محمد علي شمس الدين
(لبنان)

نصف ديوان عباس بيضون الجديد "شجرة تشبه حطاباً" الصادر له عن دار الآداب 2005، مرثية متقطعة بمقاطع كمقاطع موسيقى جنائزية بعنوان "لا أحد في بيت السيكلوب" والمرثية، كما سائر القصائد، مهداة إلى زياد أو زاد ابن أخت الشاعر. نعرف من السطرين الأولين للقصيدة أن "زاد" مات منتحراً:
"لا أحد في بيت السيكلوب. حين علمت بانتحار زاد خطر لي أن أمثاله يتحوّلون إلى سيكلوبات، إذ العين الوحيدة وسط الرأس هي مثلث المنتحرين. قرن الكركدن الوحيد شعار موته، لا ضوء، ليس في عين السيكلوب سوى أمر، فكرة غير مرتدة، إلى الأمام حتى الانفجار".
هل نحن بحاجة إلى شرح ما هو السيكلوب؟ حسناً، سنجد أنفسنا إذن بحاجة إلى شرح ما هو الموت، صورته، شكله الخرافي، رعبه، وسنجد أنفسنا مباشرة داخلين في أحوال الموتى، أقفالهم المكسورة، أبوابهم المخلّعة أبداً "مع أن أحداً لا يقاوم" خزائنهم المفرغة بعنف، غرفهم المتعرّضة لاعتداء وتحطيم... فالشاعر إذ يشبك ما بين الموت (بالانتحار) والسيكلوب، أو يستعير السيكلوب ليجسّد من خلاله شكل الانتحار الغامض، يقع على لقيا إبداعية نادرة تستغرق نصاً جنائزياً طويلاً باثنين وثلاثين مقطعاً.
السيكلوب ـ epolcyC ـ هو "العين المدوّرة"... و"العين المدوّرة" في اللغة غير مرعبة. متى تغدو العين المدوّرة مرعبة؟ تغدو كذلك حين توضع (وحيدة وبلا تثنية" في وسط كائن خرافي عملاق، ابتكرته الميثولوجيا اليونانية، ولم ترمز به للموت، بل هو الشاعر عباس بيضون الذي رمز به للموت. وفي الطب، السيكلوب كائن مسخ يولد بخطأ جيني. هل الموت مسخ الحياة؟ كائنها الخرافي البشع المرعب؟... المخيّلة الصورية الخرافية للشاعر تقودنا من خلال تعاريج قصيدته الشائكة، إلى دهاليز هذا المشهد وأهواله... لكأنه مشهد القيامة. فمن بعد كتابه "نقد الألم" يأتي عباس بيضون هنا إلى "نقد الموت".
أثاث القصيدة، تقريباً، معروف سلفاً... وهي لا تفاجئنا بالغموض أو "الأسئلة الأخرى" إلا حين تفيض عن أصلها... تخرج عن خط سيرها المرسوم لها، مثل قطار يخرج عن خط سيره.
نعثر في المقاطع السردية لمشاهد الانتحار/ السيكلوب، الواقعية أو الافتراضية، على شيء من أوصاف "زاد"، أو غرفته (غرفة الانتحار) ومقتنياته المتروكة فيها... ولا نكون بعيدين عن مشهد الرعب (في عين السيكلوب).
لا يأتي الوصف هنا تقريرياً بل هو توليدي قاطع ورائع، أي جميل ومخيف. "فزاد" الضخم الجثة، المولع بالموسيقى، ذو اليد الكبيرة الشعْراء والشفتين المتضخمتين، لم يفعل حين أطلق الرصاصة على صدغه، سوى ضربة فراغ بين نوتتين موسيقيتين في البيانو، سوى "قص الأجزاء اليابسة من الروح"، سوى وضع الرصاصة ـ النواة، في عظم الجمجمة... ...
"عندما علمت بانتحاره فكرت فوراً بضخامته.../ "زاد" ضخامته فكرته الوحيدة وهي تدور في رأسه كجرم ضخم/ ...كانت هناك دائماً هذه العشرة سنتيمترات المضافة إليه/ ثمة لحم من غير أجسامنا/ لحم كالطحلب لا نعرف كيف نطرده/ لحم في قلوبنا أيضاً/ ... ... إذ لا نعرف ما هو الجسد/ ... الكتلة الليفية التي تخنقها دائماً قنوات غليظة تحمل كل تلك الأقذار إلى الداخل/ هل هو دملة ضخمة أم اسفنجة ملوّنة؟/ كل ذلك الطحين الذي يملأ العظام/ الهلام الذي يملأ الرأس... .../ كل هذا التهريج الجسدي... بشفرة واحدة نشق إلى القلب الأصلي واللحم الأصلي".
بمثل هذا الهجاء للجسد البشري، يصبح الانتحار كشطاً للحم الزائد، إزالة لقذارة الجسد التي بقرها عباس بيضون بمشرط حاد من جمل مسنونة... وأضاف إلى الحيلة الابداعية بإدخال السيكلوب في لعبة الموت/ الانتحار، وأحياناً الكركدن الذي "ليس أعمى/ إنه وحيد النظر/ عينه وقرنه واحد..."، إدخال البيانو، والموسيقى العالية في هذه اللعبة أيضاً.
"لم يفهم زاد لماذا تصدر الآلات الضخمة أنغاماً رقيقة؟/ لماذا للموسيقى العالية مثله تماماً/ جسد لا يستطيع أن يعتدي"...
جسد "زاد" الكبير إذن بيانو ضخم. والانتحار ضربة خائبة، ضربة ضائعة على البيانو، بين ضربتين.

