواء على بعض ما ورد على ألسنة هؤلاء المبدعين «اللصوص». يقول الشاعر الفرنسي إيف بونفوا: «إن الحداثة الشعرية في فرنسا كفّت عن تحديد نفسها على أنها عملية إنتاج أبيات تتميز شكلانيّاً عن النصوص النثرية التي ليس لها إيقاع ظاهر أو وزن شعري متعارف عليه». وفي سؤال لحدّاد لماذا تحوّل من الشعر إلى الرواية يجيب الطاهر بن جلون: «إن الرواية ترافق العصر، وهي مرآته، أي أنها أكثر قدرةً على تحمل بشاعته. أما الشعر فقدره أن يقلب العالم رأساً على عقب، على غرار ما فعله السورياليون في العشرينات مثلاً عندما تمردوا على عصر صار خلواً من الدهشة والمفاجآت والخلق. فحرّروه وأنقذوه في شكل صاعق غير منتظر. الآن لا أرى الكثير من الشعراء الجدد الذين يبرزون ويحررون، لا في العالم العربي أو الغربيّ، أكرر، نحن نعيش في عالم بلا شعر». ولا تختلف كثيراً هذه النظرة التشاؤمية للعالم عند ابن جلون عنها عند جوزيه سراماغو الذي يقول: «إن العولمة وحقوق الإنسان عنصران غير منسجمين، بل متنافران. هرُّ العولمة سوف يلتهم فأر حقوق الإنسان. لست متشائماً، بل هو عالمنا مشؤوم. في أي حال أرى أن التشاؤم هو فرصة خلاصنا الوحيدة، وأن التفاؤل شكلٌ من أشكال الغباء. أن يتفاءل المرء في أوقات كهذه ينم إما عن انعدام أي إحساس أو عن بلاهة فظيعة».
لم تكتفِ جمانة حدّاد بهذا الصيد الثمين الذي منحتنا إياه بعد رحلات أوديسيوسية وعِرَة جابت فيها العالم من أجل لقاء هؤلاء الثلاثة عشر لصّاً الذين سقطوا في شراك أسئلتها المشاغبة الصعبة. بل ذكرت، بكل موضوعية، أسماء من تهرّبوا من الحوار ونجوا من قنصها، مثل كونديرا وماركيز وسلمان رشدي. لكن أنّى لهذه الطموح الجادة أن تيأس، فقد وعدت بمطاردتهم حتى تفوز بهم ذات نهار. بل أنها تمنّت أن تهبَ قارئها المتعطش للمعرفة حواراتٍ مع كافكا وهوغو وسلفيا بلاث ودايستوفسكي وأراغون!
أحبُّ في مقارباتي النقدية، الانطباعية طبعاً فأنا مجرد قارئة لا أكثر، أن أُلمح إلى مثلبة هنا أو هناك، في الأعمال التي أحب، فقط من أجل المصداقية، ولأنني أؤمن أن الضدَّ يُظهر حسنَه الضدُّ، فالخيطُ الرهيفُ المعتمُ يكرِّسُ الإشراقَ العميم الذي حوله. وإلا ما بترَ فنانو الرومان أذرعَ تماثيلهم الجميلة من أجل التأكيد على فتنتها! لكنني من أسفٍ، والحق أقول، لم أجد هذه المثلبة الصحيّة (المطلوبة) في هذا السِّفر الطيّب وإلا أشرتُ إليها «بمحبة»! فلا أخطاء لغة، على رغم الترجمة عن لغات عدّة تعرفها جمانة حدّاد، ولا تكرار، ولا نقص، ولا حشو، ولا تثاقف، ولا ارتباك.
الحياة
11/02/2007