بسمة الخطيب
(لبنان)

بسمة الخطيبثمّة من قرأ هذه القصص وقال إنّها تشبه الدانتيل.
فيها هواء كثير. فراغات تعادل اللافراغات. صمت يوازي الكلام.

في الحقيقة، لا، لم يقل أحدٌ هذا. لكن قد يفعل.
مشكلتي أنّي لا أجيد الإنتظار.

بسمة

**

أنا لست منّي إن أتيت ولم أصلْ
أنا لست منّي إن نطقت ولم أقلْ

أنا من تقول له الحروف الغامضات:
أكتب تكن
واقرأ تجد.

محمود درويش
الجدارية

****

1

عتمة أخرى

عادوا جميعاً. لكن... من دونه.
أنتظرهم كلّ يوم، ماعدا السبت والأحد. يعودون في موعدهم. لكنّي لا أراه عائداً معهم.
أكون قد أمضيت فترة قبل الظهر في مراقبة علبة أقراص الدواء، وتذكّر كلمات الطبيب، وسط ضجيجٍ لا أعرف مصدره. لا أفعل شيئاً سوى الذبول. أرتخي في الكنبة المواجهة للشرفة البحرية. لا أشعر بالجوع ولا بالبرد. لا آبه للعواصف التي تأتي من خلف البحر أو تغادر.
إلى أن يرتفع صياحهم.
أراقبهم من "العين السحرية" المعلّقة وسط باب شقّتي الجوزي. بقايا دموع في عيون ذوي الزيّ الوردي، ونمائم لا تنتهي في أفواه وعيون ذوي الزيّ الرمادي.
بعد أن يختفوا من "العين السحرية" وأسمع الأبواب الجوزيّة تُغلق خلفهم، أتوعّدهم من دون أن يسمعوا :"لعناء! أكرههم!".

أدخل إلى غرفتي، فأكتشف أنّ الصراخ والبكاء اللذين لا يبارحان أذنيّ ليسا وهماً. هذا صراخه وبكاؤه واستنجاده بي... أهرع إليه كالمجنونة. أدفع باب الشرفة بكلّ قوّتي. ألتقطه. أحضنه. أشمّه وأقبّله مراراً.
كيف تركت طفلي كلّ هذه المدّة مسجوناً في الخارج؟ في برد كانون الثاني وظلمة ليله؟
كيف نسيته؟
هل أنا في كابوس لا أفيق منه؟
تنفجر قنبلة حمراء في دماغي وتدوي وتدوي ...
أحمله إلى الداخل وأنا ألعن حماقتي التي أنستني أن أدخله إلى إلنور.
أبقى أتنقّل به من غرفة إلى أخرى، أهدهده.
أبحث عن "الخشخيشة" كي ترافق غنائي له.

لا أجد سوى علبة الأقراص في يدي. أهزّها فتصدر أصواتاً جميلة. أبتسم للأصوات. أضحك. أقهقه. تروقني موسيقاها فلا أكفّ عن العزف. ثم أتذكّر أنّني سأموت إن لم أبتلعها يومياً. تستقرّ واحدة منها في معدتي وأشعر بها تعوم هناك. فأضع يدي فوق بطني الضامر وأنادي طفلي: "ماذا تحاول أن تقول لي؟ أين أنت الآن، بينما لم أحبل بك بعد؟ هل تريد الذهاب إلى المدرسة؟ هل أنت خائف؟ جائع؟ أتشعر بالبرد؟ لن أسمح لشيء أن يؤذيك!".

أخبر الطبيب بكوابيسي فيقول أنّ عليّ الذهاب إلى طبيب نفسي. "لكن ما الفائدة يا دكتور؟ ما دمت تصرّ على إعطائي أقراص منع الحمل هذه؟".
يجيبني بالمعزوفة نفسها التي سمعتها من عشرات الأطباء: "الحمل خطير على حياتك، لن تعيشي ولن يعيش جنينك".

يتّهمني زوجي بالجنون لأنّي أحدّث الدمى. لو كان يمضي في البيت وقتاً أطول لعرف أنّني لست مجنونة. لعرف أنّك موجود، في عتمة ما، ليست عتمة رحمي كما يؤكّد طبيب العقم، لكنّها عتمة أخرى سأكتشفها قريباً. عندئذ لن ينظر أحدٌ من سكّان البناية إليّ بريبة، ولا سائق سيّارة زوجي، الذي كلّما أقلّني لازم الخوف عينيه.
يقلّني إلى العيادات ثم متاجر الألعاب. كلّ يومٍ أشتري لك دمية، دبّاً من الصوف، أسداً ضاحكاً، أرجوحة، بيجامات قطنيّة مزيّنة بالزهور والأقمار... أرتّبها بدقّة، أوزّعها في زوايا الغرفة، أطلب منها أن تنتظرك معي. نتحدّث طويلاً عنك. جميع أحاديثنا عنك وحدك.

غرفتك ورديّة. ستعجبك. أريد أن يكون كلّ شيء ورديّاً زاهياً. لكنّ أحمر الحيض يُغرقني. يحرقني. يجعلني أشهق من أعماق أحشائي.

في الليل، أصحو من كوابيسي كي أعاين غرفتك وسريرك، فأجدهما في انتظار ووحشة.
أفتح أبواب الغرف. أبواب الشرفات. أفتح الخزانات. أتوقّع في كلّ مرّة أن أجدك في عتمتها.

أفتح العلبة وأرمي الأقراص. أشدّ "السيفون" خلفها.
هل تأكّد لك الآن أنّي أريدك؟ هل سامحتني على جميع الأقراص التي ابتلعتُها كي أكتم أنفاسك؟
نم الآن، لقد تعبت. في الغد سأوقظك باكراً، كي تذهب مع أبناء الجيران إلى المدرسة. ها هو مريولك الورديّ جاهز، وحقيبتك ستمتلئ بالطعام اللذيذ، بكل ما تشتهيه... انتبه من زملائك في الحضانة. لا تدعهم يأكلون طعامك. تأكّد أنّي سأقتلهم إن أذوك.

لكنّهم لعناء يعودون من دونك. أفتح الباب الجوزي وأنطلق للبحث عنك. إنّهم أطفال غير حذرين، لا بدّ أنّهم نسوك في غرفة الألعاب أو صفّ الحضانة أو شرفة ما...
ستهبط العتمة قريباً!
لا بدّ أن أجدك بسرعة.
بسرعة.
بعد أن أجدك سأعود إليهم. لا بدّ أن يدفعوا ثمن العذاب الذي يمزّقني!

2

سرير من الحور

الرابعة والثلث. أهرب من كرسيي الجلدي. أقف عند النافذة. أمشي بين غرف الشركة. لا أطيق الجلوس ولا أستريح في أي مقعد.

الخامسة إلا ربعاً. المقاعد والكراسي كأن بها لعنة! كلّما لمستها رفضتني.
أعدّ الدقائق التي تفصلني عن الساعة السادسة، نهاية الدوام. إنّني لا أستريح أيضاً في البيت وكراسيه وأسرّته، إلا أنّ لحظة الذهاب تعني لي نصف ساعة من المشي على الأرصفة.

السادسةً. أرسل نظرتي الأخيرة إلى الكرسي الجلدي متمنّية أن أتخلّص منه إلى الأبد. أغادر منهكةً، مرتبكة المشاعر، سعيدة من دون سبب، تعِسة من أجل جميع الأسباب.

أمرّ تحت الأعمدة المضيئة، وأكاد أمدّ يدي إلى الهواء لألمس أوراق أشجار الحور. لكنّها لم تعد هنا، وقد راقبت اقتلاعها بصمت الشياطين الخُرْس الذين تلبّسوني.
أتذكّر إصبع ابنة عمّتي المرعبة التي مدّتها إليّ، ذات يوم. كنّا مراهقتين، هدّدتني قائلة: "إيّاك أن تكرّري هذا، ففي كل مرة تلتقي يدُ رجل يدَ امرأة ليست حلاله يهتزّ عرش الله".
لم أعد منذ ذلك اليوم أحكي لها على لقاءاتي مع ذاك الذي لم أكن حلاله، والتي كانت تقتصر على ملامسة طويلة لكفّينا في ظلّ جذع شجرة، حفرنا عليه الحرفين الأوّلين من اسمينا.
لحظة سقوط شجرات الشارع تذكّرت قولها ذاك وإصبعها، وأحسست أن عرش الكون يهتزّ فقط لسقوط شجرة.

أخطو نحو رصيف آخر، من دون أن يفارقني شعور غريب بأنّي تركت الأشجار خلفي، وأنّي إن التفتّ فستختفي كشبح يمازحني.
لذلك لا ألتفت. أتابع السير نحو المنزل.
أفكّر... في أرواح الأشجار التي لا شكّ في أنّها تحوم حول المكان الذي نبتت فيه...
أتصوّر أنني كنت شجرة في زمن ما، وأتى اليوم الذي انتهيت فيه... كم كان ذلك قاسياً!
كيف بدأ ذلك اليوم؟؟ نعم ، نعم أذكر...

على رصيف الشارع المعبّد تمدّدتُ داخل قشرتي السميكة.
تنسّمتُ هواء مساء بيروت النديّ.
بسطتُ أغصاني الخضراء لألتقط بأطراف حواسّي ذرّات الشجن التي فاحت في الشارع، خارجة من نوافذ الشقق المجاورة.
خفضت بصري لأرى جذعي، هل هو بنّي أم أخضر أم غير ذلك؟
كم دائرة داخله؟ كم دودة تسعى فيه؟ وكم حشرة تلوذ به؟
ولكن تبّاً لهذا المصير، منذ أزمنة وأنا أحاول أن أتحرّك من مكاني، أن أبحث عن أرض جديدة. وحدها الفصول التي تتعاقب تعزّيني. تعلمني أن الأرض تدور بي.
بعد قليل، ارتخت أغصاني وأنا أشعر بذبول الوحدة. كانت أقرب الأشجار تبتعد منّي عشرة أمتار.
راحت بشرتي تجفّ، وأوراقي تفقد رطوبتها. عرفت أنّي سأفقد أوراقي قريباً من دون أن يأبه أحد لعريي، وأنّ طفلةً ستهرس أوراقي الأرجوانيّة اليابسة، مستمتعةً بخشخشتها في ذهابها إلى المدرسة، وقد تختبئ بي من صديقها، الذي قد يبول عند قدمي...
كما أن الربيع سيلحق بالخريف، وستنبت أوراقي من جديد، وستسكنني العصافير. أما الطفلة فستعود وقد صارت شابةً، لتحفر اسمها واسم صديقها على جذعي...
لكنّ ألماً مفاجئاً أيقظني من حلمي.
كانت أجراس الكنيسة تدقّ دقّة الساعة السادسة.
سمعت صوت الموت الذي واجه جدّاتي يوماً. تمنّيت حينئذ لو أستطيع الفرار، لو أن للشجرة قدمي امرأة أو جناحي سنونوة. طوّق الألم جذعي وراح يحوّله إلى نثار مجنون. لم يهدأ جنونه إلا بعدما قسمني قسمين.

السادسة والنصف. بناية الطوابق العشرة. لا كهرباء. لا مصعد.
درجات الطوابق السبعة المظلمة تشبه الطريق الصاعدة إلى الجحيم!
قبل أن تفتح أمّي الباب يلحّ عليّ سؤال، فأجمع قواي الذهنية لإيجاد الإجابة عنه، وأهزّ ركبتيّ أستعجلها. تفتح أمّي وتبتسم: "لا أفهم لماذا لا تدخلين إلى حمّام الشركة؟ ستنفجر مبولتك يوماً".
أدخل إلى المطبخ، أبحث عن أيّ طعام. يبقى السؤال جائعاً. أقول لأمّي: "ليست مبولتي هي التي ستنفجر، بل حقيبة الأسئلة المفخّخة في دماغي".
السؤال طويل، لا تكاد الحقيبة تتّسع له: "أنا التي شهدت نهاية الشجرة، ماذا سيفعل من سيشهد نهايتي؟ كيف سأشعر بينما أنتهي على رصيف بارد، وتنفصل روحي عن جسدي إلى الأبد؟".

السابعة. وحده التعب هو الذي ينسيني أنّ السرير الذي ينتظرني سيعلك عظامي.
أتململ وأغيّر وضعية استلقائي. أفكّر في النوم على الأرض.
تدخل أمي فجأة وبيدها كرسي خشبي.
تقول إنّها لا تجد له مكاناً في غرفة الجلوس، بعدما دخل بيتنا جهاز الكمبيوتر المقسّط، وأنّني قد أحتاج إلى الكرسي المخلوع هنا.
تخرج وتتركنا في الظلام.
شيء داخلي صوّر لي أنّ رائحته أليفة، وأنّها أثارت يوماً شياطيني.
هذا الخشب الجالس قبالتي حمل، من دون شكّ، سرّ عاشقين صغيرين يوماً ما، وتعلّقت به أذرع المتأرجحين، وقطّر الندى للإنسان، وقبِل منه روث الحيوانات الكريه... لكنه لم يعرف إلا الآن أنّ مصير شجرة، هو أسوأ ما قد يحصل لكائن ما.
قمت أمسّد جسده بباطن كفّي، وأسأله عن حكايته.
بين خطوطه المتماوجة كان صوت مختنق، مسجون منذ زمن، يريد أن يصيح، لأنه عجز عن الصياح يوم قطّعوه إرباً إرباً.
لم أملك أن أخفّف حزنه إلا بأن أمدّد جسدي عليه متوسّدة ساعدي، وأشاطره أحلامه المسلوبة كأحلامي، وأبوح إليه برغبتي في دوران متواصل وفرارٍ لا نهاية له.