يا لجمال الصورة:

أما أوصاف غرفة "زاد" المبعثرة المتروكة بعد الموت، فلا تقلّ عن أوصافه في القدرة على التوليد. ماذا يقال في أشياء المنتحر المتروكة؟ "صور واسطوانات وكاسيتات وسوتيان أبرش لكثرة ما سلق بالماء المغلي... ... ماذا يفعل السوتيان في حجرة السيكلوب؟... الطاولة الصلعاء مليئة بالحاجيات الصغيرة. بضعة طيور على الأرض. لا ندري مع ذلك من انتزع الستائر وكشف الحجرة وجعلها صلعاء فارغة... لا يسعنا أن نجعل من قضيب الستارة وقاطعة الأوراق والكاسيتات المبعثرة أنقاض حياة... اللا شيء التام يدوي... القش يملأ الحجرات. القش نبت على السوتيان. على الملابس والبطاقات... ينبغي أن نعثر على الصمت في الصمت... ...إلخ".
يلاحظ انتخاب السوتيان المتروك ليحمّله الشاعر طاقة تصويرية حادة. "السوتيان أبرش لكثرة ما سلق بالماء المغلي.../ القش نبت على السوتيان/ ... السوتيان تلبّد وانتفش كقطة ميتة... ...". "ماذا يفعل السوتيان في حجرة السيكلوب؟"... وهكذا... وهكذا، فالنص الجنائزي لعباس بيضون قصيدة... هو يشحن ملاحظاته في تقرير الانتحار ومتروكات المنتحر بعين عجيبة شبيهة بعين السيكلوب ذاتها التي استعارها الشاعر لوصف الانتحار الخرافي. نحن لا نستطيع أن نعثر على مرثاة عاطفية لزاد... لا على البكاء ولا على التفجع... لكننا بلا ريب أمام نمط جديد، وجديد جداً، وغير مسبوق من المراثي. المرثية هنا نقد الموت، من خلال الاستغراق في تفاصيل المنتحر وما ترك... مع إشارات مشحونة بالرعب أو السخرية... (الطاولة الصلعاء... السوتيان المكرمش كقطة ميتة... فائض اللحم والجسم المتراكم لزاد... إلخ"... وكأننا بصدد كتابة كفكاوية (نسبة لكافكا)، مع مخيّلة تصويرية سينمائية للرعب وأدواته. (عين السيكلوب المخيفة المفتوحة... صوت يخرج من قرن الكركدن الوحيد... بقايا فضية للطاعون... دنانير منبوشة من المقبرة... إلخ). وما يعده عباس بيضون في قصيدته الجنائزية الطويلة "لا أحد في بيت السيكلوب".

ملف شعري عن الانتحار... ولعله برسم التصوير السينمائي. فالعدة جاهزة، والصور حاضرة. والسيناريوهات أيضاً "يمكن التخمين بأنه أغلق الباب والنافذة، رفع الموسيقى لتعلو على صوت الطلقة، والرصاصة الوحيدة في المسدس القديم لم تخطئ... الثانية والربع... الثانية والربع بالضبط... الساعة تسبق الوقت/ والوقت تحطم عند الثانية والربع/... "زاد" أغلق الباب ليحصر الواقع في الداخل/ أغلق الباب ليظهر عمود الظهر وصليب الخزنة/ أفرغ الخزانة وتركها صليباً/ قال ان علينا أن نرفع وجه مادونا عن الحائط/ لا نترك الصور تنزف وحدها/ قال انها رصاصة واحدة... قال الزوايا لا تزهر/ قال لنغسل وراءنا جيداً ولا نترك كثيراً من الطحالب كثيراً من الأسرار/... قال من الصداع تأتي دائماً أشياء كريهة/ من الحب تأتي دائماً أشياء كريهة/.
قال الواقع والساعة والجسد في عين الظهر/ لا شيء يؤلم في الثانية والربع/ لا شيء يؤلم الآن".

