للدخول الى عبّاس بيضون يقتضي التهيّب والتهيّؤ بعدّة نفسية ولغوية وصورية غير بلاغية بالمرّة، خارج إطار الاعتيادي من الكتابة، ودائماً معرّض لهبوب الغامض والمؤلم والكابوسي عليك، بل الذي نَفَتْهُ وأقصته في اللغة، رومانسيات وأدبيات شعرية متناسلة من بعضها البعض ومتواطئة مع ذائقة عامة ساهمت هي في صنعها، لتصبح أسيرة لها، ولم يكسِر "التابو" هذا في اللغة الشعرية سوى جنون سريالي عظيم، عرفه الشعر الغربي باكراً على أيدي لوتريامون ورمبو وكرّسه أنتونان آرتو.. حيث العري المطلق للأحشاء.. العري المدهش والصاعق واللغة الأولية التي بلا ممنوعات، والواصلة بتعبير أنسي الحاج لحد الخنزرة.. فاللغة والصورة (وليدتا الحال) لدى عباس بيضون عاريتان بطفلية غير خاضعة لممنوع وعيب، أو لمحظور "الغيوم الجرداء تتفل وربما تبول في الأعالي"، "الشمس تسلح"، "البرد يجفّف البصاق"، الماء الوسخ حاضر، والإفرازات غير متهيّبة للدخول في النصّ، والديدان كالقطعان متجاورة.. ثم الغيم يجرّ خلفه المخاط التخين "يتدركب في كل اتجاه، باصقاً جملة لا طرف لها".. "تقولين لا تدنُ: مخاطُك على خصلاتي/ والرطوبة تجعل لعابَهم في روحي/ تعطيش الأشجار يجعلها أقلّ ذباباً/ لكن الذباب أيضاً في المخيّلة/..." هكذا يتخلّق النص من دم وطمث، من "قطرة دم وقطرة منيّ" كما يقول الشاعر في تخلّق المدينة.. المدينة التي لو نبشوا في المراحيض لوجدوها.
والذباب الذي في المخيّلة (أيضاً) إشارة مكنيّة لمصدر نصوص الشاعر. إنّ الخارج (أي النصوص في ما هي بُنى شعرية) ليس سوى إشارات أو علامات Signes للفَوَران الداخلي... وهو فَوَران نفسي وجسدي مؤلم، فمجسّات الألم لدى بيضون صانعة نصوصه... كأنه يدور في جرحه، كأنه ينكش الجرح لكي ينزّ منه النصّ.
وسواء كتب عن ذاته أو عن سواه، فهو يكتب عن ذاته... فكتابته عن سمير خدّاج، الرسّام اللبناني المقيم في مستشفى للسرطان في باريس، كتابة جسدية بل سرطانية طالعة من الحال.. خدّاج الذي "يصنع جدارية كبيرة من أوراق الخريف، السرطان أكل عروقها، وبالتأكيد رائحتها"... هذه الكتابة الجسدية يمارسها بيضون في نصوصه، فهو حين يمشي يقوده صوت "هدى" في أنفاق باريس، مثلاً، فكأنه يمشي في الشرايين. يستطرد "أقول لها: قد نتخبّط في جلطة".. وما يتردد بين نص وآخر من ذكر لجرح في الصدر وجرح في الساق، هو جرح جسدي وحقيقي لكن يلعب عليه الشاعر ألاعبيه الإبداعية، يغري بجرحه امرأة، يستدرجها بإصبع مكسور للسرير، يعرّيها وينميها في جرحه العاري (قصيدة برودة)، كذلك تتولّد من جرح الصدر أفكار وتأملات شتّى (قصيدة نافذة في قطار وقصيدة (بطاقة): "أفكّر أن عليّ أن أبرز شيئاً للتاريخ/ جرحاً في الصدر قد يكفي لكني لا أقدّم ذلك للسائق طبعاً"... وبقعة الجرح على الصدر تراها أيضاً مقرونة ببقعة النبيذ (قصيدة بقعة نبيذ)... وهكذا كما الجرح في صدر الشاعر أو ساقه كذلك حزّ الكلمات... أي الأفكار أيضاً والتأملات، لكأن بيضون عازف على أوتار ماندولين الجرح.. تتصاعد من مُلامستها أنغام وألحان ذات أصل وَتَري (جسدي) لكنها تصعد أبعد وأرقّ وآلم...
