أنا من مواليد عام النكبة، نكبة فلسطين، في السابعة من عمري، عشت تجربة الحركة الشعبية في البحرين والتي كانت تحت قيادة هيئة الاتحاد الوطني أو ما يسمى بالهيئة، وقفت مع الانتفاضة الشعبية في مارس ,1965 وشاهدت سقوط الحلم العربي في نكسة حزيران عام ,1967 كل هذه القضايا سكنتني عندما بدأت مشوار كتابة الشعر.
من الممكن القول إن تجربتي الشعرية مرت بمرحلة جنينية وثلاث محطات أساسية وتجربة رابعة مازلت أعيش فيها.
؟ ؟ المرحلة الجنينية
منطلقاً من البعد الوطني، الأيدلوجي اليساري بالذات، بدأت نشر تجاربي الشعرية الأولى، لذلك كانت قصائدي تعبر عن موقف سياسي حاد وتحمل الكثير من نقد للنظام السياسي وإدارة الاستخبارات والصراع الطبقي والوقوف في صف الطبقة العاملة ومشاركة اليسار العالمي بالحلم بالمجتمع الاشتراكي، ثم الشيوعي بعد ذلك.
بين عام 1968 وعام 1975 نشرت عشرات القصائد ذات المضامين السياسية
والوطنية الصارخة والمطالبة بالحرية التامة وحياة أفضل للإنسان البحريني والإنسان في العالم.
؟ ؟ المحطة الأولى
عندما نشرت مجموعتي الشعرية الأولى ( الرعد في مواسم القحط ) عام 1975 والتي كانت اغلبها مكتوبة بشكل متكرر لزيارتي للسجن بين عام 1971 إلى عام .1974 قمت بإبعاد أغلب القصائد المنشورة في تلك الفترة، لأخفف من حدة الروح التقريرية التي تتخلل معظمها، حيث روح التحريض والتعبئة السياسية تسود معظمها نتيجة لكوني ملاحقاً من الاستخبارات في البحرين، أو معتقلاً أو مهيئاً للاعتقال، فقد كنت أحد العناصر النشطة في المجال الطلابي في بغداد بين عام 1968-1971 و بعدها في المجال العمالي في إضرابات .1972
بعد صدور قانون أمن الدولة عام 1975 واعتقال العديد من كوادر الحركة الوطنية في البحرين، والذي كان نصيبي منها مدة أربع سنوات متواصلة، جلست طويلاً في السجن مع تجربتي الشعرية، ورأيت أن ما أكتبه ليس غير شعارات وطنية في قالب منظوم، يسمى قصيدة التفعيلة.
من هنا انفتحت أكثر على التيارات الشعرية المغايرة للمألوف والعادي والمكرر في العالم، تعايشت مع تجربة لوركا وزاملت رامبو وشربت الجعة مع بودلير، ودخلت تثوير الجملة الشعرية عند أدونيس، ولعبت مع حيوانات سليم بركات وبالطبع تنادمت مع قاسم حداد الذي كان معي في السجن، ويشرب معي قطيرات الحلم بالحرية التي خلقنا لها أجنحة كانت تطير بنا إلى أبعد كوخ في أقاصي العالم، وتجعل مناخ السجن أكثر حرارة ودفئاً وحيوية وحرية من الخارج المصادرة فيه قيمة الإنسان وكرامته وأحلامه.
؟ ؟ المحطة الثانية
في السجن خرجت من إطار قصيدة الموضوع، إلى قصيدة الرؤيا فكانت تجربة (رؤيا الفتوح) بداية لهذه المحطة وهي قصيدة طويلة تعبر بصورة مغايرة عما كنت أطرحه في التجارب السابقة مثل مجموعة (هي الهجس والاحتمال) ومجموعة (المزمور 23 لرحيق المغنين شين)
كانت (رؤيا الفتوح) و(نخلة القلب) في تصوري، تجربتان مغايرتان لقصيدة الموضوع ثم جاءت بعدهما تجربة (تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة) والتي اندمجت فيها تجربتي الحياتية بتجربة الفنان الشعبي المعروف ضاحي بن وليد.
وهي كما سماها الناقد الدكتور علوي الهاشمي في كتاب كامل يتكلم عن التجربة، (قصيدة حياة)
كانت تلك التجربة، في تصوري، من التجارب الصعبة على القارئ البحريني فما بالك بالقارئ العربي، فقد حملت العديد من الرموز الخاصة والمبتكرة والشديدة الخصوصية، التي لا يمكن أن يتعرف عليها إلا من عايشها. تبعتها تجربة ( ذاكرة المواقد) والتي في واقعها بمثابة ذاكرة للحركة الوطنية في البحرين،
من خلال بعض الأسماء المرموزة، برؤية مختلفة عما يطرح في الأدبيات السياسية، والتي لم تقرأ حتى من السياسيين الذين لا يعرفون التماهي واللغة الشفافة. والتي تحاول أن تقول في ما بعد النص أكثر مما قاله النص.
بعد هذه التجارب رجعت إلى كتابة قصيدة المضمون في عدة مجموعات شعرية منها (مائدة القرمز) وللعناصر شهادتها أيضاً أو المذبحة ثم في مجموعة (وآعرباه) والتي كانت عبارة عن موقف ضد غزو النظام العراقي لدولة الكويت.
؟ ؟ المحطة الثالثة
بعد فترة قررت الانتقال إلى أقاليم شعرية غير مطروقة وخلق عالمي الخاص المغاير لما هو مطروح في الساحة المحلية والعربية والعالمية فقمت بابتكار شخصية متخيلة فكانت تجربة (مخطوطات غيث بن اليراعة) وبعدها تجربة (كتاب الشين) والتي حاولت الابتعاد عن كتابة (شعر) ووضعت كلمة حققه علي الشرقاوي، ثم بعد ذك كتاب (من أوراق ابن الحوبة) التي(جمعها ووبوبها علي الشرقاوي)
القارئ العادي وحتى بعض النقاد لم يستوعبوا لعبة الشاعر فاعتبر (كتاب الشين)هو كتاب محقق وليس شعر وأيضاً(من أوراق ابن الحوبة) مر بنفس التصور من القراء الذين لا يستطيعون التفريق بين الرواية والشعر إلا من خلال التعريف بكلمة شعر أو رواية تحت عنوان الكتاب.
؟ ؟ المحطة الرابعة
وهي التي أعمل عليها الآن منطلقاً من رؤى، بعضها كانت متوفرة في بعض التجارب القديمة ولكنها الآن، كما أرى، اتخذت مساحات أكبر وهي الغوص في أقاليم ومحيطات التجربة الروحية على المستوى الإنساني، والدخول بصورة أعمق إلى العوالم الصوفية التي كنت أتعامل معها من الخارج منذ تجاربي الأولى. في التجارب الجديدة أحاول التواصل مع المطلق واعتبار الإنسان قطرة نور في محيط الأنوار الكونية والرغبة الكلية للانسجام والتكامل مع كل ما هو موجود في الكون.
****
أحمد المناعي
فيما يأتي نص حوار مع المبدع علي الشرقاوي، لكن من دون الأسئلة التي لم تكن مرفقة معه، وقد خص به المبدع أحمد المناعي ملحق الكنش مساهمة في الاحتفاء بالشاعر، وكان هذا الحوار هو الأول الذي مع الشاعر في العام ,1979 بعد خروجه من المعتقل وقضائه أربعة أعوام فيه منذ 23 أغسطس (آب) 1975 إلى 23 أغسطس 1979م، علماً بأن هذا الحوار لم ينشر من قبل.
؟ كنت قارئا لكل ما أجده أمامي وتكونت لغتي من قراءاتي
آه يا صديقي! من الصعوبة أن نحدد بداية تكون الماء، هكذا أرى صعوبة تحديد بداية علاقتي بالشعر، أخشى أن أتهم بالمغالاة حين أقول أنها تكونت -فيما أذكر- بين الثامنة والتاسعة، قد يكون قبل ذلك الوقت لا أذكر بالضبط إلا أنها كانت في هذه الفترة.
كانت الكلمة أو بالأحرى الكلمة المسجوعة لها إيقاع خاص في نفسي، كنت أعيش الشعر في الغناء، الأعراس و(المراداة) هذا الرقص النسائي الجماعي وهن ينتظرن عودة الرجال من رحلة الغوص، كنت مشدوداً للغناء، للكلمات للأنغام. أعيش الشعر من خلال القصص التي تحكيها والدتي وجارتنا والتي تتخللها المقاطع الشعرية باللهجة العامية، وأصغي لصوت والدي وهو يردد أغاني البحر على إيقاع المجداف وهو يضرب سطح الماء، كانت الكلمة في أناشيد المدرسة، هذه الأناشيد ذات الحس الوطني القومي التي مازلت أذكر بعضها.
كنت أحب القراءة وأنا في الصف الثاني الابتدائي، أقرأ كل ما يصادفني: أوراق الصحف المهملة، بقايا كتب، رسائل ممزقة وأشياء مكتوبة لا أذكرها.
لم أكن قادراً على شراء مجلات الأطفال كسندباد وسمير، وهذا ما جعلني أسرقها، إذ كنت لصاً شريفاً أقفز إلى بيت الجيران وأدخل حجرة ابنهم -الذي كان في مثل سني حيث كان يقوم بشراء هذه المجلات أسبوعياً- وأسرق مجموعة من المجلات وأقرأها فوق السطح ثم أعيدها لأسرق غيرها! وهكذا أقوم بقراءة مستمرة لمجلاتي المفضلة.
في ليالي رمضان كنا نجتمع نحن الأطفال تحت أحد عواميد الكهرباء، وكل فرد منا يحكي قصة من القصص التي يعرفها، ونتبارى في مقدرة أي واحد منا على أن يواصل جملة مسجوعة بحرف الألف والنون في قصص (كان يا مكان في قديم الزمان، ملك من ملوك الجان، أسمه زعفران، وله بنتان... الخ) إضافة لقيادتي مجموعة من الصبيان للغناء والرقص في منتصف رمضان من أجل الحصول على حلوى أو نقود، إذ كنت أغيّر في الأغاني المألوفة وأضع بدلها كلمات خاصة بي.
في الصف الخامس ابتدائي عرفت الشعر بنظرة أكثر تطوراً من السابق، فبينما كنا نلعب في الحي كرة القدم دخلت الكرة إلى أحد البيوت المهجورة والتي تخص عائلة الشاعر (ناصر بو حميد) قفزت على سور البيت ودخلت، رأيت كثيراً من المجلات والصحف المهملة وبعض الكتب المتناثرة، تصفحتها ولم يعجبني منها سوى ديوان (عمر بن أبي ربيعة المخزومي) أخذته معي، أو بالأحرى سرقته، رجعت إلى الأصحاب أعطيتهم الكرة وذهبت لأقرأ الديوان. طبعاً ليست قصيدة بالمعنى الحقيقي، ما هي إلا صور وعجز وقافية.
في هذه الفترة كنت قارئاً لكل ما أجده أمامي، تاريخ، أدب، شعر، دين، فتعرفت على حافظ وشوقي والمنفلوطي وشعراء آخرين كتبت بعد ذلك قصائدي في مدح النبي وعلي بن أبي طالب والعقاد وأناشيد الكشافة التي كانت أمنية لم تتحقق، إضافة لقيامي مع بقية الأطفال في ارتجال تمثيليات حياتية فوق سطح بيت جارنا.
؟ بدايات تعلم الوزن والقافية وتعملق الأسئلة
صادقت إيليا أبو ماضي في (الطلاسم) وعرفت الأسئلة بصورة أكثر حدة رغم أنني لم أكف عن السؤال، منذ الطفولة في الصف السادس عرفت نزار (خبز وحشيش وقمر).
أول مرة قرأت قصائدي أمام مجموعة من الطلبة وذلك حينما أخبر أحد أصدقائي أستاذنا الشاعر (خالد المحادين) والذي كان مدرساً للغة العربية فقرأت بعض القصائد، وأخبرني بضرورة تعلم الوزن وقطع لي بيتاً لا زلت أذكره.
عجبٌ عجبٌ عجبٌ عجبٌ قططٌ سودٌ ولها ذنبٌ
لكني لم أفقه الوزن، وتقريباً في نفس المرحلة التقيت بالشاعر عبدالحميد القائد والذي كان يسبقني بسنة دراسية وله محاولات في الكتابة فكنا نقرأ لبعضنا.
في 68 تعرفنا أنا وعبدالحميد القائد على الشاعر يعقوب المحرقي وكانت تلك الفترة خصبة من حيث الاطلاع والنقاش والكتابة.
وبعدها تعرفنا نحن الثلاثة على الشاعر قاسم حداد وعلى عبدالله خليفة وبقية الزملاء.
كانت قراءاتنا هي البحث عن الجديد في الفكر وفي الأدب وفي الفلسفة، وبدأت تنضج آمالنا وطموحاتنا وحينها عرفنا الفكر التقدمي.
ظهور الأسماء الجديدة في الشعر والقصة بعد الأضواء
طبعاً ظهور الصحافة في البحرين وجريدة (الأضواء) تحديداً كانت أحد العوامل الهامة التي أدت إلى بروز شعراء وكتاب قصة، برز علي عبد الله خليفة وقاسم حداد وعلوي الهاشمي وحمدة خميس كشعراء، وبرز خلف أحمد خلف ومحمد الماجد ومحمد عبدالملك ككتاب قصة قصيرة وبعدها ظهر أمين صالح بوجه جديد للقصة القصيرة في البحرين.
نشر عبدالحميد القائد بعض قصائده إضافة إلى قصة قصيرة بين عامي 67-68 في الأضواء، حاولت أن أنشر قصة قصيرة ورفضت، كنت أقرأ كثيراً وأكتب بصورة مستمرة، قصصاً قصيرة، روايات ومسرحيات، مقالات في الفلسفة والاجتماع والسياسة، كنت أكاد أن ألتهم كل شيء وأكتب كل شيء.
؟ القصيدة الموزونة الأولى
في العام 1967 اشتركت في أسرة فناني البحرين -وهي تجمع مسرحي- كممثل وكتبت مسرحية ورُفضت أيضا، شاركت في تمثيل أحد الاسكتشات، في العام 68 ذهبت في بعثة دراسية إلى بغداد، تعرفت على أحمد الشملان وله محاولات شعرية، وراشد النجم وهو يكتب قصصاً قصيرة ونقداً وشعراً، ومعهما تعلمت بدايات الوزن والعروض، وكتبت أول قصيدة موزونة، وأرسلتها إلى (الأضواء) ونشرت في باب (القراء)، وأخرى إلى (هنا البحرين) أيضاً ونشرت في باب القراء، أعتبر أول قصيدة نشرت لي هي (عاشق الفجر) في (هنا البحرين) التي تعد القصيدة الثالثة بعد تمكني من العروض، وبعد ذلك نشرت في عدة مجلات: مجلة (الاتحاد الوطني) لطلبة الكويت، (صوت الطلبة) (البحرين)، (المسيرة) لطلبة البحرين، (الطليعة) الكويتية، بالإضافة إلى الجرائد المحلية (الأضواء) و(صدى الأسبوع) و(البحرين اليوم).
؟ الأسئلة هي التي خلقت التجديد لدي
أسئلة كثيرة كانت تنتابني، ماذا أكتب؟ كيف أعبر عن مشاعري وأفكاري وأحاسيسي؟ ما هو الشكل الذي من خلاله أصب معاناتي؟ وهل ما أكتبه جدير بالقراءة من قبل الناس؟ أليس من الضروري أن يأتي الشاعر بالجديد من حيث الشكل والمضمون؟ ما هي اللغة التي تستعملها؟ كل هذه الأسئلة جعلتني أقف كثيراً وأنا أكتب، أحاول أن أبتدع الصور والرموز والمواقف، أحاول أن أبتكر لغة خاصة بي، بحيث أن القارئ يفهم أنها قصيدتي دون وجود أي اسم.
هذا التوق الدائم للجديد، جعل بعض الأصدقاء من الطلبة في بغداد يقفون ضد كتابتي، ويصفونها بالغموض والتجديد من أجل التجديد! لم أهتم؛ فمتى اهتم الشاعر بآراء النقاد حتى يهتم بآراء من لا يقرؤون من القصيدة إلا مضمونها.
في نفس الوقت كان هناك آخرون يحملون نفس الهاجس ونفس الهم، الشاعر قاسم حداد والشاعر يعقوب المحرقي والشاعر عبدالحميد والقاص أمين صالح كانت علاقتنا قوية، حيث تجمعنا المعاناة نفسها والطموح نفسه.
من هنا أصبح الشعر ليس التعبير فقط، إنما كيفية هذا التعبير وما هو الجديد في القصيدة المكتوبة، وما هو الموقف المختلف عن تجاربي السابقة وتجارب الآخرين.
أنا لا أخشى على نفسي من الانزلاق، فالشاعر الذي يمتلك رؤيا متقدمة للكون والمجتمع، والإنسان يظل واقفاً كالألف الممدودة منتصباً دائماً وفي شموخ لأنه لا يكتب المواضيع، إنما يكتب الحياة، هل تخشى على شاعر يكتب الحياة؟ الشعر هو الحياة، هو الماء والهواء، لا أتصور أن هناك مجتمعاً يعيش بدون الشعر، وحين يكون موجوداً فليس هذا مجتمعاً، إنما ركام من اللامعنى، حين تقول ما دور الشعر كأنك تسألني ما دور السؤال في ذهن الطفل؟! الشعر هو الطفل والسؤال هو البحث، الشعر هو خض الآخر وهدم قيمة القديمة التي لا تتماشى مع التاريخ، الشعر هو خلخلة جادة لكل شيء، الشعر هو ضد دائم، ضد الطبيعة والمجتمع والإنسان، ضد كل شيء من أجل بناء كل شيء، لا يكتب الإنجازات إنما يبتكر ويبتدع الطموحات الإنسانية الكبرى هل تفهمني؟
؟ شروط القصيدة الجيدة؟ سؤال قاس
لماذا تضعني في هذا الموقف؟ شروط القصيدة الجيدة! إنك قاس يا صديقي حينما تريدني أن أضع شروطاً للقصيدة الجيدة، لست مبالياً ولا أريد أن أكون، إنما أكتب القصيدة ولا أدري هل تكون جيدة أم لا، أحاول أن تكون جيدة في الطرح في الموقف، في الرمز في الدراما، أستفيد من ذاكرة خصبة وخيال لا يحد من أجل كتابة قصيدة صغيرة لها روح الإبداع، ليس كل ما يكتبه الشاعر جيداً، حياة الشاعر في تصوري ليست أكثر من بضعة قصائد تستطيع الخلق، ويكفيني قصيدة قوية تستطيع البقاء والصمود في وجه التاريخ.
اهتم المتلقي بالمضمون ونسي الإبداع
لماذا ينظر القارئ جانباً واحداً من قصائدنا هو جانب المضمون:
ليس ما نكتبه سياسة إنما نكتب معاناتنا/ حينما أكتب عن الفقر فأنا أعيشه حتى نخاع العظم/ حينما أكتب عن المصادرة فأنا أحياها في البيت والشارع والسوق/ حينما أكتب عن الزنازن فأحلى قصائدي قلتها في ظلمتها/ حينما أكتب عن الكلمة فأنا أراها مخنوقة لا تستطيع التعبير/ حينما أكتب عن النخلة فأنا أراها مقتلعة وتبنى مكانها عمارات/ حينما أكتب عن البحر فأنا أراه مسجوناً يبحث عن كوة ضوء/ حينما أكتب عن حبيبتي فكل لقاء معها وداع آخر.
من هنا يرى الآخرون جانباً واحداً من القصيدة، في الوقت الذي تكون فيه كتابتنا ممتدة في كل شيء في التاريخ، في الفلسفة، في المجتمع، في الطبيعة التي أصبحت جزءاً منها، في الكلمة القوية الطرية كالطفل بعد الولادة.
البعض يقول إن شعرنا سياسي! الشعر أحد المواضيع التي تدخل ربما نتيجة الظروف الموضوعية في كتابتنا، الشعر أكبر من السياسة لأن السياسة جزء من عالمنا والشعر هو الكل، فكيف ندفع شعر شاعر بالسياسة وننسى الإبداع! الفن كما تعرف يا صديقي هو مجموعة الصور الرائعة المبتكرة المستمدة من هذا الواقع. أنا أمتلك رؤياً متقدمة للمجتمع الإنساني، لذلك أكتب حياتي، في السجن، في المقهى، في الشارع، وأنا أتلق الكلمة أقول يكفي تقييم الشاعر من منطلق سياسي فحسب.
