السائق يرفع على خشبة قطعة الكرتون التي تحمل اسم الشاعر محمد الغزي في قاعة استقبال مطار مرسيليا، يقصد رجل الى حيث يقف السائق ولا نعرف ماذا جرى بين الاثنين لكنه تبعه الى مدخل المطار توقفا معا أمام مكتب في المدخل. خرجا الى السيارة. قاد السائق وجلس الرجل جنبه أو خلفه. إنها مئتا كيلومتر مسافة طويلة يحسن إمضاؤها بشيء من الحديث. لا بد أن الاثنين تبادلا كلاماً، ساعتان وربما أكثر من السفر الى أن وصلا الى لوديف. أوصل السائق الرجل في أمان الله أمام مكتب المهرجان. خرجت واحدة من منظمات المهرجانات لتهتم به فلم تجد أمامها الشاعر محمد الغزي، لكنها وجدت شخصا آخر. كان الرجل الذي كلمه السائق وأدخله الى السيارة ونقله في مدى ساعتين غير محمد الغزي. أما محمد الغزي الحقيقي فبقي في المطار ولم أعد أذكر إذا كان عاد وحده أم أنهم أرسلوا إليه سيارة ثانية. هذه كانت ستبقى طرفة أو فاصلاً كوميدياً، لولا أن المهرجان كان، لأسباب بعضها غير مفهوم، قابلاً لحادث كهذا. وجدت السائق في انتظاري وأخبرني في الطريق أنه من أبناء الجزائريين «الحركي، أي الجنود الجزائريين المنضوين في الجيش الفرنسي والتي هيأت لهم الدولة أن يستقروا في فرنسا بعد أن تعرضوا غداة الاستقلال لانتقامات دموية. أخذنا «الأوتوروت» الذي يمر عادة من جانب المدن والقرى ولا يدخل فيها لكن سياجات طويلة من الأشجار كانت دائماً أمامنا. لم يطل ابتهاجي بها فقد غدت هذه الخضرة مع الوقت مملة وحاجبة للنظر، حين علمت أن الطريق ساعتين شعرت بأني مغدور فهذا السفر عبر فرانكفورت ـ مارسيليا بدا لي الآن تنكباً للطريق الأطول والأقل بداهة. كان هناك طريق باريس ـ مونبلييه الأقرب الى الفهم فمونبلييه على بُعد 40 كيلومترا من لوديف. لا أعرف كيف خطرت فرانكفورت لمنظمي المهرجان، يخطر أنها مسألة توفير لكني لست عليماً بأن لوفتهانزا أرخص من إير فرانس. إن صح ذلك فإن من غير الصحيح تشــريد الناس في رحلات طويلة اقتضت منهم أوقاتاً مضاعفة لمجرد التوفير. ثم أن بعــض هذه الرحلات تم تدبيره على نحو لا يماشي أي تصور وأي فهم، فالعائــدون الى تونس كان عليهم أن يذهبوا الى ميونيخ وبعدها الى فرانكفــورت فــتونس. في حين أن هناك رحلة مباشرة الى فرانكفورت، فضلاً عن أن الأقــرب الى المنطق هو السفر عن طريق باريس. أما أنا فكان عليّ أن أعود الى فرنكــفورت لا ننتظر 9 ساعات في المطار حتى موعد إقلاع الطائرة الى بيروت. أي أن رحلتي التي بدأت الخامسة صباحاً، بل قبل ذلك من لوديف الى مرسيليا ستستمر حتى الثانية صباحاً في اليوم التالي
رحلة شاقة لكن موظفة اللوفتهانزا وجدتها غير معقولة وسألتني من نفسها إذا كنت أفضل رحلة أقصر توصلني الى بيروت في السابعة مساء. قادتني بنفسها الى مكاتب الإير فرانس حيث استبدلت بطاقتي بواحدة لها، ذلك برهان على أن المسألة قد لا تكون مسألة توفير وانها قد لا تعدو تعسفاً أي أنه ارتجال وتدبير سريع لم يحظ بأناه وبحث كافيين. قد لا تكون المسألة كلها أبعد من ذلك، مجرد ثمرة عبقرية من ثمار الفوضى والسرعة، رحلة ميونيخ ففرانكفورت للتوانسة مثل باهر عليها.
