عندما كنا نزهو بأولى قصائدنا المنشورة في صحافة بيروت أواخر السبعينات وننخرط، بحماسة، في صفوف اليسار كان عباس بيضون يعيد النظر بعلاقته بالشعر واليسار معاً.
ليس غريباً، والحال، أن أكون قد أصدرت، تحت غمر هذين الزهو والحماسة، مجموعتين شعريتين في بيروت قبل أن يُصدر عباس واحدة، وأن أعتبر نفسي "معروفاً" من لدن الساحة الثقافية (إن لم يخامرني الظن بأهميتي أيضاً!) أكثر منه، فما كنا نكتبه ونلوّح بقبضاتنا في المقاهي بغضب من أجله كان، هو، قد فعله قبلنا، وبدا لي عندما التقينا، أول مرة، أنه انتهى منه تماماً.
لكن إطلالة عباس بيضون على الحياة الثقافية في بيروت التي كانت يومذاك أشبه ما تكون ببرج بابل (كتابيّ، فكري، أقوامي الخ) كانت قوية ومؤثرة بحيث يمكن لي، بشيء من الحماسة التي تليق بها، أن أؤرخ لـ "قصيدة النثر" ( سأستخدم هذه التسمية، بتحفظ لأن الأمر، هنا، يتجاوز التصنيف الإصطلاحي لهذه التسميات) بما قبل إطلالة عباس بيضون من خلال صحيفة "السفير" وما بعدها.
فهو، بهذا المعنى، أحد رواد، إن لم يكن رائد، الموجة الثانية من "قصيدة النثر" التي لم تصل إلى برّ الكتابة الشعرية العربية، فحسب، بل فاضت عليها.. وهناك من يقول إنها أغرقتها! والطريف في الأمر أن تلك الإطلالة لم تكن من خلال قصيدته التي لا بدَّ أنها اختمرت في استراحة المحارب الباريسية وعملية إعادة النظر، بل بالكتابة عن القصيدة، بالتنظير لشعر عربي جديد يخرج من الشقوق، والهوامش والضعف والانقطاعات وعالم الإنسان الصغير لا من لحظة التماسك، والبلاغة والوحدة، والتواصل والجوهري. كانت كتابات عباس بيضون عن الشعر ( قبل أن أعرف شعره، الذي يوجعك حنكك وأنت تقرأه من فرط ما يجرجر العربية في مسالك وعرة بحيث تسمع أنينها تحت وطء صوره ومجازاته غير المستأنسة من مسافة بعيدة) أشبه ببيانات لكتابة شعرية جديدة من دون أن يكون لها ادعاء وتبجح وجفاف مخيلة البيانات الشعرية العربية الطليعية التي نادراً ما تشابهت مع شعر أصحابها.
هكذا ستترسخ في ذهني أول صورة لعباس بيضون كـ "ناقد" لم تكن تنقصه القسوة، أيضاً، تجاه ما يقع خارج تصوره للشعر. ففي تلك "اللحظة النضالية" في تاريخ الشعرية العربية كان على الكتابة الشعرية الجديدة أن تقاتل بشراسة كي تثبت أقدامها على أرض اللغة العربية، تسري فيها، مع ذلك، رغبة غيّر مُفكَّر فيها "التأصل" رغم مناداتها بـ "القطيعة" وحربها على الأصالة! كأنها كانت تنشق وتنفلق كي تلتحم، وتخرج على "الأهل" كيما تعود إليهم. هذا، ربما، كان في لا وعي تلك الكتابة، أما وعيها فكان نضالياً متطرفاً، انقطاعياً، منبتَّا.
ومن أسف أن عباس لم يجمع كتاباته النقدية التي كان ينشرها في "السفير" كي تكون مرجعاً لفهم لحظة شعرية عربية حاسمة، وعندما أقول مرجعاً لا أقصد أن أجرد تلك الكتابات من القيمة النقدية والمعرفية الراهنة التي أزعم أنها ما تزال تنطوي عليها ولكنني اقصد أن صدور تلك الكتابات، وهي كثيرة، ستمكَّن المرء من الوقوف على المشاغل الجمالية والفكرية التي كانت تشغل تلك اللحظة الشعرية الانعطافية.
