صلاح بوسريف

خالدة سعيدفي كتابها الأخير 'يوتوبيا المدينة المثقفة'، حاولت خالدة سعيدة أن تقترب من تجارب ثقافية فردية، في الثقافة اللبنانية الحديثة، وفي بيروت تحديداً. تجارب لم تكن الدولة من بادرت إليها، بقدر ما قامت على جهود أفراد، أعني مثقفين ومحبين للثقافة.

أهمية الكتاب تأتي من كونه شهادةً على فترة لم تكن تعني الثقافة اللبنانية، وحدها، بقدر ما كانت تعني الثقافة العربية، التي كانت بدأت تلتفتُ لِما يجري في بيروت، في مقابل ما كان يأتي من القاهرة.

فهامش الحرية الذي كان مُتاحاً للبنانيين آنذاك، ورغبة المثقفين في خلق مناخ ثقافي تَحَرُّري،وفي ابتداع طرق جديدة في الكتابة وفي التفكير، ساعد على ظهور 'مؤسسات ثقافية'، مستقلة، وغير تابعة لهذا الطرف أو ذاك، أو كانت بالأحرى، تسعى لخلق جَوٍّ من الحرية والتعدُّد في الرأي والفكر والإبداع.

رغم أن الفترة التاريخية التي ظهرت فيها هذه الجماعات، أو المؤسسات، كانت فترة غَلَب فيها الفكر القومي، وكانت فيها 'الثورات' !التي ظهرت، آنذاك، وكانت في أغلبها عسكرية، تستدعي الالتفاف حول الفكر العروبي القومي، بما يستدعيه من 'التزام'، وفق ما كانت تدعو له مجلة 'الآداب' البيروتية لصاحبها الراحل يوسف إدريس، الذي كان أوَّل من حمل فكرة الالتزام التي كان دعا لها سارتر. فظهور مجلة 'شعر' اللبنانية، التي كان يُديرُها الشاعر الراحل يوسف الخال، كان له تأثير كبير، في تغيير النقاش، وفي ظهور فكر جديد، وطريقة مغايرة في كتابة الشِّعر بشكل خاص. لم تكن المجلة وحدها واجهة عمل الخال، ومن كانوا إلى جانبه في هذا المشروع الشِّعري، بل إن 'خميس شعر'، كان نواة كثير من الأفكار التي ستتبلور فيما بعد، وتنتقل من النقاش والحوار المغلق، إلى الكتابة النصية، أو النظرية، التي غَيَّرت كثيراً من الأفكار، ووضعت الشِّعر العربي موضع مساءلة ومراجعة، وأثارت الانتباه إلى ضرورة تغيير قواعد اللعب الشّعري.

ستتوقف مجلة شعر، وسيواصل أدونيس المشروع، من خلال مجلة 'مواقف'، التي كانت أكثر جسارةً، في توسيع مجال أسئلتها، ولم تبق مكتفية بالشِّعر، بقدر ما ذهبت إلى حقول معرفية
أخرى، اعتبرتها ذات أهمية في إعادة قلب التُّرَب، والبحث في أساسات الفكر والإبداع العربيين.

لم تكن هذه المشاريع تمر بيُسْر، في ضوء السياق العروبي القومي الذي كان في ذروته، فما وُوجِهَ به المشروعان، من 'تَخْوينٍ'، ومن اتهامات شتى، لم تكتف بمناقشة الفكر الذي حمله المشروعان، وما كانت تنشره 'شعر' و 'مواقف'، من نصوص، ومن مقالات، بل إن الأمر ذهب إلى اتهام القائمين على هذين المشروعين بتهم لا علاقة لها بالفكر ولا بالإبداع.