كان الجميع أخبروني أني مدعو الى لوديف إلا أن الدعوة لم تصل حتى آيست منها ونسيتها ثم تكلموا معي ليسألوني إذا كنت عزمت أمري على أن آتي. كانت مخابرة للتأكد فحسب.. لم يصدقوا أنهم لم يدعوني وقالوا إن الإنترنت يقول غير ذلك. كان هذا قبيل عشرين يوماً من المهرجان، قلت لهم إنني غير قادر على السفر في 21 من الشهر الماضي وإنني أريد بطاقتي في الـ23 واتفقنا على ذلك، لكنهم أرسلوا بطاقة في الـ21 ولما راجعتهم اعتذروا وأرسلوا لي بطاقة مصححة. مع ذلك اتصلوا بي يوم الـ21 ليقولوا لي إن السائق ذهب لاستقبالي في المطار ولم يجدني. أخبرتهم بأن هذا ليس موعدي فقالوا لي باللطف ذاته: لا تقلق، وقلت لهم أني بدأت أقلق، إذ لا استبعد مع هذا النوع من التدبير أن لا أجد أحدا في استقبالي. طمأنوني بأن هذا لم يحدث وكانوا عند قولهم.
مع ذلك كنت، ولست وحدي، أطول أناة من كثير من المدعوين العرب. وجدت في حادثة الغزي طرفة مفاجئة لا يقاس عليها. وعذرت المنظمين لأن القيام بأود مئة شاعر ومعهم عدد مثلهم وربما أكبر منهم من المقدمين والممثلين الذين ألقوا الترجمات والموسيقيين والنقاد والمنظمين أنفسهم، عمل صعب، ولا نأمن من هفوات فيه. كانت مسألة السفر هي بيت الفوضى، لكن شعراء عرباً أضافوا إليها مسألة الإقامة. لم تكن فنادق البلدة الصغيرة المؤلفة من 9000 شخصاً تتسع لعدد المدعوين، والزائرين الذين جاؤوا لمواكبة المهرجان، فتوزعت الضيوف بيوت لم تكن جميعها مريحة، وكان بعضها قديماً ومتآكلاً. لم يكن لذلك شبه بفنادق الخمس نجوم التي تستقبلهم عادة في المهرجانات العربية، فأحسوا بالضيم والإهمال. أهمل شاعر المشاركة في القراءات التي تتضمن اسمه في البرنامج وقال شاعر آخر علانية إنه نادم على المجيء وأصر على المترجم أن ينقل ذلك بحرفه الى الفرنسية، كان للشاعر كما قال أسبابه التي لم يصرح بها، رغم أن التصريح العلني بالندم أدهى من ذكرها، بل كان يحسن إسناده الى أسباب وإلا بدا ظالما. لم أظفر من الشاعرين بجواب واضح عن أسبابهما مما يدعو الى الظن بأن بعضها خاص، أحس ان سلوكا كهذا لا يبدو مألوفاً جداً في مهرجان فرنسي بقدر ما هو كذلك في مهرجانات عربية، مع أن مدير بيينال الشعراء الهادئ كان يقول لي إن هذا وأكثر منه يحصل.