السيناريو إذن كامل وأدوات المشهد حاضرة ومحققة. محسوسة.... ملموسة. مرئية... محيّزة في أماكنها. لكن تبدأ الصعوبة مع عباس بيضون حين يفيض شعره عن ذلك وتفيض القصيدة عن أصلها. وهو ما يعاقره غالباً في مغامرته الكتابية، منذ "مدافن زجاجية" مروراً "بالوقت بجرعات كبيرة" وصولاً إلى "نقد الألم"، فالديوان الراهن "شجرة تشبه حطّاباً"... وذلك حين يجرد المحسوسات، من بعدما يشيئ الألم. وكيف؟ إنه هنا "يتأمل في الشعر، ولنقل: إنه يتفلسف. وكيف؟... مثلاً في وصفه لغرفة الانتحار يكتب عن موجوداتها التالي:

"قنانٍ كثيرة" حيث الجنون يحفظ كملح والغضب والغيرة يجففان.
طاولات كثيرة حيث تُغزل الأفكار وخلاصات النوم الصفراء.

لقاحات تستخلص من الكآبات الفظيعة إذا أمكن مصل الأرق وفصد المخيلة.... عقاقير للكلام والمعرفة/ ويمكن نقل الحياة زجاجات في صندوق/... دعك من الندم الذي يمتلئ به/ واللحم الذي يتحول إلى خجل/ إن لم نعد دموعاً"... فينتقل الشاعر من العالم الوصفي المرعب، إلى التأمّل المرعب للمحسوسات، من خلال تجريدها: قنان للجنون... ملح الغضب المجفّف... خلاصات صفراء للندم... مصل الأرق... عقاقير الكلام... اللحم المتحوّل لخجل إن لم يغدُ دموعاً...

وفي السياق أيضاً، نعثر على أصل مرجعية العنوان... فعنوان الديوان "شجرة تشبه حطّاباً". العنوان، بلا تمعن، عنوان صُوري.... فغالباً ما يتمّ تشبيه الإنسان بالشجرة... والمرأة بخاصة... لكن "شجرة تشبه حطاباً" تنطوي على بعد آخر غير صُوري. إنه بُعْد المعنى الذي يأكل نفسه. فالحطاب ضد الشجرة. الحطاب حاطب الشجرة. قاتلها. والشجرة قتيل. والشجرة تشبه حطابها أي القتيل يشبه القاتل. وهو افتراض يشي به النص من نواح عديدة. "زاد" الضخم الجثة الشبيه ببيانو ضخم، قتلته رصاصة شبيهة بضربة بيانو في الفراغ. الحياة ذاتها تناور في القوارير. شجرة واحدة في روحه بلا أغصان ولا رأس.... "زاد الضخم يرتطم بنفسه كمن يرتطم بشجرة لا أوراق ولا أَغصان لها، فقط كتلة سوداء في الكعب" فالشجرة (الجسد/ جسد زاد هنا) تشبه الحطّاب الذي يقطعها. فحين قطع "زاد" جسده كحطاب، قطع نفسه/ الشجرة.

خارج الموضوع، أو فيه وخارجه معاً، نرى قصيدة عباس بيضون تَفيضُ عن أصلها وتجنح نحو التأمل أو التفلسف، ولكن من دون قطع مع الفكرة/ الصورة.
...
...
...
بين القصيدة الأولى "لا أحد في بيت السيكلوب" والقصيدة الأخيرة في الديوان وهي بعنوان "أخنونخ" أو "ميتافيزيق الثعلب" وهما القصيدتان الرئيسيتان في المجموعة، أربع قصائد وسيطة هي على التوالي: لا حاجة إلى أكثر من يوم واحد، مسافة بين قاربين، أكاذيب صيادين، قلوب ملساء.
في الأولى من هذه الأربع، يصوّر الشاعر ليلة حب يائسة. الحب عند عباس بيضون يابس. عالمه بلاستيكي لكنه قدري ساخر وعابث.

"في الاحتفال بأوعية بلاستيكية، نرتقب أن تئن في مزلاج الباب القديم الكلمة العابرة للقدر"... "إنها الرغبة تبدو مهجورة" في جوارب طويلة". والقصيدة تنضح بالسأم بل بالصدأ الذي يعتري العلاقات الإنسانية بخاصة منها العلاقة بين رجل وامرأة، حب، زواج، صداقة... الخ. إن عالم بيضون ليس عالماً وسيماً ولا مفرحاً بل هو عالم يحوطه الرعب والفكاهة المرة.
والشاعر يصف السماء، "بالفانغوغية" أي نسبة للرسام الهولندي الشهير ان غوغ الذي انتحر بإطلاق النار على صدغه في أحد الحقول، فإنما يشير إلى اطلاق "زاد" النار على صدغه أيضاً. فصفة "فانغوغية" صفة مبتكرة بكل حال... يضاف ترداده لعبارة "لا قلب لي... لاقلب لي"، وهي عبارة طالما وقّع بها رامبو رسائله "من إنسان بلا قلب"...