3

الشرخ

كلّما وصلت إلى الشارع المؤدّي إلى بيتنا، خفق قلبي بسرعة مجنونة. أحياناً، وأنا أتقدّم نحوه، أراه يميل شرقاً، أو ينحني بضعة سنتيمترات إلى الأمام. فأفكّر في الهرولة إليه، باسطة يديّ لالتقاطه.

*

كادت أنفاسنا تخنقنا. الستائر القاتمة كانت تزيد الغرفة ضيقاً. سرير صغير، خزانة خشبية، جهاز كمبيوتر مغطّى بطبقة رقيقة من الغبار.
شممت رائحة الرطوبة واستعدّ وبر جسدي للمطر. ثم حملني السرير إلى عالم من دون جدران. في تلك اللحظة النادرة، عرفت كم أريد الحياة. كم أعشق قساوتها.
سألته عن حبيباته السابقات، شقراوات أوروبا الشرقية. سأل متعجّباً: "كيف تسألين هذه الأسئلة؟ والآن بالذات!".
صمتُّ وانكفأت إلى نفسي أكثر، ثم سمعت صوت بكائي، يتدافع من دون حذر. ذُعر وسألني:" هل أؤلمكِ؟". قلتُ :"لا. بل دموع الفرح".
كنت أكذب، واعتقدت أني نجوت بكذبتي.

*

أحصي درجات بيتنا وأنا أرتقيها. حين أجتاز باب المدخل، أبحث عن شرخ الحائط الغربي وعن الفجوة المرمّمة في أعلاه.
يمرّ تامر، ابن أختي، بدرّاجته الثلاثية العجلات من أمامي، فيرجعني صخبه من تخيّلاتي، وأنتبه لأمّي تناديني منذ دخلت. أتبع صوتها مهتزّة الخطى، وصورة انفجار قويّ تلمع تحت جفنيّ.
في مكاني المفضّل، على الكنبة الواطئة، أجلس أراقب ما استجدّ على الحائط الغربي من شقوق. تتراءى لي طرقات وروافد أنهار وأجساد عارية بأطراف طويلة وتجاعيد جباه وأيادٍ...
أسفل الفجوة، عن اليسار، يوجد التلفاز. هنا، حيث أجلسُ، كان جدّي يتابع برامجه الطريفة، "أبو سليم الطبل"، "أبو ملحم"، "بربر آغا". وهنا ابتسم للمرّة الأخيرة.

*

من بين الطيّات البيضاء فاحت ابتسامته الهادئة، فشعرت أنّ هذه اللحظة تساوي حياتي، وأردت أن ألتقطها، كي أقول إنّي لمستُ السعادة يوماً.
" سأقتلك إذا تركتني"، قال لي وهو يتمدّد على ظهره فوق الغيوم. فقلت: "اذاً سأنتظر الموت الليلة".
لم يهتمّ بكلامي. كلّ مرة، أخرج من شقّته، تاركة خلفي عهداً بعدم المجيء ثانية، وبعد أيّام قليلة أو كثيرة، أعود. أجد على طاولته شيئاً اشتراه لي، محفظة بدلاً من محفظتي التي ضاعت، ساعة بدلاً من ساعتي المعطّلة دوماً، شالاً قلت يوماً أنني أنوي شراءه، كي أغطّي به رأسي وأنا متسلّلة إلى شقّته.
تخفّيت بالشال وخرجت، مردّدة أنها المرة الأخيرة. لكن! في السوق وفي الجامعة، شعرت بأنّني لو كنت أملك المال، لما اشتريت ساعة جديدة ولا محفظة.
هربت من نفسي ومن الوعد الذي أمقته.
في المصعد، أدرت ظهري للمرآة. ركضت نحو باب الشقّة وأغلقته بسرعة، كي لا يدخل ظلّي خلفي.
نثرت الصور ورحت أذكّره بها وبنا. ما كنّا عليه، ما قلناه، ما فعلناه في خلال التقاط الصور. حشر الصور في حقيبة يدي ورماها نحو باب المدخل قائلاً: "لا تعودي إلا من دونها".

*

لم يعد أحد في البيت يبتسم للتلفاز. بعد أن ينهكه اللعب، ينام تامر على البلاط البارد، فتحمله جيهان إلى غرفتنا، وينامان لتوّهما. سرعان ما ألحق بهما، ليس لأنّني متعبة أو ناعسة، بل لأنّني أخاف أن أطيل البقاء وحدي في غرفة الجلوس.
في سريري، تحت النافذة وقرب سرير أختي وابنها، لا يعود الشرخ يقلقني. أفتح الكتاب وأقرأ جملة لا تعني شيئاً، كتبها أديب معروف، قد يكون رام بها معنى كبيراً.
أرفع نظري إلى السماء محاولةً تحديد مكان القمر. هو الآن في زاوية ما من السماء. أبقي النافذة مفتوحة في انتظاره.
كانت جيهان تسخر منّي عندما أقول لها إنّ للقمر رائحة، وإنّي أشمّها حين أراه. في هذه الساعة من الليل، تبدأ نِسام تلك الرائحة تطرق نافذتي.
هل أوقظها لتعرف أنّني لست واهمة؟ هل أوقظها لأخبرها أنّني أشمّ روائح طفولتي، روائح ثيابي ولُعبي وأغطيتي وكتبي، وسندويتشات المدرسة، والممحاة التي لها شكل إجاصة ورائحة وردة. ورائحة مالك، الطفل الذي كان حبيبي.
الكتاب مملّ. أبقيه في يدي وأنتظر.
يكاد يزلق من بين أصابعي لشدة نعومتها.

*

عدت من دون الصور. عدت من دون نفسي. لم أدخل كلّي إلى الشقّة الصغيرة. كانت تزداد صغراً يوماً بعد يوم، كانت تضيق بذاكرتنا.
قدّم إليّ عصير المانغو الصناعي، وأطلعني على النسخة ما قبل الأخيرة لمشروعه الهندسي الذي يعوّل أن يكسبه الوظيفة. ثم طوى الأوراق وتنهّد وكأنّه يستعدّ للإعتراف. فهمت أنّه يشعر باستيائي، وعرفت ما سيقول.
"كلّ شيء في هذه الدنيا يعيش لمرة واحدة، الماضي كان واحداً وانتهى، لن نكرّره لن نعيده... كلما واعدتك عرفت أننا سنلتقي لمرة واحدة، قد لا تكون الأخيرة، لكن لن يكون مثلها. تذكرين زهور حديقتنا؟ كانت تتفتّح مرة واحدة، عندما تذبل لا تعود من جديد، بل تأتي زهور أخرى".

*

يقلقني جذع النخلة الذي بدأ يملأ فضاء النافذة.
في الشتاء لم أكن أبالي. أما الآن، وقد بدأت السماء تصفو، فإنّ خطراً حقيقياً يهدّد حياتي.
الغريب أنّ النخلة لم تثمر منذ زرعها جدّي.
تنتظرها أمي كلّ موسم من دون جدوى.
أنا أعرف أن لا شيء يأتي إلا بعد أن ننساه. هذا ما حدث يوم عاد مالك. عاد عندما لم يعد اسمه يذكر في البيت والحيّ والمدينة، ولم يقترب من كل من نسوه، أو حذفوه من حياتهم.
خيالي الشارلوك هولمزي صوّر لي أنّ جدّي لم يزرع النخلة كي نأكل منها، بل كي تحجب نافذة مالك عن نافذتي. لكن، ليت جدي يعلم أنّ بيت مالك صار ذكرى تحت التراب، وأنّني أقابله في غرفة لا تدخلها الشمس ولا القمر.
وافيت مالك بأخبار الحيّ، كم تغيّر، من مات ومن هاجر، من جنّ ومن اختفى ومن اغتنى... وأخبرته كم كبرت النخلة. لكنّه بقي غير مبالٍ، يسمعني ويداه تلهوان بأي شيء، قلم، زجاجة ماء، علبة مارتديلا... لن ينسى أبداً أن القذيفة التي اخترقت جدار بيتنا، أُطلقت من مرأب بيته، وبأمر من أحد أقرب الناس إليه. لن ينسى لأنه يعلم أن أحداً منّا لن ينسى.

*

اليوم، سألني للمرّة الأولى: "أراكِ غداً ؟".
لأنّنا لم نحدّد يوماً موعداً، فقد أحسست أنّ من الأفضل لي ألا آتي!
قلت له: "سأحصي النجوم الليلة، كما كنّا نفعل صغاراً، فإذا كانت مفردة لن آتي". اقترب مني وأمسك أصابعي: "ما زالت أصابعك طريّة! ألا تخشين أن تنبت فيها الثآليل إن أحصيت النجوم؟ ".
كنت أمسك مقبض الباب حين قال: "لا تنتظري القمر بعد اليوم. مرّت أعوام. أشياء كثيرة تغيّرت"...
عندما صارت قدمي في الخارج أضاف بصوت حزين:" ولا تكذبي على حبيبك، سيّما وهو قرب وريدك".

*

ظهر القرص الفضيّ في زاوية النافذة. ارتخيت في سريري، وقع الكتاب من يدي، ثم ساد الظلام ثواني، دقيقةً، دقائقَ ، ساعات.
هوى مالك بفأس كبيرة على جذع النخلة، وكنت أبتسم له. لكنّ النخلة مالت نحو البيت، رأيتها تدكّه أرضاً، فأطلقت صيحة لم تخرج من حلقي. حاولت مجدّداً، وكنت أتألم. رأيت البيت ركاماً، فخرجت صرختي أخيراً، وانتفضت من السرير.
توجّهت نحو غرفة الجلوس. مرّرت كفّي على شقوق الجدار مراراً. مراراً.
لم يعد الكتاب يزلق من بين أصابعي.
صارت أصابعي خشنة.

4

تسلّل

منذ تخطّت الطفولة. منذ صارت استدارتها لافتة للنظر. شدّدوا الحراسة عليها. لا تتحرّك إلا بمرافقتهم. لا تلمس عشب الأرض إلا إذا لمسته أقدامهم.
يهربون بها من الآخرين. من الغرباء. من العيون المحدّقة، والهامات المتقدّمة نحوهم ونحوها.
أنا لم أعذرهم. لم أرِحْهم. قرّرت تحدّيهم وانتزاعها منهم.
تعمّدت التحديق إليها بعينين وقحتين. تعمّدت التقدّم والاقتحام.
طالما أغراني لمعانها. عذريّتها. خفرها. صمتها الحيادي.

لم أسترح أو أرتدّ عمّا في بالي.
في ساحة الرقص كوّنوا حلقة حولها. سرعان ما تحوّل إلى سور.
لم أخف من اقتحامه. لكنّي فكّرت قليلاً.
لن أستطيع اقتحامه. سأحاول ضعضعته. تفريق السواعد المتكاتفة.

اهتزازها المخفيّ عن بصري زادني عزماً وشوقاً.
ارتفعت الموسيقى وفقدت الأجساد سيطرتها على نفسها.
فقدت صوابها.
فقد السور تماسكه رويداً رويداً.
خلّفوها وحيدة لثانية، كانت كافية كي أتقدّم وأجذبها إليّ وأسيطر عليها.
انفردت بها.
صارت لي.
تقدّمت بها إلى الشِباك التي تنتظرها. الشباك التي طالما حلمتُ أن أوقعها فيها.
أزهرت الأحلام دفعةً واحدة في خيالي.
سأصبح نجماً إن نلت منها. سيصفّق كثيرون وينطّون فرحاً. سأكون البطل. هذه فرصتي.

كدت أفعلها.
استجمعت قوّتي ولياقتي البدنية التي أدّخرها لهذه اللحظة.
هتف كثيرون لي مشجّعين، وطلب آخرون استعارتها لبعض الوقت.
لكن! لا وقت.
صوّبت قدمي وقبل أن أصيح منتصراً باغتتني صفّارة.
ارتفعت الراية ذات المربّعات الملوّنة.
صاح حكم الراية: "تسلّل".

ارتميت على الأرض واقتلعت عشب الملعب حسرةً.