؟ علاقتي بالطبيعة قوية
علاقتي بالطبيعة قوية، فأنا والبحر صديقان منذ الطفولة، أبي صياد سمك، منذ الرابعة وأنا أدخل البحر مع أبي، من هنا توطدت علاقتي بالبحر والسماء، والنخلة الواقفة كالرمح على جسد الملح، وبالتراب الذي توسخ حالياً بفعل قذارة النفط وتلوثه بأوساخ البواخر التي تسحب دم الإنسان.
لذلك ترى اندماجي بالطبيعة حاداً بشكل قوي، وإن تعمق أكثر بالقراءة، خصوصاً قراءة شعر الحلاج وابن عربي، رابعة العدوية، وجلال الدين الرومي، وحياة السهروردي، خصوصاً إذا عرفنا المأساة التي عاشها بعض دعاة الصوفية، الحلاج، والسهروردي مثلاً، فأنا صليت ركعتين مع الحلاج وهو يصلب على دجلة، وقفت مع السهروردي وهو ينتظر الخيار في كيفية موته، شربت من فيض ابن عربي ونظرته لتوحد الأديان، رقصت مع رابعة وهي تبدأ العشق الإلهي الأول، ودخلت وتفتت على القصيدة التي حلم بها الشريف الرضى وكتبها في لحظة غيبوبة.
من هنا ترى -إن كنت تبحث عن الروح- الصوفية في قصائدي، فإن لم يكن بعضها واضحاً فالبعض الآخر كامن في الصور والمواقف والأحلام.
أتفق مع الصوفيين في وحدة الوجود، لكني أختلف في المذهب، أختلف في المنهج، هم عشقوا السماء وأنا عشقت الأرض، هم عشقوا المطلق وأنا عشقت المشخص العياني في الإنسان.. توق الصوفي للحلول في واجب الوجود، وأنا توقي للحلول في الطبيعة والإنسان، أعلى درجات الصوفية الغناء وأعلى درجاتي في نزعتي الصوفية هي الولادة، هم يؤمنون بالانتهاء وأنا أؤمن بالابتداء.
لذلك أنا والصوفيون نستخدم كثيراً من المصطلحات المتشابهة لكننا نختلف في الاتجاه، نختلف في الموقف، هم مثاليون حتى العظم وأنا مادي حتى العظم، لذلك فصوفيتي جديدة مختلفة ومعايرة لما هو مألوف من مفاهيم صوفية قديمة.
لكن الرائع في الصوفية هو الدخول الكشف، أي تعميق للذات؛ فالرحيل الدائم للكشف عن مكونات النفس والغوص والإبحار الجوائي يقود الشاعر للالتقاء مع الصوفيين في التجربة الشعرية، لذلك فكل قصيدة تحاول الغوص في الذات بها شيء من الصوفية.
؟ القصيدة الطويلة حلمي الذي كنت أرى
القصيدة الطويلة حلم، في البداية كان هناك هاجس لكتابة الرواية الشعرية، فكتبت في العام 1968 قصيدة طويلة هي (مذكرات معتقل في سجن جدا)، في العام 1970 كتبت قصيدة طويلة حوالي 150 صفحة من الحجم المتوسط هي (رسالة من كادح)، في العام 1974 كتبت قصيدة طويلة حوالي 160 صفحة من الحجم المتوسط هي (مسعود يكشف البحر) حالت الظروف دون النشر، فبقيت في الأدراج كتجارب شعرية، إذاً كتابة القصيدة الطويلة ليست مسألة جديدة بالنسبة لتجاربي، لأنني كنت أسعى لكتابة قصيدة حياة بها الشخصيات حية متحركة فاعلة وحالمة بالتغيير.
لكن أعتبر (رؤيا الفتوح) هي أنضج قصيدة طويلة فنياً حققت بعض الطموح الذي أحمله في كتابة قصيدة حياة إذ تمتد التجربة من 1919 إلى 1972 في شخصيات أسطورية ودافعية تتحاور وتتداخل بروح دراسية، بعدها جاءت قصيدة طويلة أخرى هي (تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة) حاولت أن تكون العلاقة بين ضاحي هذا الفنان البحريني الذي جدد في الأغنية، والعود العربي بالريشة والنوتة الموسيقية والأوتار علاقة حوار درامي حار حتى الفجيعة، وحروف النوتة رموز جديدة لم تستخدم -حسب معرفتي- من قبل أي شاعر آخر.
؟ أبحث عن المتلقي الذي يعيش تجربتي
تسألني عن المتلقي؟ شخصياً لا أفكر في المتلقي أبداً حين الكتابة، المهم أن أعبر عما أعيشه وأعانيه، ولأني صادق في معاناتي وطموحاتي الفنية فإنه لابد أن تنتقل حرارة التجربة إلى الآخر، أن أنقل جزءاً من حالتي الشعورية إلى المتلقي، هذا هو كل ما أطلبه، لا أبحث عمن يفهم قصائدي إنما عمن يعيشها بتجاوب مع الصور والرموز والرؤى، يعيش من عذابي وأنا أكتب القصيدة.
؟ الشخصيات والرموز المستخدمة في النصوص
هناك بعض الشخصيات الإنسانية التي بموافقتها الفكرية تعدت خارطة الزمان والمكان، لذلك بقيت هذه الشخصيات أو تحولت إلى رموز بدون قيود، بعض الأحيان تقترب معاناتي لحد التزاوج بهموم هذه الشخصيات ذات المواقف الفكرية والاجتماعية فمن الصعاليك إلى الخوارج إلى الزنج والقرامطة إلى الصوفيين إلى رمز شعبي بحريني (موزة) و(ضاحي بن وليد) ورموز خاصة (الأشهل-فتوح-سلطان) ورموز ثانوية كثيرة تتمدد في القصائد.
بعض الشخصيات أصبحت رموزاً جاهزة بفعل استخدامها من قبل كثير من الشعراء، لكنها تبقى شخصيات مفتوحة للاستخدام من قبل شعراء آخرين يتناولونها من زوايا وجوانب مختلفة، خذ مثلاً شخصية الحلاج، في تصوري -فمهما استخدم شعراً ونحتاً ورسماً- يظل رمزاً مفتوحاً به إمكانات جديدة للاستخدام.
ثمة شخصيات أخرى هي التي تفجر التجربة الشعورية لما تمتلك من خصوصية وشحنات شعورية متميزة عالية من حيث التوتر والصبغة الدرامية مثل شخصية (موزة) البحرينية التي كلمت البحر وهي في حالة الغرق، بعض الشخصيات تتفجر في القصيدة دون أن يكون هناك وعي مسبق بها مثل شخصية ''الطفلة'' التي تتمدد في كثير من قصائدي.
؟ في السجن لا تمتلك إلا ذاكرة مفتوحة للسماء
السجن! إنه قاسٍ يا صديقي، ويتكرر كثيراً ويستمر طويلاً، حتى إنك بعد الخروج منه تظل تلاحقك ظلمته ووجباته وعذاباته، لم يتخل السجن عني، لذلك فأنا أعيش فيه، رغم وجودي خارجه شكلاً..
في السجن ليس لك إلا ذاكرة مفتوحة كالسماء على الماضي وخيال طري كالماء مفتوح على المستقبل، الخبر البسيط هناك يأخذ أياماً من التحليل، أشهراً، وبعد ذلك يتضح لك كذب هذا الخبر، من هنا يكون تعاملك مع الشخصيات الإنسانية وحوارك معها أكثر حميمية والتصاقاً، تعيش عذابات يوسف الصديق في الجب، وفي الزنزانة تعرف آلام طرفة بن العبد، وتسافر في أحلام أحمد بن ماجد، وتكتشف هموم الخليل بن أحمد الفراهيدي وهو يبحث عن قانون وجيل مغاير لما هو كائن.
في السجن لا تقرأ سوى ذاكرتك وذاكرة رفاقك. في السجن لا تحصل على قلم الكتابة سوى حلمك الممتد إلى ما لا نهاية.. في السجن ليست هناك أوراق إلا الرفاق المفتوح لحفظ ما تردده من قصائد وأحلام وطموحات.. في السجن لا تعرف شيئاً عن الخارج لا تقرأ إلا الظلمة والنور الموجود في داخلك كإنسان يعيش قمة العذاب، من هنا كان همي وأنا في السجن أن تكون قصائدي جديدة، لا أعرف ما هي تطورات القصيدة الجديدة في الخارج، لذلك أبتكر جديدي الخاص بي كنت لا أريد أن أخرج من السجن وأنا أكرر ما قلته سابقاً، إنما أضيف جديداً لتجاربي الشعرية وللتجربة الشعرية البحرينية ككل، من حيث التناول والرموز والصورة والرؤيا.
إذاً الهم الذي كنت أعانيه في السجن هم الكتابة الجديدة في المألوفة، معتمداً على ذاكرة لا تنضب وخيال حادٍ يدخل في الجماد ولا أملك إلا الأسئلة، من هنا كان السؤال قوياً وحاداً أكثر من التجارب السابقة، كان السؤال طريقي للبحث والاكتشاف.
؟ سيفاجؤ العالم من الحركة الأدبية في البحرين
الحركة الأدبية الجديدة في البحرين لم تكتشف من قبل القارئ العربي، وأتصور أن الكثيرين سيفاجؤون بما لدينا من محاولات وتجارب قوية تتساوى مع ما يطرح على الساحة العربية من شعر وقصة قصيرة ورواية.
لذلك أنا أرى أن في الثمانيات سيكون للحركة الأدبية في البحرين دور بارز في دعم الحركة الشعرية العربية، وستأخذ هذه الحركة مكانها الحقيقي كرافد هام من روافد الأدب العربي الجديد.
؟ أنصاف الشعراء هم الذين يمرغون رؤوسهم في الأوضاع المهيمنة
الشاعر في الوطن العربي مازال مطارداً ليس في كتابته إنما في رزقه وفي قوت عياله، بالإضافة إلى التعتيم على الأصوات الجديدة الشابة والتي تحاول بناء قيم مغايرة لما هو سائد، الشاعر الضد من الطبيعي أن تقف في وجهه الأوضاع القائمة وتحاول أن تحتويه أو تنهيه، لكني أسأل منذ متى أعطت الأوضاع القائمة الحرية للشاعر في أن يعبر عن طموحاته وطموحات الإنسان.
قد يؤثر هذا الموقف على بعض الشعراء ولكن في تصوري أن الشاعر الحقيقي سيبدع ويظل يبدع في كل الحالات، أنصاف الشعراء هم الذين يمرغون رؤوسهم في الأوضاع المهيمنة أما الشاعر الحقيقي فإنه صوت قوي وحاد ومؤمن بالجديد إيمانه بالماء الذي يشربه، لذلك كلما ازدادت ضراوة الحياة في وجهه ازدادت قوة تعبيره وتحديه، وانصقال موهبته.
؟ مجموعة شعرية واحدة مطبوعة والبقية تنتظر
طبعت مجموعة شعرية بعنوان (الرعد في مواسم القحط) عام 1975 ولدي تحت الطبع:
- هي الهجس والاحتمال (مجموعة قصائد)
- رؤيا الفتوح (قصيدة طويلة)
ومخطوط منها:
1 - تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة (قصيدة طويلة)
2 - مفتاح الخير (مسرحية شعرية من ثلاثة فصول للفتيان)
3 - -النزيف (مسرحية من فصل
****
نده فاروق
في حياة علي الشرقاوي تحولات كثيرة تعاقبت على فكره ورؤيته تجاه عدد من النظريات والرؤى الفلسفية أو التنظيرية في الحياة والمجتمعات.. هو لا يعتبرها تحولات بقدر ما هي نضوج فكري، يعتز بها ويفتخر، لا ينزعج عند تذكيره بها، بل يعتبرها لبنة من لبنات بنائه الفكري وتطور مفاهيمه ونظرته للحياة.. فمع كل فكر أو توجه كان يتبناه كان هدفه الأول والأخير البحث عن المجتمع المثالي والمدينة الفاضلة.. حاورته حول بعض المحطات في حياته فخرجت بمفاجآت عدة وحكم حياتية لابد لمن يطلع عليها أن يجني فائدة ما..
؟ قصتي القصيرة مع جماعة التبليغ
؟ مررتَ -حسب علمي- بتجربة فريدة في مرحلة من مراحل حياتك مع جماعة التبليغ، فماذا تقول عنها وقد كنت تنام في المساجد وتمر على البيوت تطرق أبوابها لدعوة أهلها للصلاة في وقتها، ولم تكن تأكل أكثر من ''القيمة''؟
- كان ذلك في بداية الستينات تقريباً، حين كنت في الصف الأول الإعدادي، وكما تعرفين، يسيطر على الإنسان في بداية البلوغ نزعة تدينية، قد تصل به إلى حد الوسواس، لذلك لم تكن تفوتني أي صلاة في المسجد، وبالذات صلاة الصبح.. في هذه الفترة كنت مع صديقي إبراهيم الحسيني ندخل أي مسجد في طريقنا لأداء الصلاة، وصادف في أحد الأيام أن كنا في مسجد العوضية (الفاروق حالياً)، وبعد الصلاة قام أحد المغاربة بإلقاء محاضرة علينا حول ضرورة الدعوة للإسلام ولو لفترة زمنية من عمر الإنسان، وحددها، على ما أذكر، بأربعة شهور، أو 40 يوماً أو ثلاثة أيام في الشهر.. واقترح علينا فكرة أن نقوم بدعوة الناس للصلاة في منطقة الرفاع، على أن يحضر كل واحد منا نصف دينار للوجبات التي ستكون مشتركة، في الوقت نفسه كان معنا أبناء بهزاد، وهم كما عرفت بعد ذلك أنهم من جماعة الدعوة والتبليغ.
اتفقت مع الصديق إبراهيم أن نشارك في هذه الدعوة وهذه الرحلة، وبالفعل انطلقنا من مسجد العوضية إلى مسجد (الرفاع كمب) وجلسنا هناك مدة يومين وكنا بعد الصلاة نستمع إلى شرح الأحاديث الدينية وكان معنا مجموعة من الشباب والرجال من مناطق عدة من البحرين، وكان أهم عنصرين قياديين من المغرب وباكستان.
؟ المغاربة والباكستانيون في البحرين للدعوة.. كيف؟ ما سبب وجود هؤلاء في البحرين آنذاك؟
- هؤلاء يسكنون المساجد، يعيشون حياة بسيطة مقتنعين برسالة التبليغ ليوصلوها إلى كل دول العالم، ربما كانوا موجودين بدون فيزا، إذ كان يحضر هؤلاء أيام الحج، ففي مدرسة علي بن أبي طالب الموجودة في المنامة بقرب متجر ''آخر فرصة'' كان هذا المبنى بيت اللقطاء (النغول)، يجتمع فيه الناس من كل أقطار العالم ليذهبوا للحج، وهذا احتمال من احتمالات وجودهم بالبحرين.
ويواصل عائداً إلى القصة الأساسية:
في اليوم التالي صرنا نخرج في جماعة لنحرض جميع من نلقاهم على الصلاة، خصوصاً في يوم الجمعة، وأذكر أننا كنا صغاراً ندعو الأكبر سناً منا والكهول لترك ما بأيديهم والذهاب إلى المسجد.
؟ وكيف كانت ردود الفعل تجاهكم؟
- كان البعض يسخر من هؤلاء الأطفال الذين جاؤوا ليعلموهم الصلاة، والبعض الآخر كان يقول كلاماً عاماً ''يعطيكم العافية'' مثلاً.
يعود للمواصلة بعدما قاطعته لثاني مرة:
في الصباح الباكر بعد أن ننتهي من صلاة الصبح والاستماع إلى الأحاديث ينام الكبار فيما نخرج نحن الصغار للسباحة في البركة التي كانت قريبة من المسجد (مسجد رفاع كمب)، وكان هذا المسجد تابعاً لشركة بابكو، وسمي بهذا الاسم لتواجده في منطقة معسكر الرفاع وذلك قبل أن تستقل البحرين.
؟ وماذا عن المدرسة؟ هل انقطعت عنها؟
- بالطبع لا، كان ذلك وقت الإجازة الصيفية، ولفترة لم تطل كثيراً.
؟ ليست هي محور التطور في العالم
؟ لو انتقلنا إلى تجربة أخرى في حياتك، وهي تجربة اعتناق الفكر الماركسي، وتجربة السجن في جزيرة ''جِده''، وعلاقتك بالمساجين هناك، ومدى تغير الأفكار، وعلاقة السجان بالمسجون.. كيف تسرد لنا عن هذه المرحلة من خلال النقاط السابقة؟
- انقطعت علاقاتي الحزبية بعد اعتقالي منذ أبريل (نيسان) 1973 حتى يناير (كانون الثاني) ,1974 هذا الاعتقال الذي ضربت فيه الجبهة الشعبية، وحين اعتقلت في أغسطس (آب) 1975 وحتى أغسطس 1979 لم أكن منتمياً إلى أي تيار سياسي، فالتغيرات أو التطورات في التجربة كانت نتيجة البحث في كثير من القضايا، منها على سبيل المثال، أنني كنت أعتقد بأن لكل إنسان موهبة قد يكتشفها وقد لا يكتشفها، وبعد أكثر من 20 سنة عرفت أن هناك ما يعرف بـ ''الذكاء المتعدد''، بمعنى أن كل إنسان يمتلك موهبة، فلا يوجد شخص أفضل من آخر، ولا دين أفضل، أو لغة أفضل من أخرى.. من هذه الرؤية، بالإضافة إلى علاقتي الأدبية بالشعر الصوفي وجدت أن الصراعات الطبقية ليست هي محور التطور في العالم، إنما بحث الإنسان عن معنى وجوده والرسالة السامية التي يحملها، أي رسالة الأخوة الإنسانية هي التي تسهم في تطور العالم والمجتمع والإنسان.
؟ هل تعني أن هذا الفكر هو ما جعلك تحيد عن الفكر الماركسي؟
- الفكر الماركسي كان نوعاً من أنواع الفكر الذي ساهم في تحليل كثير من القضايا الاجتماعية والاقتصادية، خصوصاً بعد المرحلة القومية التي لا تملك منهجاً بقدر ما تملك مذهباً ينحصر في ثلاثة قضايا: اللغة المشتركة، التاريخ المشترك، المصير الواحد..
أذكر أنني في العام 1968 عندما بدأت قراءة المنهج الماركسي كنت أسهر حتى الصباح أقرأ في الكتاب ثم أذهب إلى العمل وكلي حيوية ونشاط لأنني اكتشفت قضايا جديدة بالنسبة لي، وما كنت أقف عنده من مصطلحات كنت أسأل الأكبر مني خبرة مثل كلمات ''البرجوازية''، ''البروليتاريا''، ''البرجوازية الصغيرة''، ''الكمبرادور- البرجوازية العقارية''، ''الرأسمالية''، وغيرها.
عقب نكسة يونيو(حزيران) كانت حركة القوميين العرب بقيادة جورج حبش، وبعد انفصالها عن الناصرية، بدأت تبحث عن منهج ما، وكان أكبر المناهج لها ''الماركسية اللينينية'' التي كانت آنذاك نوعاً من الحكر عند الأحزاب الشيوعية العربية، لذلك أطلقوا عليها برجوازية الصغار، أو يسار حركة القوميين العرب، فيما اعتبر هؤلاء (يسار حركة القوميين العرب) الأحزاب الشيوعية أحزاباً تحريضية، بمعنى أنها ابتعدت عن الخط الماركسي اللينيني كما طرحه لينين.
ونحن كشباب آنذاك، كنا نقرأ ونطلع على كل التيارات السياسية من قومية وبعثية وشيوعية وغيرها.
؟ أنا وقاسم
؟ أعود لمرحلة السجن، فأسألك عن علاقتك بقاسم حداد، وهل كانت هناك خلافات بينكما وبين باقي المعتقلين بعد تغير توجهاتكما، وأسألك أيضاً عن النظرة تجاهكما بعد أن خرجتما من السجن، إذ اعتقد البعض بأنكما وشيتما بزملائكما، فما حقيقة الأمر؟
- قاسم حداد كان معي في السجن في الوقت نفسه تقريباً لأننا كنا نمثل تياراً واحداً، ولم تكن هناك أية خلافات في السجن لأنه بعد العام 1973 انقطعت العلاقات الحزبية ولم يبق سوى علاقات الصداقة، وكانت الحركة الأدبية في السجن أقوى منها في الخارج، فقد كنت أنا وقاسم وعبدالله خليفة وإبراهيم بشمي، إضافة إلى أحمد الذوادي المهتم بالشعر ومحمد السيد وسلمان كمال الدين نتشارك في نقاشات ليلية حول كثير من القضايا الأدبية والشعرية، وأذكر أننا في كل ليلة، كان واحد منا يتحدث عن تجربة أدبية ما، ويدور النقاش بيننا حول هذه التجربة.