سبق لي أن تحدثت مع عباس أكثر من مرة بأمر هذه المقالات التي واصل كتابتها أكثر من عشر سنين قبل أن يقرر، على ما يبدو، الإقلاع عن الكتابة عن الشعر، فقال لي إنه يفكرّ في جمعها في كتاب.
لكن ذلك لم يحدث.
ويخامرني ظنٌ أن هذا الأمر لا يتعلق بـ "فوضى" عباس بيضون ونسيانه الأسطوريين بل بتغير مفهومه للشعر. ففي أحاديث مسهبة جرت بيننا في أكثر من مكان، في العقدين الأخيرين، عبَّر عباس عن اهتزاز في قناعاته، ومفاهيمه للشعر. وقد بدا لي أكثر تردداً في الحكم على الشعر أكثر من السابق، وبدا أنه يتقبل شعراً ما كان يتقبله قبلاً.
لاحظت أن هذا التغيير طرأ بعد سلسلة من المقالات التي تناول فيها كتابات عدد من الشعراء اللبنانيين علي نحو قاس.
قرأت بعضاً من تلك المقالات غير المهادنة ووصلتني الأصداء العنيفة التي أثارتها بين الشعراء اللبنانيين الشباب.
لكنه، على ما يبدو، قد أعاد نظره في موقفه الصارم ذاك لأنه عبرَّ شفاهة وكتابة عن تفهم أكثر لكتابة بعض هؤلاء.
فهل التغيير الذي طرأ على مفاهيمه الشعرية نتيجة للتفاعل الذي أثارته تلك السلسلة النقدية، أم أنه تبدل طبيعي تمليه التغيرات المعرفية والجمالية التي يدركها المرء في مشواره الطويل، وتضعضع إيمانه بـ "مسلمات" ما تعتم أن تصبح، هي نفسها، مدعاة للحيرة والسؤال؟
لا أعلم.
لكن من المؤكد أن عباس بيضون يملك، أكثر من معظم الشعراء العرب الذين عرفتهم، فضيلة نقد الذات، بل والسخرية المريرة منها، وفضيلة الاعتراف بالتأثر والكشف عن مصادر هذا التأثر في ما يحاول كثير من الشعراء العرب طمس الآثار التي تدل على مصادر راهنة غذت كتابتهم لأنه هؤلاء لا يقبلون، بحسب جونسون، أن يكونوا مدينين إلى معاصرين لهم.
***
انصبَّ حديثي، حتى اللحظة، عن عباس الناقد وطارح الأفكار والأسئلة ولم أتحدث عن عباس الشاعر الذي ستتأخر معرفتي به، أو لنقل إدراكي لأهمية شعره، سنوات بعد أن عرفته كناقد. أتذكر، الآن، واحداً من أوائل لقاءاتنا جرى في مقهى الإكسبرس في شارع الحمرا ببيروت. كان عباس قد أهداني نسخة من كتابه الشعري الأول "الوقت بجرعات كبيرة" فرحت أقلبه أمامه وأقرأ بعض قصائده. سألني عباس عن رأيي بشعره فقلت له، بسرعة وتهوّر، إنني أفضل الناقد فيك على الشاعر!
رميت، هكذا، هذه الفجاجة المتهورة في وجهه. لكنه غمغم قائلاً ما معناه أنه من حقي أن أحب أو لا أحب شعره.
غير أن صورة عباس بيضون الشاعر لن تظهر لي إلاّ عندما سيصدر قصيدته الطويلة "صور" في النصف الثاني من الثمانينات. وإذا استثنينا "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" لأنسي الحاج، العمل الشعري الإنشادي الفارد جناحين كبيرين على أرض الشعر الجديد يومذاك، فإن "صور" هي أول قصيدة نثر عربية، ذات أفق ملحمي لشاعر من شعراء الموجة الثانية، (باعتبار الحاج، الماغوط هما رائدا الموجة الأولى). وللذين لم يعرفوا عباس بيضون الشاعر من قبل ستكون هذه القصيدة عملاً تدشينياً لشاعر يولد كبيراً. كأن لا طفولة لهذا الشاعر. فلا "الوقت بجرعات كبيرة" الذي عدت لاحقاً لقراءته لأرى كيف جرؤت على اعتبار عباس ناقداً أكثر من كونه شاعراً ولا "صور" (الموقعة بتاريخ 1974!) يقدمان له وجهاً من بداية أو صورة من طفولة كتابته الشعرية.
