لقمان ديركي
(سوريا)

إذا كان هناك من أب للثقافة السورية فإن ممدوح عدوان هو ذلك الأب ..
الآن ستتمشى الثقافة السورية عارية من أحد حماتها وسط أشد ألد أعدائها من اتحاد الكتاب العرب إلى المسؤولين الثقافيين الذين لم يتشرفوا بمعرفة كتاب بلادهم ومثقفيها.
كان ممدوح عدوان مرجعنا ومعيارنا نحن المثقفين الشباب الذين كنا نصدم كل يوم بتخاذل رموزنا وبخرفهم المبكر، ومع ذلك فإن ديمقراطية ممدوح عدوان كانت تسمح لنا بالصدام الشريف معه وبالحوار العنيف وبالاختلاف عنه، كان أبا شابا يرفض الأبوة ويطالب بأن يكون واحدا منا على الدوام ، وفي غمرة صراعه مع السرطان بقي ممدوح عدوان مثقفا لم يلوثه السرطان الثقافي الذي دفع ببعض كبار المثقفين إلى التسول من السلطة وإلى إعلان خرفهم الإبداعي دون خجل من قرائهم الكثر، استطاع ممدوح عدوان أن يموت شابا مخلصا لسيكارته ولكأس عرقه المعتاد بعض الظهر وفي المساء، مخلصا لترجماته الكثيرة وللقصائد التي تدور في باله، مخلصا لطلابه الذين لم يغب عنهم إلا عندما يسافر كي يتلقى الجرعات الكيمياوية .

مات ممدوح عدوان دون أن يترك لنا جملة "مأثرة" كي تصبح شعارا ، فهو المتجدد الذي يحتقر الشعارات والمتألق الذي يرفض نصيحة الطبيب، قال لي وهو ينظر إلى شعري الطويل بعد أن نال الكيمياوي من شعره الأبيض الجميل: "انظر إلى رأسي ها هو شعري يعود إلى الظهور من جديد".
بسيارته الفولكس فاكن الحمراء الصغيرة يمر على أصدقائه في مواعيد دقيقة جدا منجزا الكثير الكثير في وقت قليل، إنه شخص لا تكفيه الساعات الأربعة والعشرون، فلماذا لا يمددون له ساعات النهار، كي ينجز وينجز كل ما في باله.

ذهب ممدوح عدوان تاركا خلفه معاركه الصغيرة والكبيرة وشجاعته الشهيرة ودفاعه المستميت عن الثقافة، ذهب ممدوح عدوان تاركا لنا ما ميزه على الدوام وما ارتبط به على الدوام رغما عن أنف الأغبياء والمتحزبين ألا وهو رفيقه الدائم"الشرف" .

شاعر سوري
lukmanderky@hotmail.com

خاص كيك

* * *

بطاقةٌ إلى ممدوح عدوان

سعدي يوسف
(العراق)

ممدوح عدوان

أنتَ معنى الفُتوّةِ
تهجئةُ العَيشِ حتى القَرارِ: الثُّمالةِ
راعي تقاليدِنا
في التسكُّعِ، والعَرَقِ المُرِّ
أو قَولِ: لا !
أنتَ مَنْ راوغَ السَّيفَ
واستنفدَ الخوفَ
واعتبَرَ الحرفَ حتى غَلا …
كيفَ خلّفتَني في المَفازةِ ؟
كيفَ انتهيتَ إلى أن تغادرَني أوّلا ؟

لندن 20/12/2004

ممدوح عدوان... الحياة وحدها تليق بك

شوقي بزيع
(لبنان)


(Vladimir Bourrec)

