قُرعت الأجراسُ في صنعاء للمرة الثانية قبل أيام. ليكون الملتقى الثاني للشعراء الشباب العرب 2006 رديفًا وبدايةَ تراكمٍ كميّ للملتقى الأول الذي واكب اختيار صنعاء عاصمةً للثقافة العربية عام 2004. اجتمع أكثر من ثلاثمائة شاعر وناقد عربي على مائدة عاصمة الشعر العربي الجديد كما اتفق أن يُطلق عليها مؤخرًا من قِبل الشعراء الشباب. هؤلاء الذين بدا الرهانُ عليهم وإدخالُهم في بؤرة المشهد هو فكرةَ الملتقى ومشروع القائمين عليه متمثلين في خالد عبد الله الرويشان الروائي ووزير الثقافة اليماني، وكذلك الأب الروحي لكل مبدعي اليمن د. عبد العزيز المقالح، الذي كان دعمُه الدائم للملتقى سببا في إنجاحه وتكريس فكرته النبيلة رغم النتائج التي جاءت، إلى حدٍّ ما، مخيّبة للرجاء من الناحية الشعرية. إذ كانت الغلبة للقصائد التقليدية الضاربة في عمق القِدم ولم تنج إلا قصائد معدودة من أخطاء النحو واللغة. ولا عجب في أن يصر الوزير في كل مرة على تقديم اسم المقالح على اسمه الخاص، ليس في خطابه هو وحسب، بل إنه يوصي بذلك في كل خطاب يُلقي به أحد أعضاء اللجنة التحضيرية للملتقى. لتكون تلك ظاهرة عربية فريدة جديرة بالتأمل، ليس فقط أن يتقدم الإبداعُ السلطةَ، بل أن تنادي السلطةُ ذاتُها بذلك. والحال أن هذا غير مستغرَب في هذا المقام تحديدا لسببين: أولا لأن هذا الوزير هو مبدعٌ في الأساس وله إصدارات أدبية مهمة، ويمتلك، عكس معظم وزراء الثقافة في دولنا العربية، لسانًا عربيًّا فائق الطلاقة والبيان، ومن ثم يعرف قيمة الإبداع ويقدّره، وثانيا لأن المقالح، فضلا عن كونه قامةً أدبيةً عربيةً سامقة، فهو أيضًا، عكس معظم روادنا، يأخذ بيد المبدعين الصغار ويكتب عن تجاربهم ويبارك الكتابات اللافتة منها. وهذا ما دعاني غير مرة أن أعلن مازحةً، وصادقةً أيضًا، أنني أحسد شعراء اليمن على وزيرهم الشاب وعلى بوابة اليمن الثانية: المقالح. حيث في بلادي لم أخبر أن يساند الوزراءُ والروادُ من آبائنا الشعراء تجاربَنا نحن الشباب، بل ربما حاربونا وأقصونا عن المشهد برمّته. والحال أن المرء يتجنب الحديث عن الوزراء ورجالات السلطة كي يظل قلمُه خالصا للأدب ولا شيء غير الأدب، سوى أنني قررت التخلي مؤقتا عن هذا المبدأ لسببين: أولهما أنني أستخلصُ المبدعَ من السلطويِّ والبلاط حال الكلام عن هذا الوزير الذي جعل الثقافة والقيامة عليها همًّا ومشروع حياة، وثانيهما أنني أرجو أن يكون نموذجُه كقائم على الثقافة في أحدى الدول النامية هو النموذج لكل وزارات الثقافة في بلداننا العربية الأخرى. وفي الكلام عن منجزات الرجل، حتى قبل أن يغدو وزيرا للثقافة، يكفي أن نعرف أنه أقام، من عدمٍ، ثماني وأربعين مكتبة جديدة في محافظات اليمن المختلفة حين كان رئيسا لهيئة الكتاب قبل سنوات. ولم يتوقف من وقتها عن افتتاح المكتبات وطباعة الكتب للمبدعين الشباب اليمانيين. وهو ما جعله محبوبًا من قِبل كل أدباء اليمن بل ومن رجالاته في الوزارة حيث لم أجد واحدا منهم ينفذ أمرا له كتكليف ومهمة بل كان الدافع الأول هو محبة الرجل والعمل على إسعاده وتحقيق حلمه. وربما الرويشان هو السلطوي الوحيد الذي بوسعك أن تسمع كلمات الثناء عليه من خلف ظهره من قِبل كل مواطنيه، ما جعلني أقول مطمئنةً: أين سوى صنعاء بوسعك أن تحب الوزراء؟ والحقيقة أن رهانه على الشباب قد بدا لي مبدأً أكثر منه فكرة موسمية تتجدد في توقيت الملتقى، فليس فقط كان شبابُ الشعراء محورَ اهتمامه، بل إن رجالاتِه ومساعديه في الوزارة وفي اللجان التحضيرية جلَّهم من شباب اليمن. أما كبار الشعراء العرب، من الرموز الذين تكرست أسماؤهم وتبلورت تجاربهم ونصعت أمثال قاسم حداد وعبده وازن ومحمد بنيس وحلمي سالم وغيرهم، وكذلك كبار النقاد مثل جابر عصفور وصلاح فضل ومحمد عبد المطلب وحاتم الصكر وغيرهم، فجاءوا كضيوف شرف وآباء روحيين يتوّجون الشعراء الشباب ويسلّمون الشعلةَ لهم، حتى ولو اعتذر البعض عن الحضور بسبب انشغاله أو ارتباطه بسفر.