أذكر في سجن ''جِده'' أن الضابط سميث عرف أن قاسم حداد شاعر فأعطاه كتاباً باللغة الإنجليزية اسمه ''كانتونات مالاوية'' ولأن قاسم لا يعرف اللغة الإنجليزية أخذته منه وبدأت ترجمته إلى العربية بمساعدة أحد السياسيين وهو يوسف العجاجي، وانتهيت من الترجمة لكن لم أستطع أن آخذه معي إلى الخارج، وما بقي منه سوى 20 أو 30 رباعية وصلت عن طريق رسائل المعتقلين إلى الخارج.
كان سجن ''جِده'' مدرسة خاصة، بعد أن زاد عدد المساجين السياسيين الذين سيطروا على جميع المناطق، من المطبخ إلى المكتبة، إلى العمل في تنظيف سكن الشرطة، فقد التقى في ''جِده'' مجموعة من عناصر جبهة تحرير شرق الجزيرة (يسار البعث) منهم عوض اليماني وأحمد قاسم عبدالرسول ومجموعة من الجبهة الشعبية أمثال إبراهيم سند ومحمد بخيت وحسن بديوي، إضافة إلى عناصر من جبهة التحرير أذكر منهم حسن مليباري.. كثير من هؤلاء تخرجوا من التوجيهية كحسن بديوي (محام الآن)، وأحمد الحجري ومجموعة أخرى، كما أن البعض تعلم الكتابة والقراءة. كما تعلمنا شيئاً من لغات عدة مثل الروسية والألمانية والفارسية، وأيضاً البلوشية.. وقمت بترجمة مجموعة من الأغاني الفارسية إلى العربية وترجمة مجموعة من القصائد من الإنجليزية إلى العربية.
؟ »السجن أثوابنا الداخلية سوف نبدلها«
؟ كيف تصف علاقة السجان بالسجين؟
- كان سميث يمثل القائد أو صاحب جزيرة ''جِده''، أي ''الكل في الكل''، وينفذ أوامر المخابرات من حيث توزيع المعتقلين السياسيين على الزنزانات، وعدم خلطهم بالمساجين، لذلك كانت هناك بعض الإضرابات عن الطعام ومحاورات ولقاءات من أجل الحصول على مكتسبات منها المشي في الساحة (لأنه كان ممنوعاً)، وبعد شهور من الصراعات وافقوا على المشي في الجزيرة، واستطعنا أن نكون في منطقة مسيجة يفصلها سور عن باقي المساجين، كما استطعنا الحصول على كرة للعب.. وبالتالي علاقتنا بسميث كانت علاقة شد وجذب، لكن لم نكرهه لأنه كان يقوم بتنفيذ عمله وكذلك لم نكره أفراد الشرطة للأسباب نفسها.
هناك نقطة مهمة يجب أن نضعها في الحسبان، وهي أننا لم ندخل السجن مظلومين، بل كنا أصحاب موقف من النظام الموجود الذي كنا نحلم أن يكون ديمقراطياً حقيقياً من حيث وجود العناصر التي تمثل الشعب، وأحزاب واتحادات عمالية وطلابية ونسائية، لذلك لم نتأفف لكوننا مظلومين، بل كانت تجربتنا قوية وكنا نمتلك الحلم، وكتبت هذا في أكثر من قصيدة، بأن السجن أثوابنا الداخلية سوف نبدلها، وهذا ما حدث بالفعل بعد سنوات، وبعد أن تحولت جزيرة ''جِده'' إلى جزيرة رائعة.
؟ أعود وأسألك عن مسألة الوشاية واتهام البعض لك ولقاسم حداد بأنكما أبلغتما عن رفاقكما؟
- نحن كشعراء لا يمكن لأحد أن يسيطر علينا، بحكم تركيبتنا وتجربتنا الداخلية الثرية، إضافة إلى قراءاتنا واطلاعنا الواسع وروحنا وانفتاحنا على العالم، لذلك حين صارت الضربة اعتقد البعض بأننا وشينا بهم، لكن لو قرأنا التاريخ، فهناك كثير من الأمور لم تنكشف للمخابرات حتى الآن، وبالتالي من يعتقد أننا وشينا فهذه مشكلته، بدليل أننا ما زلنا نعيش ونطرح وجهات نظرنا بصورة أقوى، لم نتخل عن قناعاتنا ومواقفنا، ونملك مساحة من الحب تطغى على مشاعر الكراهية، والأروع أننا التقينا بأناس من أصحاب التجارب التي تفوقنا أمثال محمد جابر الصباح، محمد السيد، محسن مرهون.
؟ اقتربت من الصوفية بنظرة ماركسية!
؟ حسب ما ذكرت فإنك في فترة من الفترات انجذبت نحو التصوف والشعر الصوفي، فما مدى تأثيره كأبي ذر يعبد المستطيلات أو مقولة النفري ''إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة''، فإلى أي مدى يكون للعملية الشعرية دورها في شخص مؤدلج، وكيف يمكن استبطان الحالة ومعايشتها كقيم إنسانية عامة؟
- الصوفية، كما قرأت وعرفت لها علاقة بالحب الخالص لله، والعشق الإلهي، وفي فترة من الفترات حاولت أن أقترب نحو هذا الجانب، لكن من نظرة ماركسية، على أساس أن العشق ليس بين الإنسان والإله، بقدر ما هو العشق بين الإنسان والثورة، لذلك كنت أرى الثورة البديل للمعشوق، ومن هذه الزاوية كانت أغلب تجارب تلك الفترة مرتبطة ارتباطاً صوفياً، وبحثت في تجارب الحلاج والسهروردي وجلال الدين الرومي، ووجدت أن النثر الصوفي العربي أكثر أهمية من الشعر الصوفي، وعرفت أن الإنسان إذا وصل إلى قمة العشق من الممكن أن يشطح..
بعد هذه الفترة (فترة السجن) تكونت علاقتي مع الجانب الروحي في الصوفية، مع النور الكوني والحب المطلق، لذلك فأنا مازلت أعيش تجربة العشق الصوفي لكن من الناحية النورانية.
في السجن لا يوجد غير الماضي والمستقبل، لأن الحياة اليومية الروتينية التي نعيشها أكثر من عادية، ولكننا على رغم ذلك كنا مشغولين جداً بكثير من المشاريع التي نحلم بها، وكانت رؤيتنا غير محدودة، ومن هنا جاءت مجموعة من التجارب التي أعتبرها من التجارب الشعرية المهمة، منها تجربة ''رؤيا الفتوح'' و''الهجس الاحتمال'' و''أفا يا فلان'' و''نخلة القلب''، هذه التجارب لم يستطع السجن والمراقبة داخله أن توقفها عن التدفق، وكانت هناك مجموعة من تجارب قاسم حداد، وخصوصاً في قصيدة النثر مثل ''قلب الحب'' و''انتماءات'' ومجموعة من التجارب النثرية التي أسماها فيما بعد ''وقت للكتابة''، وأيضاً علي عبدالله خليفة كتب مجموعة من الروايات، وإبراهيم بشمي بدأ تجربة القصة الطفلية، وآخرون كتبوا قصصاً منهم سلمان كمال الدين وإبراهيم سند وإسماعيل العلوي، ومنهم من كتب نقداً مثل المحامي محمد السيد، لذلك قلت: إن الحركة الأدبية في السجن كانت قوية جداً مقارنة بالخفوت الذي عاشته أسرة الأدباء والكتاب بعد اعتقالنا في 1975 وقيام الحكومة بتدابير أمن الدولة التي وقفنا ضدها، واعتقلنا بسببها، وتمارس ضدنا كل الظلم، فبعد كل ستة شهور نؤخذ إلى المحكمة لنطرح رفضنا الكامل لهذا القانون ومن أتى به.
؟ البحث عن الروح والمطلق
؟ الآن وأنت تعيش حالة التحول في اتجاه علم ''الريكي'' والتنفس والبرمجة العصبية والطاقة، هي تحولات طالت عدداً من الكتاب أمثال وليد الرجيب في الكويت، ومنيرة الفاضل وفوزية السندي، كيف تقيم هذه الظاهرة؟
- أعتبر ذلك نمواً في التجربة وليس تحولاً، فعلى المستوى العادي تجدين الإنسان بعد سن الأربعين يبدأ حماسه للأشياء اليومية أو المتغيرة يقل، ويزداد بحثه عن الشيء الذي لا ينتهي، عن المطلق، عن الروح، لذلك عملية البحث ''الريكي'' جزء بسيط من التصور الكلي للكون، لأنه نمط من الأنماط الروحية، هناك أنماط كثيرة، ومن خلال التجربة يصل الإنسان إلى العلاقة بروح الإنسان والعلاقة بالروح الكونية والعلاقة بكل ما هو جميل ورائع في هذا العالم، أي أن هناك التأمل وهناك الصوفية، وهناك القراءات في الهندوسية والطاوية والمناوية والزرادشتية، إضافة إلى القراءة في المذاهب الإسلامية بصورة عامة.
أنظر دائماً إلى أن كل إنسان فيه شيء من روح الله، خصوصاً إذا اقتربنا من فهم الآية ''ونفخنا فيه من روحنا''، وبما أن آدم فيه من روح الله، إذن جميع بني آدم يحملون هذه الروح، ولأن ''الله محبة'' إذن تكون النقطة الأساسية عند الإنسان هي الحب، أما الكراهية فهي نوع من المرض الذي يصيب الإنسان.
إذا أدرك الإنسان أنه حب خالص وجزء من روح الله فلماذا يكره، وهذا ما قلته في أكثر من مكان، أنا لا أكره أحداً، حتى من آذوني، ربما أكره السلوك، لذلك ومن هذه الزاوية أحاول أن أنشر المحبة في كل مكان، لم أخترع المحبة، لكن قد أستفيد من كل الأديان لنشر هذه المحبة ولتحل محل الكراهية بين الإنسان وأخيه.
؟ كلمة أخيرة
هذا هو الشرقاوي.. هذا هو ''أبوفيّ'' كما عرفناه.. نشعر أننا محظوظين بمعرفته، ويخسر كثيراً من لم يحالفه الحظ ليتقاطع مع هذا الرجل الرائع في أي مناسبة أو موقف مشترك
*****
محمد حداد
عرفته وأنا أتهجى معرفتي بأبي! كان يمثل لي الثقة والأمل، يشعل القناديل لي ويصرخ فيّ: ''لا تتردد.. فغداً سيكون الوقت متأخراً''، كان يشرح لي (وأنا مسحور بالموسيقى) كيف أعزف على العود ولا أعزف عنه، وكنت أفهم عليه لأن درسه لي لم يكن موسيقياً، بل إنسانياً.. عينه على تجاربي الصغيرة ويده على قلبه الكبير، يحمل همّ كل من يراه ومن يسمع عنه، لا يرتاح إلا إذا نام حيث يبدأ قلقنا.
شخص يعرف لغة الأطفال ويفهم آلام الشيوخ، يسرد أحلام الصبايا، يكتب شعراً فنغنيه.. يكتب ألماً فنغنيه، فشعره حاضر في كلامه حتى وهو يسألك: أصب لك شاي؟ هذا السؤال الذي لازمه حتى كدنا نغنيه كي يكتب غيره! ذهب بحماسة الشباب الى أقصاها، أشعل جمرتهم الباردة واستفز بقايا أحلامهم البائتة كي ينهروا مخيلاتهم ويشحذوا الوقت بالعمل، حيث أقنع نصف الشباب بأنهم مغنون، وجعل النصف الآخر يكتشف موهبته في التلحين، نثر قصائده بينهم ووزنها، كي يختاروا منها ما يشاؤون، كاد أن يلحّن معهم الأغنيات إلا أنه لم يدوزن عوده و''أوتاره'' أبداً. يمنح الأمل لمن يطرق بابه، مخفور بامبراطورية الفاء، لكنه يجد في النون عرشاً يليق بعزلته، فهو بين الفاء والنون يجد الفن كلّه. ملَك الحرف من حرفية، ذهب إلى البحر حتى تنفست رئتيه، لم تثنه مواسم القحط عن سماع الرعد، رافق ضاحي بن وليد في تقاسيمه، وكتب مزاميره الثلاثة والعشرين كي يصغي للمغنّين، خط مخطوطات بن اليراعة على مائدة القرمز، حيث تناثرت أوراق ابن الحوبة من كتاب الشين. لم تأخذه الفصاحة عن دارج اللغة، فلم تسعفه سواحل صيف في حواره مع شمس الروح، فخط مواويلاً تَسَعُ بر وبحر اللغة، ليقتني أصدافاً ولولو ومحار.
؟ وهو يدخل في اللحن
أغوته الأغنية فذهب بها الى المسرح والتلفزيون، كتب التاريخ أغنية، والألم أغنية، قال عن جزيرتنا ''يا ويلها ديرة''، وقال للصديق ''إنت قلبي وآنه قلبك''، ورفع رأسه ''بالبيرق المرتفع''، وسألنا السؤال الكوني ''شنهو الوطن؟ مو صخرة سوده أو تراب؟ شنهو الوطن؟ مو نخله خضره أو كتاب؟''، صاغ لعذاري وللخور أعمالاً تليق، وأغنيات تنهض بالتراث.
أما عن مشواره مع الأغنية الحرة التي أتقن صياغتها كما يُرسم الوشم في كتف التجربة، فشخص مثله يملك قاموساً من الكلمات التي تحمل رائحة البحر وطعم الفقر، فيتفنن في صب صليل الوحدة التي جعلته يكتب ''يمكن يكون لونك حزن.. يمكن يكون صمتك كلام'' وهو يهدهد المحمدي في صورته النضالية بين ظلال الحديقة وظلام الزنزانة، وما جعل هذه الكلمات تبلغ أقصى نبيذها، لحنٌ اقترحه خالد الشيخ كي يسهم في ضياعنا بين التآويل، فقد تنبأ الشرقاوي مبكراً أن الشيخ سيكون نديماً طويل السكرة بما له من ألحان فيها لون يشبه نبيذ كلماته، فتولدت بينهما تجارب منذ ''بيني وبينه بحر والسفر اشطوله.. ياطيور ضحك الفجر في الظلمه روحوله.. مسحوا عذاب جسده وعن حالي احجوا له'' مروراً بـ''إضحك يا صدر فوق البحر عالي .. وشقق بالفرح إللي جرح حالي''، وأقف عند أغنية ''سافر'' التي تمثل بالنسبة لي وقفة مميزة في التقاء الأفكار بين الشيخ والشرقاوي، فكلمات هذه الأغنية كتبت بعد ولادة اللحن الذي صاغه خالد وهو مسافر في إحدى رحلاته، فعندما عاد أسمعه للشرقاوي الذي صاغ له كلمات تليق بلحن جريء ويحوي نقلات غير مألوفة بالنسبة للفترة التي اشتغل عليه الشيخ فيها وهي بين 1985 و,1986 وتعامل خالد مع هذه الكلمات بذكاء حيث استفاد من التفعيلة الموسيقية التي مكنته على تحريك الأبيات كما يشاء، وخطورة تجربة مثل هذه عادة يخفق فيها الشاعر أكثر من الملحّن، حيث يتخلى الشاعر عن كثير من الحرية النصية كي يلتزم بتفعيلة اللّحن، لكن النص الشعري في هذه الأغنية كان مؤثراً بدرجة كبيرة تدل على شفافية الشاعر (وأنا هنا لا أتكلم عن رأيي في القصيدة أدبياً حيث لا أجرؤ)، وتتواصل التجارب بين الثنائي (الشرقاوي والشيخ) لدرجة أنه في بعض الأغنيات يسهم الشيخ في كتابة القصيدة مع الشرقاوي مقترحاً أبياتاً تتجاوز بكثير ما يسمى تصرّف الملحّن وقت التلحين، وهذا يعطي صورة واضحة عن مدى فهم الشيخ للتراكيب الشعرية التي ينتهجها الشرقاوي.
رسم الشرقاوي والشيخ معاً شخصيتنا البحرينية بين ثنايا أغنياتهما، إذ ركبنا معهما ''شراع الهوى'' بكلمات تصف العشق المتمرد ولكن بخجل حيث ''لا بندر يوقفنا ولا مينا... مثل طيرين نتريق غناوينا.. واحنا ثنين ثالثنا الهوى فينا'' ولا وجود للشيطان في حضرة اثنين أصابهما العشق إلى هذا الحد. يعرف الشيخ كيف يُلبس كلمات الشرقاوي ألحانه وكأنما لديه أدراجاً خاصة من الألحان متأهبة لقاموس الشرقاوي، فطعم اللحن الذي ينسجه الشيخ مع كلمات الشرقاوي يختلف عن كل الألحان التي يكتبها بكلمات شعراء آخرين. اجتاحنا علي الشرقاوي من كل صوب حيث نثر كلماته في زوايا حياتنا، حتى وصل إلى منتهانا. عند حضور شخص مثل علي الشرقاوي نبدأ السرد ولا نكفّ.
***
عبداللطيف النّصار
قصير القامة، واسع الصدر، كبير القلب، يتحرك كالنحلة، ويسكن كالفراشة، عندما شاهدته أول مرة شعرت أنني أرى أبي الذي فارقني منذ 29 عاماً.. نظرت إليه في مقهى الشراع وكنت بصحبة البنكي وفريد رمضان وسوسن دهنيم، كانوا يحدثونني عن البحرين، وكنت أحدث نفسي برؤية أبي بالرغم من فارق السن القليل بيني وبين الشرقاوي، لم أكن أدرك وقتها أن علي الشرقاوي سيكون مهدئ آلامي وأنا بعيد عن أهلي..
''تشرب شاي'' هي جملته المعهودة عندما يراك ساكناً، فيقابلك بابتسامة واسعة ويفاجئك: تجي نشرب شاي؟ ونشرب شاياً بسر الشرقاوي، وتشعر بعدها أن الدنيا أصغر من دمعة طفل وحزن ثكلى، ودقيقة في سجن تذوق الشرقاوي مرارته.. وكلما مرت الأيام تكتشف شيئاً جميلاً في الشرقاوي الذي اشتق اسمه من الشرق، وهل الشرق إلا الحكايات الجميلة والرائعة، ومهد الحضارات وشروق الشمس، والشعر الجميل، والسحر الآسر، أما ''تشرب شاي''... فهي خصلة جميلة من الشرقاوي تعني الكرم والعطاء، دائماً ما يعطي ولن تجده مرة يقول هات.. دائماً يقول خذ، اضحك، ابتسم، الحياة حلوة، لا تنظر إلى نصف الكوب الفارغ، فالنصف الآخر فيه خير.
علي الشرقاوي.. الأب حين تفتقد أباك، الأخ حين تغيب الأخوة، الصديق حين تعز الصداقة، الشاعر حين تتصحر الأيام، الباسم حين تعبس الدنيا، الحاضر حين يغيب الآخرون، السائل عنك حين يتجاهلك الأقربون، التاريخ حين تجهل البحرين، الطائر حين يقع السائرون.. الملبي للنداء حين يتلاشى الساهرون.. إنه علو ''علي'' وإشراق ''الشرقاوي''.
هل يمكن أن أجد أحداً يختلف على روعة الشرقاوي وحضوره ودماثته وموسوعيته ورقته بالرغم من حياته المليئة بالأشواك التي استطاع أن يصنع منها شبكة ليصطاد بها الأمل ثم يوزعه على المحتاج والمكتفى..؟!
إن الشرقاوي لا يهمه عيوب الآخرين ولذلك نحن لا نرى فيه إلا المحاسن.. ويكفينا فخراً أنه بينا.. ويكفينا حباً ما نشربه من أنهاره، وسأقول له كما قالت أم كلثوم:
عودت عيني على رؤياك وقلبي سلم لك أمري
وإن مر يوم من غير رؤياك ما يتحسبش من عمري
شكراً لك يا عم علي وياريت تجي نشرب شاي.
****
فريد رمضان
1
اثنان شكلا أساس علاقتي الأولى بالكتابة والإبداع، الأول ابن خالتي حسن عون الذي كان يدرس النقد المسرحي في الكويت، الذي شكلت زيارته الصيفية إلى البحرين قارب نجاة لشاب في المرحلة الثانوية - ربما كاد أن يضيع لولاه، فكان يأسرني وهو يتقدم إلينا متأبطاً كتباً مسرحية وفكرية يجيد تغليفها، وبوصمها بختم ''مكتبة حسن عون''، كان يضع الكتاب أمامي فيما هو يدون أحلام العائلة، ويراقبني وأنا أتعلم منه قراءة الأدب الحديث، وأفهم معنى أن تكون لنا مكتبتنا الخاصة. عندها توقفت أنا وصديق طفولتي ''عصام الجودر'' عن إعادة بيع الكتب التي كنا نشتريها ثم نعيد بيعها لنشترى كتباً أخرى.