تعرفت إلى ممدوح عدوان في مطالع السبعينات. يومها كنت طالباً على مقاعد الدراسة وكان ممدوح أحد المشاركين في الملتقى الأول للشعر العربي الذي نظمه النادي الثقافي العربي في بيروت، قبل أن تكر سبحة المهرجانات المماثلة في غير عاصمة ومنبر. في تقديمه للشعراء قال غسان تويني، إذا لم تخنِّي الذاكرة، بأن بيروت وحدها تعرف كيف ترد الاعتبار لأولئك الذين طردهم أفلاطون من جمهوريته وكيف تعيد للقصيدة بهاءها المفقود. أما المهرجان نفسه فقد حفل بالمفاجآت ومكَّن الجمهور اللبناني من أن ينصت للمرة الأولى إلى بعض أصوات ذلك الجيل الذي يدق الآن أبواب ستيناته من مثل عبداللطيف اللعبي وأحمد دحبور ووليد سيف، إضافة إلى ممدوح عدوان.
لم يكن الشعر وحده هو الذي لفت الحاضرين إلى ممدوح بل الجرأة وخفة الظل. ففي الندوة النقدية الموازية لأمسيات الشعر دافع صاحب "تلويحة الأيدي المتعبة" عن القناعات التي رافقته على امتداد تجربته برمتها بكل ما يلزم من سطوة المحاججة وقوة البرهان. روى يومها حكاية طريفة عن هارون الرشيد الذي شاهد رجلاً يسدد قضيباً من معدن إلى حلقة ضيقة فيصيبها عن بعد فأمر بأن يكافأ ويجلد في الوقت ذاته. أما المكافأة فبسبب المهارة والدأب والإتقان وأما الجلد فلأنه صرف جزءاً من حياته على ما لا طائل منه. وأما ممدوح فقد كان ينتزع من الحكاية بعدها الرمزي ليخلص إلى أن الشعر، وفق رأيه، ليس مهارة محصنة ولا لعباً مجانياً على حبال اللغة بل ينبغي أن يمتلك إضافة إلى ذلك وظيفة اجتماعي وموقفاً من العالم. وقد ظل الشاعر أميناً لهذا الموقف ومنافحاً عنه في مجمل أعماله.
ثمة بالطبع من يتفق مع ما ذهب إليه ممدوح ومن يختلف عنه في تعريف الشعر وتحويد طبيعته ودوره. لكن ما لا يختلف حوله اثنان، بحسب ما أعلم، هو أن العلاقة بينه وبين الشعر لا تتصل بالمفاهيم والأفكار وباللغة وحدها بل بالسلوك وطريقة العيش ونمط الحياة النادر. فنحن هنا إزاء رجل يعتنق الشعر بوصفه حيوية داخلية وشحنة متجددة من الرغبات ومحفزاً على الأمل وجيشاناً لا ينطفئ في العروق. كأن شاعرية ممدوح موزعة بالتساوي بين نصه اللغوي وبين حياته، تماماً كما هو الحال مع شعراء غابرين أو معاصرين من أمثال مالك بن الريب وأبي نواس وديك الجن الحمصي وبدر شاكر السياب وأمل دنقل وآخرين غيرهم. بعض هؤلاء كتب قصيدة واحدة وبعضهم كتب مجموعة قليلة من القصائد أو الدواوين لكنهم جميعاً قد حولوا حياتهم برمتها إلى قصيدة مدهشة وتبرعوا بأجسادهم إلى المجاز ووقعوا على شعرهم بحبر الفرح الملتبس أو السخرية الفاجعة.
لم يخن أي من "الثنائي" الشعري صديقه الأثير لكن الخيانة أتت من جهة الزمن، ومن حيث لا يتوقعان. ولأنهما راهنا أكثر مما يجب على جسديهما الأعزلين فقد ترنح علي الجندي تحت وطأة الشيخوخة فيما تعرض ممدوح قبل ست سنوات إلى ضربة غادرة من جهة القلب. وإذا كان الأول قد آثر الانسحاب إلى ظلامه الداخلي في منزله على الشاطئ السوري فإن الثاني قد اختار الهجوم على الحياة والكتابة في آن واحد. هكذا ظل ممدوح محارباً على جبهتين. وبدلاً من أن يشفق على قلبه الواهن راح ينوع مجالات الكتابة والتأليف متنقلاً بين الشعر والرواية والترجمة والمسرح والدراما التلفزيونية، بما لا يقوى أي قلب سليم وفتي على احتماله.
غير ان ممدوح الذي خرج منتصراً من معركته مع قلبه يخوض الآن مع السرطان معركته الأكثر وطأة وإيلاماً. وهو بالطريقة نفسها ينظم خطوط دفاعه ضد الزائر الخبيث والمباغت. "بدأت خيانات الجسد" إذاً، كما عبر في إحدى قصائده الأخيرة، وبات لزاماً عليه أن يستنفر في وجهها جماع طاقته وكل ما يملكه من إرادة وتصميم على رد التحدي بمثله. وهكذا كان: الضحكة المجلجلة نفسها، القدرة الهائلة على دفع الألم، النكتة اللماحة نفسها، البديهة التي لا تخطئ، المثابرة على الكتابة والإبداع كما لو أن مرضاً لم يقع. إلى جانبه تربض الشجاعة كالنمرة والى جانبه الآخر زوجته الرائعة إلهام التي تجعل السعادة حدثاً يصعب تلافيه. أما ممدوح عدوان فينتصر على المرض من دون شك لأن الحياة تليق به أكثر من أي أحد آخر.

الحياة - 2003/07/22

****

ممدوح عدوان:
تصنيف النفس يوقع في النمطية

تحقيق: غادة الأحمد

ممدوح عدوان من أكثر التجارب الأدبية المعاصرة إثارة للجدل والفضول؛ لما يحمله في شخصه من معين هائل من الثقافة والرؤى والأطياف والجمالات، ولما يميل إليه من عوالم شديدة الثراء والاتساع، فهو شاعر من جيل الستينيات (أواخر الستينيات) الجيل المؤسس للمشهد الثقافي في سوريا جيل (محمد عمران وعلي كنعان وعبدالكريم الناعم وعلي الجندي ونزيه أبوعفش وفايز خضور وغيرهم...). وهو إضافة إلى ذلك مسرحي وكاتب قصة ودراما ورواية ومترجم.

  • ولد ممدوح عدوان في قرية قيرون (مصياف) عام (1941)، وتلقى تعليمه في مصياف وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة الإنجليزية وعمل في الصحافة الأدبية وله في الأسواق حوالي ثمانين كتاباً والعشرات من المسلسلات الدرامية آخرها (الزير سالم) والمئات من المقالات في الصحف والمجلات المحلية والعربية.
  • آخر أعماله الشعرية (عليكَ تتكئ الحياة) ديوان شعري و(كتابة الموت) ديوان شعري، ورواية (أعدائي) الصادرة عن دار رياض الريس.
  • ظل حضوره الإبداعي حاضراً على مدى أربعين عاماً في عطاء غزير ومتنوع هذا التنوع الذي جعل البعض يعتبره مأخذاً في حين يعتبره ميزة يقول ممدوح عدوان: "لقد تعاملت بكل فنون الكلمة المكتوبة لأن عندي رغبة في التعبير عن نفسي وأحس أني بحاجة إلى أكثر من وسيلة لهذا التعبير. تصنيف النفس يوقع في النمطية، أنا شاعر، إذن عليَّ ألاّ أعبر عن نفسي إلا بالشعر، ثم نكتشف أن هناك مناطق أخرى يعبر عنها بوسائل أخرى غير الشعر. هناك من يقول لي أنك تشتت عملك بهذه الطريقة ولكنني في الحقيقة أتمنى لو كنت امتلك طرقاً إضافية أستطيع استخدامها أحسن، إنني مليء وليس لأنني استثنائي، بل لأن كل إنسان كذلك، لو عرف كيف ينتبه إلى نفسه من الداخل، لو فعل ذلك لاكتشف أبعاداً وأعماقاً وأغواراً تحتاج إلى التعبير عنها، ولا يمكن أن يكون هذا التعبير بشكل واحد بالقصيدة أو بالكلمة.. أتمنى لو كنت أستطيع أن أرقص وأغني وأعزف.."
    ويبدو ممدوح عدوان عن قرب خجولاً تشعر وأنت تجالسه برقة عالمه الداخلي، رغم ما يبدو عليه من عصبية أثناء الحديث فهو سريع حقاً في حديثه وسريع البديهة حاضر النكتة. إنسان محب للحياة يتمتع بالجانب الحالم منها في كتاباته، كما يتمتع بالجانب المعيش في حياته اليومية، فكأنه يحياً قصيدة حب أبدية، يقول عدوان في إحدى حواراته: "كل إنسان يخاف الموت، ولكن هذا لا يشغل تفكيري كثيراً، فهو لا يعني لي سوى توقف مشاريع. أنا أخاف أن أموت قبل أن أكتب كل ما برأسي، وأحب الحياة ومتعلق بها، لكن أحس كأنني أتفرج على شيء في الحياة، لكنه شيء غريب..".
    كل هذا الحب للحياة، والتمسك بها، لم يمنعه عن القول في ديوانه (كتابة الموت):

إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع
تركنا فوقها منسف أحلام...
نحن أكملنا مدار العمر فرسانا
وقد متنا شبابا..

