ليس عباس بيضون رجل سياسة، بل شاعر ومثقف عميق، متنوع الكفاءات، ولكنه يكتب، الآن، في السياسة أكثر مما يكتب في الشعر والأدب. هذا ما قاله زميلنا الشاعر ناظم السيد في حواره مع عباس بيضون الذي نشرته القدس العربي قبل يومين. كان الحوار مكرسا للشعر لمناسبة صدور مجموعة شعرية جديدة لعباس عن دار الساقي (وهي نقلة تحسب لهذه الدار التي لم تكن تعني تماما بالشعر) لكن السياسة لم تغب عنه. ففي وضع كالذي يشهده لبنان هذه الأيام لا يمكن تجنب السياسة. قال عباس كلاما قليلا في السياسة، وربما اعتبره عارضا أو من (حواضر البيت)، لكنه، في رأيي، مهم جدا.
***
يصعب علي كثيرين من العرب خارج لبنان فهم ومتابعة السياسة اللبنانية، فهي من المحلية والتعدد والتشعب والتبدل، إلى درجة تستعصي علي صياغة رواية واحدة متسقة، متسلسلة، علي ما هي عليه رواية الحياة السياسية في الأمكنة الطبيعية في العالم. فلمعرفة السياسة في بريطانيا، مثلا، لا تحتاج إلا معرفة حزبين أو ثلاثة، وأربع أو خمس شخصيات تتزعمها أو مقربة منها. هذا مستحيل، طبعا، في لبنان. و يزيد من صعوبة (إن لم تكن استحالة) السياسة اللبنانية علي العربي (المولع مع ذلك بلبنان) توافرها علي معجم ومرجعيات محليين وشبه مغلقين، رغم أن اللبنانيين يظنون معجمهم ومراجعهم عالميين أو كونيين، ويعتبرونهما أمرا مفهوما ومسلما به عند العربي مثلما هي عند البرازيلي أو الياباني أو الأمريكي. وهذه (الأنا المحلية، والكونية في آن) خصيصة لبنانية بامتياز.
اضرب أمثلة علي ذلك: لكي يعرف العربي موقف الطرف الماروني من قضية محددة عليه أولا أن يعرف ماذا تعني (بكركي) السائرة في القول والكتابة السياسيين اللبنانيين بوصفها اسم علم لا يحتاج إلى شرح أو تعريف، ولكي يعرف ما الذي توافقت عليه الأطراف المقربة من السوريين عليه أن يعرف ماذا تعني (عين التينة) ناهيك بالطبع عن أهمية أن يعرف ماذا يعني (14 آذار) و(8 آذار)، وقبل ذلك (لقاء قرنة شهوان) و(لقاء البريستول)، إلى ضرورة معرفته ماذا تعني (قريطم) و(المختارة) و(الضاحية الجنوبية) و(المربع الأمني) و(زغرتا) و(المردة) الخ الخ...
من دون تضلع بهذا المعجم الباذخ في تعدده ودلالاته لبلد لا تتجاوز مساحته عشرة آلاف كيلومتر مربع وعدد سكانه الخمسة ملايين يستحيل علي العربي معرفة السياسة اللبنانية وفهمها من دون ارتكاب عشرين أو ثلاثين خطأ في أسماء العلم دع عنك الأخطاء في رد عشرات القوي السياسية والطائفية إلى صف بعينه.
بعد هذه الاستفاضة من شخص، مثلي، عاش في بيروت سني عمره التأسيسية وتزوج من لبنانية وظل علي صلة بما يحدث في لبنان ولكنه يجد نفسه، مع ذلك، حائرا، أو قل ضائعا، في متاهة الأسماء والدلالات، أعود إلى حديث عباس بيضون، وأتوقف عند كلامه عن المثقف الشيعي.
***
ليس لدي تصنيف سياسي وفكري جاهز لعباس بيضون. عرفته عندما كان شيوعيا ثم عندما صار يسخر من الايدولوجيا الحزبية الضيقة، وفي الشعر عرفته مترددا في نشر ديوانه الأول (الوقت بجرعات كبيرة) رغم أن واحدا كان يتأتي في الشعر، مثلي، قد اصدر، يومها، ديوانين، ووجدته فظا وقاسيا في نقد ما سماها (القصيدة الوطنية) ومع ذلك لم يكن ممكنا تصور المشهد الشعري البيروتي (وهو يومها عربي بامتياز) من دون وجود عباس بيضون فيه شاعرا وناقدا طليعيا للشعر، وساخرا، بلا رحمة، من الغنائية الوطنية والفلكلورية التي سادت الساحة بعض الوقت.
هذه المواصفات، السياسية والفكرية والموقف من الشعرية السائدة، قد ينطبق، إلى هذا الحد أو ذاك، علي عدد من المثقفين اللبنانيين، فكان يمكن لك أن تجد في (بيروت الغربية) شعراء وكتابا ومثقفين سياسيين ينتمون إلى القوي السياسية الفلسطينية واللبنانية أو ينقدون، بلا هوادة أحيانا، هذه القوى من دون أن يلصق بواحد منهم (ليبل) الطائفية أو المذهبية. كان في بيروت الغربية ادونيس ومحمود درويش و خليل حاوي ونزار قباني ومعين بسيسو وفؤاد رفقة وشوقي أبو شقرا وعباس بيضون وبول شاوول وعبده وازن وبسام حجار ومحمد علي شمس الدين وحمزة عبود وحسن العبدالله وعصام محفوظ وعلوية صبح وغسان تويني والياس خوري ومروان حمادة وجورج ناصيف وغادة السمان وشوقي بزيع وفواز طرابلسي وحازم صاغية وابراهيم العريس وعشرات غيرهم يصعب حصرهم، في هذا الحيز، وما التعداد، هنا، إلا من قبيل المثال الذي يوضح إلى أي حد كان ذلك المشهد الثقافي والسياسي مكتظا بأسماء العلم المتحدرة من عائلات مسيحية أو شيعية أو سنية أو درزية.