لم تكن الإقامة دائماً مرضية أو مثالية. نزلت أنا ووديع سعادة في بيت سوزان القديم جداً والذي اشترته ولا يبدو أنها استطاعت أن تعيد تأهيله. كان زجاج النافذة مطبقاً وخلفه دفتاها المخلعتان المعلقتان ببعضهما البعض وقد تآكل خشبهما وتشقق. لم تستطع سوزان أن تركب في السقف العالي للحمام «لمبة» بدل التي احترقت فكان علينا في الليل أن نهتدي الى الحمام في العتم. المرأة تعمل ولا أظن أنها تمكنت خلال إقامتنا كلها من أن تجري ضربة مكنسة واحدة على بلاط الأرض. لكن سوزان كانت امرأة لطيفة وذكية، وكان مؤنساً أن نجدها مع جيرانها لدى عودتنا في أخريات الليل فنبادلها الحديث مع جارتها وصديقها الجزائري. كانت تلح لتقدم لنا كأساً وتترك لنا إبريق القهوة ساخناً وتنزعج إذا لاحظت أننا أو أحدنا لم نمسه. كانت رسامة متخصصة تقريباً برسم العيون المكدومة لنساء تلقين في الغالب ضرباً من رجال. لا أعرف إذا كان هذا فنا أم رسالة نسوية. لكن سوزان التي أشارت الى نسوية فنها لم تبد مناضلة مصممة بهذا القدر. كان في بيتها مكتبة مقبولة تجمع نسخة مزينة جميلة لرواية سلين « على حافة الليل»، كاتالوغ كفوجيتا الياباني الفرنسي من أواسط القرن الماضي مع سلسلة من مجلة قصص بوليسية استمتعت بها. لنقل إن عوض الفندق كان بالنسبة لي كافيا، حياة في بيت فرنسي وداخل عائلة لوديفية وفي غرفة قديمة لكن التأمل في مكتبتها وحيطانها المليئة برسوم ولوحات وحتى اللامبادير المكسور الذي ما زال يعمل، يروي حياة كاملة. ما كان بوسعي أن أحظى بذلك في غرفة في «فندق الشمال» اللوديفي. لم أجد مشقة في الاغتسال في حمام بين غرفتين وغير محكم إقفال البابين، ولا الاهتداء في العتم الى المغسلة والمرحاض. كان هذا جزءاً من «عادية» مثيرة إذ ليس أكثر إثارة لغريب مثلي من أن ينفذ الى الحياة العادية للناس في بلد آخر. ذلك سيكون بالنسبة إليه سر المدينة وروحها. عندئذ يمكن للحمام غير محكم الاقفال واللامبادير المكسورين يكونا نوعاً من مشاركة فعلية في يوميات الناس، فهذا النقص هو علامة الحياة غير المكتملة التي هي دائماً أكثر حقيقية. ليس هنا مقام امتداح المضيفين لكن علينا أن نفكر بمدى اجتماعية والفة سكان بلدة من تسعة آلاف شخص. الغريب بالنسبة إليهم سيكون أيضاً سراً يسعون للنفاذ إليه، وسيعالجونه بالابتسامة والكرم، وسيفتحون له نفوسهم كما بيوتهم.
كان النقص والكسر أثرين لحقيقة ما. ظلت اللوحات والرسوم المعلقة في الغرفة تحدثني. كذلك المكتبة. لم أعرف كيف تصل نسخة ثمينة من كتاب سلين الى مكتبة سوزان التي لم أجد في بيتها جهاز تلفون ثابت، هناك بالطبع الموبيل، لكن خشب النوافذ يوحي بأنها لم تصرف قرشاً على البيت الذي اشترته وتركته على حاله، لم أعرف إذا كان هذا عن فقر، ذات مساء ذهبت الى مقهى على النهر فوجدت سوزان تخدم هناك. هل هو عمل أم تطوع في أيام المهرجان. رحبت بي وقدمت لي على حسابها كأس عصير. لكنني حين ترددت مرات أخرى على المقهى نفسه لم أجدها هناك، من أين تعيش لا أدري لكنها تغادر صباحاً الى عملها كما تقول. فاجأتني وأنا أكلمها عن فوجيتا بأن عندها سيروغرافيا موقعة منه. لن تكون هذه غالية جداً لكنها أيضا لن تكون رخيصة ففوجيتا من المشاهير ولا بد أن أعماله تغدو مع الزمن أغلى سعراً. أخرجت من وراء الكنبة الكبيرة التي في غرفتي ملفاً كبيراً مربوطاً بشريط وفتحته واطلعتني على المحفورة التي كانت بالصدفة موجودة في كتابه. لم يكن لهذا صلة بالخشب المخلع للنوافذ، كما أن حفظ محفورة فوجيتا في ملف وراء الكنبة وتركها عرضة للغبار والوسخ وإهمالها على هذا النحو كان أيضا غريبا. هل مضى على هذه المرأة زمن من النعمة وهل ما أراه الآن هو حالة افتقار وزوال حظ. حين سألنا سوزان عن صورة الرجل الفوتوغرافية المعلقة على الحائط قالت إنها لجدها، لكن نفت أن تكون صورة المرأة المعلقة قبالته لجدتها. قالت إنها اشترتها هكذا، لكنها أشارت الى صورة ملونة لامرأة ساحرة في ثوب سهرة طويل، وقالت أنه لجدتها. كانت صورة بالألوان ولا أعرف من أين دخلت الألوان الى صورة من ذلك الزمن. حين قلت لها إن مظهر المرأة ينم عن أنها روسية قالت إنها بالفعل روسية. حين قلت لها إنها لا بد من الروس البيض. سألتها عن عائلتها هي سوزان فذكرت اسماً روسياً لا أذكره، حين سألتها إذا كانت من أصل نبيل، قالت إن أجدادها كانوا ملوك قبرص. هنا لم أحر جوابا. لقد شطحت سوزان بالتأكيد، ولا أعرف إذا كانت دخلت في خيال كامل.