ثمة مشاريع أخرى، كانت حاضرةً في هذا السياق، مثل 'الندوة اللبنانية'، وظهور 'المشروع الرحباني الفيروزي'، و 'دار الفن والأدب'، كلها كانت ضمن بنية ثقافية، ذات نسيج واحد، تختلف في المنطلقات، لكنها تلتقي في الهدف، وهو إقامة دعائم 'مدينة مثقفة'، أو ما تسميه خالدة سعيد بـ 'اليوتوبيا'.
الكِتاب هو شهادة عن لحظة تاريخية ثقافية، كان فيها المثقف المُسْتَقِلّ، أو الفرد، هو مَنْ يتحمَّل تَبِعات ما يُقْدِم عليه من أفكار، في الوقت الذي كانت فيه الدولة لا تعبأ بالثقافة، أو كانت تعتبرها أمراً ثانوياً لا علاقة له ببناء الدولة أو 'المدينة' بالأحرى.
ما لا تقوله خالدة سعيد في كتابها هذا، أو تُحاوِل أن تقوله بطريقة ضمنية، هو أنَّ ثقافة التنوير، والتحديث، والتغيير، أو ثقافة التجاوز والتخطِّي، لم تكن الدولة، أو مؤسسات الدولة، عبر تاريخ الثقافة الإنسانية، هي من تُؤَسِّس لها، بقدر ما سَعَت هذه المُؤسَّسات، إلى تكريس ثقافة الثبات والاستقرار. فالدولة، من خلال مؤسساتها المختلفة، تعمل على تثبيت الثابت، وتكريس المُكَرَّس، ما يجعلها لا تقبل، ولا تستسيغ فكر الصيرورة والاختراق، أو كل فكر يتعارض مع فكرها، وكل رؤية لا تكون، بالضرورة، هي رؤيتها.
المشاريع، الثقافية والفنية، التي حدثت خلال الخمسينيات، من القرن الماضي، وحتى قيام الحرب الأهلية بلبان، كانت كلها، مشاريع بدون دعمٍ ماديٍّ من قبل الدولة، وكانت المسؤولية الثقافية لمؤسسات وأفراد محدّدِين، بما كانوا يملكونه 'من أسئلة ومشروعات وأحلام'، وبما كان لهم من مسؤولية فكرية، ارتبطت بطبيعة رؤيتهم التَّغْييرِيَة، للفكر والإبداع، هي ما حفَّز هؤلاء لخوض هذه 'المغامرة'، وتكريس جهدهم الفكري والإبداعي، وحتى المادي، بما كان له من تبعات على حياتهم الخاصة، للخروج بالثقافة من وضع التكرار والاستعادة، إلى ثقافة السؤال والابتكار.
وهذا ما يجعل من حضور أسماء من قبيل أنسي الحاج، ومحمود درويش، وجبرا إبراهيم جبرا، وسعد الله ونوس، وغسان كنفاني، وأورخان ميسَّر، وسعاد نجار، وغيرهم، هو تأكيد على هذه الروح الفردية التي كانت هي أساس هذه اليوتوبيا الثقافية، التي كان كل واحد من موقعه يحاول أن يضع حجراً في بنائها، رغم ما لقيه هؤلاء، سواء بشكل جماعي أو كأفراد،، من مواجهات، كون المرحلة كانت تقتضي، سياسياً، دعم الفكر العروبي، والبقاء في سياق الشعارات التي كانت تلقي بظلالها على هذه المرحلة تحديداً.
إننا في هذا الكتاب، بصدد مراجعة، أو استرجاع، بالأحرى، للحظاتٍ، كان لها تأثير قوي في ما أصبحت تسير عليه كثير من المواقف والرؤى الفكرية والإبداعية، اليوم، في الفكر والإبداع العربيين، رغم أنَّ ما نستشعره، في طيات الكتاب، أو في طيات بعض تعبيراته، مما لا يمكن إدراكُه بداهَةً، أنَّ بعد هذا الذي كان، لم يحدث شيء له أهمية، أو ما يمكن اعتباره تغييراً، وأفقاً لفكر وإبداع مغايرين. وفي هذا، بالذات، يبدو هذا النزوع المتكرر، خصوصاً في ما يُصَرِّحُ به أدونيس بشكل خاص، إلى اعتبار التحويل والتغيير، والجرأة في الابتداع، انتهت في الفكر والإبداع العربيين، وأن العرب اليوم يعيشون في جوٍّ من التكرار والاستعادة، مثلما كان حادثاً من قبل.