والثاني هو الشاعر علي الشرقاوي الذي تعرفت عليه من خلال زوجته الشاعرة فتحية عجلان، ابنة حارتنا ''حارة البوخميس''، حين أخذت كتاباتي إليه وهو في سجن جزيرة ''جده'' لاستلم منه أول درس لمفهوم الاشتغال الإبداعي، وهو ''القراءة، ثم القراءة، ثم القراءة''. وحين خرج من سجنه مطلع الثمانينات، بدأ في تشكيل وعيي الأدبي والسياسي والاجتماعي، وله الفضل في توجيه كتاباتي في مجال القصة القصيرة، وترك الشعر بعد أن علمني بحوره وأوزانه، حيث وجد في كتاباتي السردية فضاءً يستحق الاهتمام. وكنت أرى فيه نموذجاً للكاتب الثوري، حين كانت الأيديولوجية جزءاً من مصير الكاتب في معترك الحياة والإبداع. علمني صنعة الكتابة، علمني هدم الكتابة، وعلمني ''كسر'' الأشياء والذهاب إلى المختلف، والصعب، والخطر. علمني الذهاب إلى الكتابة محفوراً بكل الوسائل والأدوات، واستثمار طاقة الحياة وما تعطينا من ألم وفرح وحزن. قال لي لا تبحث عن الفكرة، إنها حولك، في جسدك وألمك، وعلمني التعاطي مع مرضي ''تكسر كريات الدم المنجلي'' كصديق يزورني بين وقت وآخر ليعلمني درس الحياة. وهكذا خلق ألفة بيني وبين هذا المرض. بيني وبين الكتابة.
2
يشكل الشاعر البحريني علي الشرقاوي بتجربته الشعرية والمسرحية والكتابة الدرامية اسماً هاماً في المشهد الثقافي البحريني، بل إنه يعد من أهم الأسماء الإبداعية التي ساهمت في بروز الكثير من المبدعين والفنانين في الكثير من المجالات الإبداعية، مشجع من الطراز الأول، اهتم بالكثير من المواهب التي وجدت في روحه طاقة هائلة لاحتضان المبدعين الشباب. روح محملة بطهارة راهب يفني جسده ووقته للآخرين، حتى خلق مريدين لا ينقطعون عن مجالسته لما فيها من إثمار وتفجير لطاقاتهم الإبداعية، فبرز من خلاله الكثير من كبار الفنانين من أمثال الفنان خالد الشيخ والفنان مبارك نجم والفنان يعقوب يوسف الذين وجدوا في قصائد شاعرنا العامية مساحة لتفجير طاقتهم اللحنية التي قدمت أجمل الألحان والأغاني، وكذلك وجد الفنان الشاب جمال السيب وغيره من الملحنين الشباب طريقهم للفن الغنائي عبر جدول الشعر السخي، الذي لم يبخل به هذا الشاعر على المواهب الشابة التي تلجأ إليه، وتجد من خلال كلماته طريق النجاح.
ومن الغناء إلى الأدب والموسيقى والمسرح، حيث يشكل احتضانه للمواهب الشابة بوابة سخية تقود صاحبها الذي يجيد الإنصات لنصائح وأفكار هذا الشاعر الراهب، طريقها إلى أرض الإبداع والتجلي، فخرج من مجلسه كتاب ونقاد وممثلون ومخرجون يعملون في المسرح والتلفزيون. كما ولدت في مجلسه الكثير من الأعمال الدرامية الناجحة التي أصبحت تشكل علامة فارقة في الدراما التلفزيونية البحرينية.
3
كتب الشاعر علي الشرقاوي في جميع مجالات الإبداع الأدبي والفني، وشكل لوحده مكتبة إبداعية تضاهي مكتتبة ''نون'' التي تحولت إلى معبد للتنسك في مجالات الإبداع والفنون. إبداعاته الغزيرة كانت ضرورية لسد النقص في حقول الإبداع المتنوعة، فأثرى المكتبة البحرينية بمؤلفات عديدة في مجالات المسرح، ومسرح الطفل، وأغاني الأطفال، ومسرح الأطفال، والمسرح الشعري، وكتابة الأغنية العامية وتفجير المواويل الرائعة، كتب للدراما التلفزيونية والإذاعية، وشارك في كتابة حوار أول فيلم بحريني، وهو فيلم ''الحاجز'' مع المبدع الرائع أمين صالح.
4
إليه، وإلى وقته الكثير الذي ضيعه معنا، لنتعلم الكتابة، كل التحية والاحترام والتقدير.
***
لولوة الرميثي
هدوء وسكينة، وبالداخل شعلة من الغضب، من الممكن أن تمتد للخارج وتحرق أي شيء ممكن أن يحترق بقربها!! تليها لحظات من تحية صباحية جميلة ''صباح الورد يا ورد''، وسؤال عن الحال والأحوال، ثم سؤال خاص ''عسى ما شر عطونا ويه عاد''؟ عندها ترتسم الابتسامة، ويمحى ذلك الغضب.
نعم هو ''بوفي'' بحبه للجميع، فلا داعي للسؤال فقط نظرة واحدة منه لوجه ابنتيه ''الجديدتان'' يستطيع معرفة الحالة المزاجية التي هما عليها، والأجمل من ذلك مقدار الكلمات والعبارات التي تنهمر عليهن لإصلاح ذلك المزاج.
''بوفي'' والد الجميع، الموسوعة التي تشتمل على كل المفردات، مفردات الإنسانية مفردات الأبوة مفردات الحب، مفردات لكل مفرد، فهو الأب الروحي ''للوطن'' كما يلقبه الكثيرون.
لكنه بالنسبة لي مدرسة في رفع المعنويات وشحذ الهمم، فلا ترد في قاموسه الخاص كلمة ''لا'' أو رفيقتها ''مستحيل''، فهو لا يحب سماعهما بتاتاً، وكثيراً ما يقول لا يوجد شيء اسمه مستحيل، فأنتم الشباب وتستطيعون فعل كل شيء، لا تتركون اليأس يعرف طريقه إلى نفوسكم، ''ما في شيء مستحيل''، وله من المواقف الكثير فهو الوحيد الذي يرفع معنوياتنا ويدفعنا إلى الاستمرارية، وليست الاستمرارية بحد ذاتها إنما بحب وبإخلاص وتفانٍ، وكما يقول دائماً ''ما دام تشوفينه صح فهو صح''، ولسنا نحن فقط من يسمع كلمات الإطراء والتقدير، بل حتى مراسلي الصحيفة.
دروس كثر تلقيتها في مدرسة الأستاذ القدير علي الشرقاوي أو كما أحب أن أناديه ''بوفي'' وفي أحيان متفرقة وفي زلات اللسان أناديه ''يبه''، من بينها وأهمها الطموح لدى الإنسان وهي خير مثال على الطموح، فلازال ورغم العمر يطمح للأفضل، وعمل على نقل هذا المبدأ في نفوسنا، وهو دائماً يسأني ''ها لولوة ما قلتيلي متى الماجستير أحين؟''.
نفتقده إذا غاب لكنه يبقى القريب، فكل نجاح نحققه أو يحققه هو نشعر بأننا جميعاً نشترك في هذا النجاح، له في قلبي وقلوب الجميع معزة خاصة، لا تسعها السطور ويبقى في العقل والقلب شيء جميل يذكر هذا الإنسان الأكثر من رائع، في أكثر من موقف وفي أكثر من مكان، أتذكره كلما أحقق شيئاً جديداً وأضيف إلى رصيدي إنجازاً جديداً، يريدني كما يريد الكثيرين ممن يعرفه أن نسير في طريق النجاح، ويرفع فينا المعنويات كلما هبطت درجة على مقياس الطموح.
فكلمات الشكر والتقدير والاحترام والحب لا تكفي حق والد الجميع الأستاذ علي الشرقاوي، المدرسة الحقيقة في الإنسانية والحب وطيب القلب.
؟ همسه
إن أكثر ما افتقده هذه الأيام كوب من القهوة، ممزوج بجرعات من الهمة والعزيمة والصبر، يقدمه لي أستاذي العزيز علي أحمد الشرقاوي
****
مصطفي عبد العزيز
على بعد سنتيمترات من أكثر مكان عمقاً بداخلك تجده واقفاً مبتسماً.. تخاف أن يقترب أكثر فتركع أمامه من فرط الإعجاب بشخصيته.. تحاول أن تنهي سيجارتك بسرعة قبل أن يتمكن من احتوائك.. ولكن لا سبيل ولا مفر.. ودون إرادة منك تشعل سيجارة أخرى تطلق معها أنفاس اللذة مستمتعاً.. في جلسة علي الشرقاوي...
يحظى على الشرقاوي بقدرة غريبة على سرقة مشاعر الحب من الآخرين، يتمكن من التسلل إلى قلبك بخفة ورشاقة، يطلق كلماته على مسامعك فتعشق عيناك أسلوبه في الحديث، ويلوح لك بيديه فتشم رائحة السعادة قادمة من بعيد، ومثل طفل صغير يستمع إلى توجيهات والده للمرة الأولى في شأن الحياة تشعر مع مفردات الشرقاوي بطعم آخر غير مألوف، وجهة نظر أخرى لرؤية الحياة تندم بشدة أنك لم تعرفها من قبل.. قبل أن تتلوث خزانة ذاكرتك بتجارب اغتصاب الآخرين لشرف حبك للحياة، وقبل أن يفسد صندوق فاكهتك بتفاحة الكره والحقد والضغينة...
يتنفس الشرقاوي الشعر.. يأكله بعقله ويشربه بقلبه ويحتسيه بمشاعره مثلما نبدأ نحن وجبة الغذاء بطبق من الحساء الدافئ نرتشفه بالملعقة في تلذذ ومتعة، يقف إلى جوارك، يحدثك، يلقى بالسيجارة من نصفها فوق الأرض، ثم يتركك وينطلق، وبعد دقائق أو ساعات ينتهي من كتابة قصيدة شعرية جديدة، هكذا ينظر الشرقاوي إلى الشعر والكتابة والقلم والورقة البيضاء على أنه الحياة التي تمر ثوانيها فتسرد شطر بيت أو قصيدة شعر أو حتى ديواناً كاملاً، لذلك فهو لا يكتب أو يؤلف أو يسرد أو يقص أو حتى يشعر.. إنه يعيش.
1
في حياة الشرقاوي ثلاثة أسرار كانت بمثابة أصابع ذهبية رسمت ملامح شخصيته على ورق من الشهور والسنين، نحتت أسلوبه على حجر من الخبرات والتجارب، صقلت وجهات نظره على معدن من العادات والعرف والتقاليد، ينكشف السر الأول في حياة الشرقاوي فوق رمال شاطئ البحر، ذلك الأفق الأزرق البعيد المتلون على أطرافه باللون الأصفر والمطعم بالصدف المكنون وحبات الرمل.. وقف الشرقاوي يتأمل ضخامة الحياة، وعمق الزمن، وقوة التاريخ، وملوحة الشقاء، وزبد اللغة، وصفاء الكون.. أدرك الشرقاوي كم عليه أن يقرأ حتى يستطيع أن يشق طريقه نحو العمق.. كم عليه أن يتعلم حتى يستطيع أن يعد أنفاسه لالتقاط اللؤلؤ.. كم عليه أن يعرف حتى يتحمل لسعة مياه الأيام القادمة.. الشرقاوي يعترف لنا بذلك ''البحر جزء أساسي من تكويني، جزء مهم في تكوين تصوراتي وإثراء خيالاتي الأولى، لقد اعتبرت أنني سمكة في هذا البحر''.
2
سر آخر في حياة الشرقاوي يكنزه مثله الكثير من العظماء والعباقرة، سر بمثابة هبة من الله يمنحها لعباد أحبهم، سر وهبة ومنحة إلهية تدعى الفقر، إنه مصنع العباقرة ومزرعة المبدعين وتجارة الموهوبين، إنه شطر الشعر الذي ينشده الشاعر ليكمل به شطيرة خبزه يستكمل معه ومعها طعام عشائه، إنه كوب مثلج من القصائد في نهار ساخن مع عدم وجود المكيف، إنه طريق مليء بالأبيات الشعرية المرصوصة والمقفاة والمنظمة في ظل عدم وجود سيارة.. الشرقاوي نطق للمرة الأولى بكلمة بوعي فوجده بحاراً بسيطة ومن هنا انطلق اهتمامه الأول بالهموم الحياتية، والقضايا الاجتماعية، انطلق بمفرداته بحثاً عن تفسير الأشياء من حوله.. الشرقاوي يكشف لنا عن سره ''الفقر الشديد جعلني مثل السمكة كان عليّ أن أناضل من أجل البقاء؟ كان عليّ أن أطرح الأسئلة، هكذا يتفتح الوعي بمدية التناقضات، والمفارقات''.
3
حقبة الستينات من الألفية الماضية تكشف لنا عن سر ثالث أخير في حياة الشرقاوي.. إنها الأعوام الأكثر سخونة في التاريخ السياسي للبحرين والشرقاوي معاً، كان طالباً لا يتجاوز أفقه السياسي حجم السبورة القابعة هناك أمامه وهو يجلس على طاولته ممسكاً بقلمه.. وجد الشرقاوي نفسه في قلب الأحداث رغماً عنه، شيء ما بداخله يدفعه بقوة للتحرك والحديث والصراخ والغضب، أمسك بقلمه وبدأ يسطر ما يدور من حوله، ولكن شيئاً ما حدث، زلزال أصاب قلمه برعشة قوية فاهتزت معها أحاسيسه ومشاعره، تغيرت وجهات نظره بعدما انهارت أشياء كثيرة من حوله.. يقول الشرقاوي ''.. وعندما جاءت الصدمة الكبرى في 1967 انهارت أشياء كثيرة، وتوضحت لنا الكثير من القضايا التي لم نكن نعرفها وعندئذ بدأت الكتابة عندي تأخذ شكلاً آخر. لقد سكنها الحس السياسي''..
***
أمل العرادي
منذ أن عرفت أنك ستكرم في مهرجان اليوم العالمي للشعر، وأن البحرين ستحتفل بك، وأنا أتساءل ماذا أكتب في هذا الإنسان؟!! أخشى أن تخونني العبارات ويقصر قلمي بحقك، ماذا أكتب لك؟! هل أكتب عنك وأنت تنتقل بين أقسام جريدتنا الحبيبة ملقياً التحية الصباحية والمسائية علينا فتكون كنسمة باردة تلفح وجوها كادت تحترق لا من لهيب شمس ولكن من ضراوة العمل، أو كأنك ماء بارد ينزل على أجساد كادت تشتعل من شدة العمل، فتستمد الصحيفة ابتسامتها من ابتسامتك الجميلة التي لا تفارق شفتيك؟. إن رؤيتك -وأنت الأستاذ العظيم- تجعلنا نتذكر حنان الأم وعطف الأب.
أم أكتب عني عندما صادفتك على سلالم جريدتنا وكعادتك بادرت بإلقاء التحية والسؤال عن الأحوال، ولا أدري حقيقة لماذا لم أكن متكتمة كعادتي مع الآخرين لأخبرك بكل صراحة أني متعبة مما يصادفني في الحياة من حقد وضغينة، وحسد وغيرة.. حينها فاجأتني بابتسامة جميلة تعجبت منها. وتساءلت: كيف يبتسم الأستاذ وأنا أشكو له؟! لكن تساؤلاتي تبددت حين قلت لي: ''لا تحزني بل يجب أن تفرحي فلا بأس عليك ولكن الخطب في هؤلاء الأفراد الحاقدين الحاسدين الغيورين، يجب أن تسعدي لأنه لا ترمى بالحجارة إلا الشجرة المثمرة. ولو لم تكن جهودك أتت ثمارها لما واجهت هذه المشاعر السلبية من أفراد هم بأمس الحاجة للحنان والعطف منا نحن الناجحون، إنها ضريبة النجاح''.
وبلهجة امتزج فيها الحنان مع الشدة قلت لي: ''يجب أن تمضي قدماً والتقدم أكثر إلى الأمام''.
أسعدني كثيراً كلامك وحثك لي على المتابعة والإصرار، إذ جدد الثقة بنفسي أكثر مما هي عليه، ومن يومها عاهدت نفسي على ألا أكون إلا في الصفوف الأمامية.
أستاذي علي الشرقاوي الفاضل شكراً لك، لا يسعني في هذا الحدث العظيم إلا أن أقدم لك باقة ورد ملؤها الحب والاحترام، وأن أنحني إجلالاً لك ولروحك المعطاءة المحبة والعطوفة فأنت بحق وبكل جدارة تستحق لقب ''الأب الروحي للوطن''.
***
يدخل مسرعاً.. بقامته القصيرة.. وخطواته الواسعة.. مجدفاً بيديه وكأنه يحمل مجدافين يحرك بهما الهواء كي يُسَرّع من اندفاعته نحو الأمام.. يقول بصوت خشن لهذا: ''هلا أبوي اشلونك''، ويلوح لذاك بيده اليمنى: ''مرحبا عزيزي، شخبارك''... ونظارته معلقة على عينيه تكاد تلتهم نصف وجهه، في حين التهمت النصف الآخر، أسنانه الأمامية البارزة.. حتى يصل إلى هدفه.. مكتب الأستاذ أحمد عبدالغني رحمه الله حين كان مديراً لتحرير أخبار الخليج، ثم الأستاذ لطفي نصر، أطال الله في عمره.. فيغيب لدقائق، ثم يعود في طريقه خارجاً من قاعة التحرير في أخبار الخليج مثلما دخل!!
علي الشرقاوي.. شخصية كنت أراها هكذا.. لا أعلم عنه أكثر مما وصفت، وأنه كاتب رباعيات من الشعر الشعبي في الصفحة الأخيرة من أخبار الخليج..
المفارقة كانت، حينما علمت أنه أصبح رئيساً لقسم الشباب في صحيفة ''الوطن'' عند تأسيسها.. لا أنكر أنني تعجبت، بل صرت أضرب كفاً بكف، وأقول: ''عجيب أمر هذه الصحيفة.. كيف لهذا الشخص، غريب الأطوار أن يدير قسماً للشباب، وهو أبعد ما يكون عن الشباب.. ففاقد الشيء لا يعطيه''!!
حين كنت في مكتب الأستاذ معاوية مدير التحرير السابق لـ ''الوطن''، وما زلت لم أعقد العزم على الانتقال إلى ''الوطن''، وجدت شخصاً يدخل المكتب، دون استئذان ودون مقدمات، وإن كان باب المكتب مفتوحاً، لكنه يفاجئنا بأنه يريد أن يقول ما لديه لمدير التحرير وينصرف، مقاطعاً، ويقول: ''عزيزي.. انتظر حتى الغد لينتهي معسكر الشباب كي أسلمك الملحق جاهزاً دون نواقص''، ثم انصرف، أيضاً مثلما دخل! فازدادت حيرتي.. حقاً ازدادت حيرتي.. شخصية أبسط ما يمكن أن يقال عنها ''همشرية'' لا أعرف وصفاً أدق من هذا الوصف لعلي الشرقاوي، ولا أعلم إن كان له أساس في اللغة العربية، ولكنها لفظة مستخدمة كثيراً في لبنان وربما في بر الشام، تطلق على الشخصية التي تأخذ الأمور على عواهنها ولا تتقيد بنظم وبروتوكول أو إيتيكيت!
بانضمامي لـ ''الوطن، وتواصلي مع علي الشرقاوي، أو كما نطلق عليه جميعاً (بو فيّ) فهمت من هو الشرقاوي.. لم تختلف عندي صفة ''الهمشرية'' التي أطلقتها عليه، لكن اكتشفت فيه وفي شخصيته جوانب رائعة بحق، حنان أبوي يفوق كل الأوصاف، يمر على كل المكاتب، ليبث روح المحبة والمودة، وشحن المعنويات إيجابياً، وجدت ارتباط محرري القسم الشبابي به غير طبيعي، وإن انتقل أحدهم من القسم، يشترط كي يقبل النقل، أن يبقى في مكتبه في غرفة الشرقاوي، لا يريد أن يفارق الغرفة.. أشعر به كأنه أب روحي للجميع.. ابتسامته الساحرة تزيل كل الهموم، وتغسل الأحزان في لمح البصر، بكلمة منه وطاقة إيجابية يبثها.. أشعر أنه ساحر مجنون..
ليعذرني بو فيّ على هذه الأوصاف، لكني لا أقصد بها إلا كل معان إيجابية، أردت بها أن أكون في قمة الوضوح والصراحة، مثله تماماً.. بو فيّ.. المودة.. السلام.. المحبة.. التواضع.. التسامح.. الرقي في المشاعر.. السمو في الأخلاق.. الارتقاء إلى أسمى معاني الإنسانية..
فوجئت حين علمت بأن مجلسه الليلي يرتاده الكثير من الفنانين ليلاً والمبدعين، يذهبون إليه بحميمية وتطول سهرتهم حتى الساعات الأولى من الصباح، سمعت عن الشاي الخاص الذي يعده لهم، وجلساتهم الحوارية، التي غالباً ما تتناول ظاهرة أدبية أو ديواناً شعرياً أو مناقشة فكر معين..