لوديف
رغم كل شيء كان هناك تنظيم مقبول لكل شيء، إذا غضضنا عن مسألة السفر فإن هذا العدد الكبير النازل في بلدة صغيرة كان يتحرك يومياً بإيقاع. ارتجلوا مطعما كان يخدم بوفرة وجودة مقبولة المئات من المشاركين والزوار، وزعوا العشاء على عدد كبير من المطاعم، نظموا القراءات لتسعين شاعراً تقريباً على نحو جيد فلم يقع طوال الأيام التسعة للمهرجان أي تضارب. وإذا علمنا أن كل شاعر من التسعين شارك في ما متوسطه سبع أو ثمان أنشطة فهمنا أن البلدة الصغيرة شهدت قرابة 600 نشاطا وقراءة وهذا عدد هائل استطاع المهرجان تصريفه وتدبيره، لقد أحسنوا تنظيم ذلك على تشابكه وصعوبته. فإذا أضفنا الى ذلك الأمسيات الفنية من غناء وموسيقى وتمثيل وقصاصين، بدا ذلك فوق الطاقة وبات علينا أن نعذر المنظمين على كل هفوة. فتصريف هذا الحشد الكبير والنشاطات الحاشدة في بلدة بهذا الصغر لهو أمر بالغ الصعوبة، ولا بد أن يضطرب أصحابه فيه. وأشهد أن الحياة الجارية خلال أيام المهرجان الطويلة كانت منتظمة بحيث لم نشعر بخلل فيها أو اضطراب كبير.
لن نتكلم عن تاريخ لوديف فهذا لا يعني شيئا الآن. إنها بلدة لها ماض يعود الى العصر الروماني، القنطرة الرومانية على نهر قارب الجفاف من آثاره، يقال إنها كانت يومذاك مركزاً لسك العملة لكن كل هذا من الماضي، هي الآن بلدة بتسعة آلاف ثلثهم من الجزائريين أبناء الحركي والمغاربة. بلدة صغيرة لكنها مبنية بفكرة مدينة، لعل هذا الماضي يجعل لها امارة فوق ما هي عليه. ان لها حيها القديم وحيها السياحي شوارعها وحدائقها ومطاعمها ومقاهي الرصيف فيها ونهرها وقناطرها ومنتزهاتها. بل ان فيها متحفا لا تعدم أن ترى فيه لوحات لكورو ومانييه وماتيس وديفي وبيكاسو وبراك. وفيها بالطبع فنادق ومبنى للشرطة وبلدية فاعلة، بل انني رأيت على باب من يافطة لمركز لتقويم الأصوات وأخرى للتدريب الهندسي. إنها مدينة بل ان التغلغل في الحي القديم فيها يذكر ببعض باريس، وكذلك المنازل والحدائق ومثلها مثل مدينة قلما نرى فيها زاوية أو ركنا ليس فيه فن ما أو لمسة مؤثرة. لوديف واعية لذلك بالتأكيد بل هي منغمسة فيه الى حد يجازف باختلاقه. لعل مسمياتها توحي به أكثر ما يمكن، تحمل الشوارع أسماءها في المدن، شارع «الجمهورية» زقاق يقطع في دقيقتين، أما «الشارع الكبير» فله من الكبر الاسم وحده. وهناك بولفارات ليست بولفارات، وشوارع للسلام ولفولتير، وقد يدهشك أن تجد هنا شارعا لكليبير الجنرال الفرنسي الذي خلف بونابرت في مصر وقتله سليمان الحلبي. إنها أسماء مملكة في غير موضعها كما يقال عندنا، بل يغلب أن الأسماء هناك تخلق الأشياء، وقد لا نكون نحن فيها أكثر من أسماء كما قلت للبعض. لكن لا نأخذ الأمر بخفة فالأسماء تخلق فعلاً، ونحن في لوديف لا نزال في حيرة من مساحة المدينة الصغيرة وسعتها، إذ نشعر أنها تضمر مدينة أكبر منها. بل لا نزال نشعر أن المدينة لا تزال تتفتح أمامنا، وأن فيها نموذجاً يمكن توسيعه وتحريكه وتفتيحه، كأنما المدينة متحركة وكأن الأماكن متحركة وكأننا أيضاً في حيرة من حركتها وتغيّرها.