وشأن كل فكرة نبيلة لا تراهنُ على النتائج الفورية بقدر ما يكون الرهانُ تكريسًا لمبدأ رفيع يفرز بدوره على نحو تدريجيّ وتراكميّ نتائجَه الجيدة، كان الحال في الملتقى الثاني للشعراء العرب الجدد في صنعاء. فقد طلب الوزير من اللجنة التحضيرية "غربلة" شبيبة الشعراء في اليمن والوطن العربي وعمل قائمة بأسماء المهمّشين منهم كي يضعهم في قلب دائرة الضوء. وفي تجربة كهذه لابد أن يحضر التقليدي جوار الجديد، والرديء جوار الجيد. لكن الشاهد أن التقليدي والرديء قد طغيا على مائدة صنعاء هذا العام ما أثار حفيظة الحضور والراصدين للمشهد من خارج صنعاء. وهو ما جعل الوزير نفسه يقول في كلمته الختامية في الملتقى: "تحمّلنا الكثيرَ من الأخطاء النحوية واللغوية والعروضية بمحبة الخ....". وظهر المعنى ذاته كذلك في "البيان الختامي" للملتقى في البند الثاني الذي ينص على: وضع معايير تتناسب مع طموح وشِعار الملتقى وأهدافه بما يؤكد الجدة والتنوع والإبداع. أقول هذا رغم تمايل الجمهور مع الموسيقى الخليلية حتى ولو لم تحمل شعرا حقيقيًّا، ربما لأن معظم جمهور الشعر مازال يملك أذنا موسيقية تجعله لا يجهد في تأمل الجوهر العميق للشعر. وربما يعود سبب هذا التراجع الفنيّ الذي شاب منصة الشعر في صنعاء هذا العام، برأيي الخاص، إلى عدة عوامل منها طغيان فكرة الرهان على التجارب الجديدة بصرف النظر عن مستوى التجربة قيميًّا وفنيًّا، وهذا بسبب اختيار الشعراء غالبًا عن طريق الإنترنت وهي الميديا ذات النصل المزدوج لأنها تسمح لأنصاف الموهوبين أن يطلقوا على أنفسهم لقب شاعر وقاص ومبدع الخ حيث لا ضابطَ للمعايير ولا مُقَيِّمَ ثمة. ومنها كذلك انشغال اللجنة التحضيرية للملتقى على الأعمال الإجرائية والتنفيذية وحسب، وهو ما أتقنوه بحق إذ لا ارتباكاتِ إجرائيةً أو تنظيمية تُذكر شابت الحدثَ الكبير وهو ما يحسب لهم على ضخامة المدعوين من أقطار عدة بما يتطلبه ذلك من طيران وإقامة ورحلات سياحية وتكريم وجدولة الخ، في حين غابت لجنة فنية منوطٌ بها دراسة التجارب الشعرية المطروحة للمشاركة وتأمّل إصدارات شعرائها ومن ثم تقييمها فنيًّا قبل إجازة المشاركة. وهو الأمر الذي نطالب به الملتقى في دوراته المقبلة. سيما بعد أن غدت صنعاء في قلب الحدث الشعري ومحطَّ أنظار الجميع، سواء من المؤيدين للفكرة والمشجعين لها كمبدأ جميل بحقها الخاص بصرف النظر عن النتائج، أو من أعداء أي تجديد والآخذين موقف الضد المبدئي من الملتقى برمته حتى ولو أتى بنتائج فائقة. وهم الفئة التي بدأت أصواتُها تعلو منذ الآن محاولين النَيل من الملتقى ومتخذين رداءة الشعر المطروح تكئةً لهدم فكرته الأساس. والحال أننا حتى ولو لم نستطع أن نحسبَ ضعفَ المستوى الشعري الذي شاب الملتقى على خالد الرويشان، ذاك أن لا أحدَ ضامنا لنجاح أية فكرة مهما كانت رفيعة، إلا أننا لن نعفيَه من المطالبة بأن يعمد في دوراته القادمة على الرهان على "الكيف" عوضًا عن "الكمّ"، حتى ولو تضاءل عدد المشاركين في الملتقى إلى النصف أو الربع. هل أتمنى على وزير الثقافة اليماني الكريم بأن يتحلى بشيءٍ من القسوة الفنية عوضًا عن رحابة الصدر التي جمعت الطيب مع المعطوب في سلة واحدة؟ لأنه بفكرته نبيلة المنطلق هذه، التي أراد عبرها حشد أكبر عدد من الشعراء الشباب العرب في تظاهرة شعرية لافتة، لم ينتبه لكونه يقدم للسلفيين والتقليدين من أعداء التجديد الذين لا يرون في غير أنفسهم حَمَلةً للواء الشعر إلى الأبد، دليلَ إدانةٍ حيًا للشعر الجديد، إذ سيجوز أن يقول واحدهم: انظروا، ها هم شعراؤكم الشباب يخرّبون الشعر! هل أقول إن ثمة شعراءَ عربًا، بل ومصريين، لم ألتق بهم إلا في رحاب صنعاء؟ فمن سوى صنعاء فتحت قلبَها وبيتها وروحَها للشعر والشعراء!
الحياة
5 مايو 2006
إقرأ أيضاً: