في سابقة له، أقام " معهد العالم العربي " في العاصمة الفرنسية مهرجانه الشعريّ الخامس بصوت المرأة الخالص تزامنا مع عام المرأة. وتمت فعاليّات المهرجان في إطار تظاهرة "ربيع الشعراء" السنوية والتي يتحلّق فيها شعراء فرنسا مع قرائهم يجوبون ساحات باريس وميادينها ليلقوا قصائدهم في الفضاء الطلق وضوء الشمس، الذي يتسلل عبر رقائق الجليد، بعيدا عن حوائط الأبنية والأضواء الصناعية. وتنطلق هذه التظاهرة عادة في مارس من كل عام احتفالا بقدوم الربيع باعتبار الشعر هو ربيع الكلمة إن جاز القول.
شاركت في المهرجان حوالي خمس عشرة شاعرة عربية وفرنسية. مثلّت كلَّ بلدٍ من البلدان العربية شاعرةٌ واحدة منه، وبالرغم من غياب بعض البلدان العربية مثل العراق واليمن والسودان وقطر لكن الحضور العربي كان قويًّا إلى حدِّ بعيد سوى أن غياب صوت العراق مثّل خيبة أمل للشاعرات المشاركات وللحضور على السواء.
شهدت قاعة المجلس الأعلى بالدور التاسع من معهد العالم العربي الذي يطلُّ على السين فعاليات المهرجان التي امتدت أمسياته ثلاث ليال من الخميس 11 من مارس الحالي وحتى السبت 13 من نفس الشهر. على أن يُختتم بانطلاقة التظاهرة في ظهيرة اليوم الرابع.
معهد العالم العربي هو أهم واجهة ثقافية للحضارة العربية خارج حدود الوطن العربي الجغرافية. وهدفه الرئيس (التعريف بالحضارة العربية وتجسيد جسر ثقافيّ بين العالم العربي وفرنسا عبر تعميق دراسة ومعرفة ولغة وحضارة العالم العربي، وتطوير ودعم التبادل الثقافيّ في مجالات التقنيات والعلوم والإبداع، وبالتالي تطوير العلاقات بينه وبين فرنسا وبينه وبين أوربا). وهو معلم سياحي هام يتردد عليه السواح من مختلف الدول، ويقع المبنى على مساحة 2750 مترا مربعا في قلب العاصمة التاريخي على مقربة من كاتدرائية نوتردام الأشهر. تم افتتاحه في ديسمبر 1987 . وقد بني هذا المبنى على الطراز ما-بعد الحداثي في العمارة. حيث الوظيفة تكشف وجهها وتتفاعل كأحد مفردات الشكل داخل البناية. فلا أعمدة ولا كمرات خرسانية مدفونة داخل الحائط مثلما نجد في العمارة التقليدية، لكن المبنى ذا الطوابق التسعة كاملا من المعدن والزجاج فقط ، حتى المصاعد وهيكل المبنى من المعدن والزجاج بحيث يمكنك رؤية كامل البناية بأدوارها المختلفة من أية نقطة فيه. واجهة المبنى الشمالية تمثل مرآةً عملاقة تعكس نهر السين والأبنية المواجهة له. ولأن المعهد يقوم على نشر الثقافة العربية في باريس، فقد حاول المصمم مزج الطابعين الشرقيّ والأوربي في تصميمه، فأخذ من الغرب التجريد والوظيفة والتكثيف، وأخذ من الشرق واجهاته التي زوّدها بمحاكاة ( ما- بعد حداثية) للمشربية العربية، غير إنها من المعدن الخالص وتفتح وتنغلق عن طريق خلايا ضوئية تتأ0ثر بمدى سطوع ضوء الشمس الساقط عليها. ولا أدري إلى أي حدٍّ نجح المصمم في محاكاة المشربية الإسلامية بكل جمالها النابع في الأساس من بساطة تصميمها وعمق فلسفتها، إضافة إلى تفرّد مادة الخشب بدفئه وحميميته واتساقه مع الطبيعة ومع الإنسان !!
أقيمت في كل يوم أمسيتان شعريتان، الأولى من الثالثة بعد الظهر بتوقيت باريس وحتى السادسة والنصف. والثانية من الثامنة وحتى العاشرة مساء . في مساء اليوم الأول تم تكريم الشاعرة الكويتية د. سعاد الصباح، راعية المهرجان هذا العام، على أن يتم تكريم اسم الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في مساء اليوم الثاني.
بدأ المهرجان بكلمة افتتاحية ألقاها د. معطي قبّال مدير المعهد شكر فيها الشاعرات المشاركات اللواتي أتين من مختلف الأقطار العربية من مشرقه إلى مغربه للمشاركة في هذه التظاهرة في مثل تلك الظروف الاستثنائية والعصيبة التي يمر بها المجتمع العربي في هذه الآونة. وقال أنه كان يتمنى ألا يغيب صوت من الأقطار الشقيقة غير إن الظروف حالت دون ذلك و إنه سعى أن يتم اختيار الشاعرات على أساس التميز وصفاء الصوت الشعري. وفي الكلمة الافتتاحية التي ألقاها رئيس المعهد د. ناصر الأنصاري تكلم عن الحوار المستمر مع الغرب من أجل تصحيح فكرة الغرب عن المرأة العربية وقال إن تكريم سعاد الصباح هو تكريم لكل مبدعةٍ عربية مشيرا إلى دورها النضالي ومواقفها الإنسانية خاصة مع العراق في محنته. وأشار د. الأنصاري أن هذا المهرجان قد يكون الأخير نظرا للأزمة المالية التي يمر بها المعهد.
بدأ فعاليات المهرجان بقراءات بالعربية والفرنسية، تتخللها وصلات موسيقية من العود الشرقي والدرامز الإفريقي. قامت كل شاعرة عربية بإلقاء قصائدها بالعربية ثم تلتها ترجمةٌ لإحدى نصوصها بالفرنسية تقرأها كلٌّ من باولا بروني سانشو و ليندا الشايب وهما ممثلتان في المسرح الغنائي الفرنسي، صاحبهما العزفُ الشرقي على العود قام به العازف التونسيّ نبيل الخالدي وهو عضو بفرقة الموسيقى القروسطية في مدينة مونبيلييه.
في اليوم الأول قرأت قصائدها كلٌّ من نجوم الغانم من الإمارات، مليكة العاصمي من المغرب، أشجان هندي من السعودية، نجمة إدريس من الكويت، فاطمة ناعوت من مصر، وردينة الفلالي من ليبيا. وفي اليوم الثاني الجمعة قرأت كلٌّ من زُليخة أبو ريشة من الأردن، كلود بير من فرنسا، نصيرة محمدي من الجزائر، أمال موسى من تونس، أمانويل بيرير من فرنسا، نبيلة الزباري من البحرين، وهالة محمد من سوريا. وفي اليوم الأخير ألقت قصائدها كلٌّ من برناديت أنجيل، و جويل باسّو، وإيستر تيللرمان من فرنسا، جمانة حداد من لبنان، وبيسان أبو خالد من فلسطين.
في أمسية اليوم الأول، تفاجأ الحضور، وسط فرحتهم، بحضور د. سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب الذي أصرّ على مشاركة الشاعرات يومهن بإلقاء كلمة تحية للمرأة العربية المبدعة التي غُبن حقها كثيرا في ظل سيادة الإبداع الذكوري وامتلاء المشهد الأدبي به. حتى أن التاريخ كثيرا ما يذكر رواد الشعر العربي الحديث منذ البارودي وحتى حجازي متناسيا شاعرات مهمّات مثل نازك الملائكة وفدوى طوقان وسعاد الصباح وغيرهن. وكم كانت لفتة كريمة منه أن يتحامل على مرضه الشديد ويصرُّ على المشاركة في مهرجان المرأة الشاعرة، بل ورفض الجلوس أثناء إلقاء كلمته بالرغم من حال الإعياء التي كان يمر بها حيث يتواجد في باريس هذه الأيام للعلاج. تكلم د. سمير سرحان عن دور المثقفات العربيات ومسؤولياتهن في تصحيح فكرة الغرب الخاطئة عن المرأة العربية. وأثنى على فكرة تجمع الشاعرات في مهرجان أوربي كهذا ليعلم الغرب أن الشرق يزخر بالإبداع النسائي. وقال أن تحجيم دور المرأة هو تعطيل للمجتمع وعرقلة لمسيرته. تناول أيضا د. سرحان دور المرأة في الحراك الفني والإبداعي قائلا أن مشاركة شاعرات من مصر والسعودية والكويت في مهرجان شعري في باريس لهو دليل على تمتع المرأة العربية بكامل حقوقها الاجتماعية وفي هذا ردٌّ على ما يقال بشأن حرمان المرأة العربية من أي حقٍّ لها في وطنها الاجتماعي والسياسي والإبداعي. كما تكلم عن دور المرأة المثقفة العربية في الحياة الاجتماعية إلى جانب دورها في النضال وإنهاض الوطن مشيرا إلى نضال الشاعرة الكويتية د. سعاد الصباح ونشاطها الفعليّ في الجمعيات الأهلية الخيرية. فقد تحولت من شاعرة رومانسية رهيفة إلى نمرة شرسة وقت احتلال بلادها تجوب شوارع العواصم الأوربية وتقود المظاهرات ليرتفع صوتها مناديا بتحرير وطنها. وهكذا كان على سعاد الصباح أن تعدو إلى صفوف الرجال في القبيلة لتتكلم باسم وطنها. وقال د. سرحان أنه كتب عن سعاد الصباح أنها غمست مدادها في قلوبنا وأحلامنا ومشاعرنا فعبرت عن مكنون دواخلنا رجالا ونساءً في لحظات الألم ولحظات النشوة فلم يعد شعرها نسائيا يعبر عن المرأة فحسب، لكنه شعرٌ عظيم وكفى. والشاهد أن د. سمير سرحان كان يكرّم في شخص سعاد الصباح كل نساء العرب اللواتي كسرن قيود القبيلة وانتزعن حريتهن عن استحقاق بعدما أثبتت عقولهن أن العقل لا نوع له. ثم قام د. ناصر الأنصاري بإهداء سعاد الصباح الميدالية الفضيّة للمعهد قبل أن تلقي قصائدها.
وجاء تكريم اسم الراحلة فدوى طوقان في أمسية اليوم الثاني حيث بدأ بفيلم تسجيليّ عن الشاعرة الفلسطينية الكبيرة متضمنًّا بعض أحاديث حيّة لها ثم كلمة ألقاها الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي عن مسيرة فدوى طوقان وتجربتها الإبداعية وتحولاتها المتزامنة مع الواقع السياسي العربي والفلسطيني عبر نقاط مفصلية تاريخية محددة . وبعد هذا أُلقيت بعض قصائد للشاعرة الراحلة قرأتها الشاعرة الفلسطينية بيسان أبو خالد. ثم تلتها قراءة ترجمة بالفرنسية لأشعارها.
في اليوم الرابع للمهرجان الأحد في 14 مارس تمت تظاهرة الشعر الفرنسي: من الثالثة بعد الظهر حتى السادسة خلال حفل شعري مفتوح بالاشتراك مع ربيع الشعراء في فرنسا، وقراءات بالفرنسية مع ج. لانسلم، س. داغتكين، ب. ديلافو، ب. ديلبور، أن. لانس، ب. مازو، ل. ميزون، ج. بورتانت، ب. ريو، سافو، إ. تيلليرمان. ويدير اللقاء جان - بيار سيميون. ومن السادسة مساء حتى السابعة والنصف تعزف موسيقى وأناشيد روحية، تقوم بالغناء فيها حسناء زلاغ من المغرب، ويقوم بالعزف نبيل خالدي . وفي القسم الثاني من الحفل تؤدي فرقة الأدوار لحوة موسيقية مع عائشة رضوان (غناء وتأليف موسيقي)، صلاح الدين محمد (قانون)، حبيب يمين (دف ورق وتأليف موسيقي)، و تمام عكاري (عود).
*****
نماذج من قصائد الشاعرات المشاركات:
برناديت أنجل-رو
كما ترمش العيون بدون أن تبكي قبالة الشمس الهابطة،
كما نعضّ على المعاصم الهزيلة للعذاب،
كما نذهب ممتلئين بالخشية تحت الأيدي المحلّقة للظلام،
كما نمشي في حدائق الفجر للاغتسال من الخوف،
أعيش بدونك.
مثل أولئك الواقفين عند تقاطع العواصف منتظرين رسائل قد لا تأتي،
كما يضع المعذّبون بالرجاء قرابين خاطفة فوق الحجر العاري،
كما يتضرّع المحاصرون أو الذين ينامون فوق تعبهم،
- آه من أولئك الحرّاس العديمي الشفقة الكامنين في أدغال الدم والذين يشيعون
الاعتقاد بعودتك، بصوتك، بيديك، بحصول هدنة في النهاية -
مثل الغرقى الذين يكفي اسم واحد لملء فمهم أكثر من الماء الأسود، أعيش بدونك.