5

كرزٌ في غير أوانه

أمس الأول، بحت له بحبي. كانت قبلتنا الأولى. أردت بعدها الانصراف لألملم هفوتي. لكنّه هدّدني. قال إنّني لا أستطيع أن أرحل.
أبعد قبّة قميصي الأبيض ليزرع توتة بنفسجية على جيدي، فأزهر كلّ جلدي. صرت شجرة ورد برّية: بنفسجاً وتوتاً وياسميناً ... بعدما اكتملت الباقة أفرج عنّي، كي يشتاق إليّ، فيحبّني أكثر.
في الشارع تساقط مطرٌ ربيعيٌ قصفَ، برغم رقّته، البراعم التي حلمتْ أن تصير كرزاً يندى حلاوةً.
كم كان قاسٍ ذلك الربيع الذي جمعنا! عندما أهديتُ إليه شفتين فجّتين ليقطفهما! كان شركاً لكلينا.
أمس الأول.
الربيع.
انحنت براعم الحبّ فسحقتها قطرة ضلّت غيمتها.

*

غداً، ستتراكم الثلوج، ليبتهج الطفل ذو العينين السوداوين، ويصفّق بيديه البضّتين، كما يخفق جناحا طائر.
سيركض أمامي، ذلك الذي يزورني في الأحلام، كي يرضع حليبي الساخن، أو يسمع أغنية وحكاية. سيركض مندفعاً نحو هضبة بيضاء. يأخذ حفنة ثلج ويرميني بها ضاحكاً... حينئذ ستكون اللحظة المناسبة كي أبوح إليه بالسرّ، الذي ينبت كشجرة صبّار بين رئتيّ، آلمتهما كلما تنفّست. سأطلب منه أن يسامحني لأنّني مشيت نحو غرفة الإجهاض، ودخلت إليها، وتمدّدت على السرير الجلدي المعقّم.
غداً.
الشتاء.
بهجة الثلج قد تمتصّ رهبة الاعتراف والغفران.

*

أمس، لاحت في أفق ذلك الصيف القصير جداً كصيفٍ بريطاني، اللحظة الخريفية التي سيكون علينا فيها أن نفترق. بينما كنت أدفع حرارتي من مسامّي إلى مسامّه، قلت له إنّنا سنرزق طفلاً بعد سبعة أشهر.
لم يزجرني ولم يهدّدني. قال صمته إنّ عليّ أن أرى طبيباً. أعاد ما قاله مرّات ومرّات: ( إننّا من عالمين مختلفين، من قطبين نقيضين، وأنّ الأقطاب لا تلتقي، وأنّ العشّاق الحقيقيين لا ينجبون من معشوقاتهم، كي يبقى الحبّ وهماً لا يمسّه أحد ولا شيء).
تركني أمضي وحدي إلى الغرفة. وانتظرَ أن أخرج وحدي.
كم كانت الطريق إلى تلك الغرفة طويلة!! تخيّلت طريقاً مرصوفة بالأشجار المثمرة، تغمرها شمس نادرة، تخترق جسدي وتدفئ ماءه. طريقاً طويلة ينتظرني في آخرها شخص واحد. إما الأب أو ابنه. فمن أريد؟
عندما شهر الطبيب الآلة التي سيفقأ بها "الكيس" الصغير حيث يعوم جنيني، عرفت من أريد.
أمس.
الصيف.
النِّسام الدافئة داعبت الثمار الناضجة ووعدتها بزغاريد الحصاد.

*

اليوم، الخريف، يرحل. تعود الأشواك لبثّ سمومها في دمي. تحاول تمزيق لبّ الكرز.
يرحل. يأخذ مسامّه معه. لكن، ينسى رائحته في شعري، وذرّةً صغيرةً أسفل شجرة الصبّار. ينسى يوم قلتُ إني أريد طفلاً منه كي لا يُهدر هذا الحبّ سدى.
كان عليّ أن أبرّر ما فعلتُه بالأمس. لكنّي خرستُ. ربطَتْ لساني لحظةُ انتفاضي من السرير الجلدي، وصراخي في وجه الطبيب بكلمة واحدة وأخيرة :"لا".
"لا" قوية جداً، أوقعتْ الآلة الحادّة من يده.
اليوم، ينمو داخلي من سيقلع أشواك حياتي. أقول له:" هناك دائماً شيء يخرق الثوابت... فلا تصدّق ما يقال عن تعاقب الفصول، ونديّة الأقطاب، والثمار التي لا تخطئ مواسمها..."
اليوم.
الخريف.
من بين أشواك الصبّار أجني الكرز.

6

بقايا عطرٍ صيفي

يترك السرير ويقترب من المساحة القليلة التي تنام فيها. تمتدّ كفّ يده الكبيرة إلى وسادتها وتتبعها الكفّ الأخرى.
يستولي على وسادتها.
قامته الطويلة تحجب عنها النسيم الداخل من النافذة.

"تمرّ لحظات ليليّة، تذكّرني بماضٍ كانت تهدهدني فيه النِسام الدافئة، التي تلهو بأغصان الأشجار الكثيرة المحيطة ببيتنا، ومن بينها شجرة "عطر الليل". تلك الشجرة الساحرة كانت تزفر العطر إذا داعبها الهواء الصيفيّ اللطيف".

تهزّه بيدها كي يبتعد قليلاً، ولكنّه لا يفيق. تهمس له: "ستوقعني، ابتعد قليلاً".
يتململ ويلتصق أكثر ببيجامتها.

كشجرة العطر التي تنتظر الليل كي تطلق مشاعرها وأحلامها، كنت أكتب يوميّاتي وأطلق أحلامي على دفتر بلون زرقة السماء. ألبس أقراطي المصنوعة من الخرز، التي هرّبتها صديقتي لي. أعقد المنديل البرّاق حول ردفيّ وأرقص على وقع موسيقى اختزنتها منذ ولدت.
في الليل ينساني الجميع ويتركونني أمتلك نفسي. أو على الأصحّ كانوا يفعلون".

يمدّ ذراعه ليقبض على خصرها. فتفيق من حلمٍ صيفي بدأ لتوّه. يشتدّ الحرّ. ترفع نظراتها متوسّلة إلى النافذة أن تقذف نسمة باردة. تتجمّع حبيبات عرق صغيرة فوق مسامّها، يعجز قطن البيجاما عن امتصاصها فتروح تسيل بين ثنايا جسدها. يفقد الجسد المتعرّق قدرته على التحمّل. بهدوء وبطء حذرين تزيح يد زوجها عنها، وتنهض من السرير. تحبس أنفاسها كي لا تشعره برحيلها.
قبل أن تخطو قدماها الصغيرتان خارج غرفة النوم، يجمّدها صوته في مكانها: "إلى أين؟".

"عشيّة سفر أختي وزوجها كانت الليلة الوحيدة التي أمضيتها خارج المنزل. في تلك الليلة تسلّلت أيادٍ غريبة إلى دفتري الأزرق. عندما عدت عصر اليوم التالي، كان عليّ أن أقف عارية، إلا من دموعي، أمام المحكمة التي نصبت لي. أحلامي السخيفة أرّقت أهلي، والقلب المراهق أرعبهم، وأطلق العنان لاستباحة جميع خصوصياتي. منذ تلك الليلة لم أعد أكتب. لم أعد أرقص. صرت أغنّي فقط، في سرّي ".

ترتعد وتجيب متلعثمةً: "عطشانة".
تكون فعلاً عطشى. تشرب كوبي ماء. تجلس على كرسي مسندة مرفقيها إلى طاولة المطبخ الباردة بسبب ضباب الفجر. نافذة المطبخ، كباقي نوافذ البيت الأرضي وأبوابه، لا تخبر الحكايات ولا تذرّ النجوم والأشجار.
عندما أتت هذا المنزل لم تنتبه إلى هذه التفاصيل. كانت مأخوذة بفكرة التخلّص من الحصار المفروض عليها بتهمة اكتشاف بوادر تفلّت وقلّة حشمة في شخصيتها. البوادر التي أوحت إلى العائلة أنّ صغيرتهم "المفعوصة" قد تجلب عليهم العار برعونة تصرّفاتها.
تغفو دقائق فوق الطاولة الباردة. ثم تعود إلى الفراش بيدين خدرتين.

"عندما يخيّل إليّ أنّني أشمّ عطر الليل، أروح أبحث عن كل ما تاه وسُلب مني، عن دفتر انتهكه أهلي، عن أقراطٍ ملوّنة حطّمها أخي الكبير تحت "بوطه" العسكري المخيف، عن منديل برّاق أستُبدلت به طرحة من الدانتيل أغشت بصري...".

يوقظها برقّته المعهودة.
يقول لها إنّ الفطور جاهز. يحبّ إعداد الفطور بيده، ويتمتّع بتغذية العصفورة الصغيرة التي أحضرها من بيت أهلها إلى بيته كي "تفقص" له البنين.
يسألها إن كانت قد أيقظته في الليلة الفائتة أم كان يحلم؟!
فتخبره أنه كاد يوقعها، كالعادة، وأنّه نام على وسادتها.
يعبس. لا يحبّ هذه الكلمة من فمها "وسادتي"، ويعيد تنبيهها على أن كل ما لها له. ينتعل "بوطه" المخيف ويغادر إلى ورديّته.
بينما هي ترتّب السرير وتبحث عن أثرٍ لعطرٍ مرّ من فوقه أو لامس أغطيته، تتمنّى لو أنّ الليل لا يأتي.

7

الجائزة سيّارة مكيّفة

تجمع الشابّة الأوراق وتدفعها بأصابع مرتبكة في الظرف الأبيض. تمِرُّ لسانها على ضلعي مثلّثه قبل أن تطبقه وترميه في صندوق البريد الأصفر.
تتابع سيرها إلى "السنترال"، خافضة البصر، تعدّ بلاطات الرصيف الرمادية. لم تعد تصلّي وتتمنّى أن تفوز بالمسابقة كما في السابق. لم تَعُدْ تَعِد نفسها بشيء. تمضي من دون آمال إلى "السنترال".

بملامح متأفّفة تستقبل الزبائن الذين لا يستطيعون كبت شوقهم إلى أقربائهم المغتربين، أو كبح استعجالهم لمعرفة أخبار عقود العمل في الخارج. يعجبها أن تقرأ الحيرة على ملامحهم وهم يشاهدون الصور التي ألصقتها على الحائط خلفها، بعدما اقتطعتها من الصحف، والتي لا يمكن أن تعني لهم شيئاً.
تسجّل الأرقام وتنقرها على الجهاز أمامها، وتمدّ السمّاعة إلى الزبون قائلة: "معك الكويت. أو معك كندا...".
في تلك الغرفة الضيّقة كان يمكنها أن تذهب إلى جميع بلدان العالم عبر بضعة أسلاك وأجهزة. أثارها الأمر في بداية عملها، لكنّ تواجدها في تلك الغرفة على مدى سنوات لم يعد يثير فيها إلا النقمة.
شيء واحد قد يحمّسها للمجيء إلى العمل. أن تمتلك سيّارة ترحمها من مذلّة المواصلات.

لا شكّ في أن قسيمتها الأخيرة قد وصلت الآن، وقد يكون السحب جارياً، والأنظار متعلقة بيد المقترع الأنيق، الذي سيختار من بين آلاف القسائم قسيمة واحدة.
تقرأ إعلاناً لمسابقة في إحدى الصحف التي تشتريها بشكل متقطّع.
تنظر مليّاً إلى الجائزة: سيّارة موديل السنة، فضّية اللون...وأهمُّ من كلّ هذا أنّها مكيّفة. لا تختلف عن السيّارات الأخرى التي تقدّمها من مؤسسات مختلفة إلا باللون. السيّارة التي قدّمتها شركة الأجبان كانت حمراء، والتي قدّمتها شركة المشروبات الغازية كانت سوداء... فرق ألوان!
عليها الآن أن تشتري الصحيفة يومياً، وتقطع "كوبون" المسابقة كي تشارك في السحب، وتربح الجائزة.
ترفع صوت التلفزيون كي تسمع اسم الفائز بإحدى المسابقات. في خلال دقائق سيعلن الاسم. كلّما تناقصت الدقائق زادت رجفة أصابعها. لا تعود قادرة على نقر أرقام الهاتف.
خلال ثواني التوتّر هذه يمرّ حلم عاملة السنترال بسرعة خاطفة أمامها، ترى نفسها تأتي إلى هذه المدينة الملتهبة إلى درجة مؤلمة، بكرامتها الجسديّة والنفسيّة، بمسامّ نظيفة وشعرٍ مرتّب، من دون مناديل الورق التي تبلى بين أصابعها، وهي تحاول التقاط العرق على جبينها وذقنها وفوق شفتها العليا.
تعلن المذيعة الحسناء الاسم الثلاثي للفائز. تهدأ رجفة الأصابع. تخبو الآمال.

عصراً، تغادر العاصمة إلى بلدتها. تكون شمس تموز قد أشبعت الأرصفة وحديد السيّارات بنارها.
تجلس في مقعد التاكسي الخلفيّ الساخن، وتبدأ بإخراج المناديل الورقيّة.
"لماذا على العاصمة أن تكون جحيماً؟ لماذا على السيّارات المكيّفة أن تذهب لرابح سواي؟"، تسأل نفسها وهي تحصي السيّارات المقفلة النوافذ التي تعبر الشارع، وتحديداً تلك التي تقودها السيّدات والآنسات المنتعشات النظيفات المسامّ.

