أول ما سمعت عن عباس بيضون، كان ذلك في منتصف الثمانينات، أي قبل عشرين عاماً أو أكثر. بل لم أسمع عنه فحسب إنما وتحديداً قرأت وقتها في جريدة "النهار" مراجعة عنه وربما أيضاً حواراً معه، فلم أعد أذكر تماماً. إنما كل ما أذكره عن ذلك "التعارف" الأدبي يومها وكان لفتني كثيراَ، هو القوة التي كانت تنبع من داخل هذه الشخصية الجادة والطريفة في آن. وانطباعي لم يخطئ، إذ هكذا عرفته شخصياَ في ما بعد.
فهذا الشاعر الكبير والمثقف يعرف كيف الوصل بين الكتابة والحياة، بل يعرف أن يكون كاتباً في العمق فينجح في وضع نفسه في المنطقتين معاً، بحيث أنه لا يفقد شغفه في الكتابة ولا يغيب عن تجاويف الحياة.
إذن تعرّفت إليه شخصياً في ما بعد، لم أعد أذكر متى، ربما أيام الحرب الماضية، عندما كان يعتبر بطولة وجرأة اجتيازنا المنطقة التي نسكن فيها إلى المنطقة الثانية، وبقي انطباعي عنه منذ ذلك الحين هو ذاته إلى اليوم، أنه الشاعر الذي لا يستطيع المرء سوى أن يحب طيشه وشروده وعفويته ولكن طبعاً يقظته الشعرية وثقافته الواسعة إنما غير المتعجرفة.
أحب تصرّفه وتعاطيه معنا. أحب طريقته، أي إنه لا يستعرض ذاته إنما نحن نكتشفها. أحب تقرّبه منا والمظهر الصريح يكشف عن داخل غني.
هذا هو باختصار الرجل، والشاعر لا يبدأ سوى عند الإنسان. والكلمة هي الإنسان. من هنا فقط أستطيع الدخول إلى الكلمة الشعرية لدى عباس بيضون وأن أتكلم عنها قدر المستطاع كون قصيدته تتجاوز المألوف وتتسع لأكثر من قراءة. أو إنها تحمل في طياتها تلك الطبقة الصعبة من الكتابة التي تضع القارئ أمام تحدي التلقي والمتابعة.
إذن الكلمة والإنسان لا ينفصلان لدى بيضون والأمر عشته فعلاَ ولم أستطع يوماً سوى أن أجمع بينهما إذ عباس هو الكاتب الذي يحوّل حياته قصيدة لكنه أيضاً الشاعر الذي يصنع اللغة صناعة الاحتراف. إنه صانع اللغة وصاقلها منذ "الوقت بجرعات كبيرة"، إلى "صور"، إلى "زوّار الشتوة الأولى"، إلى "خلاء هذا القدح"، وصولاً إلى"ب ب ب".
"خلاء هذا القدح" أذكر أني قرأته في قبرص أثناء الفترة التي هربنا فيها من لبنان احتماء من شرّ الموت والنيران، واليوم أراني أكتب عنه، وأقرأه مرة أخرى، لكن في آرل، جنوب فرنسا. ولأني خارج البيت أو الأحرى بعيدة عنه وبالتالي بعيدة عن مكتبتي أي إن كتب عباس في غير متناولي، ولأن الصدفة شاءت أن أكون في "مسقط رأس" دار النشر "آكت سود" تلك الدار المشهورة عالمياً والتي تنشر لعباس بيضون، ولأن أحد المسؤولين في المعهد حيث أقيم أهداني الكتاب المترجم إلى الفرنسية والصادر حديثاً عن هذه الدار القريبة عن مسكني بضع خطوات، ورحت أتصفحه، رأيتها مناسبة جميلة أضيفها إلى مناسبة الاحتفاء بعباس بيضون في ملف خاص، لأقول إن النسخة الفرنسية لا تقلّ جمالاً عن النسخة الأصلية. بل الترجمة الجيدة (ترجمة مادونا أيوب وأنطوان جوكي ومراجعة برنار نويل وكاظم جهاد وجان شارل دو بول) تناغمت مع الكتابة التي صاغها بيضون في لغته المضاعفة صعوبة وجاذبية أصلاً. وهنا تكمن المفارقة لديه، إذ لهذه الصعوبة وجهان، واحد يأخذنا إلى مناطق فكرية ولغوية قاسية، وآخر يمدّنا بماء الحيوية أي تلك التي تجعل القصيدة رطبة الملمس على ثقل معناها ومبتغاها.