أنتم الشعراء
شعراء من البلاد العربية (28 شاعراً) ومثلهم من فرنسا والباقون من الحوض المتوسطي، من اليونان وإسبانيا وإيطاليا واليونان وقبرص وتركيا والبانيا وكرواتيا. كان واضحاً أن المهرجان يدعو شعراء معروفين عرباً وفرنسيين. كان من بين المدعوين العرب سعدي يوسف صلاح ستيتية، فينوس خوري، غاتا سركون بولص، وديع سعادة، محمد بنيس، غسان زقطان، أحمد طه، هدى حسين، ميسون صقر (لم تحضر)، نزيه أبو عفش، خيري منصور، زاهر الغافري، أحمد الملا، حبيب تانغور.. كما كان من بين الفرنسيين بيار أوستر، ميشال ديفي، ليونيل راي، غي غوفيت، ماري كلير بانكارت، نادين اغوستيني، جان بيار سيميون. بالإضافة الى عدد آخر من شعراء أصغر سناً. كان واضحاً طموح المهرجان الى احتضان تجارب متنوعة لكن تجارب الشعراء الشبان الفرنسيين جعلت كل ما عداهم في المهرجان كلاسيكياً. لقد غدا البيت الشعري بكل أشكاله قديماً فيما دخلت أشكال أخرى لم يعد هذا البيت عمادها. لندع جانبا الشعر الصوتي وحتى البرفورمانس الشعري، لقد غدا الشعر الصوتي أيضا قديما. كان يمكننا أن نسمع قبل 8 سنوات التونسي الرسام عبد الرزاق السهلي وهو يقرأ من لغة غير موجودة بل من لا لغة على الإطلاق. إنها نوع من تصويتات كما اتفق، الغريب أن السهلي يقوم بكتابتها على الورق بالحرف العربي ويقرأها من الورق، وإذا طلبت منه «قصيدة» للنشر لا ينتبه الى ما في طلبك من مفارقة ويعطيك بدون انتباه الى أن قراءة هذا غير التصويت به، فالتصويت هو الغاية والقراءة مستحيلة للاّلغة. كان السهلي في يومها على شيء من الجدة، أما الآن فقد انتشر شعراء الصوتيون وكثروا وأدخلوا على عملهم تقنيات جديدة، فد أسعفتهم المسجلات والكاسيتات وبات الشعر يتعاون مع كومبيوتره فتتواتر أصواتهما أو تتقاطع. والمهم أن الشعر الصوتي البحت قد غدا مألوفاً للغاية في هذه المهرجانات، ولم تعد له رهجته كما لاحظنا في المهرجان. البرفورمانس أكثر تنوعاً، إنه قد يمزج بين التصويت والقراءة الفعلية والموسيقى والصورة والإضاءة. إنه عمل متكامل، لكن اللعب على الأحرف قد يجعله أقرب الى التصويت. يقذف جوليان بلان «!» في وجهك وكأنه يغرسها في بطنك. يقرأ سيلاً من الكلمات التي تتضمن مقطعا صوتيا كـ RE مثلاً في كل كلمة يقلب الكلمات ثم بصمت فجأة ويتحرك فمه بدون أن يصدر صوتا وكأنه فقد الصوت الى أن ينطلق بعد ذلك حرف كالسكين. إنه أداء قوي بالطبع. لكن هناك الفيزيائي الفرنسي الذي جلس ليتحاور هو ومسجلته وليقول قبلها أو بعدها الكلام نفسه لكن بإشارات مصاحبة من يده ورأسه، أما الكلام فهو أقرب الى معادلات منطقية وشرح علمي. ثم هناك الشاعر الذي جلس ومعه امرأة يتبادلان مقاطع كلامية تقول واحدا ويرددها عليها مقلوبا، الأحرف ذاتها لكن بكلمات أخرى وعبارات أخرى بمعنى أو شبه معنى. هذا بالطبع مختلف عن التصويت وحتى عن البرفورمانس الذي هو لعبة من فنون مجتمعة. انه شعر يقوم على نسف البيت الشعري. التصويت داخل