ولا نستطيع أن نغفل أهمية ممدوح عدوان المسرحية، لأنها علامة بارزة في تاريخ المسرح السوري والعربي على حد السواء، مستنداً إلى تراث عربي وتاريخ حافل ومسرح عالمي استقى منه فنياته العالية.

فكان مسرحه يحقب للحياة الثقافية والإبداعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سوريا ومن أبرز مسرحياته: مسرحية "الرجل الذي لم يحارب"، ومسرحية "سفر برلك" ومسرحية "جمال باشا السفاح"... وغيرها...

  • ولمزيد من إلقاء الضوء على تجربة ممدوح عدوان الأدبية والإبداعية التقينا عدداً من الأدباء الشعراء والروائيين والنقاد فكانت الحوارات التالية:
  • عبدالله أبوهيف كاتب وناقد سوري:ممدوح عدوان المبدع المتميز أنهك روحي خلال هذه الفترة، فقد روعني قلقي عليه لدى سماعي عن مداهمة المرض لجسده على نحو فجائي مفجع فقد جمعتني إليه صداقة عمر خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي وتواصلت مودتنا، وإعجابي بإبداعه المتنوع والغزير، وإن اختلفت آراؤنا في قضايا متعددة.
    وأذكر أنني كتبت عنه شاعراً ملحمياً عام (1970) من خلال قصيدة "أقبل الزمن المستحيل"، ولعله من المبدعين العرب القلائل الذين مددوا غنائية الشعر والأدب إلى حوار التاريخ والوجود في الملحمة والدراما والسرد، فمضى بعزيمة نادرة إلى الكتابة المسرحية تفعيلاً للكتابة في زمنها، وتحققاً لإبلاغيتها في تثمير الرؤية للذات والعالم. وقد أفلح كثيراً من النهوض بالتخييل الفني في مدارات التراث العربي، ولا سيما الشعبي منه وتراث الإنسانية بعامة، فلطالما أنجز نصوصاً مسرحية تتناص مع نصوص المواقف الدالة على تقاطعات الوجود والتاريخ والسياسة والاجتماع، وتجلياتها في صراع الأفكار، ولا مجال لتفريد القول في هذه التناصات والمواقف لغناها وعمقها في التعبير عن التجربة الإنسانية.يحتفظ إبداع ممدوح عدوان براهنيته وديمومته من خلال الحرص على وعي التاريخ الذي يرتقي إلى حساسية نادرة في كثير من نصوصه الشعرية والروائية والمسرحية.
  • الروائي والمسرحي والناقد الشاعر - أحمد يوسف داود - سوريا:ربما كان ممدوح عدوان نموذجاً متفرداً في الدلالة على الغنى في المشهد الثقافي السوري منذ الستينيات حتى اليوم، وربما كان أحد الأدلة على (قلة حظ) صناع هذا المشهد في نوال الشهرة التي يستحقونها، رغم ما أصابه - هو شخصياً - من بعض الشهرة الذي أعتقد أنه يستحق أكثر منه بكثير. ولعل ذلك عائد إلى (تسويق) الأدب السوري في محيطه العربي. ومن أبرز ما يميز شخصية ممدوح هو ذكاؤه الحاد اللماح، وحضور بديهته المدهش، وغلبت روح النكتة الأخاذة عنده، وجرأته النادرة على قول ما يعتقد أنه حق، والانسجام الكبير بين ما يكتبه وما يسلكه في حياته وعلاقاته اليومية، إضافة إلى حسن معشره ومقدرته الفائقة على التقاط التناقضات الدقيقة الخفية في الواقع: من عتبة بيته إلى أعماق (البيت الأبيض!!) - مع التركيز على أسوأ المخبوءات في مظاهر وخفايا التردي العربي المزمن - وبسط ما يريد عرضه مما (يراه) بذلك الأسلوب السهل الممتنع الذي تكشفه جيداً زواياه ومقالاته الصحفية أكثر من سواها.