فالكتابة، هنا، تولد كبيرة وناضجة. ما قبلها مجهول لمن تكون دليله الأعمال الصادرة فقط لا المعرفة الشخصية بالشاعر.
يمكن للمرء أن يقف على الطفولات الكتابية لكثير من الشعراء، ومتابعة تدرجهم وخطوطهم البيانية، لكن لا يمكن، كما أزعم، الوقوف على طفولة عباس الكتابية.
على كل حال، هذا موضوع آخر، له إغواؤه الخاص خطر لي عرضاً ولن أتوقف عنده أكثر من ذلك، وسأعود إلى شعره.
فبعد صدور "صور"، التي أظن أنها وضعت عباس بيضون في صدارة المشهد الشعري العربي (وهي قصيدة تذكّر بالأنفاس الرعوية والملحمية لسان جون بيرس) جاء كتابه الشعري الثالث "نقد الألم" الذي سيؤسس لخصائص أسلوبية سترافق كتابة عباس وقتاً طويلاً. من ذلك الجمل القصيرة التي تكرّ لتصنع إيقاعاً سريعاً متلاحقاً. الجمل القصيرة كأنها حكم أو خلاصات. كأن كل جملة صورة أو استعارة واحدة أو حياة قائمة بذاتها. ومن ذلك أيضاً عدم تلكؤ الكتابة عند مقدمة أو عتبة ودخولها مباشرة على موضوعها. إنها أشبه بالأغنية التي لا مقدمة موسيقية لها. أنت من أول كلمة في قلب الكتابة لا في ضواحيها أو على أطرافها أو بالقرب من دندناتها. ويخطر لي أن أصف ذلك، رغم خطورة هذا الوصف وسمعته السيئة، بـ "المباشرة " ولكنها المباشرة المدرعة بالمجاز، بالصور التي تنثال عن مخيلة ولاّدة.
والمدهش أن هذا الكتاب، الذي يعكس فيه عباس بيضون جانباً من تجربته القصيرة في الأسر الإسرائيلي، جاء في الوقت الذي كانت فيه شتيمّة القصيدة الوطنية، أو السياسية على أشدها. وليس توقفي عند بعض ملامح هذا العمل، من بين سائر أعمال عباس الأخرى، لأنني أفضله على غيره ولكن لأنه يتوسط مسيرة الشاعر وله، كما أزعم، طابع تمثيلي.
***
أستطيع، شخصياً، أن أرى صور الدبابات الإسرائيلية، وأبراج المراقبة، والرجال ذوي الرؤوس الخيش، والأضواء الكاشفة، وصليل القيود، وسطول البول، وكسر الخبز، والجنود، في قصائد "نقد الألم" (و"مدافن زجاجية" أيضاً). هنا تتمكن الكتابة الشعرية من طرق موضوع ذي أبعاد سياسية من دون أن تقع في التجريد أو الشعارية التي تقع فيهما عادة أعمال شعرية تتطرق إلى موضوعات كهذه. فليس الأمر، هنا، أمر وطن عام واحتلال ومقاومة وقضية تصنمهم الكتابة في رخام الإيديولوجيا بل أمر تجربة شخصية مصفاة، إلى أقصى حد، مما هو خارجها، مما تمليه عليه استحقاقات اللحظة العصبية نفسها. فلا يبرر العمل وجوده بما هو خارجه، رغم أنه يمتح صوره الصلدة القاسية من هذا الخارج، بل مما كان له أثر على الداخل، وهو يقدم لنا، مع ذلك، صوراً من القسوة الخام والألم ولا يتحرج أن يسمَّي الجندي جندياً والأسير أسيراً، وهما لفظان أصبحا ممنوعين من الدخول على القصيدة العربية الحديثة (قصيدة النثر خاصة) بسبب محمولهما الأيديولوجي المنبوذ.