هل الجرح جرح جسدي (ذاتي) للشاعر؟
نسأل، ونجيب: نعم، لكنه جرح آخرين، آلامهم أيضاً وصُوَرهم الجسدية... فمن سمير خدّاج الى آخرين مروراً أو عبوراً بجرحه، ترى عباس بيضون يكتب كأنه خارج للتوّ من حرب بآلاف الضحايا والمشوّهين، أوكأنه داخل معسكرات التعذيب حيث، حتى... "الأشجار العارية تجلد في الليل".
هنا لا يعود يصلح خطاب خافِت من نوع خطاب جرح شخصي في الصدر أو الساق، بل يغدو الحال أكثر قسوة وفداحة... ابتداء من نصّ "قدر إيميري كيرتس" حيث معذّبو الهولوكوست وحجرة الغاز (في قصائد برلين) وانتهاء بالقصائد البيروتية (دقيقة تأخير عن الواقع)... والفصل الصعب في هذه القصائد الأخيرة، هو قسم نصوص "ساقان من خشب"، هذا القسم هو الأكثر شراسة في الديوان. هنا تتأوّج الرقصة الكابوسية والعرجاء للراقص وهو ليس شيئاً آخر سوى الشاعر... "س" يرقص على رجلين من خشب، يتعجبون من أنه يفعل ذلك بلا ساقين... لو كانوا أكثر لطفاً لعلموا أنه أمات جسده وروحه في هذه الرقصة"... "لا أدري ماذا نفعل بساقين مقطوعتين هل نرسلهما الى الله بدون إيضاح؟ هل تقفان حقاً في صف الملائكة والشهداء وهل تقتربان من العرش وتتقاطعان تحته في رمز سماوي؟" (من قصيدة "على سبيل المزاح")...
هذا العزف بالمنشار على ساقين مقطوعتين، ومن ثمّ خشبتين يمارسه الشاعر بكتابة موازية للفعل ذاته، وتفيض عنه... "كان يمكن من ساقين مقطوعتين تكوين رسم شعائري".. "بين الخشب والجلد لا نسمع المنشار الذي يغنّي...". ما الفائض بين الحال والكتابة؟
إنه فائض الألم. الكتابة هنا هي عينها الألم. سواء انطلقت من جرح شخصي في صدر الشاعر أو من سيقان مقطوعة، أو أجساد مهشّمة لآخرين، يرقصون بسيقان خشبية أو لمفؤدين يتدافعون على كورنيش المنارة... إنه فائض الألم. الصرخة... أو الحشرجة... قتل الأشجار، الزواج الدموي بين الناس والآلات...
في النصوص البيروتية، بخاصة نصوص "ساقان من خشب"، لا يمرّ عباس بيضون من دون لاهوت... لكنه لاهوت أسود. ليس الشاعر شاعر ميتافيزيك. بالتأكيد... لكنه شاعر لاهوت مضادّ... ماذا أعني؟ كيف أعبّر عن هذه الحيثيّة للشاعر؟ في جميع النصوص التي يرد فيها اسم الله أو الملائكة، على سبيل المثال، لا نعثر على الإله الذي رسمته الأديان السماوية (الإسلام والمسيحية بخاصة): إله السلام والحب والرحمة.. الرحمن الرحيم، الأب الذي في السماوات. لكن، شاء أو أبى الشاعر، يرتطم بلاهوت ما: "لا أدري ماذا نفعل بساقين مقطوعتين هل نرسلهما الى الله بدون إيضاح؟" (ص104)، ثم تقاطع السيقان المقطوعة تحت العرش... في قصيدة "على سبيل المزاح"، والإشارة "لليلة الدامية لعصافير الله" (ص89)، وإلى "الثقب الذي أحدثه الوقت وربما أحدثه الله في الحديقة" (ص93)... "العالم هكذا الآن رمز من قدمين مقطوعتين... لن يكون أحد موجوداً ليسمع ما دمنا تركنا الله يتكلّم وحده في الراديو" (ص109) "الله لن يكون هنا ليجيب" (ص113)... إلخ.