أشجان هندي
الهدهد
يترصد
بنساء الأرض
يخبر من لم يبعثه إليهن
عن أحلاهن
ويشي بذوات الأبراج
ذوات التاج،
ذوات الفل، المبتل،
على صدر من عاج
يشي بالأقوى،
ثم الأحلى،
ثم الأكثر إغراء
ثم يضمد شفتيه،
من جرح وشايته،
وينام.
كلود بير
أقول بالفرنسية كلمة بحر. البحر بالفرنسية يقول البحر بالعربية. تقول بالعربية "سماء" ومعادلها بالفرنسية، وتقول "بحر" بالعربية ومعادله بالفرنسية. ثمّ تتأرجح بين كيانين أزرقين. بين لغتين. هنا حيث القافية تسمى محيطاً. بحر (بالعربية)، هذا البحر الغريب الحامل موجته مثل جفن متحسّساً الأرض بعينه. متمليّاً جماع الأرض بهذه العين التي تتقدّم. ثمّ يقلّص حدقته. ينسحب إلى داخل قلبه البحري. وينخفق بالقول "بحر" بالعربية و"بحر" بالفرنسية. ومن ثم يرجع حاملاً حواشي كبيرة لشفاه بيضاء. يتغضّن، .يتعاظم. يلفّ ويكوّر على الأرض بين أسنانه زبداً متتالياً. بحر(بالعربية) يسمّى البحر (بالعربية). وأنا (بالفرنسية) لم أعد أنا ذاتي بل أنا (بالعربية).
نجوم الغانم
لا أقدر على غزل حواشي اللغة
أو تكرار العتب
و عندما أخرج للهواء الطلق
تداهمني فواجع لم تكن بالبال
ولم يتهيأ لها قلبي
لأنني تصورت أن الملائكة
تحرس غفلتي
وأن الآلهة تعرفني
كمعرفتها بأبنائها.
لكنني استيقظت على أرق الليالي
لأجد في الأحلام علامات
لم أفهمها حينها
ولم تسعفني اليقظة
على قراءة ما كان بين
سطورها.
إيمانويل بيراير
ذلك الشيء الذي يتواجد في هيئة خشب حرجي ليس أبداً شجراً بما فيه الكفاية وهو مع ذلك يدندن منذ الصباح فوق مساحة ظاهرة حيث نراه طافياً بين عشرات القطع الخشبية المزيّفة؛ هذا المتسع الذي يترجرج وسط النور الخفيف، ونصفه غائص في اللعبة فيما نصفه الآخر تلاشى مسبقاً منذ زمن طويل بعيداً عن الأنوار، ماكثاً من ذي قبل ومنذ زمن طويل في الظل، هذا المتسع كيف لا نحبّه، فالأحرى بنا أن نطلب وننشد هذا.
زليخة أبو ريشة
أخذتني الريح إلى سرتي و أرتني.
كيف لا تتغبر بالبخور الكلمات التي مرت هناك؟
فوق ذلك العشب المتعالي . .
كيف لا يأتي الوقت الذي حسبناه كلاما؟
ولا يمد يده إلى رأس تايكي
ويعدل تسريحتها؟
ويشرح لها المشكلة؟
جويل باسّسو
تعالَ واجلس هنا في الظلّ
إنّني بالكاد أتعرّف عليك
إذ من النادر جدّاً أن نلتقي
حكّ معصمك بمعصمي ولنشربْ
انظر، ثمة سطوح من حولنا، أغصان شجر
نقاط مضيئة
لم يبق منها الآن شيء، الظلمة وأنفاسنا
هذا المساء تأتيني الكلمات منتصبة
مثل خفقان في قمّة أعصابي
جمرة وسط الرماد.
ردينة الفلالي
كل شيء فيك يصرخ أنك حواء
في عينيك لؤم الثعالب طهر الأنبياء
لسعة شفتيك مزيج من الثورة و الحياء
طفلتي وصفك لا بدء فيه و لا انتهاء
أيا امرأة تنطق على لسانها ملائكة السماء
أيا امرأة أضاءت في الروح عواطف ظلماء
كوتني بنارها، و قالت من الكي يأتي الشعراء
أدخلتني جنتها، فكنت في الحب أول الشهداء.
فاطمة ناعوت
سيأتي العرافون عما قليل
يوزعون تغريبتي على اثنتين وخمسين بطاقة
تفترشُ أرضَ الردهةِ
أخطو فوقها مُطْرقةً و أخطئُ العدَّ
بينما طعمُ البخورِ التركيّ يخنقُ رئتيّ
بألفِ كافكا، ومسيحٍ وحيد
فيقفُ النداءُ فوق لسانٍ أجهدَه السؤال
"الغوث".