    أصدر ممدوح عدوان حتى الآن بضع عشرة مجموعة شعرية وروايتين وجملة من المسرحيات، كما قدم للتلفزيون مجموعة غير قليلة من الأعمال الدرامية التلفزيونية المسلسلة. وتتسم هذه الأعمال جميعاً - وبهذا القدر أو ذاك - بغلبة السمات الأيديولوجية، أي تلك التي تختفي (بالتعبير السياسي)، على عمق الفن الرفيع. وهذا ليس عيباً في ذاته كما أنه ليس حكماً شاملاً. ومن الطبيعي بالنسبة لأي شاعر أو أديب أو كاتب عربي جاد أن يكون الأمر كذلك في نتاجه الإبداعي، فكيف إذا كان هذا الشاعر الأديب هو ممدوح عدوان الذي انبنى وجوده الشخصي والإبداعي معاً على الإحساس الحاد المفجع بالهزائم العربية المتوالية خلال نصف القرن الماضي وهذه السنوات الأولى من القرن الجديد.. بدءاً بهزيمة حزيران التي جاءت ارتكاساً للهزيمة الأكبر عام 1948في فلسطين - وانتهاء بآخر هزيمة جديدة تمثلت في الاحتلال الأميركي/ البريطاني الراهن للعراق.
    لقد كان ممدوح عدوان باستمرار (الشاهد المحتج بصوت عال) - ومن موقع الرائي - على هذه الهزائم وعلى عواملها وارتكاساتها المهددة لمصائر الأمة العربية بأفدح الأخطار، بينما يرى التردي القاتل في الأوضاع العربية حتى تُهدر (ذات) الأمة هدراً مخيفاً على أيدي أنظمة وحُكام لم يعرفوا يوماً كيف يوحدون كلمتهم على شيء إلا على التخاذل والتسليم.. وعلى محق شعوبهم وتغييبها وأحيانا: التنكيل بها تحت (يافطات) وشعارات خداعة، كان العراق - على سبيل المثال لا الحصر - أبرز نظام استخدمها حتى وصلت المنطقة كلها إلى ما وصلت إليه.
    وممدوح لا يستثني أحداً من المسؤولية ولا يحابي أية سلطة من أي نوع فيعفيها من تحميلها ما يرى أنه (نصيبها) أو حصتها في تلك المسؤولية عن ذلك التردي العربي المفزع المفجع.
    ولعل ثمة شيئاً من التطرف أو المغالاة لدى ممدوح في ذلك، وربما أوصله ذلك إلى حد غير قليل من اليأس.. ففي التشخيص الصائب لا بد من رؤية تلك العلاقة الصميمية بين ما هو (ذاتي) وما هو (موضوعي)، أعني: بين أوضاع الأمة وسلطاتها المختلفة من جهة وبين الوضع الحضاري العالمي وتعبيراته السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية الدولية من جهة أخرى. وربما لهذا يمكن القول إن إنتاج ممدوح عدوان قد خالط علوّه الفني والفكري شيء غير قليل - هنا أو هناك - من الذاتانية الشخصية، بقدر ما أوقعته رغبة الأدلجة في المباشرة في أمكنة كثيرة من أعماله المختلفة.
    ويظل ممدوح عدوان - رغم هذه المآخذ القليلة - شاهداً على عصر، وعلماً إبداعيا كبيراً لا على مستوى سورية وحدها بل على مستوى الوطن العربي كله.
  • الأديب والشاعر والمترجم ميخائيل عيد "سوريا":
    هل في وسع أحد أن يختزل عالماً يمور بالحياة والحركة؟