في سيّارة الأجرة، كانت رائحة مقرفة تنبعث من أحد الركاب. تخيّلت الشابّة بصلتين تحت إبطيه. أخرجت رأسها من النافذة بحثاً عن هواء نظيف، ولكن عبثاً.
عادت تعيش الذلّ نفسه الذي يهزمها حين تستقلّ سيّارات الأجرة، وتترافق مع "حشّاشين" لا يتوقّفون عن التدخين ولو في أيام الشتاء، عندما يتعذّر فتح النوافذ، أو مع هواة الهرش بين الفخذين الذين يثيرون جنون معدتها.

عند مستديرة "الكولا"، حيث "تتجاحش" الفانات والسيارات والباصات الضخمة، وحيث يهجم نحوها فتيان ورجال مردّدين أسماء مدن ومحافظات: "صيدا، صور، النبطية، شتورا بعلبك، شتورا بعلبك.."، تنجو منهم بأعجوبة، وتتّجه إلى الباص الكبير مشرفةً على البكاء. تقف وسط زحمة الأجساد المتعرّقة، وبحلقة العيون الوقحة، ودخان السجائر البخسة وسعال الحناجر المنهوكة...تقف ساعة كاملة.
يحدّثها قلبها الساذج أنّ الله يشفق على دموعها الآن، وأنه غداً سيدفع بقسيمتها إلى يد المقترع، بقدرته الإلهية.

تنزل من الباص عند مفرق ضيعتها، وتنتظر سيارة تقلّها. عند هذا المفرق، كانت دائماً تتساءل لماذا لم يزرع أحد شجرة ما، تستظلّ بها أثناء وقوفها، الذي يمتدّ نصف ساعة أو أكثر؟

تتخيّل المقترع الأنيق يختار ظرفاً، ويُعلن اسم الفائز بالسيارة المكيّفة. تردّد اسمها الثلاثي من دون توقّف. تتعب من تكرار اسم لا معنى له، فتدندن أغنية ما.
تبقى تردّد وتغنّي إلى أن تقرأ اسم الفائز في الصباح التالي في إحدى الصحف، أو تسمعه من مذيعة حسناء أخرى.

تقطع صورة الرجل الستينيّ الذي يبتسم وهو يتسلّم مفاتيح السيارة. المقترع الأنيق يبتسم أيضاً للصورة وهو يسلّم المفاتيح. تلصق الصورة على الحائط الذي خلفها، إلى جانب صور الفائزين الآخرين. ثم تدير ظهرها للصور وتتابع نقر الأرقام وإحصاء الدقائق. لا تنسيها زحمة الأرقام وضجّة الزبائن أن تمرّ عند خروجها بالصندوق الأصفر لترمي لتلقمه جديداً.

8

بَوْحُ التوليب

بعد صباحات متتالية لم تعرف طعم الندى وملمسه، صار ذلك الشارع البيروتي الفرعيّ أشدّ وحشةً وضيقاً، وصرت أعبره وأنا أرتجف ارتجفات متقطّعة.
عاد لا يتّسع لخطواتي ونظراتي. كلّ ما فيه صار يخنقني، حتى شرفة المكتب، اكتشفت أنّها لم تكن يوماً لي. المثلّث الذي رسمته وهندسته لم يبق مثلثاً، طارت أضلاعه واختفت زواياه الثلاث.
بعدما كنّا ثلاثة، صرنا لا شيء.
كنّا ثلاثة أضلاع غير متوازية: أنا، في مقتبل العمر. هو، في منتصف العمر. الزهور، خارج الزمن وأقوى منه. ثلاث زوايا غير متساوية: أنا، في مكتب للخدمات الاجتماعية. هو، في عيادته. الزهور، في متجر على الرصيف.
لكنّنا لم نعد شيئاً.

قبل هذا، وفي خلال سنتين أمضيتهما موظّفة متواضعة في المكتب، لم يتغيّر شيء في ذلك الشارع أو فينا. كنّا نغادره ونعود إليه كما تغادر زهور وتأتي أخرى، كما يرحل موسم ويعود آخر.
لم يتغيّر شيء. فالطبيب لم يلحظني مرّة.
لم يرفع رأسه يوماً إلى شرفة الطابق الرابع حيث أعمل.
ظلّ يمشي بخطوات متوسّطة السرعة، نحو الشارع الرئيس، حيث تنتظره سيّارة تقلّه إلى بيته، على الأرجح.

عند الساعة الثانية ظهراً، أراقبه من شرفة مكتبي وهو يغادر عيادته ويمرّ بمتجر الزهور. تهتزّ أطرافي خوفاً من أن يتوقّف ويشتري زهوراً لحبيبة ما، قد تكون زوجته أو امرأة سواها. إذ يتابع سيره، أهدأ. لكنّي أعود لأتساءل عن سائق أو سائقة السيارة، فتدوخّني الغيرة كما تدوّخ رائحة البخور القويّة جسداً مبتهلاً.

أمّا عندما يحضر بكامل أناقته، بربطة العنق تحديداً، أشعر أنّ لديه موعداً مهماً. أروح أتخيّله يقود سيّارته وإلى جانبه امرأة جميلة، يصطحبها في نزهة، يدعوها إلى العشاء في مطعم أنيق، يقبّل يدها ويشكر لها مرافقته... أتخيّل كل شيء، لكن أعجز عن تخيّل نفسي مكان هذه المرأة.
لا أنكر أني فكّرت بالتمارض والذهاب إلى عيادته. ولكنّي لم أجرؤ. ليس هو من أقدر على خداعه. لست أنا من تقدر على مواجهته.

كان موسم التوليب.
وضعها بائع الزهور في المقدّمة.
كانت تشبه زهرة حبّي. تلتفّ حول نفسها، كأنها تخشى أن تفتح أوراقها كي لا تفقد روحها.
كأنها قطعت هذه المسافات الطويلة، من تركيا، موطنها الأصلي، إلى أوروبا، التي عشقتها وهجّنتها، إلى هولندا حيث استوطنت، إلى هذا الشارع، كي تكون مرآتي، وبوحي الذي أخشاه. هي التي لا تعيش إلا في مناطق باردة، كما قلبي الوحيد.

في الأسبوع التالي، عندما رأيت البائع يرمي زهور التوليب الذابلة، ويضع مكانها فوجاً جديداً نضراً، علمت كم أن عمرها قصير، فقرّرت أن أكتب رسالة إلى الطبيب، أعبّر فيها عن مشاعري وعن يأسي من الإقلاع عن حبّه، وعن غيرتي من نساء لا أعرفهن، وعن... وعن…

"أنا أحبّ التوليب وأحبّك".
وضعت زهرة توليب حمراء مع جملتي الوحيدة وأقفلت الظرف.
انحنيت لأدفعه بطرف أصابعي من تحت باب عيادته، وقبل أن أستقيم فُتح الباب.
وجدته أمامي.. حذاءه الجلدي.. معطفه الأبيض.. لحيته الخفيفة.. عينيه المحتميتين بعدستي النظّارة الطبّية.. شعره الرمادي…

توالت الصباحات القاتمة. لم يدخل الصيف إلى الشارع. تلقّيت ومجموعة من الزملاء أوّل إنذار بترك العمل. صدر أوّل نداء لإنقاذ المكتب في الصحف.

غدر أيلول بنا.
وقفت عند مدخل البناية في انتظار أن يتوقّف المطر غير المتوقّع. في أعماقي كنت أتمنّى أن يستمرّ المطر، لتطول لحظاتي الأخيرة في الشارع.

أطلّ من مدخل البناية المقابلة.
لم يأبه للمطر. لم يركض. فقط أوسع خطواته.
وجدته في لمحة أمامي يسألني من دون تحيّة: "هل معك سيارة؟".
نفيت من دون صوت.
"سأحضر سيارتي وأقلّك".
لم يقل إلى أين، لم يقل لماذا أو متى… لم يقل كيف عرف أنّني مغادرة إلى الأبد...
انتظرت طويلاً. كلّما راودتني فكرة الذهاب ثبّتُ قدميّ أكثر.

توقّف المطر.
مشيت نحو الشارع الرئيس. وجدته مختنقاً بالسيارات وبحيرات الماء.
كانت بين السيّارات. السيّارة التي تقلّه. للمرّة الأولى تمكّنت من رؤية سائقها. لم يكن زوجته أو حبيبته.
كان ابنه.
شاب وسيم، نضر.
نظر الأب إليّ من خلف العدستين وزجاج السيارة والمسّاحتين اللتين راحتا تعلوان وتنخفضان مبعدتين الأمطار الغزيرة، وقد عادت أشدّ مما كانت... وقد بدا كم هو بعيد.
كان كلّ شيء حولي يمضي بسرعة. كذلك أنا، كان عليّ أن أمضي أيضاً، وأعترف أنّ موسم التوليب قد انتهى.

9

عدوى

لا، لم تمت نبيهة بمرض الجدري. لقد قُتلت. صحيح أني تأخّرت كي أعترف، وقد مضت على وفاة المرحومة خمسون عاماً، إلا أنّني، وتكفيراً عن ذنبي، لا أنام ولا أشتهي الطعام ولا أكمل متابعة فيلم عربي حتى نهايته.

..."قبل ما كفّيلك يا أم ديب، جيبي معك كنّتك المرّة الجايي لتسمع الحكاية وتخبّر كلّ اللي بتعرفهم، مش قلتيلي إنّها بتكتب بالجرايد ؟ عزّ الطلب..."

ترشف النساء المتحلّقات حول الصوفا التي أمدّد عليها رجليّ المتورّمتين القهوة، ويتلهّين بأحاديث تافهة. لقد مللن حديثي. برغم ذلك يأتين لزيارتي، وهذا يفرحني، فعندما يصرخ أحد أبنائي في وجهي قائلاً إني "خرّفت" أردّ عليه بثقة: "لو كنت خرّفت ما كان حدا بيجي لعندي".

عدا الأوقات المتفرّقة والقليلة التي يزورني فيها أولادي وأحفادي وجاراتي، فإنّي أبقى وحيدة أناجي زوجي المرحوم. بعدما أملّ التحدّث إليه أحدّث نفسي.
أولادي توسّلوا إليّ كي أذهب معهم وأعيش عندهم. عرضوا عليّ إحضار فتاةً تخدمني، لكنّي لم أقبل. أخاف أن يصيب من يسكن معي ما أصاب نبيهة.
صحيح أنّ دوالي رجليّ تتفجّر، وأنّ وزني تخطّى مائة كيلو، لكن، ما دمت قادرة على الذهاب إلى الحمّام وقضاء حاجتي بمفردي، فلا حاجة لي إلى خادمة.

تجلي أم ديب فناجين القهوة، ثم تغادر النساء إلى بيوتهن، وأبقى أنا، وحيدة، أنتظر مجيء ابنتي، معلّمة المدرسة، كي تطهو لي قبل أن تعود إلى بيتها وعائلتها.

"قولك الله راح يسامحني؟".
تنظر ابنتي إليّ بدهشة، فأوضح لها: "بيسامحني ع اللي صار بنبيهة؟".
تنفض عصير البندورة عن يديها، وتصرخ بي، وكأنني تلميذة غبية، كي أكفّ عن التكلّم في هذا الموضوع. فأخجل من صراخها وأصمت. أمدّد رجليّ على الصوفا. بعدما أتحقّق أنّها لن تتوجّه إليّ بأيّ حديث، أنام على ظهري وأغفو.

كنت نائمة على ظهري، أيضاً، كما طلب منّي الطبيب، عندما دخل زوجي صامتاً، فسألته: "هاه؟ لقيت نبيهة؟".
كنت حاملاً وبحاجة إلى من يهتمّ بالمنزل. طلبت نبيهة بالاسم، ليس لأنها "شاطرة" بل لأنها فقيرة و"مقطوعة"، لكنّ زوجي قال: "نبيهة ماتت".

طوال فترة مرض نبيهة بالجدري كانت تتأمّل النقود القليلة، أجرتها وثمن فساتيني التي باعتها في "البالة"، وتقول لخالتها إنها ستشفى في الغد وتعاود العمل. لم تقبل أن تذهب إلى الطبيب وتشتري الدواء كي لا تخسر النقود. فماتت.

أتت خالتها لتحلّ محلّها، لكنّها كانت عجوزاّ وثرثارة. الفائدة الوحيدة لثرثرتها كانت في إطلاعي على حكاية ابنة أختها. بعد اختفاء أمّها، وانتشار شائعة هروبها مع رجل أغواها، أبعدها والدها إلى بيروت، ونقد خالتها المقيمة في العاصمة، بضعة قروش كي تهتمّ بها. لم تريا وجهه بعد ذلك. اضطرت الخالة إلى تشغيل الصغيرة في البيوت.