هنا لكنه ليس كل شيء. وقلب الألفاظ داخل هنا لكنه ليس كل شيء. من الواضح أن الشعر يأتي هنا من تشكيلات كلامية ولفظية، من تداخلات وتقاطعات، وسيكون البيت، سواء كان مقطعا أو مرسلاً، كاملاً أو جزئياً خارج اللعبة، لقد بنيت هذه على نظام آخر وعلى قانون مختلف. إنه قانون شطرنجي إذا جاز التعبير، قانون تربيعات كلامية ونقلات وتراسل بين الأجزاء الكلامية. لن نعلق على ذلك، جورج راندو الشاعر الناقد لا يعجبه ذلك وقد لا يعجب شعراء ونقاد آخرين، هو بعيد عنه وأنا أيضا بعيد، لكني مع ذلك أتساءل الى أين يصل التجريب، إن لم يكن الى كسر الأساس والى تقديم نظم كلامية مختلفة. ليس في ما نراه نوعا من الدادا ولا التخريب ولا اللعب الحر فحسب. أن فيه حرصا واحتراسا ونزوعاً الى البناء والتشكيل بقدر ما فيه حذر من المعنى وحذر من الصورة وحذر من الغناء وحذر من الخيال والعاطفة بالطبع.
لن نعلق على ذلك. إذ علينا أن نكون بالحذر نفسه نحن أيضا. من الواضح أن الجواب التجــريبي قد يكون نفسه مأزقيا. إننا نرد على الإشكال بالإشكال، لكن هذا يعني أننا لا نملك بعد أن نخرج منه. قد لا يبدو مناسبا أن نصرخ كل لحــظة بمــوت الشعر لكن لا شيء يدل على أن هذا الطريق هو المستقــبل، بل لا شــيء يـدل علـى أن ثـمة مستقبلاً واحدا للشعر أو سواه.
أفاجأ حين تعلمني عائلة أنها أتت من الالزاس الى لوديف، وحين أسأل مستبعدا بطبيعة الحال أن يكون السبب هو الشعر، يقال لي إنها حملت نفسها الى هنا لتحضر نشاطات المهرجان. أجد كثيرين جاؤوا من مونبلييه القريبة لكن هناك كثيرين جاؤوا من مرسيليا ومن باريس. في آخر قراءة لي وكانت لتقديم ""tombes de verre"" الانتولوجيا التي صدرت لي عن آلت سود بالفرنسية التقي برجل أعرف انه محمد هاشم من قرية في جنوب لبنان وجاء من مونبلييه. كثيرون جاؤوا من القرى والمناطق المحيطة بلوديف، شعراء وغير شعراء جاؤوا الى المهرجان وبينهم أم مع قبعتها الغريبة. هناك مجانين شعر حقيقيون جاؤوا. وهناك شعراء كثر سريون بلا كتاب، لا يحتاج الشعر الى كتاب أو عمر، لا يحتاج لأكثر من الرغبة أو القرار. شعراء سريون وشبه سريين ويكتفون بخمس دقائق في ركن قصص لهم، ويقدمون لك كتيبات ودفاتر نشروها بأنفسهم، لكن العجيب هو أنه على مدار الأنشطة الخمسمئة كان هناك دائما جمهور. يصل الشعراء فيجدون أنفاراً قليلين اقتعدوا كراسي متفرقة وغالبا ما يبدأ النشاط، هكذا إلا أن الناس يتوافدون في دقائق قليلة وما ان ينتقل الشاعر الى قصيدته الثانية أو الثالثة حتى يجد أن الفراغ الذي أمامه تلون بملابس الناس، في أي وقت وفي أي قراءة. شعراء السولو الذين يشغلون الساعة وحدهم كانوا يجدون في ظل الكاتدرائية التاريخية ذات الهندسة الرومانية جمهوراً حقيقياً. أما شعراء الساعة العاشرة والنصف الذين يقرأون على ضوء الشموع في صحبة الموسيقى فغالبا ما يجدون جمهوراً يفوق المئة غطى المقاعد ومن أعوزه أن يجد مكانا اقتعد السلام أو جلس