    ممدوح عدوان هو ذلك العالم من الشعر والمسرح والترجمة... وهو كما قال الشاعر: "هو البحر من أي النواحي انتبه".
    عُرف ممدوح عدوان شاعراً جميل الشعر، له صوته المتفرد وله مذاقه الخاص وعرفناه كاتباً للمسرح لقيت مسرحياته التقدير والإعجاب، وقد شغلت المعنيين بالمسرح من مخرجين ونقاد ومشاهدين، وعرفناه كاتب قصة قصيرة فأحببناه قاصاً يحكي هموم الناس ويرصد أمانيهم وتطلعاتهم، وعرفناه كاتب مذكرات قوي الذاكرة، دقيق الملاحظة تضيء ومضات فكره الماضي فيتجسد أمام القارئ حياة وكائنات، وكان في الترجمة مجلياً: لقد أحسن انتقاء ما ترجمه وأبدع في الترجمة فأدهش القراء، وشكك كثيرون منهم في أن ما بين أيديهم عمل مترجم.. وممدوح يمزح حين يجد، وهو جاد الجدّ كله في مزاحه، أما حين يسخر فإنما يكون بلغ ذروة الغضب والجد.
    ولد ممدوح متألقاً مميزاً الصوت، وظل يزداد تألقاً في كل جديد يصدر عنه، وما أكثر ما صدر وما أكثر ما ننتظر أن يصدر...
  • حسن حميد كاتب وروائي وقاص فلسطيني، رئيس تحرير جريدة الأسبوع الأدبي:
    ينتمي ممدوح عدوان إلى طينة الخزف الصيني.
    رجل شوته الأيام بأزماتها الموجعة، في فرنها الدائم الفوران بالجمار الحارقة، والأحزان المدّوخة، والعطش الأبدي. فاستحال إلى كائن شديد الحيوية والخصب؛ كائن اجتماعي له فعاليته المتعاظمة أبداً، وحركيته الدائبة الحضور والموجودية جولاناً، ومعرفة، ونقشاً، رجل لا يعرف الهدوء أو السكون أو الظلال إلا من أجل الامتلاء والتأمل والكمون، رجل يروق لي أن أسميه غول الأدب في سورية، فهو أشبه بالخرافة الأدبية، شاعر اعتلى المنابر، وهو في طراوة العمر فهزها، في حضرة الشعراء الكبار، بالصورة والحذق، والبراعة الفاتنة دونما ارتباك، أو حيرة، أو لجلجة. ومن يعرف مقدرة ممدوح عدوان الشعرية، ودوره البادي في دنيا الشعر نصوصاً، وحواراً، ورؤية.. يدرك أنه كان من السهل عليه أن يكتفي بمجد الشعر وسطوته ورحابة جماله ولذة عناقه. لكن الذين يعرفون جوانية ممدوح عدوان وروحه العلوقة بالتمرد، والمضايفة، والتنوع، والركض الجميل... يدركون أيضاً أي كائن بري هو الممدوح عدوان... المتفلت من الأقفاص والأسيجة، والحدود، والفضاءات الضيقة... لذلك لم تكن مفاجئة نقلته إلى عالم المسرح في سبعينيات القرن العشرين، ليس لإيمان ممدوح عدوان بالتراسل الأدبي بين الأجناس الإبداعية وحسب، وإنما لقناعته الأكيدة بأنه محارب ثقافي، دروبه كثيرة، ووسائله عديدة وأحلامه لا حصر لها، وأنه على معرفة ودراية بثقافته من جهة، وبتجاوب الذات الإبداعية من جهة ثانية.
    ومن عجب أن ممدوح عدوان أنجز في المسرح خلال سنوات قليلة فقط ما لم ينجزه أدب المسرح السوري خلال مئات السنين المتوارية، بل لم يكن من إرث مسرحي في سورية يستند إليه ممدوح عدوان.. ما استند إليه ممدوح عدوان مسرحياً.. قراءة وتنقيباً وبحثاً كان مسرحاً عالمياً بالدرجة الأولى، ومسرحاً عربياً بالدرجة الثانية وقد بات على من يود اليوم الإطلاع على المسرح السوري أن يدخل من إحدى بواباته، أعني بوابة ممدوح عدوان المسرحية، ليرى الحيوات الاجتماعية والوطنية والوجدانية والقومية التي انشغل بها الوجدان السوري والعربي. لذلك بمقدورنا القول باطمئنان أن مسرح ممدوح عدوان باعتباره علوقاً بالحياة راهناً ومستقبلاً، يحقق للحياة الثقافية والإبداعية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية في سوريا.
