صباح زوين

وجوه وأسماء وحوادث تتداعى في رواية عباس بيضون، ليس بغية الوصول الى نتيجة شافية، بل للمزيد من الغموض. وقد يكون العنوان "تحليل دم" الاجابة الفضلى عن الاسرار التي تلفّ سيرة حياة ذلك "العم" في افريقيا وحقيقة موته والالتباس الذي تبدى بعد وفاته. "تحليل دم" هو تحديداً ما يحتاج اليه الراوي لمعرفة هوية موسى الذي أضحى بعد وفاة العم هو ذاك العم وليس هو. كأن البشر، في هذه الرواية مجموعة أناس، يتبلورون تارة كأفراد ذوي ملامح جلية وخاصة بكل منهم، ويمتزجون تارة اخرى في ضبابية مغبشة وجماعية حيث الكل يختلط بالكل، وحيث يمسي الراوي ذاك الباحث عن موقعه ضمن هذا الكل الذي ينتمي اليه عضوياً وعاطفياً من غير أن يدرك مدى هذا الانتماء.
ينتمي الراوي الى عائلة يلفّها الصمت والاسرار الصغيرة. عائلة مركبة من عناصر متداخلة المصير والقرابة، حيث تلعب الصداقة وعلاقة الدم معظم الاحيان الدور البارز عينه. عائلة يتساءل فيها أحد افرادها، الراوي، عن هوية هذا وذاك، بل يحاول بالاحرى الكشف عن مصائر المحيطين به عبر شبكة احداث تربط الكل بخيوطها الخفية. هويات تائهة بين أمكنة جغرافية مشتتة واحداث ليست تماماً أحداثاً بل تفاعلات او ردود فعل عفوية تنتج من تشعبات الحياة الكثيرة.
منذ الصفحات الاولى الى الفقرة الاخيرة في الصفحة الاخيرة، نرى الراوي في بحث مضنٍ ودؤوب عن حقيقة هذا الانسان الذي هو عمه: "سألت عمتي كيف توفي؟ قالت إنها سمعت أنه خطأ طبي. ما حدا بيعرف. ذهب هو وموسى الى كولخ ولا أحد يعرف ماذا حصل فعلاً. عاد أحدهما في تابوت وظلّ موسى يقول إنه عمي، ثم أخذ يقول تارة إنه عمي وتارة أنه هو، واستقر اخيراً على انه هو. ظلّ يعذّب الجميع حتى اقتنعوا أخيراً وأرسلوه بناء على إلحاحه، الى لبنان"، إلا أن الراوي لم يستقر على يقين، وأنهى كلامه تاركاً الرواية في حيرة المن. وقد يكون اللجوء الى "تحليل دم" هو الأنجع في هذه الحالة، بيد أن الرواية حاولت من تلقاء ذاتها، من تلقاء الكتابة بذاتها، أن تحلّل هذه الارتباطات المتشابكة، والتحليل الآخر، الطبي، ظلّ صورة اساسية ومستحيلة، يلاحقها الكاتب ولا يقبض عليها. فهو يعرف أن حتى تحليل الدم لن يكون كافياً اذ لن يأتي بالجواب المرجو، رغم احتفاظه بهذا الأمل الذي قد يكون الاكثر واقعية ودقة. لكن الرواية الحقيقية لا تنمو في تراب الواقعية، ولذا تفرز في "تحليل دم" الاجواء المغبشة والغامضة حيث بعض السحر وبعض الخفايا يتداخل جاعلاً من حيوات افراد هذه العائلة الواسعة محطات لعلاقات ملتبسة. علاقات لم يحددها الراوي، إنما ظل يذكرها بحسب تداعيات المخيلة ونتف الحكايات التي وصلت عن اولئك الناس في افريقيا الى القرية. صفية وسمية والعمّ، موسى والعمّ، أمينة وسمية، العمة وصفية، الوالد والعم وسواهم. إلا أن صمتاً كثيفاً أحاط بأولئك عندما أضحوا مجرّد ذاكرة في حياة الراوي، هو الذي حاول مراراً معرفة الحقيقة، او بعضها. وهذه المحاولة، كما يبدو له، قد تتم عبر صلة الدم، صلة القرابة، وهكذا نراه يقول: "كان أبي ناجي العائلة وبعد وفاة أخي شعرت أنني أنا ايضاً ناجي