لكن، سيخرجُ الغيمُ كعادتِه كلَّ مساءْ
يسترقُ السمعَ لصوتِ الله
فيما يسقي نبتةَ الشرفةِ البيضاءَ
هناك خلفَ الزرقةِ البعيدة
عند انشطارِ الحقيقةِ فوق الحافةِ المكسورةِ
لزجاجةِ المصلْ.
*****
لمن تُقرَع الأجراس في باريس ؟
بالرغم من كل الانتقادات التي وُجهّت لمهرجان "ربيع الشعراء"، الذي انعقد في مارس الماضي من الفترة 11 إلى 13 منه في "معهد العالم العربي" في باريس، وبالرغم من كل السلبيات التي كتبت عنه، التي قسم كبير منها حقيقيّ وقسم خالفته النظرة الموضوعية للأمور، إلا أنه لم يخلُ من إيجابيات غير قليلة، بعضها موضوعي عام يخص المهرجان ككل، وبعضها ذاتي شخصي متعلق بي بوصفي إحدى الشاعرات المشاركات. من بين "مغانمي" الشخصية من هذه السفرة أنني كسبت معرفة بعض نماذج بشرية أعدّها من أجمل من قابلت في حياتي. وسوف أنهي الورقة بالكلام عن تلك الوجوه الجميلة كقطعة الحلوى التي تعقب طبقًا واقعيًّا.
من بين الانتقادات التي قيلت: هل ثمة ما يستوجب قصر المهرجان على الشاعرات وحسب؟ وهل مازلنا نتكلم عن الأدب النسوي مما يكرس عزلة المرأة في الوقت الذي نحرك خطابنا الثقافي باتجاه المساواة الحقيقة وعدم الارتكان على الحتمية البيولوجية كأساس للتمايز على كل الأصعدة الاجتماعية والحقوقية والسياسية والنيابية ومن ثم ومن باب أولى الثقافية والإبداعية ؟
وسأرد على هذه النقطة من منطلق الدعوة التي وُجِهت إلى من قِبل لجنة المهرجان في معهد العالم العربي. ذلك أني استقبلت الأمر بوصفه محفلا لالتقاء المرأة المبدعة من شتى أركان الوطن العربي مع نظيرتها الفرنسية. تزامنا مع عام المرأة 2004، وتقاطعا مع يوم المرأة العالمي 8 مارس من كل عام. وكان اللقاء على "الشعر" بوصفه "ربيع الكلمة" إن جاز القول. إذن كان المهرجان هو محصلة تقاطع "ربيع الشعراء" مع " عام المرأة" فكانت النتيجة الحسابية البسيطة هي "ربيع الشاعرات". إذن كان المحفل للمرأة التي تكتب الشعر وليس للشعر النسوي، والفارق شاسعٌ بين الأمرين. هكذا تلقيتُ الأمر، ومن هنا كانت موافقتي على المشاركة، وإلا لاختلف الحال لو كانت بطاقة الدعوة حملت عبارة من قبيل "الشعر النسوي" أو ما شابه. لأنني ببساطة ليس بوسعي تعاطي فكرة الفصل الأدبي تبعا للنوع نظرا لإيماني أن الشعر منتوج ذهني، والذهن لا نوع له كما قال كول ريدج. ولو تبنيت وجود شعر نسائي وذكوري لابد أن أتبنى وجود تشيكل نسائي وآخر ذكوريّ، وموسيقى نسائية وأخرى ذكورية وهلم جرا.
ومن الانتقادات الأخرى التي قيلت بحق القائمين على المهرجان عامةً وبحق د. سمير سرحان بخاصة، ما قيل بشأن المحاباة الزائدة التي قوبلت بها الشاعرة سعاد الصباح والاحتفاء المبالغ فيه بشعرها حتى غدت الشاعرات العربيات المشاركات وكأنهن "وصيفات شرف" جئن لاستكمال المشهد، الأمر الذي معه شعرت الشاعرات أنهن قد أُهِنَّ. وأيضا خفوت تكريم فدوى طوقان في المقابل. وفي هذا لن أنفي أن تكريم الشاعرة الكويتية كان بشكل أو بأخر أشبه بتظاهرة حفاوة شابها بعض المبالغة حتى بدا الأمر للكثيرين أنه لم يكن تكريما لشاعرة بقدر ما كان ثمنا لما دفعت من مال مقابل تمويل هذا المهرجان، لكنني أحب أن أذكر بعض الملاحظات حتى أكون أكثر موضوعية بعيدا عن حساسية الأنا بحكم كوني شاعرة مشاركة في هذا المهرجان.