    وقد يظن من لا يعرف تجربة ممدوح عدوان الأدبية أن الرجل اكتفى بالشعر والمسرح والرواية التلفزيونية.. لكن الحقيقة تقول غير ذلك لأن ممدوحاً مضى إلى أبعد ما توهمنا أنه مصبٌ له، مضى إلى عالم الرواية المكتوبة، فأنجز رواية (الأبتر)، رواية الروح الوطنية المستقاة بالغربة والعزلة والأحلام؛ معايشة وحزماً، وشرفات، ثم كتب روايته (أعدائي) التي أعدها حجر زاوية في بناء الرواية العربية وليس في موجودية الرواية السورية وحسب.
    وأقول لو أن هذا العمل (أعدائي) كان هو كل عطاء ممدوح عدوان لكان كافياً لكي يسجل اسمه في ديوان السرد العربي، باعتباره مبدعاً، ورائياً وكشافاً، لا تخطئه عين الحذق!
    بقي شيء واحد، فحواه أن الأيام تثبت مرة بعد أخرى وهي تراقب ممدوح عدوان، وإبداعه، بأنهما معاً، كائنان متحدران من سلالة النور..!!
  • عبدالنور الهنداوي - شاعر من سوريا:
    ممدوح عدوان.. شاعر جرّد المعايير كلها، وحولها إلى تفاح مسيّج بالأشعة. عرفت ممدوح عدوان، قبل تشكل التضاريس، وقبل أن يتدلى من الكارثة؛ قبل ثلاثين عاماً، تعرفت عليه دفعة واحدة، ثم تركته وحده، ليحترق هو والأشياء. فقد خرج من جلده الخشبي، ليلتقي بالتمائم، وبالرهانات، فهو كان يلتهم الوقت حين زرته أنا والأسطورة المشوشة.
    ما أريده فقط، التذكير بعبقرية الخيال، لأنه هو الذي خلط الصدفة مع التاريخ وتسلق الفلسفة ولعب بالحداثة وما بعدها.
    هل يحق لنا الاقتراب من هواء سقط على الأرض دون خجل؟ لكي نتأكد من هذه الصراحة لا بد من رهان على السراب؟
    كنت أذكر ممدوح عدوان بالوجوه الخشنة، وبالأزقة المتآكلة، وبالأيدلوجية المخبأة بالصناديق.فهو الذي لعب بالخيال ليستمر، ومن بعد ذلك تسلل إلى داخل ثيابه، كي لا تحدث الكارثة، قد يعرف ممدوح عدوان ما معنى التحولات الخارقة، لذلك لا يستطيع الامتلاء بكل ما يراه. فتارة يخرج سهواً من أشعة الشمس، وتارة سيسافر باتجاه العيون المحطمة... وبشكل أدق، فإنه واءم ما بين الأيديولوجيا الساخنة، وما بين الاستيلاء على المصير.
    ممدوح عدوان، كان دائماً، ولا يزال، يبحث عن وجه داخل الكهوف وكما أن الأشجار تدير ظهرها - لبعضها البعض - وأن الماء تزوج الماء؟ فقد ترك هيكله العظمي خارج الأيام لكي لا يصدأ.
    فهو الذي مارس البكاء أمام الحائط، وهو الذي اعترف بالعذاب ليكتشف الأبعاد الخفية للمعجزة.
    ورداً على سؤال حول علاقته بالغزاة، ورقصات السماح قال لي: لقد وضعت كل أوجاعي وراء ظهري، لأنه لا يوجد آفاق للأيدي الممتلئة بالصحون الطائرة!