لو عاشت لكانت هي من تطهو لي الآن. برغم أنّ طهوها ليس رائعاً، إلا أنّي كنت أشيد به، كي أتقرّب إليها، وأدفعها إلى فكّ عقدة لسانها.
كانت صامتة دوماً. لا تتكلّم إلا لتسألني عن مكان "دوا الغسيل" أو نوع الطعام الذي أريده وهكذا... تقف منكسرة ذليلة، لا بسبب الفقر فقط، بل لشيء أقوى كان يدفع الدمع من عينيها أحياناً رغماً عنها.
عندما بدأت أتعافى، وأغادر السرير، صرت أناديها لتجلس معي على "الفارندا" (لم نكن قد اقتنينا تلفزيوناً حينذاك) أروح أحدّثها حديثاً من هنا وآخر من هناك، عن أهلي وإخوتي... حتى أنّني حكيت لها عن تفصيلات ليلة عرسي، لكن، كأنّها لم تسمعني. حتى فساتيني وفساتين أختي التي أعطيناها إيّاها لم تلبسها. "ولك حتى يا بنت الحلال الفواكي الطيبة والطازا اللي كان يشتهيها الناس وما يقدر على حقّها كتار ما كانت تاكلها".
يوم شفيتُ وأُعيد ابني إليّ، كانت دمعتها أقرب من دمعتي، وحالما احتضنت ولدي سمعتها تشهق.

"صدقيني يا بسمة، أنا كنت عارفة إنّها من لمّا دخلت ع بيتي كانت عم تبكي بالسرّ... ييه نسيت خبّرك شو جابها لعندي ع البيت! هيدا يا ستي بعد ما راحوا الفرنساوية من بلادنا، وأنت دارسة وقارية بالكتب، قبل ما تصيري صحافية حفيظ يحفظك، ويخلّي لك جوزك ديب الآدمي، إجا الجدري ع لبنان، وما كان إلو دوا متل هالأيام. وأنا كنت مجوّزة جديد وعندي ابني الكبير بسّ، لقطت المرض متل هالعالم، قام جوزي أخد ابني لعند ستّو وجابلي واحدة تخدمني. ما كنت مصدّقة أنو راح يلاقي واحدة تقبل تخدمني، بس بعد كام يوم دخل عليّ ووراه صبية تحت العشرين، مبيّن عليها جنوبية، هيدي يا ستنا هي نبيهة وهيك دخلت ع البيت...".

لست وحدي من قتلها. صحيح أنّي نقلتُ إليها العدوى، لكنّ أمّها وأباها والفقر قتلوها. هذا ما قالته خالتها، أو ما لقّنها إيّاه زوجي، كي تقوله لي وتريح ضميري، لكن إلى حين. فأنا اليوم لا أستطيع أن أسامح نفسي، ولا أن أسكت عن هذه الحكاية.
"يا دلّي ع هالمخلوقة! حكايتها متل شي فيلم عربي، يمكن لفاتن حمامة أو مريم فخرالدين! مش متذّكرة. الفاريز راح يموّتني. هالأيام الباقين لي صعبين شوي ...
ليكي! قالتلي حماتك أم ديب أنو عندك خيّ حكيم... يا ريت تبعتيلي ياه، بدي يوصفلي دوا. لأ! مش دوا منوّم، عندي. بدّي دوا للنسيان. ما بقى أقدر أتحمّل! بدّي أنسى. خلص! تعبت. تعبت".

10

ضفيرة

كما في صباح بعيد، تجلس الطفلة في حضن أمّها مستسلمةً لعمليّة تسريح الشعر اليوميّة المؤلمة.
أسماء، الطفلة السمراء المتواضعة الجمال، صارت أمّاً. بعدما كانت تبكي وهي تحت سطوة مشط أمّها، ها هي تسبّب لطفلتها الدموع. بأصابعها المتورّمة والمتقشّبة، تحكم ربط خيط المطّاط مستعينة بأسنانها، واضعة حدّاً لصراخ الطفلة.

في الماضي، عندما كنت أسمع صراخ أسماء، وأحدس أنّه سيتحوّل إلى بكاء، كنت أترك عرائسي وأقف عند عتبة بابنا المقابلة لعتبة بابها. أراقبها وهي جالسة فوق أرض الغرفة الأسمنتية، التي كنت كلّما مشيت عليها شعرت بتفتّت الرمال والأسمنت تحت قدميّ، وتباهيت ببلاط بيتنا.
كانت أمّ أسماء العابسة تغرس المشط في شعر ابنتها وتشدّه بقوّة، كأنها تنزع أشواكاً من تربة جافّة. تلملم خصل الشعر الخرنوبية المنتوفة، وتكوّرها بين أصابعها، ثم تقذفها من النافذة. ثمّ تأتي المرحلة الوحيدة التي أحبّها في ذاك المشهد اليومي، "عقص الشعر". تعقصه كالسنبلة وتحرص على رصّ حبّاتها جيّداً. بعدئذ كانت أسماء تمسح دموعها، وتدني ضفيرتها من عينيها لتطمئنّ إلى شكلها، ثم ترميها إلى ظهرها، وتشير إليّ كي أحضر العرائس ونبدأ باللعب... والشجار. أعظم شجاراتنا كانت حول الاستئثار بالدمية ذات الضفيرة الشقراء الطويلة. كانت المفضّلة لكلينا. كنت أحتفظ بها غالباً، بعدما أهدّد بالخروج من اللعبة، فتخضع أسماء لرغبتي لأنّ جميع العرائس لي.
استمرّ هذا إلى أن تركَتْ مدرسة الضيعة. تحوّلت تدريجاً إلى صبيّة متعجرفة، لا تفارق أمّها وأختها الكبرى. تحدّثني بلغة الأمر وللضرورة فقط، كأن تطلّ من النافذة وتسألني: "ولي! اسألي أمّك إذا عندها طربون نعنع للفتوش".

طفلتها التي ما زالت متورّدة الوجه بسبب ما تعرّض له شعرها من شدّ، تشبه أباها. عندما رأيته للمرّة الأولى، كان محتقن الوجه أيضاً، حاملاً أكياس الفاكهة لأهل خطيبته. لولا أخي الصغير الذي صاح "جيش جيش"، لما بقيت بزّته العسكرية عالقة في ذاكرتي.
بدخول هذه البزّة التي تعني راتباً مستقرّاً وضماناً صحياً... دخلت الفرحة إلى بيت جيراننا. كنت أسمع غناء ابنتهم وأراها من النافذة تتهادى أمام المرآة بفساتين "الجهاز".
عشية العرس، بقيتُ متسمّرة خلف أحد الكراسي، أراقب بذهول شعر أسماء الطويل المرتخي فوق ردفيها السمينين. بهرتني خصله المتراقصة مع موسيقى "الراديو كاسيت". كانت قد سمنت كثيراً منذ توقّفت عن اللعب معي. امتلأ جسدها بالاستدارات، وساعد الفستان البرتقالي اللون في إبرازها. بدا شعرها المضمّخ بالحناء فاتناً وناعماً بفعل "السيشوار".

ما حصل لهذا الشعر كان أفظع ممّا توقّعت. كنت أخشى أن تقصّه كعادة ربّات البيوت والأمّهات في الضيعة، اللواتي لا يعدن يجدن وقتاً للاعتناء بأنفسهن. ولكنّه اختفى.
أخفته تحت الحجاب.

تحجّبت بعدما وضعت ابنتها البكر، وقبل أن تضع أربع بنات أخريات، آخرهن هذه الصغيرة الهزيلة الجالسة الآن في حضنها.
لا يبدو على الطفلة أن حليب أمّها كان يكفيها، فأسماء لم تعد أمّاً صالحة لإرضاع صغارها، لقد نقص وزنها كثيراً، والسبب الأساس كان خلفة البنات. خمس بنات متتاليات في سبع سنوات كنّ مصيبة حقيقيّة، سبّبت للأمّ مشاكل مع عائلة زوجها، فطردت غير مرّة إلى بيت ذويها.

في خلال هذه السنوات كنت أتجنّب من لقائها، والظروف تساعدني. فعندما تأتي لزيارة أهلها أكون أنا في المدرسة أو في بيروت، في الجامعة تحديداًً. في خلال هذه السنوات أيضاً أخفقت جميع محاولاتي لإطالة شعري. كان من النوع الخفيف والمتعب الذي يحتاج إلى قصّه شهرياً كي يستردّ شيئاً من صحّته. إلا أني اليوم علقتُ. فتحتُ الباب في صباح يوم العطلة هذا، لأجد أسماء وابنتها وأمّها أمامي. سلّمت عليها فاندفعت وقبّلتني بحرارة. تجنّبت من إمعان النظر في وجه صديقتي القديمة وجسدها الذي بدا بائساً. كانت تبدو في مثل سنّ أمّي، ملامح متعبة، بشرة جافّة شعرت بها وهي تقبّلني، قدمان مشقّقتان من الماء.
ثم حدث ما لم أجرؤ على طلبه منها.
نزعت حجابها عن رأسها.
خرجت شهقتي رغماً عنّي. كانت تلمّ شعرها على شكل كعكة، كاتمة أنفاسه بربطة مطاطيّة صفراء. فكّتها وحاولت هدله.
لكنّه لم يُهدل.
اعتاد شكل الكعكة.
بدت أطرافه متقصّفة وهزيلة.
ساءتني حالته. عرضت عليها أن أقصّ أطرافه وأشذّبه. لكنّها أعادت لمّه كما كان وارتدت الحجاب، محرّكة يدها بما يوحي أنْ لا جدوى من كل هذا.

لحقتُ بالزائرات بينما أمي تطلب منهنّ إعادة الزيارة.
عند عتبة الباب المطلّة على ذكريات كثيرة، قدّّمت، بكل رضا، إلى الطفلة المتعلّقة بصدر أمّها لعبتي ذات الضفيرة الشقراء الطويلة المعقوصة على شكل سنبلة.

11

فوق الركبة

عندما أخذَت "الكيس" الأحمر من البائع، لم تردّ على كلمة "مبروك" التي قالها. كانت تفكّر في ردّة فعل الناس وهم يرونها تتهادى بفستانها القصير.
راحت تتوقّع نظرة مثل التي ظهرت على وجهه، ومغازلات وإطراءات في الجامعة والشارع.
بينما كانت تنتظر أن يعيد إليها البائع ما بقي من المال، تخيّلت والدها يراها بالفستان القصير،الذي يكشف عن ركبتيها الممنوعتين من الظهور للعيان، لأنهما عورتان. إذا رآهما سيتجهّم وجهه وترتجف شفتاه استعداداً للتلفّظ بالبذاءات... ثم يحمل حزامه الجلدي ويضربها به على فخذيها العاريتين وركبتيها السافرتين، ذاك الحزام السحري الذي يلجأ إليه عند كلّ مشكلة.
قبل أن يأخذها الخيال أبعد، أمسكت مقبض باب المحلّ وشدّته إلى الخلف وخرجت، كأنّها تشدّ جسد أبيها خلفها وتمضي. لكنّ البائع ناداها ليرجع إليها ما تبقّى من مالها، ولمّا لم تسمعه لحقها إلى الخارج قائلاً: "ألا تريدين باقي مالك؟ ألديك الكثير منه؟".

لا، لم يكن لديها سواه.
سوف تضطر إلى التذلّل لأمّها كي تدبّر لها مالاً بأية طريقة، مع أنّها تعلم أن راتب والدها ينفد قبل منتصف الشهر، كجميع صغار الموظّفين.
هل كان يجدر بها أن تشتري هذا الفستان؟ تساءلت. ثم نفضت فكرة الندم من رأسها. أحسّت أنّها لو لم تشتر هذا الفستان لما نامت ليالي عدّة.
هذا ما شعرت به حين رأته للمرّة الأولى. كان يشعّ في واجهة المحلّ. ألوانه الوحشية والحيوانات البرية الطليقة على أنسجته كادت تفترسها. عندما ارتدته بقيت دقائق أمام المرآة تتأمّل جسدها، كأنه نمر انطلق من قفصه.
عندما أخرجت من حقيبتها جميع نقودها، ورمتها على طاولة البائع الخمسيني، كانت تنتقم من شيء مجهول، سبّب لها الإساءة تلو الأخرى منذ ولدت.

عادت إلى بيتها، ذي الأبواب والنوافذ الحديدية الصدئة. لن يحدس أحدٌ ماذا لديها في "الكيس الأحمر".
سارعت إلى إخفائه. لكنّ وهجه الأحمر بقي يضيء تحت سريرها، وفي منزلها الأدكن الألوان. من حسن حظّها أن أحداً لم يرها داخلة. كانت أمّها منهمكة في كيّ "بنطلون" والدها البنّي الباهت وقميصه الأزرق. أمّا هو فقد كان مستلقياً على الكنبة، لا يظهر منه إلا صلعته، التي لا يستطيع أحد أن يتكهّن بما يدور تحتها.