حتى في أسوأ لحظات الحرب الأهلية اللبنانية لم يتجرأ مثقف علي النطق بكلام الطائفة أو الملة، ومن فعلوا ذلك، مثل سعيد عقل، غلفوه بأيديولوجيا فينيقية خرافية أكثر مما غلفوه بالمسيحية التي كادوا أن يتبرأوا منها لأن المسيح ولد علي أرض فلسطينية.
هكذا استغرب كثيرا أن يصف سياسي مثل وليد جنبلاط عباس بيضون (وآخرين يتحدرون من عائلات شيعية المذهب) بـ (المثقف الشيعي). فوليد جنبلاط الذي ورث عن والده الراحل الكبير كمال جنبلاط الحركة الوطنية اللبنانية العلمانية، ذات الأفق السياسي (التقدمي)، لم يكن ليقول في السبعينات والثمانينات كلاما عن الطوائف والمثقفين من نوع الكلام الذي يقوله اليوم.
المقصود، طبعا، من وراء كلام وليد جنبلاط واضح. هو إيجاد أصوات وشخصيات ذات اسم وثقل تتحدر من عائلات شيعية مضادة لحزب الله. انه يريد أن يقول أن الشيعة ليسوا كلهم في صف حزب الله ولا يتوافقون، في الصراع الداخلي، معه. ولكن هذا الكلام خطير ويضرب صفحا عن حق الناس في الاختيار. فهو يرد المرء، شاء أم أبي، إلى عائلته والملة التي ينتمي إليها بوصفهما جلده أو الدم الذي يسري في عروقه. فأن تولد في عائلة شيعية أو سنية أو مسيحية أو درزية أنت، بالضرورة، شيعي وسني ومسيحي ودرزي حتى وان كنت شيوعيا أو قوميا أو ليبراليا أو عدميا!
البحث عن أسماء متحدرة من عائلات شيعية لا تتفق مع حزب الله هو مثل بحث حزب الله عن أسماء مسيحية أو سنية لا تتفق مع جماعة (14 آذار). حرص الطرفين على أن لا يبدو مسعاهما طائفياً لا ينفي منطلقاته الطائفية.
وما دام الصراع في لبنان، علي ما تقول أطرافه الرئيسية، سياسيا وليس طائفيا فمن غير المفهوم أن يصف جنبلاط (أو غيره) مثقفا مثل عباس بيضون بنعت طائفي. قد يكون عباس اقرب إلى جنبلاط و14 آذار مما هو إلى حزب الله باعتبار أن الحيز الليبرالي والبعد اللبناني التقليدي (بمعني مواصلة الصيغة اللبنانية القائمة علي المحاصصة الطائفية) أوضح عند فريق 14 آذار مما هو عند حزب الله الذي ينتمي إلى مشروع سياسي ومذهبي أوسع نطاقا من لبنان.
هذا كلام يقوله حرفيا عباس بيضون في المقابلة.
الموضوع يتعلق، إذن، برؤية سياسية لا دخل للطائفة فيها.
المثقفون اللبنانيون الذين اكتووا بنيران الحروب يبدون، والحال، أكثر تدقيقا في موضوع الانتماء الطائفي وأكثر مقاومة له مما هو عليه الحال في الوضع العراقي حيث انزلق العديد من المثقفين، ذوي المرجعيات التقدمية السابقة، إلى حديث الطائفة والملة، (صحوة) متأخرة أو تغطية لتأييدهم الاحتلال الأمريكي والتنظير لمشروعه الذي أوصل بلادهم إلى الحرب الأهلية أو حافتها الجهنمية.
***
توقعت ردودا وتعليقات علي حوار عباس بيضون أكثر مما حدث.
ولكن لم تعد تفاجئني هذه اللامبالاة أو هذا الخبث في موقف كثير من المثقفين العرب. ومن يتابع تعليقات قراء القدس العربي علي الأخبار والموضوعات المنشورة في الجريدة يجدهم أكثر تفاعلا مع الأحداث والمواقف من معظم المثقفين بصرف النظر عن عمق أو نبرة هذه التعليقات. المثقفون قد يقرأون ولكنهم لشح متأصل في نفوس بعضهم يضنون بتعليق علي ما يقرأون من كتابات زملائهم. أنهم، علي وصف احد الأصدقاء، يبتعلون الكلمة الطيبة عندما يهزهم أو يثيرهم نص مكتوب لغيرهم. تموت كلمتهم الطيبة في حلوقهم الجافة قبل أن تري النور.
فماذا نرتجي من ثقافة (بل قل أي نوع من الثقافة هذه) تموت كلمتها الطيبة أو المتفاعلة أو الناقدة في الحلوق؟
رجوع