مجرد حضور د.سمير سرحان إلى معهد العالم العربي يُحسب له - سيما لو علمنا أنه كان موجودا في باريس للعلاج قبل موعد المهرجان بمدة طويلة - فقد تحامل الرجل على مرضه ووهنه وجاء على (مقعد متحرك) ليحيي الشاعرات ويثني على لجنة المعهد اختيارها تخصيص هذا العام للمرأة المبدعة التي همشتّها المؤسسات الثقافية كثيرا وقال ما معناه أن ذاكرة التاريخ حتى تجانبها العدالة أحيانا حين تذكر رواد الشعر منذ البارودي وحتى حجازي متناسيةً أسماءً نسائيةً مهمة مثل نازك الملائكة وفدوى طوقان وسعاد الصباح وغيرهن من المبدعات العربيات. والشاهد أن سرحان كان يكرم المرأة العربية المبدعة والشاعرات العربيات، وكل امرأة غادرت شرنقة العالم الأسريّ الضيق لتقدم إسهاما ما في الحياة العامة، لأن غياب المرأة هو تعطيل لنصف طاقة المجتمع. فاختار أن يكرم هذه المرأة الفاعلة في اسم سعاد الصباح بوصفها صاحبة دور في الحراك العام. وما قيل عن أنه نصبّها أميرة للشعر العربي، كما جاء في بعض الصحف العربية، مشحون بالمبالغة فالرجل تكلم عنها بوصفها شاعرة ذات منجزٍ شعري مهم.
لم تعرف أي من الشاعرات المشاركات أن المهرجان تحت رعاية سعاد الصباح قبل سفرهن. وكان ينبغي على المعهد أن ينوّه عن الأمر في بطاقة الدعوة ليكون لكل شاعرة حق الموافقة أو الرفض. وواقع الحال لم أر في هذا الأمر أية مثلبة أو انتقاص من قيمة أية شاعرة. فلو نظرنا إلى الظروف المالية المتعثرة التي يمرُّ بها المعهد الآن - ولا مجال للخوض في أسباب هذا التعثر - فما الضير في أن تموّل أميرة ثرية مهرجانا يحتفي بالمرأة العربية المبدعة سيما لو كانت تلك الأميرة شاعرة في الأساس؟
ولاستكمال وجهة نظري سأقول أنه كان من الأجمل أن ترفض الصباحُ التكريمَ في مهرجانٍ تحت رعايتها، بل أظنها لم تسعد بكل هذا الاحتفاء، الذي سيكون (هو هو) ولو لم تكن هي من موّل المهرجان. فهي في الأساس امرأة عامة ومحبوبة ولها إسهامات ثقافية عديدة ليس أولها ولا آخرها رعاية مهرجان الشاعرات.
الأمر الآخر أن المبالغة في الاحتفاء بسعاد الصباح لم يكن بالسلب من الاحتفاء بالشاعرات المشاركات سواء العربيات أو الفرنسيات، فقد عوملن كما عومل الشعراء في السنوات الأربع الماضية في المهرجان ذاته من كل عام. والمأخذ الوحيد بهذا الخصوص على المهرجان أنه أنهى إقامة الشاعرات في اليوم الثالث ولم يدْعُهن للمشاركة في تظاهرة "ربيع الشعر" الذي كان معدًّا له أن يقام في اليوم الرابع بدعوى أن هذه التظاهرة تخصُّ الشعراء الفرنسيين وحسب ولا محل للصوت العربي بها، ونسى المعهد أن فكرة إنشائه أصلا قائمة على التبادل الفكري والثقافي بين العرب وبين الفرنسيين. وهنا شعرت الشاعرات العربيات بأنهن قد أُهن بإقصائهن عن المشاركة وإنهاء إقامتهن في الفندق في اليوم الثالث وأنا أتفق معهن في هذا.