في الصباح التالي، ارتدت الفستان. تلفّتت أمام المرآة، انحنت واقتربت وابتعدت ورقصت... كانت تجرّب جسدها في مواضع مختلفة. ثم ارتدت فوقه تنّورة طويلة لا تُظهر سوى حذائها. كان أهلها يفطرون، كعادتهم، بصمت، والأب يراقب كلّ حركة، ويعدّ لقمات كلّ واحد.
لكنّها لم تتوجّه إلى الجامعة مباشرة. مشت حتى الشارع المجاور لشارعهم. دلفت إلى إحدى البنايات وطلبت المصعد. في المصعد، خلعت التنورة ووضعتها في الشنطة، بعثرت شعرها فوق كتفيها وخرجت إلى الشارع بفستانها القصير الوحشيّ.
في الجامعة، عاشت يوماً مميزاً في حياتها، أثارت إعجاب زملائها وغيرة زميلاتها.
في الشارع، مشت ببطء متعمّد. السيارات أطلقت أنغام أبواقها، والمارّون قالوا أجمل عبارات الغزل. لكنّها لم تكتف. بقيت تدخل إلى شارع وتخرج من آخر. إلى أن ...
إلى أن سمعت صفيراً.
رجل خلفها صفّر لها بإيقاع الإعجاب.
أبطأت كي يتجاوزها المعجب ويصبح أمامها فتراه.
بعدما تجاوزها، لم تعد تشعر برجليها.
اشتعلت نار مفاجئة في ساقيها وامتدّت إلى فخذيها. صعقها الرأس الأصلع والياقة الزرقاء و"البنطلون" البنّي الباهت.

12

العُثَّة

تركت المرأة المكنسة من يدها. حملت صغيرها على ساعدها وجرّت الكبير باليد الأخرى. أقفلت باب الغرفة ومضت مسرعة الخطى.
كان الكهل الذي اشترى النول منها منذ دقائق، ونقدها ليرات معدنية معدودة، لا يزال يضرب حماره المتعثّر الخطوات في الزقاق ذي الأرض المرصوفة بالحصى.
أوشك على القول إنه لن يدفع أكثر من ربع ليرة ثمن البساط، الذي تساوماه، ولكنّ المرأة لم تلتفت إليه. أسرعت خطواتها قبل أن تغافلها عيناها وتزحفا بنظرة أخيرة نحو النول. لم تكترث لصراخ بكرها وهو ينادي: "هذا نول أبي... أرجع إلينا نولنا"...
ركضت بهما، فزلق منديلها عن رأسها، وفاحت من شعرها الكستنائي الناعم رائحة صابون الزيت، وعبِق بها الزقاق.

لم تخف أن تقع الليرات المعدنية منها وهي تركض، فقد وضعتها في صدريتها بعدما غادر الكهل، وقبل أن يدخل طفلاها ويقطعا شرودها، ويسأل بكرها عزيز عن نول أبيه.
لم تُجِبْه. تشاغلت بكنس الأرض، كما سبق أن تشاغلت بحركة ما، منذ أسبوعين حين سأل عن أبيه الذي حُمِل في صندوق ولم يعد.
بينما هي تكنس الزاوية التي كان يستقرّ فيها النول، أدركت أنّ الشيء الذي كان يجثم على صدرها ويلاحقها في كوابيسها، كغول الحكايات التي تحكيها لطفليها، رحل بعيداً. بعد أن يرين صمت ليل القرية، ولا يعود يخترقه سوى نباح الكلاب الضالّة، لن يزحف صوت النول نحو أذنيها. لن يخيّل إليها أنّ زوجها قام من قبره ليحوك بساطاً جديداً، أو ثوب قماش، يحمله على كتفه ويسافر به إلى فلسطين، أو إلى الأردن، بلدها.
هنا أوقفت الكنس، ومضت مع ولديها.

ظنّ الكهل أنّها تبعته لتبيعه البساط. فخلال تحميل النول تعمّد إبطاء حركته كي يتفحّص عن أي شيء قابل للشراء. راح يفكّك قطع النول الخشبية ببطء، ويضعها فوق ظهر الحمار بتأنٍّ. كانت غرفة المرأة بائسة وشبه خاوية. لكنّ الكهل وجد ضالّته وسأل: "هذا البساط أهو للبيع؟".

ليلة وفاته كان قد أنهى حياكة بساط مزركش، حتى الخيط الأخير.
لقد عرف أنه يحتضر.
لم يوفّر دقائقه الأخيرة تلك لأيّ عمل آخر. لم يفكّر في أن يجمع عائلته الصغيرة حوله، ويوصي زوجته الغريبة عن هذه الديار بأن تهتمّ بالنول وبالولدين. تركها من دون وصايا ومسؤوليّات.
بعدما نظر الكهل إلى البساط بازدراء، قال إنّه لن يدفع فيه أكثر من ربع ليرة. فاستردّته منه بحزن وأرجعته حيث كان. سوّت منديلها ومسحت عرق جبينها بطرفه. لم يشفق على بؤس ملامحها وخوف عينيها، بل استغلّ كونها غريبة وأرملة ووحيدة كي يشتري النول بسعر يناسبه.
كان مساءً شبيهاً بأَمْسِية سابقة، عاشتها منذ وفدت إلى هذه القرية عروساً قبل خمس سنوات.
برغم أنّها لم تجد فارقاً كبيراً بين حياتها في السلط وحياتها في هذه القرية الجبلية اللبنانية، إلا أنّها كانت تشعر بأنّها ستبقى في عيون الآخرين تلك المرأة الغريبة، التي أتى بها بائع الأقمشة الجوّال، مفضّلاً إيّاها على قريباته وبنات قريته.
أحصت مراراً السنوات على أصابعها لتتيقّن أنها خمس. خلال السنة الأولى وردها من السلط خبر وفاة أبيها. وفي الثانية وضعت عزيز. وفي الثالثة وضعت جنيناً ميتاً. وفي الرابعة وضعت محمود. وفي الخامسة مات زوجها...

في إحدى أماسيّ السنة الخامسة اختفت المرأة في ظلام الزقاق، وبقيت رائحة صابون الزيت.
بقيت سنوات.
ظلّ أهل الحيّ يذكرون المرأة الغريبة في جلساتهم الصيفية في الزقاق، حيث يجتمعون طلباً للنِّسام الباردة، ويتساءلون عمّا جرى لها ولولديها.

إلى أن وصل إليهم الخبر.
مات ولدها البكر في السلط.
لدغه عقرب سامّ حتى الموت.
لم ينفعها تمزيق منديلها لربط ذراعه الملدوغ، ورجفات شفتيها وهي تبحث عن السمّ لتمتصّه وتخرجه من عروق ولدها.

تمرّ بالزقاق متلمّسة أحجار حائطه الصوّانية التي ينبت الشوك من بينها. تتّكئ عليها بعدما نهكتها جنازة ابنها، كما نهكتها جنازة أبيه قبل تسع سنوات.
تقف خائرة القوى أمام باب الغرفة.
هنا يأتي دوري. أدفعُ الباب وأدخل.
أفتحُ النافذة تاركاً لشمس شباط أن تمحو ظلمة تسع سنوات.
السنوات التسع تتوالى أمامي. أستعيد آخر يوم لأمّي هنا. ما روته وما أخفته. ما وصفته وما أغفلته.
لا أذكر شيئاً. كنتُ يومها دون الثانية من العمر، محمولاً على ساعد متشنّج. قد أكون ضحكتُ بسبب الهواء الذي داعب جلدي. لا أذكر لكنّي أحفظ ما روته لجدّتي ولأقربائها في السلط.

وجدتُ البساط، آخر ما تركه أبي. أكل العثّ الكثير من خيوطه. الغبار الثقيل لم يمنعني من تبيّن ما تبقّى من زركشته. يستحقّ أكثر من ربع ليرة بالتأكيد. لكنّه ليس تحفةً كما تخيّلتُ.

راحت تنظر إلى البساط كمن ينظر إلى مرآة. اقتربَتْ، وبملامح حاقدة انتزعته من يدي ورمته من النافذة.
تطاير العثّ في كلّ اتجاه.
عثّة واحدة، لم تتزحزح من مكانها. تلك التي قرضت قلب أمّي لتسع سنوات، ومنعتها من أن تغفر، لحظةً، لأبي موته.

13

قالت الأقحوانة

يحبّني.
سمعتُ صديقه يسأله: "هل قلت لها إنّك تحبّها؟". أجابه: "ليس بعد".
برغم أنّه لم يقل، وبرغم أنّي لم أقرأ الرسالة التي أرسلها لي مع ابنة خالتي الصغيرة الحمقاء، التي أضاعتها، إلا أنّي أعرف أنّه كتب فيها أنّه يحبني.

لا يحبّني.
قال ابن عمّتي الذي يكبرني بأربعة أعوام، إنّه لو كان يحبّني لما غازل الفتيات في الرحلة إلى الأرز. لما قرص زند سليمة. لما لحق مايا وروز في كلّ مكان.

يحبّني.
كان يمشي أربعة كيلومترات كلّ يوم، كي يمرّ قبالة نافذتي. يغمزني بعينه اليسرى. يبسم لي. ثم يعود ليمشي الكيلومترات الأربعة.

لا يحبّني.
قالت ابنة الجيران إنّه يحبّ صديقتها لانا. لانا قالت لها. جميع الفتيات يعرفن. لانا ثرثارة. أعرف مبالغة الفتيات وإدّعاءاتهنّ. ولكن! هل من دخان من دون نار؟ الفتيات يفتعلن النيران. أعرفهن. بنات جنسي.

يحبّني.
الدخان ينقشع وتبقى السماء الصافية. حبّه لي صافٍ كالسماء. برغم أنّه لم يعد يمشي الكيلومترات الثمانية يومياً، إلا أنّ غمزة واحدة أسبوعياً بعينه اليسرى ترضيني.
"لا يريد أن يلهيني عن دروسي"، تحجّجتُ لفتيات الصفّ.

لا يحبّني.
لم يحاول أن يكتب لي رسالة غير تلك التي لم تصل. لم يجتهد للتعبير بأيّة طريقة أخرى. لم يعد يتكلّم مع صديقه وهما يمرّان، مرّة كلّ ثلاثة أسابيع، قبالة نافذتي.

يحبّني.
بعث لي سلاماً مع صديق أخي الصغير. كانا يراجعان القاعدة التي تشرح عمل كان وأخواتها، وكنت ألهو بزهرة أقحوان بيضاء، وكتاب الفيزياء مفتوح أمامي على درس جاذبيّة نيوتن، حين صاح الولد قائلاً: "محمّد يسلّم عليك". قبّلته. شجّعته على المجيء دائماً لمساعدة أخي في دروسه.

لا يحبّني.
قالها لي بلسانه. قال إنّه لا يفكّر في الحب. ما زال صغيراً. لا وظيفة ولا بيت. لا يفكّر بالارتباط. قال هذا يوم لاقيته في الطريق، متسلّحة بكتاب الفيزياء، متحجّجة بحفظ قاعدة نيوتن. سألته أن يضع حدّاً لحيرتي. فزادها. اللعنة! تلك الفيزياء لم تدخل دماغي قطّ!

يحبّني.
بعدما أثرت غيرته، وأوهمته أنّي مغرمة بشاب آخر، أرسل لي مع صديقه أنّه يحبّني. أنّه يعتذر، فقد ارتبك ولم يعرف ماذا يقول.

لا يحبّني.
مضى شهران وأنا واقفة عند النافذة. أنتظر أن يشتاق إلى هذه الطريق، وإلى هذه النافذة، وإلى الفتاة التي تكبر لأجله خلفها. مضت شهور أخرى...

يحبّني.
كما يحبّ مايا ولانا وسليمة وابنة الجيران وأختها وزميلتي في الصفّ... كما يحبّ جميع الفتيات. حبّاً عابراً كاذباً. حبّ ما قبل الارتباط. حبّ ما دون الارتباط. حباً بقانون فيزيائي يستعصي عليّ.

لا يحبّني.
غداً خطبته. صغرى بنات خالتي هي الفتاة التي أحبّها وارتبط بها. ابنة خالتي الحمقاء، التي كانت تكتب الضاد دالاً، وكنت أضربها بعدما أملي عليها نصوص الإملاء. التي أضاعت رسالته الوحيدة إليّ، وحرمتني من معرفة ما جاء فيها. خالتي سعيدة. ابنتها التي رسبت ثلاث سنوات في الصفّ الثاني المتوسط ستتزوّج قبل طالبات الجامعة. قبلي.

يحبّني.
الرسالة والغمزة والكيلومترات اليومية والسلام المرسل مع الطفل وحديث صديقه واعتراف صديقه... كلّ هذا يعني أنه يحبّني.
يحبّني.

صارت الأقحوانة كمدقّة الثوم. لم تبق فيها تويجة واحدة. التويجة الأخيرة قالت إنّه يحبّني.
أتلهّى بالتويجات البيضاء المتجمّعة في حضن فستاني، بينما ابنة خالتي تتهادى بفستان خطوبتها الأرجواني، مستطلعة آراء نساء العائلة بذوق خطيبها.