أكتب اليوم عن عباس بيضون وكأنها المرة الأولى، لأني في كل مرة أتناول شعره امرّ بالشغف ذاته، بالحماس ذاته للدخول إلى كلماته التي لكثرة ما تفصح وتخفي على التوالي، أراني أقع في فخ التجاذب الفائق. أو هي ربما "عملية تعذيب لا ندري أين تحصل، ربما هي الأشجار العارية تجلد ثانية في الليل"، كما يقول الشاعر في كتابه الأخير "ب ب ب ". أتذكرها جيداً هذه الجملة، هي اللافتة والتي من خلالها يريد القول إن اللغة التي يصنعها لا تجلد صاحبها فحسب، إنما أيضاً تعذبه وتنفيه بقدر ما يطاردها ليجلدها ثانية وثالثة، وكأنه هو الشجر العاري في منتصف ليل الكتابة.
إني اليوم جالسة في غرفتي المطلّة على شمس وزرقة وعلى حديقة فان غوغ. بل كيفما تحركت في آرل أراني جالسة في لوحة من لوحات فان غوغ أو في جميعها معاً! كل ما رسمه هذا الفنان العظيم لا يزال هنا محفوظاً، لا يزال في متناول ملمسنا ومرآنا. كذلك أراني جالسة اليوم في حديقة المجموعة الشعرية بالفرنسية تحت عنوان "مدافن زجاجية وقصائد أخرى ". بل أنا جالسة في حديقتي بيضون الفرنسيتين، إذ ثمة مجموعة أولى، "صور"، كانت صدرت سنة 2002 أيضا عن "آكت سود" ( ترجمة كاظم جهاد).
هذه هي إحدى لوحات "آكت سود" الجميلة، الخالدة كأعمال فان غوغ، حيث واجهتها الأليفة والصغيرة (المتناغمة مع ألفة وصغر مدينة- بلدة آرل) تضم أهم نخب الكتاب الفرنسيين والعالميين المترجمين إلى الفرنسية، ومنهم، عباس بيضون.
ها هي "المدافن الزجاجية" تضاهي قصائد "صور"، أعني بالفرنسية، أو تتسابق هي وكل أعماله (بالعربية) للتباهي بما تستطيعه لغة الشاعر الواحدة ولو في لغات عدة وعلى اختلافها. بل لغة بيضون هي الحجر الأساس للانطلاق إلى بقية اللغات نسخاً جميلة لما فعله الأصل.
أن اقرأ اليوم عباس بيضون بالفرنسية في فرنسا لهي صدفة جميلة وتزيد مكان فان غوغ جمالاً، أي كأننا نضيف الكلمة إلى اللون والشكل لأقول إن الشعر الجيد موجود في كل زمان وكل مكان. لذا استطاع الناشر أن يضم في كتاب واحد كلاً من "مدافن زجاجية" أو مختارات منها، ومختارات من "فصل في برلين" وفصلاً آخر من "كفار باريس".
فما يكتبه وكتبه بيضون على مدى أكثر من ثلاثة عقود في دواوين مختلفة هو في النهاية خلاصة تجربة تتوزّع عبر التاريخ الأدبي للشاعر، لتترك لنا العلامات في كل مكان، الأثر الباقي والقوي لكل إنتاجه المتصل ببعضه بعضاً عبر مشروع شعري كبير.
في هذا المعنى يكون عباس بيضون قد أسّس لحقبة جديدة في الشعر العربي الحديث وذلك منذ السبعينات، وهو الذي كان منذ البداية رأى بوضوح مهمة الشعر ومهمته هو كشاعر. استقل منذ البداية عما صنعوه قبله، فقلب الصفحة ومشى بما رآه مناسباً لصوته وحاجته ونطاقه وزمنه. رأى اللغة بعيداً عن التيارات القائمة أو الوافدة. رآها ضرورة ماسة إلى إنتاج يختلف عما سبقه، إنتاج له روحه الخاصة وفرادته .
رجوع