أما عن فقر الأمسية الخاصة بتكريم فدوى طوقان سيما إذا ما قورنت بتلك الخاصة بسعاد الصباح، أحب أن أعلن أنني قبل سفري بمدة كافية أرسلت للمعهد رسالة مرفق بها كلمة وددتُ أن ألقيها عن فدوى طوقان ليدرجوها في برنامج المهرجان وليقوموا بترجمتها إلى الفرنسية، لكنهم رفضوا الفكرة بدعوى أن البرنامج قد أُعد سلفا وأن السيدة ليلى شهيد، سفيرة فلسطين في فرنسا، سوف تلقي كلمة عنها، وهذا ما لم يحدث، بل أن السفيرة لم تحضر الحفل أصلا. واقتصر التكريم على إذاعة برنامج تسجيلي عن الشاعرة الراحلة وعلى إلقاء بعض قصائد لها، ولم ينقذ الموقف إلا كلمة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي التي أشاد فيها بدور فدوى طوقان في حركة الشعر. وفي هذين الحدثين ( كلمتي التي لم تلقَ وكلمة حجازي التي أُلقيت) ردٌّ على من اتهم الجانب المصري بممالئة سعاد الصباح على حساب فدوى طوقان.
من جوانب تقصير المعهد أيضا عدم حرصه على تكريس التعارف الحقيقي بين الجانب العربي والجانب الفرنسي، فلم يقم على هامش المهرجان أي لقاء ولو على فنجان شاي لتتعارف الشاعرات العربيات والفرنسيات بعضهن ببعض. وهذا ما نوهت إليه الشاعرة زليخة أبو ريشة في ورقتها التي شجبت فيه معاملة المعهد للجانب العربي والتي نشرت بجريدة "الحياة" بعد المهرجان.
من المآخذ - المحلية - التي يمكنني الإشارة إليها بما أننا في معرض الكلام عن السلبيات طمعا في تجنبها مستقبلا، تجدر الإشارة إلى أن المستشار الثقافي المصري في باريس لم يقم بزيارة الوفد المصري الذي يتكون من حجازي وأنا، واكتفى المكتب بأن أرسل مندوبة هي المستشارة د. حنان منيب، وقد سمعتُ عنها كلاما جميلا من أصدقاء هناك وكنت أحبُّ أن ألتقيها بالفعل، غير أنها لم تسع إلا للقاء الشاعر عبد المعطي حجازي والروائي جمال الغيطاني ولم تفكر في لقائي على الرغم من تواجدي في نفس القاعة، وهذا ما أحزنني بعمق، مع إنني كنت من يمثل اسم مصر في هذا المحفل الشعري. ولما ذهبت إلى المكتب الثقافي المصري في اليوم التالي لأبدي دهشتي من هذا الأمر غير المبرر علمت أن المستشار الثقافي د. طه عبد الله خارج باريس لدواعي العمل وأسِف بشدة (في الهاتف) عن عدم لقائي بالسيدة حنان بل أبدى كرما زائدا بأن أرسل لي سيارةً أقلتني إلى المطار يوم عودتي وتحمّل السائق الطيب كل فوضاي وتعطيلي له وركض بحقائبي، إلى باب الطائرة التي دخلتها فيما تستعد للإقلاع.
قدّمت في صدر كلامي أن المهرجان - بالرغم من كل ما سبق - كان حافلا بالكثير من نقاط النور التي من الإنصاف الكلام عنها. منها مثلا أن التقاء مبدعات عربيات سويا في محفل ما يعدُّ قيمةً مهمة، فقد كنا نقرأ أشعار بعضنا عبر الدوريات الثقافية لكن اللقاء المباشر والاستماع الحي للقصائد وتبادل الكتب أمر مختلف بالطبع. كذلك الاستماع إلى الأصوات الفرنسية واستماع الفرنسيس إلينا شيء جميل وضروري، ولو خلا المهرجان من كل قيمة سوى هذا لكفى.