تسألني خالتي: "هاه؟ ما رأيك؟".

رأيي؟!
رأيي أنّه يحبّني.
الأقحوانة قالت هذا.
خطوبته غداً لا تعني شيئاً.
زواجه بعد سنتين لن يعني شيئاً.

تسألني أمّي وتعيد بإلحاح: "ماذا سترتدين في حفل الخطوبة؟".

الخطوبة؟!
فستان الخطوبة! كم إنّ الأرجواني رائعٌ على جلد هذه الأنثى الطفلة! جلد أبيض طري لم تلوّحه شمس الانتظار في النوافذ. إنّها محظوظة. وفّرت الكثير على نفسها، الغمزات والهمسات والألم والحيرة والغيرة ونتف تويجات زهور الأقحوان، لتنجّم وتعرف إن كان "يحبّها أم لا يحبّها".

أنا صرت أعرف. لا يحبّني. لم يحبّني يوماً.
ولكنّي أصدّق الأقحوانة وأكذّب كلّ شيء عداها.
حتى قلبي.
طالما صدّقت الأقحوان.

"بلى يا ماما أسمعك! سأرتدي الثوب الأرجواني".

14

أبيض داكن

تنظر البائعة السمينة إليّ بفضول مبتهج. نظرتها تؤكّد أنّها أخطأت الظنّ بي. هي، من دون شكّ، تظنّني من مدمني الأغراض النسائية. أقف مرتبكاً، أنا الذي لم أدخل يوماً متجراً نسائياً، ولم أشتر لإمرأة هدية. أقف محرجاً ثم أغادر.
لكنّي أعود. أعود بين فترة وأخرى، للمرور بسوق "بربور"، والوقوف قبالة المتجر الذي دلّتني زميلتي عليه. أخطّط لسؤال البائعة السمينة، المرحّبة بالعابرين، عنها، ثم أتراجع.
ماذا سأقول للبائعة؟ أأسألها عن سبب إقلاع إحدى زميلتي في العمل، عن ارتداء اللون الأبيض وتبديل الشالات البيضاء الناصعة بأخرى رمادية وسوداء وكحلية؟ أسألها لماذا صارت ابتسامة زبونتها، دكناء وحزينة؟

كنت أشفق على حالها. كانت تبدو بريئة إلى حدّ لا يطاق. متبسّمة، هادئة، مهذّبة، كأنّها ليست ابنة هذه الدنيا. هي وشالها الأبيض توأمان. غالباً ما تزيّن به صدرها وعنقها. لم نره يوماً متّسخاً أو مغبّر البياض. لكأنّها تغسله كلّ يوم.

إلى أن أتى يوم صار فيه الشال همّي. فأثناء دوامي الإضافي وزميلي الشاب الأعزب الوحيد في المكتب، الذي لا يخفى على أحد اهتمامه بذات الابتسامات الياسمينية، بدأت حكايتي مع ذلك الشال.
همس زميلي إليّ برغم عدم وجود أحد غيرنا في المكتب، فعرفت أنّه سيخبرني بأمر مهمّ.
أرهفت السمع.
"أمس الأول، بينما كنتُ أداومُ الفترة المسائيّة، أتت ...(أشار إلى مكتبها) كانت شبه منهارة، اتّكأتْ على مكتبها وراحت تبكي. حاولت ألا تسمعني بكاءها ولكنّها، يا عزيزي، لم تستطع".
"ولماذا؟ لماذا كانت تبكي؟...
"لم أفهم منها الكثير. كانت تتسوّق في متجر قرب المكتب، وتلقّت اتصالاً هاتفياً مزعجاً من موبايلها، وكي لا تبكي في الشارع، صعدت إلى المكتب".
"وماذا فعلتَ؟"، سألته.
قال أنّه هدّأها ومسح دموعها بالشال الأبيض.
وجدت عبارته الأخيرة مفبركة وخيالية.
أضاف مبتسماً، كأنّه يعلن لي فوزاً ثميناً: "لا تخبر أحداً، فهي حلّفتني ألا أحكي على ما جرى، وأنا أريد أن أكسب ثقتها... أنت تفهم... صرنا أقرب أحدنا إلى الآخر".
لم أسمح له أن يحقّق نصراً إضافياً وأسأله عن معنى إيحاءاته. فضّلت ألا أصدّق ما قاله.

ولكنّي استطعت بعد ليلة طويلة من التفكير العميق أن أضع يدي على الدليل الذي قد يثبت صدق كلامه أو كذبه، وهو الشال الأبيض. إن كان قد مسح دموعها به فلا بدّ أن بعضاً من كحل عينيها، الذي لا تستغني عنه، قد شوّه بياض الشال، ولا بدّ أن مساحيق الغسل الحديثة، أيّاً بلغت حداثتها، لن تقضي تماماً على الآثار السوداء... وبهذا فإنني بإلقاء نظرة على الشال سأعرف إن كانت إيحاءاته صحيحة، وإن كان هناك ما هو أخطر أيضاً. لأنّني اختبرت النساء في فترات الضعف هذه، وأعرف إلى أيّ حدود قد يستدرجهن الرجل عندما يفقدن السيطرة على دموعهن.
لكن ماذا لو صدق؟ ماذا لو كان قد ملك قلبها وجسدها؟
ستكون ضربة قاسية لي، بعدما أخفقت جميع محاولاتي لإغرائها وتوريطها في علاقة معي.

في الصباح التالي، كانت قد سبقتنا جميعاً إلى المكتب.
لا أذكر أني حيّيتها.
كنت أبحث عن الشال.
لم أجده. فانتظرت الغد التالي...

مرةً، دخلتُ إلى المكتب متأخّراً ووجدت مكتبيهما فارغين.
أين هما؟
تسلّلتُ بهدوء في أروقة الشركة، متوقّعاً أن أجدهما متلبّسين بعناق أو قبلة أو أكثر من ذلك. لكن، ما إن خطوت خطوات معدودة حتى وجدتها تتقدّم نحوي. حيّتني بهدوء ودخلت إلى المكتب.
كانت تحمل بيدها كوب شايها الصباحي، آتيةً من جهة برّاد المياه الساخنة.
أما هو، فقد استغرق عثوري عليه دقائق. ارتباكي وحنقي أنسياني أنه في إجازة، ولم يلفتاني إلى الشال الأبيض المعقود حول عنقها.
كيف أكتشف أمر بقايا الكحل الآن؟ هل أبقى أحدّق إليها كالأحمق؟ طبعاً لا. ما زال الدوام في أوّله، ولن أعدم طريقة من طرائقي الجهنّمية.

في فترة الغداء، تمنّيت أن يغادر جميع الزملاء إلى الكافيتيريا، وأن تبقى هي كعادتها وتطلب الغداء "دليفري" إلى مكتبها.
كادت أمنيتي تتحقّق. إلا أنّنا بقينا ثلاثة.
أنا وهي وأكبرنا سنّاً.
هذا الأخير لم يكن طبعاً غير مكترث بالشابّة الجميلة، بل كان أكثرنا طموحاً وتهوّراً. كان يعوّل على تجاوبها معه، ليثبت لنفسه وللآخرين أنّه ما زال جذّاباً للجنس اللطيف، وللصغيرات تحديداً.

سألتها من دون مقدّمات: "لماذا تحبّين اللون الأبيض؟". نظرتْ إليّ بدهشة، فارتبكتُ وأحسست أنّني لم أستخدم الصيغة المناسبة. ربّما كان عليّ أن أستخدم فعل "ترتدين دائماً" بدلاً من "تحبّين".
ابتسمت وقالت: "أحبّه من دون سبب".
هنا أتى دور العجوز ليقطف ثمرة غباوتي: "جميعنا نحبّ من دون أن نعرف السبب، هكذا هو الحبّ... وفق خبرتي في الحياة والنساء أعرف أنّ لأهوائهن أسراراً يحاولن الحفاظ عليها، وإثارة فضول الآخرين...".
راح الرجل يثرثر وترك طعامه يبرد. ذكّرته به. لكنّه قال مبتسماً: "من يتحدّث إلى صبية جميلة ينس الجوع!".
هنا تمنّيت أن أقتله. كدت أطبق يديّ على عنقه، ولكنّي ألجمت نفسي وحوّلت انتباهي إلى عنقها هي.
..." من أين تشترين مناديلك وشالاتك؟".
فهمتْ أنني أريد شراء أشياء مماثلة لزوجتي، فراحت تصف لي المتجر بدقّة، "سوق بربور، يمين الفرن، قرب..." وأضافت بسعادة طفولية: "قل للبائعة إنك زميلي وستبيعك بأسعارٍ مخفّضة".

تستمهلني البائعة السمينة ريثما تتذكّر صاحبة هذا الاسم. يخيب أملها إذ تفهم أنّي لست الزبون الذي توقّعته. بعدما تتذكّر تجيب بيأس: "لم تأت منذ وقت طويل".
أنا أعرف منذ متى. منذ أوقفتُ المكيّف سرّاً، كي ترتفع الحرارة، وتضطّر الشابّة إلى فكّ الشال من حول عنقها. منذ تركت شالها على الطاولة وقامت لتغسل يديها.
منذ اقتربتُ من الشال كاللصّ وتحقّقته وشممته، من دون أن أعثر على شيء.

بعدما اكتشفت أنّ تحرّياتي وخططي لم توصلني إلى شيء، يئست وصرت أكره تواجدي معها في مكان واحد. صرت أكرهها وألوانها الزاهية.
نعم أعرف بالتحديد مذ متى لم تعد تشتري الملابس الزاهية والبيضاء. مذ همست إلى العجوز في خلوة بيننا، كما همست إلى غيره من الزملاء: "لن تصدّق! وجدتهما معاً في أثناء الدوام المسائي. كنتُ قد نسيت شيئاً وعدت مساءً لأخذه، فوجدتها معه... في المكتب... يقبّلها وينزع ملابسها بتعجّل... كانا يستغفلاننا طوال الوقت...".

هذا المساء مررتُ بالمتجر. لمحتُ شعرها. لحقتُ بها.
سمعتها من دون أن أراها وأدعها تراني تطلب من البائعة أن تريها شالاًً.
قالت البائعة السمينة: "أبيض ناصع كالعادة؟"
"لا، كحلي".
"نحن في الربيع وجميع ألوان هذه التشكيلة زاهية ...".
"اذاً أبيض، ولكن أبيض داكن، لو سمحت".
بدا أن البائعة لم تفهم لهجة السخرية، فسحبت شالاً وهي تسأل: "بلان سال (أبيض متّسخ) تقصدين؟".
"... ينفع!".

لم تلتفت نحوي. غادرتْ. ابتلعها التاكسي.
عدتُ إلى الشالات التي لمَسَتها. بحثتُ عن أثرها. كانت رائحة ياسمين تفوح منها، ياسمين خفيف، منكسر الشذى، لكن بما يكفي كي يعيد إلى رئتيّ بعض الحياة.
فيما بعد ستّتسع حدقتا عيني البائعة السمينة كلّما ولجت باب متجرها، وستبادرني إلى القول: "وصلت تشكيلة الألوان الزاهية، ستسلب عقلك".

15

دقيقة

الساعة الواحدة وتسع دقائق.
الجياد الأربعة على حالها، كما في الليالي السابقة. تنظر إلى فراغ الغرفة. تترقّب من لا يأتي أبداً.
أحدها كان مختلفاً. كان ينظر إلى نقطة محدّدة.
إليّ أنا!
في هذه الليلة، وأنا أهمّ بالنوم، انتبهت إلى هذا الجواد ونظراته الموجهة إليّ. كان يحدّق بعينين لا ترفّان إلى جسدي، المتروك على راحته في هذه الغرفة، التي اعتقدتها آمنة.
اذاً ما أخفيه عن الآخرين، ولا أسمح إلا للغطاء الزهري بملامسته واحتضانه، كان هناك من استغفلني ورآه وحفظه عن ظهر قلب!
كان ما زال ينظر إليّ وأنا أقول لنفسي إنّني لست وحيدة هنا، على الأقل منذ علّقت هذه الصورة، التي تُناسب ألوان جيادها العاجية وورودها الزهرية، لون الستارة والغطاء.
تحولّت نظرته إلى ودّ بالغ، وأنا حيرى بردّة فعلي على جرأته هذه.

من خلف الستارة، ظهر واقترب مني.
دعاني كما يدعو أميرٌ حسناءَ معذّبةً إلى الرقص.
امتطيته ومسّدت رقبته وهمست في أذنه فانطلق بي.