على كراس رصت على مرتفع خارج الفناء الذي تتم فيه القراءة. في القراءات الجامعة تحت عنوان «من الفم إلى الأذن» والتي تقام تحت شجرة وارفة في حديقة دار الشرطة كان أكثر من عشرة شعراء يحيون القراءة وجمهور يستظل بالأغصان وكثيرا ما تلحقه الشمس الحادة، فيما يقتعد من لم يجدوا كرسيا على مبعدة في الأرض المعشبة. في الندوات التي تحمل عنوان «أن تكون شاعراً في..» أي في واحد من بلدان المتوسط الممثلة في المهرجان، كان الملعب الصغير المسور يمتلئ أيضا، وغالبا ما يحظى الكلام بنقاش مهتم. في ندوات تقديم الكتب كان هناك دائما جمهور لا تحظى به جلسات التوقيع ولربما كانت آلية الجلسات نفسها غير موفقة، إذ كان على الشاعر بعد تقديم كتابه أن ينتقل الى سوق الكتب ليوقع وسوق الكتب بسطات عديدة ليس واضحا في أي منها سيجلس الشاعر. التقيت وغي غوفيت في الوقت نفسه على طاولتين متجاورتين للتوقيع. تكلم غوفيت كثيرا ووقع قليلاً ولم يكن حظي أفضل.
لم نكن نعرف من أين يأتي كل هذا الجمهور الى الحفلات الفنية. رلى صقر اللبنانية التي تعيش في باريس قدمت مع فرقة متعددة الجنسيات والآلات أكثر من سهرة. كان صوتها الذي يتألق في الباروك يتنقل بين موسيقى الشعوب ولفيروز حظ منها. السيدة اللطيفة التي حضرتني أننا ووديع سعادة في ندوة «أن تكون شاعرا في لبنان» حظيت باستقبال عاطفي استمر التصفيق فيه طويلاً وهي حيت الجمهور ببساطة كبيرة والتمعت عيناها بالدموع. كان المدرج ممتلئا الى آخره في لحف الكنيسة في ليلة سافو المجنونة التي تكلم الجمهور كما تكلم نفسها وتنجح في أن تطيح الحد بين المسرح والحضور. سمعت سافو في «من الفم إلى الأذن» وهي تقرأ شعرا. كان الشعر موجودا بوفرة في أدائها وصوتها ومرة ثانية لم يكن في وسعنا إلا أن نغرق في سحرها. الاثنتان رلى وسافو كانا شعرا يمشي. نحات أتى من مكان بعيد كان يصنع من ورق وأسلاك دمى بأحجام تامة. نساء ورجالا وأطفالا وكلابا وآلات موسيقية، كانت مخلوقاته تتكاثر وتنتشر في كل مكان، لقد ملأ المدينة بها. كانت منهمكة دائما متجهمة غالبا وشعبية ودائماً منشغلة بحالها، كنت أناديه «السيد النحات» فيجيبني بالإيقاع نفسه «السيد الشاعر» وفي النهاية لم أعد أعرف من أين يأتي بالتماثيل. سألته إذا كان يصنعها في لوديف. قال لا لكني ظللت أجدها تتكاثر، لقد انضاف هو الآخر الى لغز المدينة وها مخلوقاته أكثر بكثير من نفسها، لقد غدت جزءا من هذه المدينة المسحورة، هناك ايضا القصاصون وجهاد درويش بشاله الطويل وهو يحكي فرنسية متينة بجملة عربية.
لم أعرف إذا كان أجداد سوزان ملوكاً حقاً لكني في الخامسة صباحاً تركت على الطاولة ورقة.. «شكراً سيدتي» وخرجت.
السفير
يوليو 2007
| | |
سعادة، الغافري، اثمار، سركون ورولا حسن | سعدي يوسف | محمد بنيس |
| | |
عباس بيضون | نزيه ابو عفش ورولا حسن | غسان زقطان وصالح دياب |
| | |
الشاعرة البحرينية سوسن الدهنيم | صالح دياب وسركون بولص | وديع سعاده |