يبدأ الشاعر السعودي محمد الدميني كتابه الشعري الجديد «أيام لم يدخرها أحد» الصادر عن دار «أثر» بجملة ستكون بمثابة لازمة خفية لكل المقاطع القصيرة التي تألفت منها قصائد الكتاب والتي كتبت بلغة مقتضبة، مشدودة إلى ايقاع نَفَس يكاد أن ينقطع لشدة حزنه. (ليست هذه كلماتنا) بل هي كلمات الآخر المتوراي خلفها، ذلك الكائن الذي يهبه الدميني وجوهاً متعددة يستعيرها من حياته الشخصية، وهي حياة تقع بين تأمل الألم ومحاولة تحييده. «ماذا تبقي للأمهات اللواتي رميننا على حصى الطريق لكي ننبت في صلادتها؟» يتساءل الشاعر في محاولة منه لتبييض صفحة الحاضر من خلال اعتذار شفاف يكاد يغرقه شعور عميق بالأسى في لجته. بما يشبه الرثاء ينظر الشاعر إلى أدواته في صيغتها العاثرة وهو يسعى إلى فهم الصلة غير الواقعية بين ما نعيشه وبين ما نحاول التعبير عنه في سياق يكاد أن يكون غير منصف. يقول «ليست طريقاً صائبة هذه التي سرنا عليها بلا قلب/ وما ادخرناه من كلمات يغادر من شقوق النوم» حيرة صاحب أنقاض الغبطة (1989) وسنابل في منحدر (1994) لا تكمن في الأداة التعبيرية نفسها، بل في صمت حمولتها، وهو صمت سيشعره بالضياع وهو يواجه مزيجاً من مرارة الفقدان الذي يلوح بالمنسيات وسط دوامة لا تنتهي من أمواجه وجنوح الأشياء العادية إلى أن تستقر في مكانها، كما لو أن ريحاً لم تهب لتصفعها. بين كفتي ميزان هذه المعادلة غير المريحة ينقل الشاعر مشاهده لا ليصف تحولاتها بل ليراقب ما ينقص منها، وهو النقص الذي يضفي على الكلمات قدراً مضافاً من الزهد بالمعاني. «لم يكن الاحتفال عيداً، كان شروداً يشبه أن ترى وجهك في ساعة غسق/ كان هذراً وطنياً ينسكب في أفواه المنشدين والخطباء ويتقاطر فوق صخور الليل» هل فاجأه الرسم في لحظة بكاء، كرهت فيها الدموع أن تنسكب من غير أن يحيط ضباب الفوضى الرؤية بأشباحه؟
الدميني شاعر نظر. يرى من خلال جدار وقائع سنوات لم يعشها إلا عن طريق حدسه الشعري. يصل بصره إلى ما لا تصل إليه طريقته في تفكيك الواقعة التي وقعت عليه مهمة استدراجها إلى حقل الكلمات. وقد لا يكون ذلك الجدار إلا نوعاً من محاولة لتفتيت الشبهات التي تحيط بحقيقة ما يحاول الشعر الوصول إليه في حياة مجاورة. يقول «ليس سوى حائط لطخته الطيور وتركته ينوء تحت أثقال الكلمات وهسيس الضمائر/ اتركه يا صديقي واقفاً، يستظل به فلاح عابر سرقوا فمه منذ أن أوصدوا غناء السفوح» هناك إيحاء بمَن يقيم وما يقع خلف ذلك الجدار الذي يعجز الشاعر عن تجهيزه بالكلمات المناسبة لا لشيء إلا لأنه عثر على ذلك الجدار مجهزاً بالكلمات. هل تأخذ الكلمات في حالة من هذا النوع هيئة العدو الذي يهمه أن يسرف أعداؤه في تخيل تفاصيل حياته المبهمة؟ وهنا بالضبط يجد الدميني ما يهتدي به من وقائع لمقاومة الصمت البلاغي فيروي رغبة منه في القفز على ذلك الصمت. ألا يعيننا الشعر في أحيان كثيرة على التسلل من خلال ثغرات الحكاية إلى الحقيقة؟ يقول الدميني في لفتة نثرية «أتوا حاملين فوانيسهم الضريرة وأضاءوا الكثير من الليل وتركوا كلاماً كثيراً وملاحم هربتها سفن كثيرة وناموا»
من اليسير القول إن الماضي يعذب هذا الشاعر.
إنه يستعيد ما عاشه كما لو أن كل شيء سيظل قابلاً للوقوع مرة أخرى. ألهذا يقول «أحب اليد التي تلتقط وتقبل وتتمرغ فوق خشب الطاولة بلا سبب سوى صمت المكان» قد تلهي القصيدة مَن يقرأها عن رؤية ما يحول بينها وبين رؤية الحقيقة، غير أن شاعرها مطارداً بالبياض يدرك أن ما لم يقع بين يديه سيقع في لحظة تجلٍ أخرى. يقول الدميني «تركت ورقاً أبيض في كل أنحاء المنزل/ قلت إن القصيدة التي لا تتدثر باليدين ستهبط هناك وستجد روحاً بيضاء تلتقطها».
هذا شـــاعر لم تغرر به الكــلمات حين لم يبادلها العداء بعد أن وجد فيها فرصته في النجاة بألمه.
الحياة- ١ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٥