أما قطع الحلوى التي صادفتها هناك والتي هي مكاسبي الشخصية، فأذكر منها الكاتبة والصحافية "فابيولا بدوي" وهي مصرية تقيم في باريس، مثقفة وناشطة في حقوق الإنسان، وبالتأكيد يعرفها القارئ المصري ويقرأ لها، أما المقربون منها فيعرفون أنها بنت (جدعة) ، وصريحة، ولها قلم مميز لا يجامل ولا ينكسر. عرفتها كاسمٍ قبل سفري وعرفت أنها تساند الغريب هناك، لذلك لم أندهش حين التقيتها ووجدتها تمثّل لي يد العون في الغربة: (بنت بلدك) التي هي عينٌ للأعمى في غربته ولو كان بصيرا. أما المفاجأة الثانية وقطعة الحلوى التي لن يذهب رحيقها من وجداني، فكانت د.سعاد الوحيدي، وهي باحثة ليبية متخصصة في الأقليات المسلمة في الصين، وتعمل بمركز الدراسات الصينية وهو أحد أهم المراكز الأكاديمية المتخصصة في الأبحاث عن الشرق الأقصى، وبالإضافة إلى كونها من أجمل البشر الذين قابلت، فهي من هؤلاء الذين كتبت عنهم يوما أنهم "شعراءُ لم يكتبوا القصيدة". فهي إلى جانب روحها التي تحلّق وتحتوي الوجود والموجودات، تملك قلما شعريا رفيعا لمسته من رسائلها لي بعد عودتي إلى القاهرة، إلى درجة أنني أرتبك أحيانا في الرد عليها نظرا لطاقة رسائلها الشعرية العالية. من الوجوه الجميلة الأخرى التي أثرت رحلتي الناقد السوري صبحي حديدي، وقد عرفته وقابلته من قبل غير مرة، لكن السفر واللقاء خارج الوطن يفرز لك القيمة الصافية للأشياء فعرفت فيه إنسانا رفيعا ثائرا على كل قبح في الحياة. ومن الوجوه التي لم أرَ جمالَها إلا في الغربة جمال الغيطاني الذي طالما رأيت فيه أديبا ذا قامة عالية غير أنه على الجانب الآخر جافٌ ومتعالٍ ولا يعبأ كثيرا بالآخر، ولا أدري تحديدا لماذا كونت عنه هذه الفكرة بالرغم من كتاباته الحميمة الماسّة الضاربة في عمق المصري وقاعه، ربما من القناع الجامد الذي يضعه فوق وجهه دوما بما يوحي إليك أنه لا يراك. غير أني عرفت فيه هناك رجلا نقيًّا يحمل قلب طفل جميل يرى الآخر ويحتفي به ويعطيه قدره. بل رأيت الدموع تقاوم الإفصاح عن نفسها أثناء كلمة سمير سرحان حين كان الرجل يتهدج صوته مرضا ووهنا، وكان يهم أن يعطيه زجاجة الماء كلما طلب مثل أخٍ حميم يقتله مرضُ أخيه. إلى هذا الحد يمكن أن تخدعنا الوجوه وتعطل رؤية الرهافة التي تقبع وراءها. وفوق هذا يحمل الغيطاني خفة ظل تلمسها حين يقول لك أنه يجلس معك الآن بالصدفة لأن قذيفةً أو أخرى كانت لابد أن تقتله من تلك التي كانت تنفجر إلى جواره في حرب الاستنزاف وكثيرا ما أطاحت برأس الرجل الذي كان يشاركه الطعام في أواخر الستينيات. فقط القذيفة أخطأت هدفَها !
من الأشياء الجميلة أيضا أن دُعوت لإلقاء الشعر في بيت تونس بباريس، بدعوة من الشاعر د. محمود عزب وهو أستاذ كرسي بجامعة الأزهر وبمعهد اللغات الشرقية في باريس والصديق د. أسامة خليل الباحث في الفكر الإسلامي ومدير معهد اللغات والترجمة، وكان الحضور غزيرا من العرب والفرنسيين وألقيت قصيدة "نصف نوتة" التي تناولت بغداد ومأساتها. وقوبلت قصيدتي باستحسان جميل.
أما المغنم الأخير فهو زيارتي كاتدرائية نوتردام التي شغلت خيالي لسنوات طويلة على مستويين. الأول أدبيا: لأن "أحدب نوتردام" للجميل فيكتور ييجو هي أول ما قرأت في حياتي، وأدين له بالفضل ربما لأنه من حبب إلىّ القراءة في هذه السن المبكرة حتى أني قرأتها أكثر من عشر مرات في طبعات وترجمات مختلفة بالعربية والإنجليزية، وظهرت أزميرالدا وكوازيمودو وأجراس الكنيسة الضخمة كثيرا في قصائدي من فرط توغلها في نفسي. والمستوى الثاني معماريا: فقد درست في الجامعة هذه الكنيسة بوصفها أرفع ما أنتجته المدرسة القوطية في العمارة Gothic Architecture، وتعد أحد أهم المنجز البشري المعماري في التاريخ. لهذا شعرت حين رأيتها بشيء من النوستالجيا لأنني دخلتها طفلةً صغيرة وخبأت عرائسي بين أركانها، وسقيت كل زهرةٍ تمن على شرفاتها، وتأرجحت على أجراسها العملاقة.
وتحقق لقاءٌ مؤجل منذ ثلاثين عاما مع الأحدب الذي " من أجلي يقرعُ الأجراس".