لا أنسى كلمة قالها الأستاذ محمد البنكي رئيس التحرير: ''اثنان تأثيرهما مفصلي في حياتي عبدالحميد المحادين، وعلي الشرقاوي''.
ولا أنسى قصة كوميدية سردها لنا مبدعنا المتألق سلمان طربوش، الذي أحب قصائد علي الشرقاوي حين كان شاباً وكان قد رسم له صورة في خياله، يتخيله فيها طويلاً، وسيماً ذا عيون خضر، فهذه الكلمات الرائعة التي ينتجها ويبدعها صورت له أن الشرقاوي بهذه المواصفات، حتى كانت المفاجأة حينما رآه بصورة مغايرة تماماً عما كان في خياله، فكانت صدمته للحظات ليقرر بعدها أن يستمر في حبه، كيفما كانت صورته..
علي الشرقاوي.. هذا الإنسان الجميل الحنون الذي يبث بيننا المحبة والطاقات الإيجابية، فإيمانه الكبير بالقدرات الإنسانية وما وراء المادة والواقع أمر يخرج عن إطار الماديات ليسمو ويرتقي إلى الروحانيات الراقية والفكر الرفيع.. أدامه الله نعمة علينا.
***
منار ثاني
حين أرسلت لنا الزميلة سوسن دهنيم رسالة بريدية، تخبرنا فيها عن عزمها إعداد ملحق احتفائي بالشاعر الكبير الأستاذ علي الشرقاوي، وقبل أن أكمل قراءة الرسالة أجبتها بعنوان مقال أنوي كتابته. غير أنني وبعد أمساكي بالقلم، وقفت حائرة من أين أبدأ وكيف أصفه في مقال بسيط. هنا عرفت حجم المشكلة التي أوقعت نفسي فيها.
هذا الإنسان لا يعطيك خياراً إلا أن تحبه وتحترمه، يمنحك الكثير من الدفء والحنان ويشعرك بأنك ملك أرضك وزمانك. كثيراً ما تردد على مسمعي مصطلح الأب الروحي أو الأم الروحية وخصوصاً في أوساط الشباب، معتبرين غاندي والأم تريزا أكثر الأمثلة المعبرة عن الحب والإيثار والتضحية في زمننا الحالي، رغم احترامي لاختياراتهم تلك، إلا أنني متأكدة وموقنة بأن أمثلتهم ستتغير وتصبح الشرقاوي دون منازع في أول لقاء معه.
؟ احتضان الأب
كوننا في مكتب واحد مع أبانا العظيم بأفعاله والصغير بقلبه الطفولي البريء، دائماً نكون في موضع حسد لوجود هذا الكنز الكبير بيننا، وأحياناً كثيرة من فرط الفخر-لكوني معه- أخاف أن أحسد نفسي به على غرار المثل القائل: ''ما يحسد المال إلا أصحابه''. فالعديد من الزملاء والزميلات يسرقون أنفسهم للحظات ويختبئون في منبع الطاقة الإيجابية -مكتبنا- كما يسمونه، فترى وجه كل واحد منهم عند خروجه ينقلب بقدرة قادر من العبوس والتعب إلى الحيوية والنشاط. هذا الإنسان يملأ عليك المكان بروحه الحلوة، وبحنانه الكبير، لدرجة تشعرك بأنك في منزلك وبين أهلك، فلا يعود لتعب وجهد العمل أي مكان وأي معنى. لديه عصا سحرية تسحب منك أي أوجاع أو إرهاق يصيبك، فتعتقد أنك في بداية يومك لا في نهايته. في كثير من المرات أتذمر من كم الأعمال التي يجب أن أنجزها في وقت قصير، فأقول: ''أوف هالشغل ما يخلص''، أقول ذلك وأنا متأكدة بأن صوته سيأتي من الخلف ليقول: ''العمر يخلص والشغل ما يخلص.. لا تعورين قلبج''. أتعمد استفزازه في كثير من المواقف كي يزودني بجرعة طاقة وحيوية أكون بأمس الحاجة لها، فمع بوفي تتبدل الأدوار وتشعر بأنك عجوز مقابل شباب قلبه - الله يحفظه.
؟ قول وفعل
طبعاً وجودك مع شخص ذي خبرة واسعة، ونظرة مستقبلية بيضاء، تجعلك تشعر طوال الوقت بأنك تلميذ داخل مدرسة الحياة، فكم العِبر والنصائح التي نحصل عليها في اليوم الواحد يعادل 10 أيام نمضيها بدون ''بوفي''، هذا يعني أنه يختصر عليك الطريق ويسهل عليك الوصول لهدفك، دون أن يبذل أي مجهود، فالكلمة التي تخرج من القلب تصل إلى القلب مباشرة. ومن أكثر النصائح التي يكررها لنا، ألا نعطي الأمور أكبر من حجمها، وأن نستوعبها بصورة تجعلها تبدو صغيرة جداً كي نستطيع في النهاية حلها وتسويتها، فأخذ المواقف بعصبية سيعود بالسلب على صحتنا وشبابنا. ويوصينا دائماً بالعطاء دون انتظار مقابل أو حتى تقدير، فعطاؤنا هذا سيعود إلينا في يوم من الأيام وإن لم يكن بصورة مباشرة. هذا الإنسان لا يلقي بكلماته عبثاً، ولا تشعر بأنه يستعرض حكمته عليك، بل يطبق حرفياً ما يقوله فترى أفعاله قبل أن تسمع نصيحته.
؟ الدفء والحنان
أستاذنا غير جميع الأستاذة، يسمح لنا بالأكل والشرب في حصته وعلى طاولته!، وهو بنفسه مَن يحضر لنا الطعام، فيدخل علينا مرة '' بسمبوسة حارة''
ومرة '' بستوق'' ومرة '' كافي''، حتى في سفراته لا ينسانا ويذكرنا ولو بأقل القليل.
كبقية الآباء يدافع عنا باستماتة، تكاد تشك لحظتها بوجود علاقة نسب وصلة قرابة تربطنا فعلاً به، وهنا يعطيك درساً آخر في فن التواصل والاتصال، فالقرابة مجرد اسم لا أكثر والترابط الروحي هو أساس العلاقات الإنسانية.
؟ العمل
طبعاً العمل و''بوفي'' علاقتهما أشبه بالتوأم السيامي، يصعب فصلهما، متلازمان طوعاً وإكراهاً. لا أدري هل أصبح العمل بالنسبة إليه عادة يصعب عليه التخلص منها كصعوبة تخلصه من أعواد السجائر اللعينة.
تواضعه الجم يضفي على روح العمل معه نكهة خاصة، فتشعر أنك أستاذه وهو تلميذك النجيب، يمنحك الثقة ويرضي غرورك الشبابي.
مع بوفي لا وجود للمستحيل، فكل أمر بالنسبة إليه سهل المنال، مادام الإنسان مصمماً على تحقيقه. وعلى الرغم من كثرة مشاغلة، إلا أنك حين تطلب المساعدة لا يتردد أبداً، وكثيراً ما يعطيك إياها قبل أن تطلبها، وكأنما يقرأ أفكارك.
؟ مني إليك
كلما وددت أن أنهي هذا المقال، شعرت برغبة لكتابة المزيد، فالكلمات تخذلني عندما أسطرها لأشخاص هم أكبر من كل الكلمات. أستاذي تعلمت منك الكثير الكثير، وسأتعلم المزيد في بحر شخصيتك الرائعة. أعدك بأن أصبح كما تتمنى دائماً، واعذرني فالأحرف تخونني، ولكنها تأبى إلا أن تقف تقديراً لك واحتراماً لشخصك.. كل الحب والإعزاز..
***
محمد لوري
قبل سنتين وطأت رجلي أرض صحيفة الوطن لأتطلع إلى عالم لم يكن في الحسبان أبداً، وطأت رجلي عالم الصحافة والإخراج لأتعرف على شخصيات من طراز آخر، طراز رفيع، شخصيات لم أكن يوماً أحلم أن أتعرف عليها، وقد تعرفت على الوالد الثاني الأستاذ محمد البنكي الذي كان الشخصية المحبوبة التي أتمنى أن أكون.
لكني أيضاً تعرفت على الرجل الذي دائماً ما ألاحظ تجمع الشباب والشابات عنده، الرجل الذي لا تجد صعوبة في الكلام معه، الرجل الذي يعتبر الملهم للكثير من الأخوة، الشخص الذي كثيراً ما يلجأ إليه الناس لاستشارته بأي عمل يقومون به سواء للعمل أو لغيره، إنه القدوة الأديب الشاعر الأستاذ علي الشرقاوي (بوفي).
(أبوفي) الرجل الذي لا يوجد للحقد والكره محل في قلبه ويرى الدنيا دائماً بروح مرحة مشبعة بالحكمة والمعرفة، دائماً ما أشكو إليه أية مشكلة أواجهها لأجد الحل الأمثل، مثلاً شكوت إليه مرة كره إنسان ما لي فقال: هو يكرهك؟ قلت: نعم! قال: زين (عيل) حبه!!
الجواب كان مفاجئاً بعض الشيء لكنه يعبر عن حكمة سنين أعطت حلاً رائعاً في أقل من دقيقة، وقال لي أيضاً الله لم يخلقنا لنكره بل لنحب ونعيش حياتنا كلها حب.
علي الشرقاوي المتعمق في كل شيء تعمق في عالم البرمجة اللغوية العصبية ليوظفها في محلها الصحيح بفهم الناس لإدراك ما يريدونه دون الحاجة لأخذ وقت طويل ليجدوا عنده الحل الأمثل بسرعة.
الشرقاوي متخصص في تفجير الهمم فعندما تجلس معه وأنت محبط من القيام بعمل ما، تخرج من عنده وكلك ثقة في إنجاز هذا العمل بل وتقوم بتشجيع مَن معك بكل ثقة، على عكس من تذهب له وتصدم بأن يقول لك (هلون أحد يكتب، روح تعلم بعدين تعال)!! فشتان بين الاثنين فشخص يحاول أن يخرج جيلاً والآخر يدمر.
التواضع سمة لا غنى عنها في شخصية الشرقاوي، فتواضعه عال لا نسمع عنه كثيراً هذه الأيام فتراه يجلس مع الصغير والكبير، المثقف وغير المثقف، يجلس معهم ويشاركهم اهتماماتهم فيكون مثالاً للشخص الاجتماعي بكل معنى الكلمة.
في الختام واجب عليّ أن أشكر الأستاذ الرائع علي الشرقاوي على كل ما بذله لإنجاح صحيفة الوطن وعلى كل ما يقدمه لها من نصائح واستشارات لا غنى لها عنه.
***
أحمد كريم
عندما تكتب عن أستاذ كبير بحجم علي الشرقاوي؛ فأنت بحاجة إلى موسوعة لغوية تُساعدك على رسم صورة ''قلمية'' لهذا الأستاذ الكبير.
وعندما تكتب عن شاعر كبير بحجم علي الشرقاوي؛ فإنك بحاجة لامتلاك الحد الأدنى من الأدوات الشعرية لمحاكاة هذا الشاعر الكبير.
وعندما تكتب عن زميل كبير بحجم علي الشرقاوي؛ فعليك أن تعرف جيداً كيف تفي حق الزمالة لهذا الزميل الكبير.
وعندما تكتب عن إنسان كبير بحجم علي الشرقاوي؛ فعليك أن تبذل مجهوداً جباراً لتجمع صفات هذا الإنسان الكبير.
إذن الكتابة عن علي الشرقاوي أصعب مما يتخيلها المرء برغم أنها ـ الكتابة ـ ستتناول شخصية قطفت من كل بستان زهرة، وحجزت لنفسها مكانة خالدة في صفحات التاريخ.
عبثاً تُمسك القلم وتُرتب الأوراق على أمل أن تنقش على بياضها الناصع سطور تعتقد أنها ستتحول تلقائياً إلى قصيدة، وتحت هذا شعار الخادع يصدمك الواقع؛ لأنك ستفاجأ بالأسئلة وهي تتقافز من قلب الورقة الخرساء: (كيف تبدأ وإلى أين تمضي وكيف تنتهي ؟!).
تكتشف حينها عجزك عن الإجابة على هذا السؤال، وستتذكر أنك قبل بدء مشروع الكتابة كُنت مقتنعاً تماماً بعدم إمكان تقديم شيء جديد لتضيفه لهذا الرجل العملاق.. ولكن تُكابر!
المُكابرة هي علي الشرقاوي ذاته، فأنت ستكتشف لاحقاً أن هذه الشخصية هي من زرعت فيك حس المكابرة وعشق التحدي والنظر بتفاؤل.. هذه الميزة تفضح التأثير الذي يُحدثه شروق شخصية الشرقاوي في حياتك!
ستكتب بخطوات مرتبكة كطفل لم يشتد عوده في بادئ الأمر، وستمضي قُدماً في كتابتك بتحسن سريع بعد ذلك وستذهلك سرعة خطواتك، وبعد أن تملأ أوراقك ستكتشف أن الكتابة لم تكن عملية نقش على ورق وإنما كانت خطوات قطعت مسار حياتك بوقود كلمات استقيتها من الشرقاوي!
إذن أنت لست بحاجة للكتابة عن الشرقاوي فمهما تعمقت في وصفك وفي انتقاءك للزاوية التي ستسلط الضوء عليها في شخصية هذا الرجل، فأنت دائماً ستكون مهدداً بالوقوع في الزلل وعدم الإنصاف، لأنك ستصف مشهد يُشاهده الجميع ولا يعرف كيف يصفه!
ببساطة، الشرقاوي مثل شروق الشمس، مشهد عجائبي لا يمكن وصفه، فالشمس تُشرق من خلف البحر، ومن خلف الجبال، ومن خلف الأشجار ومن خلف تلال الصحراء.. ولكن لا يمكنك تمييز جمالية منظر عن آخر لتكتب عنه.. فالشرقاوي يمثل أمامك أستاذ، وشاعر، وزميل، وإنسان.
خلاصة القول عندما تكتب عما تعلمته من هذا الرجل العظيم، هو أفضل بكثير من الكتابة عنه، ففي الحالة الأخيرة ستكون عرضة للزلل وعدم الإنصاف، ويا لها من خطيئة تقترفها لو فعلت ذلك.
***
علي الستراوي
بقدر ما أعرفه، أضيع في مسافات انشغالاته، لأنه كالعصفور، ينقر الحبَّ والحُبْ.
من هنا عبر البحر إلى جزيرة الحياة.. احتضن زرقة النهار بظل الحياة، مجتازاً ذاكرة طفل تدلى فوق صارية حروفه المتعبة، وعلى سطح داره وقف كشاهد لعصر مضى، كحل عيون الفتيل بجذوة الروح، منشغلاً بقصيدة ''دلمون''.
ابن الشرقاوي حينما ينشغلُ بطيف ليلى، يوزع أحلامه على كل الأصدقاء، يبتسم في العيون، يسافر كطائر على ذاكرة محبيه.
هو الابن والحبيب ''لفتحية العجلان'' التي تقيسُ خطواتها بمقدمه، تسأل المرأة عن شاعرها الذي أدخلها في الغواية، فكانت أجمل غواية تحدثت عنها حبيبته، يوم كان الفتيل مرهوناً بحب الوطن، ويوم ذاب الفتيل في عشق الوطن قالت فتحية لمحبيها: دونكم والفتى'' علي'' نسلُ له خصلات شعره الساقطة على عينيه، أعجنا أقدامه بحناء الصبر''
ومرت السنون والحبيبة'' كبينلوبي'' في انتظارها الأسطوري لزوجها، رمزاً للوفاء الزوجي والإخلاص ونكران الذات، هكذا ظلت تغزل وجعها بشال الانتظار، تنتظر فارسها الذي غاب.
وعندما عاد ابن الشرقاوي، كانت الذاكرة مشحونة بجلالة الحب، وكان القلب من شدة اشتياقه ، قد تعلق بذيل نجمة احتضنتها سماء الوطن.
دخل مع المغامرين لعبته الجديدة التي أسس من خلالها نضاله الجديد، مشدداً على أنه باقٍ مع الباقين، يعصر الريح ويدعو كل حمامات الحب والسلام على مائدة جديدة من النضال، وكان هو أكثر المتشددين لفكرته الجديدة، إذ يرى أن الوطن يجب أن يخرج من عباءة العنف، نحو عباءة المشاركة السياسية، دون تعريض منجزات الوطن إلى التخريب، ودون خسران الشباب، معتبراً كل خسران في العنصر البشري أو الخدمي، خسران لطاقات الوطن إنجازاته
ابن الشرقاوي، كثيراً ما سافرتْ أحلامه نحو محبة الناس، دون أن يزايد في حبه، فابتسامته كفيلة بفضح مشاعره التي يختزنها بداخل قلبه، وقصائده من الرقة والإحساس بحيث تدعوك هذه النبضات الشعرية إلى قلب شاعر لا يرى في قصيدته إلا رسالة، تعبرُ من جهة البحر لتلتقي بأناس قد زرع الأمل وروداً على شفاههم ومحبة الكل، لهؤلاء ينتمي الشرقاوي، وإلى امرأة انشغل بها وبحنينها، لأنها احتضنت في صبرها فارسها الجميل، احتضنته ابناً وحبيباً وجسرها الممتد على ساقين من الحب وقلب يرف بالحنان والشوق، ''علي والوطن '' هكذا جمعتهما ذاكرة الحب، فلم يعرف علي غير فتحية ولم تعرف ''فتحية'' فتى غير''علي''، التقيا بحنين قصيدة عامية، متشظيان ببحر كبير من قصائد الوطن، التي ألفا في سكون بيتها الكبير حكاية المحبين.
كان لابن الشرقاوي، شجرة من الأصدقاء، وكانت هذه الشجرة تثمرُ أدباً، وكلما مرَّ أحد من الناس عليها، استغربوا من ثمر هذه الشجرة، فتمنوا أن تكون لهم شجرة مثلها.
وتمرّ السنون وتمدُّ هذه الشجرة من أطرافها، وتستظل بكل البلدان، شعراً ومسرحاً ونثراً وقصة وسيناريو، حكاية طفل وشاب، يحكون بصوت واحد، ويتغنون بصوت واحد،'' نحبُ الوطن''.
وإذا وقفت على أفنانها الطيور تقف مستغربة من هذه الشجرة التي لم تغب الشمس عنها في يوم ما ولم يفارقها القمر، كل اللغات تجمعها هذه الشجرة، وكل الأصدقاء تحمل قلوبهم هذه الشجرة، وعلى كل ورقة من أوراقها حكاية، وكانت أجمل الحكايات حكاية تلك الجزيرة التي ارتبطت حروفها بحروف الوطن.. التي علمت الفتى علي سرّ الندى.
وما بيني ..
وبين الصحاب
كتاب كبير ..
على شرفتيه يستريح الوقت
وما بيني.. وبين علي
ساقية الماء ..
وربان سفينة ..
كلما ابتعدنا عنها..
رجعنا اليها ..
نستعيدُ ما للقصيد .. من وجع
وما للنساء من حكايات ..
أقربها سر رجل لا ينام!
هو ابن الشرقاوي، يمرُّعليك دون أن يدعوك إلى مائدته، فهذا ليس ابن الشرقاوي، لأنه ألّف الجمع على سفرة الزاد، وأبقى على مائدته مفتوحة لكل الصحاب.
وهل يستريح النهار، قبل أن يستريح علي ..
أم يستريح علي، قبل أن يستريح النهار
فتلك مفارقة، أكثر الناس إدراكاً لها، هو ابن الشرقاوي، فلا تدعوه يفلتُ من قلوبكم، لأنه قصيدة البحر الذي لا ينام، والنخل الذي في حبه أينع رطباً، واستظل هواه.
***
كتب (ت)
علي الشرقاوي شاعر من الشعراء المهمين والمجددين في الشعر المحلي، له العديد من المساهمات التي أثرت الساحة الشعرية المحلية والعربية. نشر العديد من الكتب في مجال الشعر العربي الفصيح، الشعر العامي، الموال، المسرح الشعري، الأغنية، وأدب الأطفال، وكان لـ ''الوطن'' هذه الندوة عن الشاعر في مقر الصحيفة، ضمن ملف كامل يحتفي بالشرقاوي تزامنا مع احتفال أسرة الأدباء والكتاب بالشاعر.