الذَهاب إلى مثل هذه الأقوال، فيه كثير من التغاضي عن طبيعة الانتقال، أو الانقلابات التي حدثت في المفاهيم والرَّؤى، وفي النصوص الشعرية والسردية العربية، وبما حدث في الفكر ذاته، من ابتداع، في القراءة، وفي طريقة النظر، أعني في المنهج والرؤية.
لا يمكن لمن دافع عن الفكر النقدي، وعن فكر الحداثة والابتداع، بما يحمله من اختلاف في المواقف وفي الرؤى، أن يضع نفسه بديلاً عن كل ما يجري من انتقال، وما يحدث من قلبٍ في كل شيء، خصوصاً أنّ الفكر والشِّعر، عرفا تشعُباتٍ في الرؤية والموقف، وفي شكل الكتابة، التي كانت، في ما أشارت إليه خالدة سعيد، وما بادر إليه هؤلاء الذين حرص الكتاب على ذكرهم، مقدمة لِما يجري اليوم من بحثٍ، ومن قلبٍ للمفاهيم والرؤى. فما يحدث من 'ثورات'، في العالم العربي، رغم ما شابها من فكر ماضوي سلفي اجتثاثيّ، هي حاصل هذا النهر الذي كان يجري بين شعابِ فكرٍ لم تكن الحداثة والتنوير ضمن برنامجه، أو ما يشغله، في أقل تقدير.

اليوم، توسَّعت المعارف، وأصبحت كل اللغات متاحة، بما لم يكن حادِثاً من قبل، وأصبحت إمكانات التواصل كبيرة، بشكل لا سابق له، وفـي هذا ما يكفي لنقل الفكـر من سياق إلـى آخر، ومن لغة إلى أخرى، وتَغَيّر مفهوم الشعر بشكل جذري، أصبح معه مفهوم القصيدة الذي ما زال سارياً في كتابات كثير من 'الرواد الأوائل'، أحد أكبر لحظات العطب في بيانات الحداثة والكتابة، وفي 'حداثة القصيدة' كما انتقدتُها، بشكل جذري أيضاً، في كتابي 'حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر'. وهو ما يسري على كثير من حقول المعرفة، التي لم يبق 'المركز' مصدرها الوحيد، بل إن في هذه 'الهوامش' أو 'المحيطات' الكثيرة، تجري أمور، لا بد من وضعها في سياق رؤيتنا. الدولة بقيت في منأًى عن كل هذا، وبقي الأفراد، مثلما حدث في بيروت، وفي بغداد وفي القاهرة، هم من يخوضون مشروع 'النهضة' والتحديث، ويؤسسون لفكر ابتداعي حداثيّ، هو هذه 'اليوتوبيا' التي أشارت إليها خالدة سعيد.
إن التأسيس لفكر الحداثة، هو تأسيس مُستمر، ذائبٌ، وهو صيرورة، وشمسٌ تتجدَّد، بتعبير هيراقليط، ما يفتح أفق الصيرورة على المغامرة لا المُروَحَة، مثلما تشير خالدة سعيد في هذا الكتاب الاستثنائي، بما يفتحه من طُرُق، وبما يُتيحه من إمكاناتٍ للمراجعة، ولإعادة بناء الأفكار.
ليس الكتاب تأريخاً، بل إنه دعوة ضمنية، لتفكيرِ الحداثة، ولتفكير السياقات التي كانت بين أهم ما ساعد على ظهور شعر وفكر وفن.

كانت جذريتهم، إحدى أسُس ثقافتنا المعاصرة، وفكرنا الذي هو فكر أفراد، لا مؤسسات، وهذا هو جوهر 'يوتوبيا' هذه المدن المثقفة التي خرجت عن السائد، وتجاوزت فكر الاستعادة والتكرار.

2012-05-25