وأكثر ما يظهر الأمر واضحاً في قصيدة بعنوان "الملائكة"، حيث يتخيّل الشاعر مصير ساقين مقطوعتين. الى أين؟ هل تصعدان للسماء؟ هل يبعثهما الله طيرين بأجنحة؟ هل ستكون قدم عليا بانتظارهما فوق؟ هل ستجدان الملائكة مصطفّة كالأقدام السليمة تحت العرش وتصليان لإله الأرجل الصحيحة؟"... مع ذلك يستمران في الاعتقاد بأن سائقهما الذي لا يرحم هو الله نفسه".
صدمة الساقين المقطوعتين (كما الرأس المقطوع) ولّدت هذه النصوص. يلاحظ نكهة من سخرية مرّة أو محروقة حين الكلام عن الله أو الملائكة. هنا طمأنينة لاهوتية كأنها التجديف.
اللاهوت الذي يتوسّله بيضون في هذه النصوص هو، وبتعبيره هو بالذات، "عارض ميتافيزيقي"... "لن يكون هناك أحد ليسمع. الجريمة ستجد حلاً. ستتخلص من عارضها الميتافيزيقي. لن يعود هناك صراع مع الله على الجثّة....... ثم إن الشهداء لن يكونوا أقلّ سخرية، لقد تحقق كل ذلك بتفجير ذرّة من الإيمان ولم يتكلفوا أكثر لاحتلال السماء. شفوا سريعاً من الطاعة، ولن يفعلوا شيئاً لإنقاذ الله نفسه" (ص113).
لكأنها لطخ عمياء لنيتشه... أو للفنانين الألمان لما بعد الحروب... ثمّة قهر وألم عظيمان وفائض عنهما الكتابة... قرف وسخط على الحضارة "إن المراحيض وحدها متاحفنا" (ص24)، وسخرية سوداء من الوجود نفسه "إذا وجدوا حجارة كانت تحيض/ فلأن الأسرار تخرج دائماً مع الدم/ والكائن يستفرغ عظمه ولبه أولاً/ لا بد أن مخاط البزّاقة الشمسي/ جسور الى مكان مجهول". إنها أعظم وأهمّ كتابة عربية تدميرية معاصرة. ولو كان لي أن أصوّر كتابة عباس بيضون تشكيلياً، لجمعت صرخة مونخ الى رسوم فرنسيس بيكون... أي الرعب الى المرض الجسدي والنفسي... وبكل الأحوال، وعلى الرغم من أن كتابة عباس بيضون جسدية، دواخلية، لكنها أيضاً، وبالضرورة الثقافية، تقطعها على امتداد النصوص، خيوط من شعراء وفنانين ومفكرين عالميين. نصغي لصدى من ريلكه الذي يقول "كل ملاك رهيب"، وذلك بيّن في الملائكة الرهبوتيين لعباس. في النصوص البرلينية مناخات من بريخت ونيتشه وحوار مع تماثيل شايب، ونص بعنوان مصطفى غوغول، وذكر لغونتر غراس.... وهكذا، فالنصوص مشبعة بإحالات ثقافية بعضها مسمّى وبعضها غير مسمّى... إلا أن الأساس، نعم، الأساس في كتابة عباس بيضون هو أنها شجرته وأنه هو حطّابها... إنه كما يقول: "أنا جندي حياتي. أخدمها كما أخدم علمي. جندي حياتي الصغير أنا. وعليَّ فقط أن أمشي. وحدي مع حذائي وسأكمل"... "عيناي ذلك السواد الإسفلتي ونفسي طريقي".
المستقبل
الأحد 18 شباط 2007
رجوع