؟ البنكي: نرحب بكم جميعاً ونشكركم على تفضلكم بالمشاركة في هذه الندوة، التي تتناول بالحديث الشاعر علي الشرقاوي، الذي سنخصص له احتفاء به عدد الكنش المقبل، إذ كانت فكرة الاحتفاء تراودنا بقوة، لكن مبادرة أسرة الأدباء والكتاب - المشكورة - بتكريم هذا الشاعر جعلتنا نسارع لإنجاز هذا الملحق، إلى جانب كتابة عدد من موظفي الوطن عن هذا الشاعر الجميل من ناحية إنسانية، بفعل احتكاكهم به في العمل بصورة يومية. ونحن في هذه الدعوة أردنا أن نضيء جانباً آخر من الشرقاوي وهو إبداع الشاعر من وجهة نظر نقدية.
نبدأ هذه الندوة بورقة آثر الأخ صابر الحباشة أن يقدمها حول كتاب الشين للشرقاوي.
؟ فتنة للكلام ومراودة للقول لافتتين
- الحباشة: لا أريد أن أذكر هنا إنجازات الشرقاوي، أو أعرف به، فأنتم أدرى من يكون، لكني أود أن أشير إلى أنه رغم غزارة إنتاج الشرقاوي وتنوع إبداعه، يظل من الشعراء الذين لم يكتب عنهم الكثير ولم يدرس إبداعهم، وسأقدم هنا مدخلاً لقراءة كتاب (الشين) مركّزاً على العنوان والاستعارة في هذا الكتاب:
''ليس ''كتاب الشين'' أثراً شعرياً سهل الاندراج في حلبة الشعر، إلا أن تحتال عليه مثلما احتال عليك صاحبه، فأوقعك وأنت تقرأه في حبائل الضم والرفع والنصب والفتح والجزم والجرّ. إنّه ديوان لا تلتبس فيه الألفاظ بالمعاني بل يتحالف فيه المعنى ومعنى المعنى على سلب الذات حرية القراءة، لأنّ مؤلفه قد جمح فيه جموحاً أعيا - في تقديري - مشارط الناقد وآلاته، لا يكاد الدارس لهذا ''الشعر'' يجسّ من ''القصيدة'' موضعاً، حتى ينفلت النص إلى ركن آخر، وكلما رام الناقد من المتن اقتراباً، غيّر الهامش مجراه عبر فتنة للكلام ومراودة للقول لافتتين.
نصّ ''كتاب الشين'' يعود إلى بدايات الفوضى الدلالية التي تنتشر في مفاصل الحياة الإنسانية الساذجة. يوقفك منها ''الوحي'' الشعري على نقاط عميقة في تفجير المعنى، ما هو أعزل من الدلالة في عرف الناس. لو قيل لأبي نواس صف ديوان الشرقاوي هذا لقال في عجُز أبياته هو:''عدول في عدول في عدول''!
ولمّا كان الدارس بحاجة إلى بوصلة تقوده وتشده إلى جادة الطريق، الذي اجتهد الشاعر في طمس معالمه، فقد عمدنا إلى النظر في محاور قليلة من القول الشعري في هذا الديوان، ناظرين فقط إلى: بناء الاستعارة في ''كتاب الشين''، وتوظيف المصطلحات اللغوية في القول الشعريّ
أولاً : بناء الاستعارة في'' كتاب الشين''
شذ الشرقاوي في هذا الديوان عن أساليب الاستعارة النمطية كما ألفيناها عند الشعراء التقليديين وحتى الرومانسيين، إنه يشتق استعارته فريدة نابية تنأى عن كلّ مثال وتنحاز بعيداً عن كل نمط.
ليست الاستعارة في ''كتاب الشين'' موضوعة على أريكة يهيئها لها صاحبها لأنها موضع القلادة في الشعر على النحو الذي وقفنا عليه عند النقاد القدامى إذ أثنوا على الاستعارات الجيدة، فالشرقاوي يخرج الاستعارة من عليائها ويعيدها سيرتها الأولى: إذ تنبثق من القول الساذج، من الكلام العاديّ، غير المعمول ولا المصنوع، تنداح اندياحاً وتنثال انثيالاً، حتى كأننا في زحمة من الاستعارات ''الحية'' لا نقف لها في معترك التآويل، على تفسير واضح ولا رأي سديد.
يجد الناظر في هذه القصائد عروجاً من الاستعارة القائمة على التماثل والتمثيل إلى إجراء ذهني إدراكيّ على النحو الذي يدرسه علماء الدلالة والسيميولوجيا في النظريات المعرفية الإدراكية حديثاً.
عندما قلنا إنّ هذا الديوان هو عدول شامل، فهذا العدول يشمل لا محالة عنصر الاستعارة أيضاً.
يرى بعض الدارسين الغربيين أنّ الاستعارة عندهم فارقت التصورات التقليدية التي تعتبرها وجهاً بلاغياً وتصويراً بيانياً منذ أربعينات القرن العشرين، وذلك من خلال ''نظرية العدول الدرجة البلاغية الصفر''، كما يرى ذلك بول ريكور. وقد تكلم النقاد القدامى عن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى، انظر قول ابن الأثير:'' ألا ترى أنا إذا أوردنا هذا البيت الذي هو:
(فأَمْطَرَتْ لُؤْلُؤًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ)
وجد عليه من الحسن والرونق ما لا خفاء به وهو من باب الاستعارة، فإذا أظهرنا المستعار له صرنا إلى كلام غث، وذاك أنا نقول فأمطرت دمعاً كاللؤلؤ من عين كالنرجس وسقت خدّاً كالورد وعضت على أنامل مخضوبة كالعنّاب بأسنان كالبرد، وفرق بين هذين الكلامين للمتأمل واسع''.
أمّا الاستعارات المبنية على استعارات أخرى، فهي محلّ انتقاد من قِبل البلاغيين والنقاد الذين كانوا يخافون هروب المعنى فيشتطّ مزاره ويعسر تأويله وكانوا يحاولون تقييده ويخشون جموحه ويريدون تسييجه، فالمعنى عندهم إما قريب أو متناول بعد فحص يسير، أمّا إذا اعتاصت المداخل وغمضت المخارج، فإن القول يؤول إذّاك إلى الإغراب وهو في عرفهم من وجوه التقصير، وبهذا آخذوا أبا تمام، وهذا أمر متداول في نظرية البيان عامة وفي كتب الموازنات خاصة، ولعله لهذا السبب كان أبوتمام قبلة الحداثيين يدرسونه ويفحصون شعره من السياب إلى أدونيس...
وأمّا محاولة تسييج الاستعارة ووضع حدود لها لا تتجاوزها، أمر استقر في المنظومة البلاغية القديمة، يقول ابن الأثير أيضاً:''وكنت تصفحت كتاب الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني فوجدته قد ذكر في المجاز شيئاً يتطرق إليه النظر وذلك أنه قال لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة وهي الاتساع والتشبيه والتوكيد فإن عدمت الثلاثة كانت الحقيقة البتة''. ولعلّ لغة الشعر الحديث قد قلبت المعادلة، فأصبح المجاز هو الأصل والحقيقة هي الفرع... فكيف صاغ الشرقاوي استعاراته في ''كتاب الشين''؟
اختيار العنوان لافتة مهمة في تدقيق النظر إلى المتن. وههنا لا يجد الناظر عسراً في التفطن إلى أنّ تمحيض الحرف بالعنوان، ضرب من المحاكاة إما للمتصوفة أو لكتّاب الأعلام، إذ يرمز أولئك بالحروف إلى أمور بعيدة ويؤشر هؤلاء بالحروف إلى أسماء الأعلام. ولعلّ الشعر واقع بين ظاهر هذا وباطن ذاك. أمّا أن يصير الحرف كتاباً في الشعر فهو ضرب من التجديد في العنونة يجعل النص منفتحاً على فن الخط العربيّ وما أرساه الرسامون من إنطاق لصورة الحرف بألوان من البيان وضروب من الدلالة. وبذلك تندغم الدلالة الصوفية الرمزية الإشارية العتيقة للحرف مع جمالية فنية تنتمي لفن الخط، لتنكسر الحدود بين الفكر والفن، وبين المثال والصورة، في دهشة بالغة مبلغ اعتقال المعنى.
وجد الشاعر علي الشرقاوي في صيغة توزيع المتن والشروح على بياض الورقة في كتب التراث، طريقة لكتابة نصوصه الواردة في أشكال تشكيلية توحي بالتصاحب والتوازي والتناظر والتماس والتجاور، وغير ذلك من العلاقات الهندسية التي شكلت فضاء الورقة، مما يخوّل للقراءة الطوبوغرافية أن تمارس دورها في تأويل النص الجامع والنصوص الفرعية المتفرعة عنه.
تنويع للخط وتوزيع مخصوص للنصوص على بياض الورقة، اتخذ شكلاً ثلاثيًا في الأغلب، كلّ ذلك يخلخل قدرة القارئ على القراءة التفاعلية مع النصوص. إذ جعل الشاعر نصه ''أثراً منفتحاً''، كي نقتبس عبارة أمبرتو إيكو، على أنساق عديدة، فإن حاول القارئ أن يقف على تلك الأنساق، وفشل، ظنّ بنفسه العجز عن التقاط شفرات النصّ السرية، ولم يظنّ البتة أنها جمالية فارغة من المعنى. أو قل هي طريقة في نزع السؤال عن المعنى من مركز الاهتمام. وقد يصل الأمر بك إلى متابعة لعبة القراءة باعتبارها مقتضى ضرورياً من ''ألاعيب اللغة'' كما وصفها لودفيغ فيغنشتاين، محاولاً تقصّي ''الاستعارات التي بها نحيا'' على رأي جونسن ولايكوف، غير أنّ النص يمارس معك طقساً آخر، هو سياسة للكلام أعسر من سياسة الأنام، فيفر بك إلى الأمام.''
- البنكي: شكراً جزيلا للأخ صابر، لم يكن الهدف من هذه القراءة تسليط الضوء على هذا الكتاب فقط، لكن للموجودين الحق في الحديث عن أيّ من كتب الشرقاوي التي درسها، فالمجال مفتوح في عموم تجربته. أفضّل أن أترك المساحة مفتوحة لمن يريد أن يداخل في الموضوع.
؟ شاعر وفي للتراث والإيقاع
- رضي: سأتحدث عن الشرقاوي من زاوية قد تكون شخصية لكنها مرتبطة بالإبداع والإطار الإبداعي. لقد كان للشرقاوي دور كبير في رفد تجربتي في الكتابة. وهناك حادثة دائماً ما أتذكرها بهذا الشأن وهي: عندما كان الشرقاوي يعمل في وزارة الزراعة بالبديع، كنت دائماً ما أزوره بمقر عمله مع الشاعرة ليلى السيد.. يوماً أو يومين في كل أسبوع ، وكنا نقرأ عليه تجاربنا، ويستمع إليها ويعلق عليها، وكنا نستمع إلى رؤاه كما يستمع المريدون إلى الفيلسوف، وكان حينها يدير صفحة ثقافية بصحيفة الأيام، ونشر لي بعض التجارب التي لم أكن أجرؤ على نشرها.
بالنسبة للجانب الإبداعي فقد تميز الشرقاوي بالجمع أمور قد تبدو متناقضة، لكن التحولات التي جاءت بعد الحداثة جعلته يعيد النظر في هذه الأمور، فأن يكون كاتباً للعامية البسيطة، وفي الوقت نفسه له كتابات فصيحة غارقة في الغموض والفلسفة، إلى جانب المسرح، فذلك أمر يدعو للتأمل. إن انفتاح الشرقاوي على كل أشكال الفن مسألة ليست بسيطة خصوصاً وأننا نشأنا ضمن تربية تتقضى أن نكون إما ''حداثيين'' أو من كتاب الشعر العامي.
عندما يشاهد المتلقي الأعمال التلفزيونية يقول إن هذا هو الشرقاوي وعندما يقرأ النصوص الشعرية الفصحى يشعر أن هذا هو الشرقاوي، وكذلك الحال عندما يقرأ عامي الشرقاوي ومسرحياته. في كل تجربة تجد الشرقاوي قادراً على أن يكون مع الجميع دون حواجز، وأعتقد أن الكثير من الشعراء يفشلون في تذويب هذا الحاجز مع الجميع ومع جميع الصنوف الإبداعية. الشرقاوي ظل وفياً للإيقاع على سبيل المثال في جميع تجاربه التي لم يضح بها بالمرة، لا في الشعر الفصيح ولا المسرح الشعري ولا التجارب التي قد تبدو للوهلة الأولى سردية. كما أنه يمتلك وفاء غير معهود بالأمكنة وهو أكثر الشعراء الذين تناولوها، في شعرهم ومسرحهم، كما أنه كان وفياً للتراث بشكل كبير.
وهنا لابد وأن يطرح سؤال وهو لولا الشرقاوي، أين من الممكن أن نجد التراث البحريني؟ فنحن إما أن نقصي التراث أو نسلط عليه من ناحية سياسية فقط، أما الشرقاوي فقد استطاع أن يعيد الزهو إلى التراث عن طريق أخذه لهذا التراث تارة وإعادة صياغته من جديد تارة أخرى، فعندما نقرأ عذاري أو البرهامة مثلاً نجد أن الشرقاوي كتب تراثناً بصورة مغايرة وجديدة فصار لدينا تراثنا الذي نعرفه وتراث الشرقاوي المبتكر!
؟ منطلقان إنساني وإبداعي للشاعر
- البنكي: شكراً لك، أنت فتحت الآن بوابة من أوسع أبوابها على تجربة الشرقاوي، الأخ فهد تفضل.
- حسين: شكراً ''بوجاسم''، بداية أود أن أشكر صحيفة الوطن على إتاحة هذه الفرصة كي نجتمع اليوم ونتحاور في تجربة هي من أهم التجارب ليس فقط في المشهد البحريني بل في منطقة الخليج أيضاً.
قبل أن نتحاور في هذه التجربة أود أن أوضح أن الشرقاوي لابد وأن تؤخذ تجربته من منطلقين الإنساني والإبداعي فلا أحد يختلف على كون الشرقاوي إنسان بمعنى الكلمة بمعنى كيف يتعامل مع الأطراف الأخرى تعاملاً إنسانياً ولو اختلف معهم فكرياً.
شخصياً كانت لي تجربتان مع الشاعر الأولى في النصف الثاني من التسعينيات، حين ذهبت إلى مكتبه - وحينها لم تكن لدي علاقة بالشاعر تماماً- وكنت أبحث عن مراجع لإكمال دراسة الماجستير، فأرشدني لكتابين، كتاب كان موجوداً في المكتبة فاشتريته وهو إشكالية المكان في النص الأدبي لياسين النصير، وكتاب نسخه بالكامل لي - وهو مجلة ألف - وأعطاني إياها، لأن بها ملفاً كاملاً عن المكان، ومن هنا أحسست أن هذا الإنسان شخص مميز تماماً، أما العلاقة الثانية فقد كانت عندما كنا في القاهرة في ملتقى الرواية وكان يسأل عنك في كل لحظة، ليس تطفلاً ولكن اطمئناناً، وهذا ما غرس حبي الكبير لهذا الشاعر قبل أن أتعاطاه إبداعياً.
بالنسبة للإبداع فهذه الندوة هي ندوة احتفائية بتجربة علي الشرقاوي، جئنا لنتحاور فيما يمكن أن نتعاطاه من التجربة، خصوصاً وأن أسرة الأدباء أقرت بتكريمه، وهنا أتمنى من الوطن أن لا تكون هذه الندوة الوحيدة في الجانب الأدبي والنقدي، بل أن يكون هناك عديد من الندوات فهناك تجارب كثيرة في المملكة تستحق منا الوقوف عندها، وما نشر في الوطن اليوم عن المبدع عبدالله السعداوي كان أكبر دليل على الهم الإبداعي التي تتبناه صحيفة الوطن تجاه الواقع الثقافي.
وأنا أشكر الأستاذ صابر على الورقة التي فتحت المجال للمناقشة في شعرية الشاعر علي الشرقاوي، فحينما نقول علي المبدع، تتبادر إلينا شخصية أحمد شوقي الذي كتب للأطفال وفي المسرح والشعر الفصيح، فالشرقاوي ظل متعدد المواهب والإبداعات، وتعدد التجارب عنده لم يأتِ لأنه أراد هذا التعدد، بل لأنه موجود لديه وتجربته الإبداعية تحفزه على الإبداع والتنوع.
الشرقاوي كتب العامي، الفصيح، المسرح وكتب للأطفال. إنتاجه الغزير يجعل الآخرين يعرفونه كمبدع، لكن الشاعر لم يأخذ حقه في البحرين كشاعر أبداً، فلو لاحظنا الدراسات التي كتبت عن علي الشرقاوي لوجدناها قليلة جداً. كثير من الدراسات الأكاديمية تتناول مجموعة من الكتاب ولكن قلما نجد كاتب بحريني له إبداعاته ونتاجاته يحظى بالدراسات الأكاديمية إلا القليل، حتى الدراسات البحثية، فلم توجد إلا دراسة عن تجربة واحدة أو قصيدة واحدة، ويبدو لي أنه كان هنالك سبباً لكتابتها، فعندما كان الدكتور علوي الهاشمي يحضر الدكتوراه طلب منه أن يقوم بدراسة قبل الموافقة فكتب دراسته هذه. الدراسات عن علي الشرقاوي موجودة ضمن دراسات أخرى، وهذه مسؤولية النقاد داخل وخارج البحرين، ومسؤولية المؤسسات الثقافية داخل البحرين بمعنى أن يكون للمؤسسات الثقافية كأسرة الأدباء والكتاب، الملتقى الأهلي ومركز الشيخ إبراهيم، أجندة لدراسة الأدب البحريني، هل هناك أجندة لدى هذه المؤسسات لتقديم دراسة كاملة لكل تجربة تستحق الدراسة؟ هل تقوم الصحف أن تقوم بورش عمل لدراسة تجربة من التجارب البحرينية دراسة نقدية فاحصة؟
؟ كتابة تمزج بين جانب احتفائي وجانب نقدي صلد
- البنكي: بعد هذه المداخلات المهمة، كنت أحاول أن أقبض على محاور كي أعطي بقية المحاورة بعداً منصباً على مواضيع معينة، ولكن عذري أن الشرقاوي مترامي الأطراف فبالتالي أصابنا بالعدوى، أنا سأحاول أن أركز الموضوع في إطار كتاب الشين وبعض الظواهر الفنية المحيطة بكتاب الشين، وسأنطلق من اللفتة الجميلة للأخ فهد وهي أن المحاولة التي كتبها د.علوي عن الشرقاوي تكاد تكون الوحيدة، لا أريد أن أغفل عن شيء في هذه الدراسة، وبما أن هذه الدراسة كانت شكلاً من أشكال المران النقدي لباحث يقدم أطروحة الدكتوراه في بيئة تجهل الحركة الشعرية في البحرين وهناك نوع من المراهنة الضمنية بين الهيئة التعليمية في الجامعة بتونس، وبين علوي الباحث الذي أراد أن يتحدث عن أحقية هذه التجربة، وهي أن هذه الدراسة تستحق العناء أو لا تستحقه، أعتقد أن هذه المراهنة فرضت نفسها بشكل شعوري أو لا شعوري على ما كتب، كان علوي حسب اعتقادي يكتب من وحي أنه يريد أن يثبت لأساتذته أن تجربة البحرين تجربة قوية، تستحق الدخول في النقد الأدبي الأكاديمي من بوابة علي الشرقاوي، ينبغي ألا نغفل عن آثار هذه المراهنة في طريقة التعامل مع التجربة، أتذكر من المسائل التي طرحت في نقاش هذا الكتاب في تونس مسألة الدفاع عن الخطأ اللغوي في التجربة، وإلى الآن لم تحسم هذه القضية رغم النقاشات التي دارت حولها، وهذه لم توجد فقط في التعامل مع تجربة الشرقاوي بل في الصف الذي أتى قبل الشرقاوي في التجربة الأدبية في البحرين. أخشى أن مثل هذه الكتابة مازجة بين الجانب الاحتفائي والجانب النقدي الصلد الذي لا تأخذه إلا ولا ذمة في مسألة النقد.
؟ تجربة لها مشكلاتها على صعيد الإبداع
ظلت تجربة الشرقاوي بها ما يميزها الكثير، ولكن بقيت بها مشكلاتها على صعيد الإبداع، لا زلت أتذكر رأياً نقدياً تآمر علي في كل مرة أريد أن أقرأ بها تجربة الشرقاوي، وهذا الرأي جاء في ندوة أقيمت بأسرة الأدباء قبل سنوات وكان المتحدثون فيها سليمان العطار وصلاح فضل، ولا أتذكر من منهما طرح الرأي الذي سأقوله الآن ولكنه غدا شرفة لا أستطيع النظر إلى تجربة الشرقاوي إلا من خلال التأمل في هذه الكوة التي فتحت، أحد الناقدين قال بأن التجربة تعاني من خلل بنيوي في مسألة معمار القصيدة، فعلى مستوى الصور تواجهك صور متفلتة منداحة بشكل تقطع الأنفاس لاهثاً وأنت تلاحقها.