الهواء البارد الذي صفع وجهي، وبعثر شعري، كان دليلاً على أنني لا أحلم، إلا أنني قد أكون أهذي.
كلّ ثانية، كنّا نخطو فوق مرج زهريّ اللون. في كل قفزة، كنّا نخترق غيمة ورد. الهواء حولنا كانت له رائحة التفاح المخمّر.
خمس ثوانٍ، لا أكثر، كانت كافيةً كي أرتوي من خمر التفاح.
صرت أقهقه وأتمايل على ظهر الجواد.
أحكمت ذراعيّ حول عنقه، وقبّلت جلده الأملس.
تبلّلت شفتاي وفاحت الرائحة قويةً، فعرفت سرّها. كانت تفوح من مسامّه.
ضحكت أكثر وأكثر وأنا أغرس أنفي في جلده وأرشف جرعات كبيرة من دم التفّاح ذاك.
زادت سعادتي وأنا أكتشف أنني برفقة كائن يبرعم التفّاح تحت جلده.
الخمرة دوّختني، والجواد تابع عدوه وصهيله. لم أعد أتبيّن شيئاً ممّا حولي. صارت سرعة الجواد جنونية. كاد نبضي يتوقّف.
توسّدت الشعر العاجيّ وغفوت.
غفوت في حضنٍ آمَنُ له. كانت أغلى أمانيّ تتحقّق.

عندما فتحت عينيّ، وجدت ثلاثة جياد متسمّرة في الصورة. تتّجه بأنظارها إلى عقارب الساعة، التي تتّجه بدورها إلى الواحدة وعشر دقائق.
16

مااااعء

بعدما أخذ أحفادي حصصهم من السكاكر والبوظة، وتفرّقوا بين الملعب الترابي والأرجوحة، بقيت تمارا كعادتها معي في الدكان. لكنّني، للمرة الأولى، شعرت بالضيق في وجودها، هي التي تفرّج، عادة، عنّي.
تفحّصت للمرة المائة جسدها، ذراعيها وساقيها وبطنها... سألتها، "هل أوجعك أحد؟".
"ماما" أجابت.
سألتها مجدّداً: "غير ماما؟".
لا جواب.
ألهيتها بالسكاكر والبوظة واللُّعَب كي أنسيها ما أخاف منه. لكنها صاحت فجأة وقد تذكّرت ما هي هنا لأجله، وما تنتظره من أسبوع لآخر.
"مااعء". أشارت بإصبعها إلى الخارج.
حاولت مجدّداً خداعها، فناديت القطّة:"بيسي بيسي"، وركضت بها خلف الصوص: "سي سي سي". لكنها حوّلت نظرها عن الحيوانين وأشارت نحو المزرعة مردّدة :"مااعء ! مااعء!".

أمام عناد أصغر أحفادي وأقربهم إلى قلبي، اضطررت إلى الذهاب حيث لا أريد. أقفلت الدكان وانطلقنا إلى مزرعة الأبقار القريبة، التي كنت أزورها وتمارا أسبوعياً، لتتفرّج هي على العِجْلة البيضاء الصغيرة وتمتطيها، ولأشتري أنا الحليب الطازج لأمّها وخالتها، اللتين تمضيان نهاية الأسبوع وأولادهما عندي في الضيعة، هرباً من صخب بيروت.

يفتح فتىً بوّابة المزرعة بصعوبة. هو من دون شكّ يشغل مكان المرحوم فايز. المرحوم! هل كان على ذاك المسكين، أن يموت بهذه الطريقة، ويترك كلّ هذه النكات الشرّيرة خلفه؟
لم تسأل تمارا عن فايز، فهي لم تكترث يوماً إلا للعجلة الصغيرة التي تسمّيها "مااعء".
لكن "مااعء" لم تظهر. راح الفتى يبحث عنها بين الأبقار مثيراً هلع الأبقار ورائحة الروث.
ثم عاد مبتسماً بسذاجة سلفه، قائلاً إنّها في الحظيرة.
تصاعد بكاء تمارا من جديد، ولم يكن أمامي إلا الدخول إلى الحظيرة، لإلقاء التحية على العجلة المدلّلة.
دخلنا ورحنا ننادي على طريقتها: "ماعئ ماعئ..."، وعندما ظهرت العجلة البيضاء شهقت تمارا بفرح.
قطعتُ جولتها الأسبوعية على ظهر العجلة. أنزلتها وهممت بإخراجها. لكنّ آلة حلب الأبقار التي أبصرتها في زاوية الحظيرة جمّدتني في مكاني.
تصوّرت بقايا دماء فايز عليها. تخيّلته يسقط صريعاً بعدما وضع الآلة في شيئه. تمنّيت لو أنّ الأمر مجرّد حكاية. ولكن للأسف لم يكن كذلك.
مات الشاب الوافد ليعمل في المزرعة، ويدّخر المال الذي سيخوّله شراء بيت وزوجة في بلده. هذا على الأقلّ ما قاله لي عندما كان يشتري منّي المعلّبات والشاي. كان يناديني "يا عمّ". يربّت على شعر تمارا ويقدّم إليها علكة أو "بونبونة".
وجده صاحب المزرعة صريعاً فوق الروث. بنطاله متدلٍ تحت ركبتيه، والآلة قربه تعمل من دون توقّف.
لم يعرف الرجل كيف يتصرّف. تعطّل تفكيره لرؤية الشاب الذي صعقته الآلة.
طلب الإسعاف والطبيب البيطري، قريبه، وطلب النجدة من الجوار. انشغل الجميع بالحادثة. توقّف البعض عن شراء الحليب من صاحب المزرعة، لبعض الوقت. لكنّ شيئاً لم يبق من هذه الحادثة إلا السخرية، وتنهيدة امرأة مسحت صدرها وهي تقول: "الحمد لله إنو راح وإلا كان افترى ع بناتنا".
تقول إحدى النكات إنّه كان يُكثر مشاهدة الفيديو كليبات.
ويقول آخرون إنّه حاول استغلال التكنولوجيا فكان ضحيّتها.

لو أنّي لم أعرف فايز قطّ لقلت حين وردتني حكاية موته إنّه مجنون أو حيوان. لكنّه لم يكن. أو ربما كان من دون أن أنتبه. وإلا فما الذي دفعه إلى هذه الفعلة السوداء؟
لو أنّي لم أبارح تمارا لحظة في أثناء زياراتنا للمزرعة، لعرضتها على طبيب. برغم تيقّني أعاود تذكّر تفصيلات الزيارات واللقاءات مع فايز. لكنّها سليمة، لم تُخدش، لم يكن فايز قادراً على أذيّة طفلة أو ذبابة. لا، لم يكن، وإلا لما خاطر بنفسه.

من فور خروجي من الحظيرة تقيّأت ما في معدتي، ليس ما في رأسي. هذه الهواجس لن تتركني. راحت تمارا تنظر إليّ خائفة، لا تسعفها الكلمات القليلة التي تجيد النطق بها لتسألني عما يجري لي.
شربت جرعة من كوب ماء الزهر الذي أحضره لي الفتى، ثم غسلت فمي ووجهي بما تبقّى. حملت صغيرتي وعدت بها غير مكترث لبكائها وإصبعها الصغيرة، الشبيهة بعلامة التعجّب، التي كان يضعها أستاذ اللغة العربية على دفتري المخصّص بفروض الإنشاء.
"الدنيا يا تمارا "دفتر إنشاء" ضخم، مطلوب منّا أن نملأه بالكلمات، لكنّ معظمنا، فاشل في التعبير، وبعضنا يموت لأجل ذلك. هل تفهمينني؟ الحمد لله أنك لا تفعلين. لنأكل البوظة! ".

17

لونُ المطر

في الشارع المقفر رحتُ أعدو. أسابق الغيوم الدكناء في السماء ولا أصل مثلها إلى مكان .
عندما هدأ المطر، وجدتُ ركبتيّ في الوحل والحصى. ظهرت عيناك الباسمتان بتعالٍ في بقعة الماء المتجمّعة تحتي.
رحت أبعثر معالمها بكفيّ وأصابعي، ولكنها لم تختف. دخلت إلى لحمي مع لسعات البرد.
غرورك هو الذي جعلك، منذ سنوات، تأخذني من يدي وتركض بي تحت المطر، بينما عاد رفقاؤنا كلّ إلى بيته.
لا أذكر سوى الشارع الخاوي من البشر، النظيف، والسيارات التي بدت جديدة. وحدها المصابيح كانت حزينةً، مثلي.
كيف تبعتك لتريني لون المطر وصدّقت أن للمطر لوناً؟
أمسكتَ يديّ ورفعتهما إلى شفتيك ولحست الماء الذي فوقهما، ثم قلت وتلك الابتسامة في عينيك: "جلدك هو لون المطر ...ومذاقه. ستذكرينني حين تمطر. ستظلّ حياتك مبلّلة بي، لن تجفّ روحك مني".

عندما انتهى حفل الوداع، كان هناك من ينتظرني. من كنت أنا بيته. كان رائد في أول الشارع. عرفته من رجفة نور المصباح في عينيه، ومن معطفه الممدود إليّ، ليدثّرني.
معطف رائد كان المشهد الأخير في جميع احتفالاتي. يحاول أن يجفّفني ويدفّئني، ولكني لم أشعر يوماً بدفئه، ولم أنتبه للجسد العنيد يكظم ألم البرد وألماً آخر.
عندما يرخي معطفه فوق جسدي، ويسير معي إلى البيت، لا أكون معه. أروح أتساءل كيف أنّي لم أمنحك ذكرى كذكراك. وأندم لأنّي لم آخذك إلى البحر وأمسح جلدك بالرمال الرطبة أو أبلّل شفتيك ببعض الطحالب. لماذا لم أكن في مثل مكرك؟ لماذا لم يكن رائد في مثل قسوتك؟ وقبِل شرطي الوحيد للارتباط به، وهو ألا يمنعني من طقوسي الشتويّة.
كنت أجده دائماً في أوّل الطريق.
بين يديه معطفه الحزين، وفي عينيه تلك الارتعاشة التي صارت ترافقها انكسارة لا شفاء منها.

في البيت، كانت تنتظرني حنين. أنا اخترت لها هذا الاسم. فطوال فترة نمّوها في رحمي كنت في حالة حنين إلى الركض تحت المطر. بعد الوضع، لم أجد سوى المطر مطهّراً للجرح الذي خلّفته بانسلاخها عني.
لم يعترض رائد على الإسم، ولكنّه أمِل في سرّه أن تشفيني حنين من شغفي.
جميع آماله خابت اليوم. عندما لحقتني أخذتها بين ذراعيّ وركضت بها. بعودتنا كان قد اتّخذ قراره الذي كنت أراه في عينيه في الفترة الأخيرة، وكنت أقرأه على جدران بيتنا الصغير الدافئ وفوق سجاده الأنيق، وفي المرايا الكثيرة التي بالغ رائد في اقتنائها لسبب يعلمه هو وحده.
الآن فقط أراه، وأنتبه كم صار نحيلاً.
كنت أتعامى عن الغيرة التي تفترسه.
الآن أراه، عند هبوب رياح الخريف، يتلظّى من استعداداتي للمطر، ومن نفاد صبري ولهفتي.
يجلس في زاوية مظلمة ويراقب تنقّلي من نافذة إلى أخرى.

كان معطف حنين بين يديه هذه المرة. أخذها ولم يلتفت إليّ. سمح لي بالسهر على شفائها، وعندما شفيت طردني من حياته وحياتها.
وأنا الآن أترنّح وحيدةً تحت المطر. ما من معطف ينتظرني. ما من عينين تهتفان لي، أو تدمعان عليّ. كلّ ما أملكه هو صدى كلماتك وصقيعها. عندما توقّف المطر وخرج الناس إلى الشارع، لم أعد أرى إلا جسد حنين الهشّ المنتفض في السرير الأبيض وشفتيها الهاذيتين.

ربّما تحدّيت نفسي إذ قبلت شروط رائد للعودة إلى البيت وإلى حنين.
لم أكترث كثيراً بتفسير سرّ مسامحته لي، برغم كلّ العذاب الذي سبّبته له .
في الأيام التالية، صار هو من ينتظر المطر.
استرخينا في مقعدينا قبالة التلفاز.
انحنت حنين فوق السجّادة تلوّن رسوماً في دفترها.
ارتجف قلبي لسماعه نقرات على النافذة، وتأهّبت حواسّي للفرار.
أخذ رائد سحبة طويلة من تبغ سيجارته، وتقلّصت عضلات خدّه حتى كادت عيناه تختفيان.
فكّرت في الخروج والعودة سريعاً لطلب السماح.
كدت أقف لولا اليد الصغيرة التي شدّتني من رجلي، واللسان المتلعثم الذي سألني: "ماما بشو بلوّن نقط الشتا؟".
ماذا أقول لعينيها البريئتين عن لون المطر؟ أي قلم من أقلامها الخشبية ينفع جواباً.
"الشتا ما إلو لون"، قلت لها، وأنا أشعر بحواسّ رائد المتيقّظة.
زادت حيرتها وهي تنظر إلى الرسمة في دفترها، فتابعتُ: "اقلبي الصفحة ولوّني هذه الزرافة الجميلة".
أمسكتُ يدها.
قلبنا الصفحة معاً.
تركنا المطر من دون لون.

***


أقرأ أيضاً:

أقرأ أيضاً: