الرباط ـ "القدس العربي":
عن دار إفريقيا الشرق، صدر للشاعر صلاح بوسريف كتاب جديد، هو دراسة في الشعر العربي المعاصر.
يتميز الكتاب، بذهابه إلى مفهوم الكتابة، الذي خرج به عن مفهوم " القصيدة "، التي لم تعد في نظر بوسريف، قابلة للاشتغال، في عدد من كتابات الشعراء المعاصرين. فإذا كانت الكتابة عند صلاح بوسريف، كما يُثْبِتُها كتابةً، بخط بارز، ذات طبقتين؛ الأولى هي الكتابة باعتبارها رسماً، أو كتابةً خطية أو إملائيةً، وهي ما يحدث على الورق، بعكس الكتابة الشفاهية، التي هي نَقْل لِلِّسان على الورق، كما في وضع " القصيدة "، التي لم تخرج من ماضيها الشفاهي، والثانية، هي الكتابة باعتبارها شعراً، أو نَصّاً دينامياً مفتوحاً، يتجاوز حدود النوع، أي الشِّعر، ليتجاوب مع الأشكال الكتابية المختلفة، ولِيُحْدِثَ ما يُسمِّيه بوسريف بـ " التشويش الأجناسي ".
تبدأ عملية التشويش بفتح اللغة على " بداياتها "، وبإلغاء التصنيف القديم للغة؛ لغة للشِّعر ولغة للنثر، فاللغة هنا، تكون واحدة، يدُ الشاعر هي التي تستطيع أن تخلق في تموُّجاتها تلك المسافة الممكنة بين ما قد يصير كتابة بمعناها الشعري المفتوح، وبين غيرها مما قد يكون تسمية أخرى.
إن إشكالية هذا العمل النظري، في أساسه، تنطلق من أهمية الصفحة الشعرية، ومن الفصل بين وعيين في الشعر، وعي شفاهي، هو وعي القصيدة، الذي لم يع ما جرى في النص الشِّعري من تحوُّلات، أي في " حداثة القصيدة "، التي هي قصيدة الشعر الحُر، التي بقيت شفاهية، ولم تخرج عن الاختيارات الشعرية القديمة، رغم طابعها الاختراقي المبني على كسر نظام التوازي، ووعي الكتابة، أو الوعي الكتابي، الذي كان عارفاً بأهمية البياض، وبدور الصفحة باعتبارها دالاًّ جديداً ينضاف إلى الدوال النصية الأخرى.
قام الشاعر، في بحثه هذا الذي يستغرق في الكتاب 318 صفحة من القطع الكبير، بالعودة إلى " الأصول "، أي بمراجعتها، لوضع اليد على الأمكنة التي تَحَدَّرت منها " القصيدة " كمفهوم، وهل ثمة علاقة بين " الشعر " و " القصيدة "، وهل " الشعر " جمع أم كثرة، إلى غيرها من الأسئلة القلقة التي تتناسل في هذا العمل، لتقف عن أصل المفهوم.
يقول بوسريف،: " القصيدة لغةً لا تُشتَق من الشعر، وهي تعبير عن ممارسة تحصر الشعر في الوزن والقافية والمعنى، أي في " الأصول الكبرى" التي ستصبح من المسلمات التي تستبد بالتعريف وتُقيِّدُه، فهماً وممارسةً... كما أن القصيدة، في شكلها وبنائها الخطيين، كما وصلتنا كتابةً، هي منجز شفاهي، لم تتخلص من بُعدها هذا، وظلت محكومة به، وهو ما يتبدَّى في تقصيدها، أي في شطريتها، وفي طابعها الانفصالي، الذي جسده ابن خلدون في اختزاله لمفهوم القصيدة، في قيام البيت بذاته، وفي انفصال أغراضه، أي في تعدُّدها وكثرتها" في الكتابة سيمَّحِي مفهوم البيت، ستعمل الصفحة على بلبلة الشكل، وعلى استحداث بياضات، لا يمكن قراءة السواد بدونها.
عاد صلاح بوسريف للبحث في أسباب إبراز القصيدة على حساب غيرها من الأشكال الأخرى التي تَمَّ حجبُها، كما عاد إلى البحث عند الصوفية في بـ " فرضيات الانتقال"، إلى الاختراقات التي شرعت في الظهور مع هذا النوع من الكتابة التي لم يتعامل معها النقد، واعتبرها خارج الشِّعر. كما عاد لكتابات جبران، ولما حققته من اختراقات في هذا الإطار، واعتبر جبران نواة الكتابة. فمع جبران شرع مفهوم الشِّعر في " التَّوَسُّع "، ولم يعد الوزن هو الدال الأكبر، بل الإيقاع.
في فصل البيانات الشعرية، أيضاً يعود بوسريف ليكشف عن عطب " المفهوم، وعن طبيعة الأفق النظري الذي تسعى البيانات، باستثناء " البيان العراقي "، لفتحه، وما تسقط فيه من بقاء في الأصل، أي أن ثمة مسافة بين ما تسعى إليه وما تقوله، فهي لا ّ تُذَكِّر النسيان ّ بمفهوم فوكو لتذكير النسيان. خصوصاً ما يحدث في بيانات أدونيس، وبشكل خاص بيان الكتابة، ومن أجل كتابة جديدة.
في الشعر المعاصر، يقارب صلاح بوسريف من خلال الشعرية المعاصرة، عند هنري ميشونيك، بعد نقدها في ما يتعلق بمفهومها للإيقاع باعتباره الدال الأكبر، وهو ما سقطت فيه قراءات عربية، لم تع دور الخيال في الشعر، وبعد تطعيمها بمفهوم الدينامية عند يوري تينيانوف، تجارب كتابية عربية، من جغرافيات عربية مختلفة، للشعراء، سليم بركات، عبد المنعم رمضان، قاسم حداد، ومحمد بنيس.
ينظر صلاح بوسريف إلى هذه التجارب باعتبارها وعت شرطها الكتابي، ونأت بنفسها عن الوعي الشفاهي وكان للصفحة، كدال شعري دور كبير في طابعا الكتابي.
الكتاب عودة للبدايات، وهو في نفس الوقت تأسيس لمفاهيم هي ما أصبح يحكم قراءة النص الشعري الجديد، أو المعاصر.
ما يُلْفِت في هذا العمل، هو أن النصوص التي يقرأها الكتاب، كلها مُصَوَّرة من مصادرها، سعياً من الكتاب للحفاظ على النص كما هو في مصدره، وهذا أعطى للقراءة طابعاً خاصاً، كونها حافظت على توزيع الشعراء واختياراتهم، كما وضعوها في دواوينهم، أي باعتبار كتابيتها، لا ما يمكن أن يحدث عند إعادة كتابتها، أو نقلها، كما يحدث عادةً.
القدس العربي
2012-02-21