هذه المسألة، أعني مسألة الانشداه وراء الصورة وما تعطيه الصورة، وتوليد صورة من صورة، ورغم أن أحداً ربما لم يتوقف عند هذه النقطة التي طرحت تلك الليلة، لكن الشرقاوي بطريقته الخاصة وربما بشكل لا شعوري، توقف أمام هذه الفكرة، كيف أبني قصيدة تتميز بمعمار فيه إيقاع داخل القصيدة وهنا أنا لا أعني الإيقاع العروضي، أعتقد أن المرحلة التي ضمت كتاب الشين وربما مخطوطات غيث بن اليراعة وأوراق ابن الحوبة والمجموعة التي صدرت في هذه الفترة كانت تتصدر لهذه المشكلة، بشكل واعي أو غير واعي، هذه التجارب الثلاث دخلت على مشكلة الشرقاوي في الشكل باعتبار الشكل هو جزء من المعمار لديه، قد يكون الشرقاوي في تلك الفترة محاط بشكل من أشكال الاستبارات النقدية، التي كنا نشكلها كجيل شاب نجلس معه في البيت والمكتبة، فبدأت تطل أفكار نقاد كدريدا، ديلوس، فأعتقد أن الشرقاوي فتنته فكرة المركز والهامش وكانت بشكل من الأشكال محاولة لكي يلعب عليها لمحاولة تجاوز الشكل والبناء.
؟ استيقظ الشاعر مع مشكلة التعامل مع اللفظ
هناك مشكلة أخرى فمثلما استيقظ الشرقاوي على مشكلة التعامل مع الشكل تيقظ أيضاً على مشكلة التعامل مع المؤلف، فمثلما تلاحظون أن هذه التجارب الثلاث بدأت تدخل أشياء في العناوين تشي بتسلط فكرة المؤلف على الشرقاوي من ناحية، وبدأت تتداخل في طريقة نسبة الكتاب إلى قائلة كمبدع، فبدأت الفكرة تتحول إلى مخطوطات بما تعنيه من بعد طمس المؤلف وإعطائه نوع من القدم وتحويله لمجموعة من المؤلفين ثم تأتي من أوراق ابن الحوبة بما تحويه كلمة أوراق من دلالات وغموض، وحتى كتاب الشين، فكأنك تتكلم عن كتاب مقدس أو ما شابه، هذا من ناحية العنوان، أما من ناحية الكتابة فتجد في أوراق ابن الحوبة ''جمعها وبوبها''، فهو ينسب له صفة تأليفية أخرى في طريقة التعامل مع النص، كما لو أن هنالك إقراراً ضمنياً إننا لا نكتب إلا ما يقوله الآخرون، وهذه كانت تأتي في الأجواء التي كانت تطرح في تلك الفترة، من فكرة المؤلف ودوره في تأليف الكتاب ومدى نسبة المكتوب لمؤلف واحد، حتى أتينا إلى كتاب الشين الذي قال فيه حققه، فحول العملية كما لو أنه حقق هذا الكتاب وأنا أحب أن أنظر إلى الكلمة بمعنيين: المعنى الدارج القار المستقر للتحقيق، وهو أن يقوم الشخص باستلام أثر سابق ويتحقق من نسبته إلى مؤلفه وما يرد فيه، ويقف عند الكلمات من ناحية وأميل من ناحية أخرى أن أنظر إلى التحقيق بمعنى الإنجاز.
هل استطاعت حلول التحول من كتاب نريد فيه أن يكون له بناءه المعماري لنفحصه بأدوات أسلوبية أو بنيوية، هل تحقق القفز عليها عندما دخل على فكرة المتن والهامش وبدأ يلعب على فكرة الكتاب المنبث كما يسميه ديلوس الكتاب الجذمور، ليس له جذور ضاربة في الأرض أو ارتفاع في السماء بل له امتدادات أفقية، أو مثلما يطرحها دريدا أن المتن يدخل في الهامش وتلتبس العلاقات فيما بينهم، هل نجح الشرقاوي أن يلامس هذه الأدوات بشكل يعطينا في الساحة العربية إمكانات للحديث عن معمار آخر؟ وأنا لا أتكلم عن تجربة الشرقاوي فقط فالشرقاوي لديه انشغال مبالغ فيه باللغة والصورة وهذا ما اعتدى على المكونات الأخرى الجمالية، هل اقترح مقترح جمالي جديد، أنقذ تجربته من بعض المساءلات أو مهد الطريق للتجارب المغايرة لماذا لم يلتفت لمشكلة العلاقة بين المؤلف والكتاب كما حاول أن يطرحها الشرقاوي؟
أعتقد أن الوقت قد حان للسماع من الدكتور عبد الحميد المحادين
***
سهير المهندي
يجلسُ هناك على كرسيهِ يتوسطُ غرفةِ الشباب بقلبهِ الشاب المليء بروحِ الحب والحياة، نمرُ عليه فنراه يتقدم بسلامٍ يدفعُ للحماسِ إلى الأمامِ وبتحيةٍ مليئةٍ بنشاط الصباح كانت في الظهِر أو في المساءِ،إنه الشرقاوي الذي لطالما رأيناه انتظرنا كلمته التي تبث فينا حب الحياة ''هل أنتم بخير؟'' فيأتيه الجواب ونحن الشباب في بعض الأحيان ''إنه الملل والضجر من الحياة''.. فينظر إلينا مبتسماً وهو يقول: ''إنها الحياة ابتسموا لها فأنتم مازلتم شباباً فنحن بخير وأنتم بخير'' إنها مفتاح الشرقاوي للحياة ولإنعاش روح الشباب التي لا ترتبط في قاموسه بأرقام العمر وسنه.
الشاعر والكاتب علي الشرقاوي الرجل الذي عرفته في سنٍ صغيرة حيث كان أول لقاء لي معه في جمعيةِ الملتقى الثقافي.. التقيته فابتسم لي بابتسامة عبرت لي الكثير من المعاني، ابتسامة فيها روح الوطن تحمل معاني الحياة... فاقتربت منه لأقتني كتاباً لشاعر عماني فأهداني إياه بكل حب على أن أقرأه واسترجعه فيما بعد وكأنه يؤكد لي ضرورة القراءة واللقاء.
ولحرصي وحبي على قراءة الشعر في تلك اللحظة ولعدم حصولي على فرصة اللقاء بوالدي الشاعر علي الشرقاوي احتفظت بهذا الكتاب الذي فرحت به لأني حصلت عليه من يد شاعر كنت أسعد بلقائه من خلال كلمات شعره وبه.
وبعد أن مرت الأيام التقيت بهذا الرجل في الكثير من الملتقيات الثقافية التي كان يهديني فيها سلاماً مبتسماً به من اللوم الخفيف البعيد عن التأنيب كأنه يقول لي هذه الحياة علينا ألا نلتفت إلى صغارها وعلينا أن نقتني منها بقدر ما نستطيع لنستفيد من كنزها.
الشرقاوي وبعد كل اللقاءات العابرة معه كانت المفاجأة بأنه هو أول المستضيفين لي عندما دخلت أبواب الوطن قبل النشر في مبناها القديم بمنطقة سند إذ التقاني وهو يقول مبتسماً يشغله نشاط يحمل الكثير من العمل: إن شاء الله ستكونين معنا'' وهم بعدها بمساعدتي للقاء الإدارة وحينما تأملته وجدته كالفراشة في وسط المكان شاعر وكاتب وخفيف الظل في زوايا الوطن يبتسم ويتلاطف لكل مَن كان في المكان حينها كان هو الشعور بالأمل غير البعيد بأني سأكون من أسرة الوطن في ظل وجود رجل مثقف وشاعر نشيط بروحه وبكلماته التي يحرص على أن تكون متنفساً للوطن، وبالفعل وبعد قليل من الأيام أصبحنا زملاء عمل، فأصبحت أرى هذا الرجل الذي يتوسطنا نحن الشباب وكأنه الأكسجين في المكان ينتقل من حين إلى آخر يتفقدنا ليرى من انتابه الملل حتى يبث ويبعث فينا الأمل بكلمات حلوة وخفيفة تأتي بمداعبة لطيفة منه يختمها بابتسامة خاطفة لمواصلة العمل لينتقل بعدها إلى مكان آخر حتى يصل إلى مقعده ويواصل عمله بهمة ونشاط يدفعه كوب القهوة المنزلية الذي لا يكاد أن ينتهي من شربه إلا بانتهاء ما جاء في خاطرة من إبداع يكتبه بعيداً عن القلم الذي اعتاده مستخدماً الجهاز الآلي ليؤكد بألا فرق بينه وبين الشباب وأن روحه رغم اختلاف العمر إلا أنه مثلهم في العلم والتعلم والعطاء وربما كان أفضل بكثير بالحركة والنشاط لامتلاكه سر مفتاح الحب في الحياة هذا هو الشرقاوي الذي لا يقبل هماً في الحياة ولا حرفاً من كلمة لها.
***
أميرة السبيعي
رغم اختلاف الظروف والأوقات بالنسبة لدوام الصحفيين ترى مصباح ذاك المكتب الذي يتوسط ''الوطن'' مضاءً منذ الصباح الباكر وحتى آخر ساعات المساء، في معظم الصباحات التي مرت عليّ منذ أن عملت فيها منذ أواخر .2005 فذاك المكتب الذي يتوسط المبنى حالياً.. كان ولايزال يحتل قلب الوطن وقلب كل وطني حقيقي منذ ذاك العام إلى هذا اليوم! ولا داعي للاستغراب.. فأبوابه مفتوحة على مدار الأيام للجميع دون استثناء، من داخل الصحيفة وحتى من خارجها!
وأهلاً بكم أنتم أيضاً في ''بيت الطاقة''.. نعم بيتنا الصغير هو بيتٌ للطاقة.. طاقة الحب.. طاقة التسامح.. طاقة الفرح.. وبالتأكيد طاقة العمل! فهذا المكتب يعج بالفرح، شديد المرح، يستحي الحزن المكوث فيه طويلاً، ينتحر الجرح بعد الاستقرار فيه مدة دقائق..! والسبب هو ملك الطاقة.. والدنا العزيز ''بوفي'' علي الشرقاوي.. المدرسة التي تنبع فصولها مودة وعطفاً وحناناً وإيجابية.. ''بوفي'' الذي تتعالى الضحكات بمجرد أن تجالسه لساعة أو حتى لدقائق. ''بوفي'' المكتبة المتنقلة التي تتراقص حروفها شوقاً للحياة، وسعياً إلى بث التسامح في دروب البشر.
هو ذاك الإنسان الذي لم أحلم قط الالتقاء بمثله، فهو نادر لا يحمل في داخله ضغينة لأي أحد، متسامح لأبعد الحدود، ينثر في المكان أريجاً هادئاً أعطر من عبق الورود..
الآن أرى حروفي تتراجع إلى الخلف خجلاً من أن تقصر معه.. فلا توفيه قدره، أو لا تتناسب مع منزلته الرفيعة.. ''بوفي'' ملك بيت الطاقة وشعلتها التي لا تنطفئ حتى في إجازاته الرسمية، فكثيراً ما يتملكني الضيق عندما يُعلمني أنه راحلٌ في إجازة، لكنه يباغت حزني بابتسامة واسعة وقطعة كاكاو، وهو يدخل عليّ في كل يوم من إجازته، فهو الوحيد الذي طالما شاطرني أوقات دوامي الصباحي.. صرت انتظر عودته من أسفاره الشعرية بشوق حراق، كالطفلة التي لا تعي من عودة والدها إلا هداياه المغلفة، وعلب حلواه الشهية!.
''بوفي'' طاقة إيجابية محاطة بخيوط من نور وتفاؤل أنارت حياتي بابتسامات عميقة منذ أن التقت بها أيامي. لا يجلس هادئاً على مكتبه؛ فهو يشاغبني رغم انشغالاته الكثيرة بالكتابة.. إما بالاستماع إلى قصيدة جديدة أو بطباعة ''بيادر'' أو إندياحات''.. فصرت اسمي نفسي ''سكرتيرة بوفي'' مُغترةً بهذا المنصب! غير متنازلة عنه لأيٍ كان!.
لا يرتاح إلا إذا غادرت كل ذرات الكدر أبوابنا، فصار مكتبنا ''بيت الطاقة'' مقصد الجميع لتفريغ ما يعتريهم من حزن أو غضب أو تعب طارئ، يتوافدون الواحد تلو الآخر لتتتالى الفضفضات التي اختلطت دموعها ببعض الضحكات! فقد علّمنا أن الضيق ما هو إلا ساعات تنقضي، وأن المشكلات لا تستحق كل عناء التفكير، فقدرتنا على استنشاق الهواء هي نعمة يجب ألا يصرفنا عن الاستمتاع بها أي هم. علمني هذا الإنسان الرائع أن المشكلة كالجرح؛ كلما ضغطنا عليه التهب وصعب علاجه، وكلما عالجناه برفق صار أسرع تماثلاً للشفاء، دون أن يترك ندوباً كريهة.
يملؤني حماسة الشاب شغفاً لعيش الحياة، إلى الكتابة، لكن ليست أية كتابة! يُهديني في بيت الطاقة كل يوم معلومة، خبرة، ابتسامة، تسبيحة، كتاب، وقطعة حلوى..!
***
زينب عبدالأمير
أتسلل بهوادة على طول الممر المؤدي إلى قسم الشباب، أقف قبالة باب مكتبه مطلة بوجهي من الفتحة التي أهمل إغلاقها، فيفاجئني (هلااااااا ابووووي) فصوت طقطقة حذائي يجرني بخيبة آمال دائمة بأن أفاجئه ولو لمرة بقدومي من حيث لا يدري.
(حياااااج آمري تدللي.. شخبارج؟ أمريني) جميعها الكلمات تأتي بلهجة محرقية دافئة ممدودة تشعر معها بأن قاموس الكلمات لدى الشرقاوي أكبر من أي قاموس لغوي آخر.
أسأله عن الصوفية، عن الاشتراكية والعلمانية، وعن معتنقات فكرية يفتش لها عقلي عن مغزى.
لا يهم إن كان منغمساً في كتابة مقال، أو مختفياً وراء أكوام من الكتب القديمة المثخنة بالمعلومات، فقد كان يعتبر الإجابة على أسئلتي مهمة يجب أن تتم.
أحياناً يكون طاغور وتشارلز ديكنز وربما يكون غاندي، ويفاجئني بإطلاله ميشيل فوكو وأخيراً بالتأكيد هو علي الشرقاوي لا غير.
حينما يتحدث هذا الأخير أشعر بعدم الحاجة لعملية السلام في الشرق الأوسط، فهو (سيد) من يعشم الجالسين، يجعل (الدنيا ربيع والجو بديع ويكنسل على كل المواضيع).
أتساءل ما إذا كان الشرقاوي في وصفه للحياة يكذب كم أود أن أقول له ''ليست جميلة هي الحياة يا عزيزي فكلها تعب وشقاء'' لكنني أقف أمام ستيني حكيم تطرز أنامله عالم مشرق ينبض بأولى صفحات الوطن يستلني كل صباح للخوض في وحول عالم أفلاطوني بحت، وبعدها بساعات أفيق على وقع اصطدام سفينتي بجبال من الجليد توقظني من أحلام كان يوزعها الشرقاوي علينا نحن النائمون''.
تورط معي ذات يوم فسألني: (مَن قال لك بأنني متصوف؟).
أجيبه بحذلقة صحفية: (الصحافي الشاطر لا يكشف عن مصادره أنت متصوف، هل لي أن أعرف ما يعني أن تكون صوفياً؟).
يضع يده على جبينه ممسكاً ببعض شعيراته المخضبة بالشيب والتي تضفي على وجهه وسامة لا تكون من نصيب ستينيي العمر عادة.
يبدأ في سبر أغوار الصوفية مضيفاً لرصيدي تساؤلات أعمق وحباً في معرفة المزيد.
(لمزيد من المعلومات زوريني في مكتبتي الواقعة بتوبلي).
؟ حرري المشاعر السلبية من قلبك
في يوم آخر، كعادتي أتوجه لقسم الشباب لا يعطيني القدر فرصة لأن أطل بوجهي من فتحة الباب هذه المرة، إذ حالما يسمع (طقطقات) حذائي يناديني من بعيد (ابووووي زينب تعالي اشوي..).
يسألني عن الأحوال وعن خططي الصحافية ويحقنني بجرعات من التفاؤل.
(تستطيعين بابتسامة أن تقلبي العالم لصالحك، حرري المشاعر السلبية من قلبك، كل يوم من عمرك لن يعود فاحرصي على أن تتركيه يحمل ذكريات مفرحة).
يا له من عالم جميل.. وما أن أغادر مكتبه حتى يدوسني الهم كما يدوس القطار سكة الحديد فتزورني المتاعب اليومية وكأنني محطة لابد منها و(لا عالم جميل ولا هم يفرحون).
فيقول الشرقاوي (عديها، وهونيها وانسيها).
- لا ما تعدي يالشرقاوي ولا بسهولة تهون شفت أشلون الحياة مستقصدتني؟
؟ للشاي طعم الذكريات
أحد الأسباب التي دفعتني لزيارة مكتبته القابعة في إحدى البنايات المتهالكة بتوبلي هو شغفي لمعرفة سر شاي الشرقاوي.
(ما أدري شنو يحط فيه هالشاي، يخلي الواحد يدمن عليه) شهادة من الأستاذ محمد البنكي في وصفه لشاي الشرقاوي.
عقدت العزم لزيارة مكتبته بعد دعوة صريحة ليعطيني مجموعة من الكتب علّها تشفي غليل التساؤلات التي تصّدع رأسي إثر عملية تحول إجابات الشرقاوي إلى أسئلة متكاثرة.
لم أكن لأتصور بأن هذه البناية المتهالكة الأشبه ببنايات (الآيلة)، تضم مكتبة بهذه الضخامة.
أرفف متوازية مليئة بالكتب والقواميس والموسوعات والغبار والأتربة تبدو منافساً قوياً للمكتبة العامة.
(هنا وكري، حيث أجلس لأؤلف القصائد.. تحبين تشربين شيء؟) يسألني الشرقاوي.
الإجابة في الحالة الطبيعية ستكون (لا شكراً لا تتعب حالك).
لكنها بالطبع لم تكن إجابتي، فأنا بانتظار هذا السؤال (أبي الشاي اللي يقولون عنه).
يسكب الشاي الأحمر في كأس كبير بكرمِ لم تعهده تقاليد العرب، فتعبق مكتبته برائحة الزعفران وأخشاب الدارسين.
ارتشفه ببطء محاولة تذوق كل نكهة يضمها هذا الشاي العابق، ويؤسفني جداً أن أكون أول مَن عرف سر الخلطة، فكاشفته بها، ابتسم ولم يجب.
؟ رنة الشرقاوي
(إذاً هو من كتب (جمال الكون) للفنان علي بحر وهو من كتب (المحبة طيور) لخالد الشيخ ؟ لا أصدق نفسي بأنني في حضرة المبدع علي الشرقاوي).
أفقت من وسوسة أحاديث النفس على وقع رنة موبايل علي الشرقاوي التي جاءت لتناسب أجواء مقاهي خان الخليلي الحزينة.
كانت كلمة (لسة الدنيا بخير) على طرف لساني لولا أنني أعرف بأنه ينبوع من التفاؤل الذي لا ينضب.
يكاد هذا التناقض الغريب (يجنني) كيف يكون علي الشرقاوي صاحب هذه الرنة الحزينة؟!!
؟ ملابس علي الشرقاوي
من غيره يرتدي تي شيرت رياضي وعليه جاكيت البدلة؟ من غير الشرقاوي يبتكر ملابس (لا تخطر على بال أحد)؟ انظر الصورة لتحكم، الأنيق كيفما لبس، الوسيم مهما فعل، (رياضي شايب) يرتدي حذاء أديداس وجاكيت بدلة رجال الأعمال وتي شيرت البرازيل!
***
وليد القاسمي
صاحب رؤية جميلة في شعره ومسرحه وقصته. أحبّ العيش في لحظاته حتى عشق الدنيا والكون. دائم الفخر بلغته العربية الفصيحة، إلا أن عشقه لناسه وأحبته جره للعامية وترنم فيها فغدى شعره متوجاً فيها بلا منازع. أبدع في فنون لم يعرف الناس معنى لها، فحار النقاد فيها. ولا يكاد يُؤسس لمحطة ثقافية أو شعرية أو غنائية إلا والشرقاوي حاضر فيها، وإلا كيف يُكتب لها النجاح؟
إن وقف على المنصة تراه يسبح في عالم آخر لم يعرفه إلا الشرقاوي. وإن دنى منك خطوة ارتاح قلبك وتبسمت شفتاك ابتهاجاً بما سيقوله لك الشرقاوي. هذا هو الشرقاوي الذي عرفته خلال سنين عمري القصار في الوطن. ولو كنت أعرفه من قبل لكتبت عنه قصة طويلة، ولطلبت منه أن يدعمني في طباعتها ونشرها.