لنقرأ هذا النص المسمّى "الجدار" وهو أقرب مثالاً إلى ما ذهبت إليه: "أخرجوا 31 أسيراً ووضعوهم عند السور. بقوا بلون الشاي على الجدار والذين مرّوا كانوا يلحظون جدراناً كثيرة تقف مع أسراها. ربما بقي على جدار الملجأ ذلك الرجل الذي نزل قليلاً. بعد ذلك كنا نرى علو رجال على الجدران أو ربما زيتاً. اليوم لوحة عبرية. المعلمة تمسك الجرس على المدخل وتستقبل الصغار الواصلين في أوتوكارات. لم يخرج أحد من السور. لا شيء سوى أن الموتى ذهبوا إلى استراحتهم" .
وبوسع الخطيبة ، في انتقالة أخرى من انتقالات "نقد الألم"، أن تكون خطيبة وأن تكون بلاداً (لكي لا أقول وطناً) وهذا شيء لا علاقة بالرمز المسبق الصنع والتدبير أو ما يسمي بـ "الإسقاط". ولكني أميل، هنا، إلى تأويل يتعدى الخطيبة العادية إلى ما هو أعمّ وأشمل لأنه، ربما، سيغدو أشبه بالعشرات الذين يزعمون في ذات اللحظة أنهم "نسيانها". وبالقدر نفسه يمكن للحسون أن يكون حسوناً في قفص المرأة التي تمرّ من جانب الجندي.
لكن الحبُّ الذي سيزداد وضوحاً في أعمال بيضون الأخيرة، كما سيكون للمرأة حضور أقوى، يطلع من صور القسوة التي تميّز "نقد الألم" ورغم أن مخاطب الخطيبة هو نفسه راصد الخطوات إلاّ أن التي لا نهاية لوقع قدمِها على الممشى هي امرأة أكثر من الخطيبة، وهي امرأة أوضح حتى من المخاطبة في "أحبك" .
***
كتبت أكثر من مرة عن غياب بيروت عن القصيدة اللبنانية، قلت إن العرب هم الذين كتبوا، تقريباً، قصيدة بيروت، لكن هذا ليس صحيحاً تماماً، لأن عباس بيضون كتب أيضاً قصيدة مدينته في عمله "أبواب بيروتية". لكن بيروته هذه ليست نشيداً لمدينة ألهمت العرب ولاحت لهم مثالاً لمدينة الحلم، بل بيروت غير مسماة بالاسم (باستثناء العنوان). إنها مدينة متصدعة، متعبة، لا أشجار فيها، حيث دائماً هناك من "يتخلص" من شيء في خليجها الصغير، وعندما تحظى بـ "أساطيل" حقيقية كانت تغادر قبل أن يتسع الوقت لملاحظتها. مدينة على عكس أسطورتها عندنا، فالأساطير التي نتحدث عنها لم "يثبت منها شيء" هناك. القصيدة، هنا، هي التي تنشئ مدينتها ولا يسمي الشعر ما هو مسمى، إذ لا نعثر على ما نعرف، وعلينا أن لا نتوقع دليلاً أو علامة تجعل سيرنا ينتهي بمقعد في مقهى. هذه بيروت أخرى، معراة تماماً، إنها أشبه بصورة أشعة لمدينة حيث نلحظ العظم والهيكل والأضلاع والسوائل الثقيلة والبقع (اللطخات) التي تكثر في شعر عباس، ولكننا لن نجد "قديسين"، وستتحول الذكريات إلى قمامة مكروهة!
***
هذه انطباعات سريعة عن شاعر أثرَّ بشكل عميق في الشعرية العربية ابتداء من الربع الأخير من القرن العشرين وأسهم في النقلة الكبيرة التي عرفتها الكتابة الشعرية العربية الحديثة. وأشكُّ أن شاعراً من أبناء جيلي لا يدين لعباس بيضون بقسط من تطوره ووعيه الشعريين.
رجوع