فاروق يوسف

سيف الرحبيكما لو انه يمشي على عجل مسرعاً، يغذّ سيف الرحبي قدمه بأسباب قوة خطوته التالية، ناسياً أحوال خطوته السابقة، نافضاً عن نصه ما أنتهى إليه من أفكار وتقنيات. في كتابه «رسائل في الشوق والفراغ» (الاداب - بيروت)، يمزج الشاعر العماني أنواعاً أدبية عديدة (الرحلات، الرسائل، السيرة الذاتية واليوميات) في سرد شعري ممتع ومشوق قوامه لغة تستخرج من الواقع ايقاعاً فالتاً، لو سمعناه منفرداً لقلنا انه من نتاج عالم ما ورائي هو من اختراعات الشعر. غير ان تلك اللغة وهي التي قُدر لها أن تنسج عباراتها من مادة العيش المباشر بكل وضوحه كانت دائماً على تماس بما يقع وبما يمكن أن يقع، لذلك حضرت صورها ملتحمة بتفاصيل يوم يعيشه انسان وحيد قرر أن يوجه خطاباً إلى العالم في لحظة استثنائية من حياته، هي لحظة الشوق. وهذا ما يفصح عنه العنوان الثاني للكتاب (حول رجل ينهض من نوه ويتجه نحو الشرفة). وكما هو معروف فإن العناوين تلعب دوراً مهماً في توجيه النص لدى هذا الشاعر الذي صار يختبر النثر بعيداً عن القصيدة، جسداً وليس معنى. ولأن عناوين كتبه صارت طويلة (على سبيل المثل: الجندي الذي رأى طائراً في نومه عام 2000) فانها تبدو كما لو أنها سطور اقتلعت من مكان ما في النص لتحتل الواجهة، ولتشير وإن في شكل غامض إلى نوع الخبرة التي يستلهمها النص ويحتمي بها. ربما يكون العنوان هو ذلك السطر الذي نسي الشاعر كتابته في النص. لا أحد يدري. لكنه في كل الأحول يبدو سطراً ناقصاً. أشبه بالنظرة التي لم يلقها، بالعطر الذي لم يشمه، تلك الكلمة التي لم يقلها.

لا يخون الرحبي ايقاع القصيدة في هذا الكتاب النثري، بل يعيد صياغة وظيفته.
إذ يتعلق الأمر بالوصف وهو ضآلة نثرية لا يتأخر الرحبي عن التفاعل الايجابي مع ما تقترحه عليه حواسه، وهو يتلظى شوقاً بين ثنيات عالم يمده بأسباب بصرية للسعادة (الشرق الاقصى). فنراه يمزج بين ما هو حسي وبين ما هو روحي، مستعيناً بمواد، يستعيرها من الواقع الذي يحثه على تأمل مغاير لما ألفه. أبخرة ومرئيات وأصوات وصور وكتابات ومقاطع من حياة صارت تشتبك بانفعاله الكتابي ومن قبل بدور الرائي الذي تلح عليه فكرة المقارنة بين ما عاشه سابقاً (يحن إليه) وبين ما صار يعيشه قبل وأثناء الكتابة. وكما أرى فان ذلك الصدام هو مصدر أساسي للتحول الذي تشهده تقنيات الكتابة لدى هذا الشاعر الذي عاش الجزء الأكبر من حياته منفياً، متنقلاً بين البلدان. من طريق تلك المقارنة يخلص الرحبي إلى فقرة ملهمة من فقرات حياته: الغربة. يكتب: «أيهما أكثر فظاعة ووحشة؟ صحارى الصقيع الجليدية أم صحارى القيامة الرطبة؟ القطب الجنوبي أم الربع الخالي؟ الاجدر ان نوجه السؤال الى حفاري الاعماق البشرية، اي اولئك المتألمين بقسوة عبر التاريخ»

يبدأ الرحبي كتابه الذي يمكن أن يقرأ بدءاً من كل صفحة فيه، بل ومن كل سطر من سطوره بجملة يائسة، فيها الكثير من السخرية: «لا شيء يستحق الذكر» لينتهي ذلك الكتاب بجملة ساخرة، فيها الكثير من اليأس: «لتكتمل عناصر هذا المشهد القيامي السعيد». الجملة الأولى اعتاد الناس العاديون أن يكتبوها في رسائلهم وتبين في ما بعد أنها لم تكن انشاء مجرداً، بل هي تعبر عن واقع يعيشه الانسان المعاصر في مواجهة واقع يدفع به الى العزلة. «لا شيء يستحق الذكر عدا ذلك الخط الذي يقسم الورقة وينقض من الاعلى نحو بل نهائية الفراغ، لا نهائية الوحدة والشوق» ولأن الشوق وحده ما يستحق الاهتمام فقد جرى الرحبي وراء ابن حزم ليكمل في أجزاء من كتابه طوق حمامة ذلك الاندلسي الذي الف معجماً فريداً من نوعه عن العشق وللعاشقين.

كان سيف حريصاً على أن يصف ما يراه، حرصه على اللغة التي كانت تشحن ذلك الوصف بتوتر اعصابها، غير أنه مثل سلفه الاندلسي كان يتذكر ويتخيل ويستعير. يشم ما يراه ويبصر ما يشمه ويلمس ما يسمعه. وبذلك فقد نجح أن يصنع أطلساً للقلوب. يكتب: «وحدها الروح تتجول بين الانفاق. وحدها الخراف تتسلق الكثبان منحدرة نحو سفحها العميق» في مكان آخر يكتب: «مثقلة هذه الغيمة بالاحصنة والفرسان كتيبة حرب على وشك الانقضاض».
(جدل الاحذية والطرقات) وهو عنوان أحد فصول الكتاب يمدنا برؤية موضوعية لما يرغب الرحبي في الوصول إليه من خلال ذكره لأسماء كتاب أحبهم، لرسوم أحبها، لقطع موسيقية شغف بها، لمدن مر بها وصارت جزءاً من متاهته الروحية. هناك جدل لن يكون الشاعر طرفاً فيه، غير انه عاشه بعمق واخلاص. وكما يبدو لي قارئاً فان الشاعر سعى إلى ان لا يقلق الكثير من ذكرياته وان يتركها نائمة، مستثنياً من ذلك المسعى لحظات الخطر، حيث تشتد قوة الجمال. وهذا ما دفعه إلى استذكار حكاية الكاتب الفرنسي لوكليزيو عن رحلته فوق غابات الامازون بطيارة صغيرة حين سأل الطيار عن ماذا يحدث لو أن محرك الطائرة قد توقف فجأة. فما كان من الطيار سوى أن يوقف المحرك للحظات فصارت الطائرة تسقط متجهة إلى الأرض. حين يلتفت الرحبي إلى حياته مغامراً يرى ذلك الخطر وهو ينبعث من مواقع مختلفة ويتطلع إليه. وما من جملة توحي بعمق الشعور بالخوف مثل «دثريني يا حبيبتي» التي يقولها الرحبي مستذكر المسافة التي يعيشها المرء هلعاً بين شك الواقع ويقين الخيال. «دمعة الطفل تشبه ابتسامة عصفور او اندلاع قيامة» ولن يكون ذلك الطفل سوى الشاعر الذي يلهم فضاء الكتابة خيال قدمه التالية. يمشي سيف الرحبي في رسائله على عجل مسرعاً.

الجمعة, 02 مارس 2012