العائلة. لكنني، لأمر ما، وضعت نفسي مقابل عمي لا أبي. فكرت بأنني، لأعرف عمي، يكفي أن انظر في نفسي. اذا كان أخي رحل فإن الاقدار لا تتبدل لكنها تغيّر سيرها"، بل ليعرف عمّه أكثر حاول الراوي التقرب من صفية وكأنه أراد أن يرى هذا العم من خلال جسده الملتصق بجسدها ومن خلال عينيها ونظرتها اليه حين يفشل في التقاط سرّ عمه من خلال تحليله شخصية موسى. بين موسى وصفية تخمّر غموض هذا الشخص الذي لم يره الراوي البتة. بين موسى وصفية تراكمت الحكايات في القرية وتداعت الذكريات واحتل الحداد والصمت المسافة كلها. وطقوس تقليدية من الحداد ترافق هذا السرد المتداعي بدوره في حركة متقطعة متواصلة، تراكمية إستدارية يروم بيضون من خلالها ربط الماضي بالحاضر عبر راوٍ وصور عثر عليها صدفة في "مغلّف تحت فراشه". غالبا ما تكون الصور بمثابة مفتاح لفك بعض الالغاز المتصلة بهوية اناس نعرفهم ولا نعرفهم، الا ان الصور في هذه الرواية لم تساعد الراوي على تحديد الهويات وظل السؤال عالقا: "وصفية ما شأنها هنا؟ لماذا صورتها بين اوراقه؟ سألتُ صفية. قالت انها لا تفهم. اذا كانت هناك ريبة فلا بدّ ان والدها ليس بعيدا عنها. في النهاية لا تعرف من هو عمي ومن هو موسى الآخر". حتى في شبه التحقيق هذا، وفي اسلوب بيضون في طرح السؤال وتركيب اللغة، يبقى الالتباس هو السيد، والالتباس احاط المصائر كلها حبا وحياة وموتا. فأي غموض هذا الذي يلفّ علاقة سميّة بالعمّ، بل اي غموض يلف علاقة صفية بالعمّ الذي لا وجه له ولا اسم ولا ارتباط واضحا له بأي من الاشخاص الذين عرفوه او اللواتي عرفنه: "امضى عمّي يومين بلا نوم وقرر جازماً ان يبتعد عن سميّة. عشرة ايام لم يرَها. لم يحب صفيّة، لكنه معها بلا همّ. عشرة ايام ثم وجدها على بابه تنتظر، نظرت اليه طويلا وهي لا تعرف ماذا تفعل. كان خيرا لهما الا تدخل. فكّر عمّي بفظاظة وبخوف يشبه الرعب".
يبلغ القارئ نهاية الرواية ويتنبه الى ان شيئا لم يتبلور مما بدا له غبشا منذ الصفحة الاولى وعلى مدى الصفحات. برع عبّاس بيضون في تعامله مع شخصيات بلا وجوه، او ذات وجوه غير واضحة الملامح عاشت في مكان ما بعيدا عنه كأنها لم تكن. وكأنه قسّم الرواية جزأين، جزء الحداد وجزء انعاش الذاكرة، ووزّع الادوار على ثنائيين بارزين هما صفية والعمة من جهة والعمّ وموسى من جهة ثانية. اما الراوي فكأنه صلة الوصل بين شخصه كفرد وشخصه كجزء من جماعة تربطه بها قرابة الدم. يبحث الراوي عن وجهه عبر وجوه لم تبقَ حتى في الذاكرة. يبحث عن وجوه الآخرين من خلال فتات اخبارهم وسيرهم التي شوّهها الزمن. يحاول خرق صمت ضُرب على البيت والعائلة بعد وفاة العمّ، وخرق سرّ المصائر وتشابهها بعد وفاة الاب ووفاة الاخ. وهي في أي حال، وهذا عنصر بارز في رواية بيضون، مصائر احاطت بها اجواء من شبه العاطفة، لا الحب. اجواء من التكتم، ظلّ فيها الراوي عالقا بين السرّ والرمز وكثير من اللامبالاة رغم اصراره على معرفة من عساه يشبه في النهاية، وأين مرآته وهديته.
في"تحليل دم" يفتح لنا عبّاس بيضون عالما شاسعا من حالات مرتبكة وشائقة وجميلة.

"النهار"
27 آب 2002