تحية تقدير مني إلى الشرقاوي الذي جلست قربه، وشربت من مائه، وتحادثت من فكره. إن الشرقاوي أصبح اليوم جزءاً من حاضرنا وماضينا، فهو أصيل في ماضي تراثنا الوطني، ومتجدد في فكره. وليس غريباً إن قيل محال أن يولد شرقاوي آخر في عصرنا الحاضر. فالدنيا لا تعرف إلا شرقاوي أصيل هو علي الشرقاوي.
***
جعفر الديري
هناك دائماً شيء عصي على التعبير، شيء يتركك في فجاج من الأرض تمرح فيها لوحدك، وتتأمل صنع مبدعها، وتحسّس كيف أن الكلمات، أكبر من أي صورة تراها العين وتلمسها الحواس.
والشرقاوي، أحد هؤلاء الذين يعرفون كيف يبنون عوالمهم بخيوط من نور، في أمكنة لا يدخلها أي فرد إلا بعد استئذان.
في ''الوطن'' تعرفت على هذا الشاعر عن قرب، ولمست طيبته وإنسانيته في التعامل، وقد جدّد في نفسي سؤالاً، عن المبدعين ونظرتهم للحياة والناس، فقد صادفنا أشخاصاً مبدعين لكنهم غير متواضعين، مبدعين لكن غير اجتماعيين، مبدعين لكنهم يشعرونك دائماً أنك لا تطاول سقف أنوفهم.
لكنني وجدت هذا الشاعر مختلفاً متسامحاً، فقد جدّد في نفسي الإحساس بوجود الشاعر المحبوب، وهي صفة طالما افتقدناها في المبدع، فهناك من المبدعين من يكون محترماً لكن ليس بالضرورة أن يكون محبوباً، لكن الشرقاوي كسر هذا التابو فكان محترماً ومحبوباً، إن الجميع يبشّون له ويهشّون، فأية سعادة يعيشها هذا الشاعر، فهو إن جلس مع المثقفين والمبدعين كان محترماً بينهم، وإن دخل في مجلس يؤمه عامة الناس وجد الحب بينهم.
ولنتصور حال مبدعين يدخلان مكاناً عاما، فيه من الناس أجناس وأشكال، من شيخ كبير في السن إلى شاب إلى طفل أو طفلة، يستقبل المبدعون أحد المبدعين بالسلام في وقار، ليقف معهم كأحد المبدعين، بينما المبدع الآخر وحالما يدخل المكان يهش له الجميع - الجميع بلا استثناء - وقد يتعلق به طفل وتبتسم له فتاة جميلة ويضع كهلاً كفه على كتفه.
فيالها من سعادة حققها الشرقاوي، وهل سعادة للشاعر أكبر من أن يحبه الجميع ويودون لقائه.
لكنني أعتقد بأن الشرقاوي، بعد أن تمكن منه هذا الحب، جعله يتنازل كثيراً، - ولا عجب في ذلك، فأنت تدفع عمرك ولحظات حياتك في سبيل رضا إنسان تحبه، فكيف بهذا السيل العارم من محبة الناس؟
جنى هذا الحب على الشاعر حينما جعله ينزل بالكثير من شعره لمستوى الناس العاديين، فأصبح هناك تفاوت كبير بين نصوص هي في القمة من نتاج الشعر البحريني، ونصوص أثارت نقمة النقاد وجعلتهم يلقون عليه باللائمة لأنه - في نظرهم يسيء أشد الإساءة لنتاجه الشعري كأحد أبرز شعراء الحداثة في الوقت الحاضر في البحرين.
لكن ليس لنا أن نفرض على هذا الشاعر شيئاً فهو حر كبقية الناس، يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء، وحسبه أنه نجح في تحقيق وجود إبداعي كبير، وحضور استثنائي في قلوب الجميع.
***
كتب (ت)
عندما يغازل الشاعر المكان فهذا أمر ليس بغريب عن سُنّة القول الشعري العربي الذي بدأ بالوقوف على الأطلال، واختتم برثاء البلدان وبكاء الأوطان.
وعندما تتحول القصيدة موطناً لولادة عشق المكان، فهذا أمر تتحول فيه التعبيرة الشعرية من إفاضة في التعلق بالمكان عبر استدعائه من الخارج إلى الداخل، إلى زرع للمكان في ذات كائن في صلبه، بحيث تخالط حشاشته وتغامر في طوايا نفسه الهائمة.
انتابني هذا الشعور بانغراس المكان في نفس الشاعر عندما قرأت على صفحات الكنش (العدد820 الصادر في 9مارس 2008) قصيدة ''قرطاج'' الرائعة التي كتبها علي الشرقاوي، وأرجّح أن يكون ذلك، من وحي زيارة عمل وسياحة لتونس أدّاها لها الشاعر منذ بضعة أشهر.
؟ دلالات التضايف
مضاف إليه ومضاف متواتران في أسلوب الشرقاوي بغزارة، ولا يقتصر الأمر على قصيدته هذه فحسب، مما يحتاج إلى دراسة مستقلة، حول الخصائص الأسلوبية في شعر الشرقاوي، ولكن نكتفي في هذا السياق برصد دلالة التضايف حيث تحوّلت من دلالته النحوية؛ إذ يقول ابن جنّي معللاً أسلوب الإضافة: ''لأنّ الغرض في الإضافة إنما هو التعريف والتخصيص''، أمّا الإضافة عند الشرقاوي، وقد تواترت تواتراً كبيراً، فهي تعبّر - في تقديري - عن معنى التضايف، أي تبادل الضيافة، فهو يقيم ضيفاً على المكان، ويُحلُّ المكان في قلبه، فيصبح الشاعر مستضيفاً للمكان: انقلاب للأدوار وتبادل لها في آن.
تتخذ القصيدة في بدايتها واستهلالها أسلوب التمييز ''قرطٌ من حجرٍ''، حيث البدايات بالحليّ تذكرنا بقصيدة ''القرط الطويل'' لنزار قباني، ولكن كونها من حجر تدفع القارئ إلى تبيّن الحليّ الإفريقي الساذج (بمعنى أنه لم تمسّه أيدي الصناعة، ولا تنميقات الصاغة).
ويتكاثف الوصف التجسيدي:
''مشاعر زلزال عاشر أغنية في رحلتها الأحلى
وسقاها ريحانا لغبطة، في كأس يشبه تفاح النقطة،
يمشي جذلان نحو فضاء الجدول
قرط من جمر فوسفاتي البسمة
ي
ت
د
ل
ى
من أوّل زهر في شفق الكلمة
حتى لغة الخلق الأول
قرط
م
م
ت
ل
ئ
بعصافير القر
يدوزن أغصان القول الراكضة الآن على صدر الزلزال
كجوقة حلم يفتل نور اللحظة
نحو ربيع الزيتونة، يركض محتقنا برضاب الضوء الصاعد
من صهد النخلة، يحنو لأغاريد الذروة في ماء لا يشبه غير فحولته،
يحمل رعشة أرض تدخل نهر أنوثتها برياحين الذئبة في الوادي
وتصب هواها بين صباحين يهزان جذوع المستقبل
من منكم شاهد قرطا يجلس في قامته
كالريح على الريح
يمسّف خارطة الكون الحامل فجرا
يشبه عين الجالس في فنجال المقهى؟''
وتستمرّ السنفونية في إيقاعات متقاربة ومتقابلة رتيبة ومتصاعدة ومتسافلة... ''يموسقها'' (نسبة إلى الموسيقى) و''يمسّفها'' (نسبة إلى المسافة) الشاعر على هواه. متهاطلة من ''أبي فيء'' (وهذه كنية الشاعر) في لطف أليف واندفاقات متتابعة.
يستغلّ الشرقاوي - وهو عدوّ البلاغة التقليدية، ويا للمفارقة ! - الجناس بين قرطاج وقرط، فيستدعي أداة الزينة وهو يصف جمال المكان، فتصبح قطعة الحليّ ملتبسة بجسد المكان.
المواد التشكيلية للصورة
ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل كيف تتولد التشكيلة الخيالية في هذه القصيدة؟
يبدو الإيقاع متجهاً من البرودة (قرط من حجر) إلى الحرارة (قرط من جمر)، ثم يصبح القرط موضوعاً يتم تشبيهه بعدد من المشبّهات بها: (كجوقة حلم يفتل نور اللحظة) و(كالريح على الريح) و(مثل غزالات يغرين الحربة)... تتنوع المصادر التشبيهية بين عناصر بشرية (جوقة) وبين عناصر طبيعية جامدة (الريح) وعناصر طبيعية حيوانية (غزالات).
تنقلات غريبة عجيبة، بين الموجودات، تصنع منها كونا من التشبيهات تنشطر إلى مادة تشبيه وموضوع تشبيه، المحاكاةٌ تجد ألقها ووهجها في الاقتراب من الواقع والانفلات منه.
حركات المعنى تتموّج بين نسق التلاقي وحتمية الافتراق.
يشتقّ الشرقاوي المادة التخييلية لصوره الشعرية من البيئة المكانية، موضوع التشبيه. يقول: ''قرط من جمر فوسفاتي البسمة'' البسمة كيف تكون فوسفاتية؟ هذه هي الدلالة الغائمة التي تجعل القول الاستعاري قابلاً لكثير من التأويلات، كي نردّه إلى الواقع، مع أنّ الواقع، في النصّ، ليس سوى حيلة لتمديد الخيال، وصناعة أحد العوالم الممكنة. إنه يشتق الصورة من مكونات الواقع الخام، تعتمل فيه صلات قوية ووشائج متينة: ينصهر الخيال في بوتقة الواقع.. ويمتزج نخب أدب الرحلة في رحم القصيدة.
؟ التناص والعدول
تنزاح العبارة الشعرية، في قصيدة قرطاج، لا فقط لتذكرنا بنص:
''قسما بسحر عيونك الخضر''
بل لتجعلنا في حضرة عشق شرقي لأرض إفريقية، الأرض التي زارها فأنس بها أقوام كثر وشعوب عدة وقبائل شتى.. عشق يتجلى في الاحتفاء بالمكان، وتنفتح الفضاءات النصية انفتاحاً يشي بتلذذ القائل بذكرها، فما توزيع الكلمة الواحدة على أسطر شعرية عدة، سوى محاولة من الشاعر لنثر الحروف حباتٍ تشي بتمتعه بذِكر هذه الأرض المحبوبة.
وقد يرى فاحصٌ للنصّ، مختصّ في نقدِ الشعر، أنّ الشرقاوي يُحيل على نصوصٍ أُول نَمَت في كنفها قصيدة ''قرطاج'' وتفيّأت ظلالها الوارفة، نحو عبارة من لامية أبي الطيب المتنبي، في قوله:
''على قلق كأنّ الريح تحتي''
حيث تومئ إليها عبارة الشرقاوي، من طرف خفيّ، وإن اجتمعت لدى الشاعرين خصلة حبّ الترحل وعشق السفر واختراق الأماكن، ولعلّ القصائد إن هي إلا نتاج الرحيل، يقول صاحبنا:
''ريح على الريح''
غير أنّ ما يسم قصيدة ''قرطاج'' هو تعدّد أصواتها وتنوّع سجلاّت القول فيها، في زحف للكلمات ينعتقُ من ربقة الأعراف الكلاسيكية ولا يأتمر بأوامر البلاغة النمطية... فإذا تحدّثت عن التناصّ في هذه القصيدة، فلابدّ أن تُردف حديثك ذاك بحديثٍ عن العُدُول. وإذا رأيت مشابهَ لرُسُوم نصوص تتوالد، فلا مندوحة لك عن أن تقف على تداعيات وانزياحات تفلت من قبضة التراث وتنتشر مُولّدة مجازات الحداثة ومشتملة على نبضات الذات.
هو نصّ يتربّع في ملتقى أحاسيس متوهجة ومتفلتة بروعة المكان. متخمٌ هذا النصّ بمُلامسة شغاف المكان حتى وإن وصل به الأمر إلى تشظية الاسم ليصير محلّه الذات، في نزعة للامتلاك لا نلوم عليها الشاعر، فهو الطفل في قرارة نفسه، وهو الذي ينطلق من ذاته إلى العالم لكي يرتدّ إلى ذاته وقد حمّلها العالم في داخله، يقول:
((فلنركض نحو الشمس
نراقبها قبل دخول النوم
ونمنحها شيطنة اللفظ الحافي
ولنركض نحو زلال سلالات الألق الصافي))
يا الصدر الناضج يا قرطاج
يا تاج الأرض وميناء الغبطة
لا أحد يعرف سر النقطة
لا أحد يدرك أن الطلسم ليس سوى قلب
مزروع الخاطر بالنيّة
لا أحد ...
يا قرط ....... اجي
؟ ؟ ؟ ؟
وربما التمسنا للشاعر عذراً، في جعل الاسم نصفيْن، فـ''قرطاج'' أكبر من أن تدخل فيه دفعة واحدة، فتقطيع اسمها علامة على أنها واسعة، وأنه يحتاج إلى هذا الإجراء كي تدخل بسلام إلى ذاته مطمئنة...
نلاحظ هذا الاندفاع نحو تعريف ''قرطاج'' باستعمال مركبات نعتية وإضافية، مختلفة ولكنها لم تؤدِّ ما أراده الشاعر منها، فاختتم بأن نسب قرطاج إلى نفسه، فإذا قرطاج قرطاجه.
وهذا التحوّل من الحدّ إلى التطابق وإلى امتلاك المكان، يقلب العلاقة العادية، حيث المكان أوسع من الإنسان، حيث الإنسان جِرم صغير مُحتوًى في المكان، فإذا بالمكان يتحوّل - بعد تشظية مقاطعه الصوتية - إلى ملكية خاصّة للشاعر، في طقسٍ طُفوليّ لا تنكره عينٌ ولا يُخطئه ملاحظٌ.
والذي ساعد على هذا الاندماج والتطابق بين الشاعر وبين المكان، إنما هو جوّ صوفيّ معتق أثث النصّ بجملة من المفردات والمتعلقات: (سر النقطة)، (القلب)، (الطلسم)، (النية)،... وهي عناصر هيّأت لحدث الامتلاك وحلول المكان بالإنسان، بشكل متدرّج.
تتسم النبرة الشعرية لدى الشرقاوي باحتضان سمات أسلوبية وظواهر خطابية متنوعة، بحيث لا يمكن حصر الجو الشعري في قالب واحد، بل هو أحرص ما يكون على تنمية التداعيات بشكل لافت، بحيث نكون أمام حشد من الصور والخيالات والأجواء غير المتراصفة أو المنتظمة وفق نسق عقلاني يمكن معرفة انتظامه، بيسر.
يتملص القول الشعري في نصّ الشرقاوي من الارتهان بلغة الواقع، فلا يتقوقع فيها، بل وينفتح عليها وعلى المجازات الفنطازية والتهويمات الحلمية والصور المركبة تركيبا يعتمد الخيال المجنح.
سجلات القول متراكبة، ولكنها كلها تشي بصدق العاطفة: كيف يترجم في لغة عصرية متداخلة تداخلاً فنياً حبّه للمكان وعشقه لقرطاج؟ كيف يحقق الشرقاوي ذلك دون أن يرتهن بسابقيه من الشعراء والأدباء الذين احتفوا بقرطاج ودبّجوا في حبّها والتغزل بها النصوص؟
كان ذلك الرهان كبيراً، ونجح الشاعر في تذكيرنا بتلك المحاولات ولكن حبّه الخاصّ أطلّ برأسه بين السطور ليخرج علينا بذات الشاعر وقد أسكنت المكان في باطنها، بدل أن تسكن المكان...
القصيدة، بما هي نطاقٌ من القول الفني قد صيّرها الشاعر ميدانا لإبراز المشاعر الشفافة والعواطف الصادقة.
؟ قرطاج الشرقاوي؟
ويحق لنا أن نتساءل: هل تشكلت لنا صورة ''قرطاج'' أم نحن أمام قرطاج أخرى، هي ''قرطاج الشرقاوي''؟ هل يجب على الشاعر أن يتحوّل إلى رحالة جغرافي، أو أديب رحلة وفيٍّ لمعايير القول الموضوعي، في نقل ''صورة موضوعية'' عن المكان؟
طبعاً، الشعر والفنّ عموماً ليس مطالباً بأن يتعامل مع الموجودات، والأبعاد، بما فيها المكان تعاملاً كمّياً يُقاس بالمتر ويوزن بالكيلوغرام، بل إنه يتعامل مع كل ذلك تعاملاً كيفياً، ينقل بالكلمات صوراً وخيالات ويحاول إحداث آثار نفسيّة في المتقبل، دور الفنان يوحي بالجمال ويخلق فيه - عبر الخيال - عالماً مدهشاً يُخرج المتلقي، من عالم يُحصي عليه أنفاسه، إلى عالم رحب رهانه الجمال.
هذا فضلاً عمّا وقع فيه بعضهم من سوء استخدام للنصوص الفنية (الشعرية والسردية، ...) إذ اعتمدوها وثائقَ لمعرفة أحوال العصر والمصر، ضمن اتجاهات في النقد عفا عليها الزمن... فالبحث عن الأصل أو الصورة، ممنوع في الفنّ: لأنّ العلاقات بين الواقع والخيال أعقد من أن يزعم ناقد انعكاسيّ أنه ظفر بأسرارها!
إنّ قراءة قصيدة قرطاج قد تعطيك فكرة متكاملة عن كثير من عوالم عليّ الشرقاوي الشعرية، وعن تقلباته المزاجية وعن اختياراته الأسلوبية، وهي اختيارات لم تُملها عليه طبيعة العلاقة الخاصة بالمكان، فحسب، بل عمّقتها طبيعة لغته الشعرية وجعلتها سماته الفردية تتخذ طابعا مميّزاً.
قول موقّعٌ وإن ارتبط بعروض الخليل ارتباطاً هشّاً، قولٌ مخيِّلٌ وإن رمى أساليب البيان المكرّسة في مخزن الأرشيف، قولٌ دالّ وإن رفض المعنى المباشر ورام صناعة تدلال لا يحيط به صاحبه، ولا يزعم القارئ أنه أحسن حظا فيه من قائله!
وتبقى مسافة التأويل متأرجحة بين النسق واختراقه، وتلك - لعمْري - ميزة لافتة في قصائد الشرقاوي.
***
أمين صالح
أي حديث عن علي الشرقاوي، بالنسبة لي، هو حديث عن تجربة حياتية طويلة، تمتد جذورها إلى طفولة سديمية المعالم، تنتمي إلى حارة واحدة، مدرسة واحدة، وأحلام لا تحصى.
وهو حديث عن تجربة ثقافية برزت ملامحها مع انتسابنا إلى أسرة الأدباء والكتاب، في بداية تأسيسها، وتنامت وتطورت ونضجت في مسارها الثابت حتى الوقت الراهن.
رفقة غنية تقاسمنا فيها الضحك والوجع، الرجاء والخيبة، الشعر والسفر. أثناء ذلك، نتقاذف الأحلام، في لهو عابث، مثلما نتقاذف الليل والنهار في رحلة تحفّ بها المدن.
ولأن أي رسم بانورامي لهذا الكائن السامي، روحاً وشعراً، يحتاج إلى مجال أوسع، فسأكتفي برسم بورتريه له بلغة يعرف هو كيف يستميلها ويتبيّن كنهها، ومنها يصوغ ما يشاء من صور:
زرقة فضاء فسيح يتخذه عليّ ملعباً لا يسع صيحاته وضحكاته، وسريراً لا يستر طفولته النزقة، الخارجة عن أي قيد أو قانون.
شقرة زنزانة يؤثثها يوماً بكنوز النوم، ويوماً بمدخرات القصيدة، ويوماً بفكاهات اللعب. وإن جاءه المعضل، على حين غرّة، أطلق الضحكة الصاخبة التي يعرفها الرفاق، وانتخب للسهرة جذوة الحكاية، تاركاً للمعضل الحيّز الأضيق.
حمرة كتابة لا تهدأ حتى في غفوة صاحبها. يضرمها، يؤججها، يدعها تتوهج لتضيء وتبهر. لأغنياته طراوة الآهة في حنجرة عاشق يضنيه الوله، ولقصائده نكهة الشهقة آن يلتحم الإنسان بالكون.
مع ذلك، لا ريشة تسعف المجازف برسم الصورة، ولا معجم يفي بالكشف عن جوهر الشخص.
علي الشرقاوي يظل عصياً على الإمساك.. لا لغموضه، لكن لتعدده.
*******