وسوف نعثر على وصف خاص للحبّ اليابس على السرير "سيتحسس فقط جذعه المشدود كالشوكة على السرير. جسدان متعامدان ولا يتطابقان. ثمة فراغ لنبضة ناقصة. صليب وليس كاملاً. جَسَد يموت على الآخر بالطبع... يقول لا نفس لي".

في قصيدة "مسافة بين قاربين"، يبحث الشاعر عن المهمل والفارغ بين امتلاءين... عن الصمت... السكوت بين الكلام... القصائد الضائعة والسكتات بين ضربات البيانو. يقول "الصمت ليس ميتة" "المسافة بين قاربين هي أيضاً قارب" "المسافة بين جسدين هي أيضاً جَسَد"... ويستطرد هذه الفكرة حول الفراغ الموجود بين امتلاءين بصفته امتلاء آخر بدوره، في قصيدة "أكاذيب صيادين" وهي عن القصائد الضائعة التي تتلمس الرجوع، وعن إخفاء المقتنيات لكي نبحث عنها.. فهو يحتفي بالمخفي والمستوى من الحياة... بل لعله يشير أو يومئ إلى ما هو أبعد من الاحتفال النفسي بالمستور.. قد يومئ إلى أن الحياة برمتها وهم كبير يمكن تلافيه "باطل الأباطيل كل شيء باطل" وإلى أنها ليست أكثر من أكاذيب صيادين على الشاطئ.
هذه الفكرة أيضاً تصب في قصيدة "قلوب ملساء" بل تصنعها. والقلوب الملساء هي قلوب اللاأحد. والنفس هي موسيقى اللاأحد... وهكذا تتوالد كتابة عباس بيضون العنكبوتية... لكي تصل إلى نهاياتها في قصيدة ذات عنوان عجيب هو التالي "أخنونخ أو ميتافيزيق الثعلب". و"أخنونخ" يرد في النصّ "أخنونخا" وهي كلمة اخترعها الشاعر لكي تُقرأ طرداً وعكساً نفس القراءة... وتتشابه مقاطعها بالتقاطع. أما "ميتافيزيق الثعلب" فالأرجح من خلال النص أنه "لاهوت" الشيطان"... أو "لاهوت العفريت"... ففي النص ما يتصل بالسحر والطلسم والكلمات والحروف التي تصنعه وليست "أخنونخا" سوى كلمة طلسمية ابتكرها عباس وهي لغة... أي كلمة... يقول "دغدغدت اللغة على ركبتيك حتى غشيت ولم تضحك... وإذا أمكن لخطأ نحوي أن يقتل فإن ذلك بالتأكيد من فرط السخرية وبلا جريمة". الشاعر ابتكر عفريته وسماه أخنونخ بعد أن خارت اللغة وقفز العفريت من حلقها. والقصيدة ذات لغة طقوسية وسحرية وتشبه ما يكتب في كتب السحر والطلاسم وحسب الجُمل. وهي مؤسسة على أن اللغة تحيي وتميت، وتمرض وتشفي... وفي الكلمة السحر. وعباس بيضون يكشف عن لعبته حين يكتب "أخنونخ، أخنونخا، كلمة تخفي كلمة. أحبولة من ملابس تنكرية وكلمات..." واتصالها بميتافيزيق الثعلب اتصال كلمات وسحر "... لكن عليك أن تصمد أكثر في ميتافيزيق الثعلب... أخنونخ وتقول إنه في الغالبTE بلا حجم...".
"أخنونخ كاملة واسطوانية وأفعى".
لكأن هذه الكتابة التي يمارسها الشاعر هنا والآن، كتابة طلسمية مكتوبة أو محفورة على ناووس قديم أو مقبرة فرعونية، وما نقوله في هذا الصنيع هو أنه فائض المخيلة عند عباس، ونسأل: أهو ترصيع ما بعد الحداثة؟ ولا ننسى بالطبع كم في هذا الصنيع من جنون المخيلة الابداعية والاجتراء على تقديم نص بمثل هذه الملابسات جميعها، وترك المسألة لمن يستحقون القراءة.

المستقبل
الاحد 16 كانون الثاني 2005

رجوع