جريدة الرياض- 05 June 2003

***

حوار / 1 :

ممدوح عدوان
لست راضيا ولا غاضبا من الجيل الجديد

أجرى الحوار: علي ديوب
(سوريا)

منذ عام النكسة وممدوح عدوان يكتب الشعر، بلا انقطاع، ومن غير أن يوقف نتاجه لهذا الفن؛ لقد كتب المسرحيات - تأليفا واقتباسا- والمقالات الصحفية، والنقل الأدبي - ولعله شغل الصف الأول في هذين الفنين، طوال عقد السبعينات. كما كتب السيناريو والأغنيات، لأفلام سينمائية ليجرب (؟) الرواية، في آخر مشاريعه (صدرت له رواية حديثا، عن دار الريس، بعنوان أعدائي- ترصد، من النافدة الخلفية للقرن العشرين، أحوال البلاد والعباد، أواخر العهد التركي). وحيث يعمل مدرساً، في المعهد العالي للفنون المسرحية، تداولنا هذا الحوار:

* ممدوح عدوان مجرب مجتهد في شتى فنون الكتابة؛ أكان ذلك بتأثير المشاريع الفكرية الكليانية؟ أم نتيجة صراع مع خارج شديد التعقيد والغرابة؟ أم هو مجرد فوران طاقات يشدك في كل اتجاه؛ سيما وأن حب النجومية راودك لأن تخوض تجربة التمثيل؟

- أبدأ من النهاية: لم أحب التمثيل بسبب النجومية، بقدر ما أحببت التمثيل كأول نشاط مارسته في حياتي، خارج نشاط تلميذ في المدرسة. منذ عام 1958 قمت بدراسة التمثيل بالمراسلة. في (59-60) كنت أقدم مسرحياتي في مصياف (بلدتي)، في أعياد الوحدة، كنت أكتب نصوصا مسرحية وأقدمها بنفسي: إلى الآن هذه الرغبة مختزنة في. وقد صرفت في اتجاهين: الأول إلقاء الشعر، والثاني رسم الشخصيات بشكل جيد في الدراما. سواء كانت الدراما مسرحية، أو تليفزيونية.. وأخيرا روائية. وأنا أكتب أحس دائما، أنني أمثل الأدوار كلها، بما فيها الأدوار النسائية! أما عن تنوع وغزارة المشاريع والتجارب، فباختصار: أحس أنني ابن هذا العالم؛ وأريد أن أتدخل في كل ما فيه، لذلك أنا أشتبك مع العالم يوميا. ويأخذ هذا صيفا متعددة.. أحيانا أعانقه، أحيانا اشتمه، أحيانا أضربه بالحجارة.. وبالتالي أحيانا أكتب المسرح وأحيانا الشعر وأحيانا الصحافة؟ فهي رغبة في التفاعل مع العالم.

* ألا يحدث لديك، هذا التوزع بين فنون الكتابة نوعا من الفصام في التعبير عن التجربة، بدلا من تشكيل رؤية مركزة عن العالم بواسطة جنس فني واحد؟ أم أنك تشفق على هذا التنوع الذي يطبع الوجود، من رؤية واحدية؟

- أنا أعتقد أن كل كاتب يكتب بنسبة 70% عن نفسه، و30% بأفكاره. وبالتالي كل كاتب - اعترف بذلك أم لم يعترف - يحتوي في داخله على كل الأنماط التي يكتب عنها، إذا كان كاتبا جيدا. وأنا أعتقد أن في داخل شكسبير يوجد شايلوك كما يوجد هاملت، ويوجد روميو، وتوجد جولييت؛ وإلا ما كان بمقدوره الكتابة عنهم.
الكاتب يكتب عوالم متعددة، هي عالمه هو؛ طبعا هي قدرة استثنائية على الكشف الداخلي. ليس غنى استثنائيا، لان كل إنسان لديه القدرة على تأمل داخله بطريقة خاصة في الفن. بينما المفكر أو الفيلسوف يتأمل داخله بطريقة مختلفة. والفنان يتأمل داخله فيكشف هذا العالم المليء بالرغبات والنزوات. وأنا عندما أكتب عن اللص، فان في أعماقي يوجد لص. وعندما أكتب عن الخيانة يوجد في أعماقي خائن. وعندما أكتب عن الفدائي، أيضا يوجد في أعماقي فدائي، وأنا أكتب أحاسيس المرأة جنسيا مع أنني سوي من هذه الناحية... الخ.

* ماذا تعني بسوي؟

- كلامي يعني إمكانيتي إن أكتب عن أحاسيس المرأة الجنسية - مثلا- وأنا رجل سوي في حياتي الجنسية؛ أي انه لا يوجد عندي شذوذ.. كيف؟ بالتماهي مع الأحاسيس الجنسية للمرأة؟ بالمطالعة؟ أم بالسؤال والقيام بعمل استفتاء مع النساء؟ قد يفيد كل ذلك؟ ولكن يجب أن أبحث عن المرأة في داخلي- المرأة التي أحتاجها في الكتابة.

* هذه النسبة التي قدرتها في كتابة الكاتب عن نفسه وكتابته بفكره، هل عنيت بها فصلا بين الوعي الذاتي والوعي المضاف؟

- لا. ولكن أحيانا تتأمل موضوعا ما، فإذا كنت مفكرا كتبت أفكارا فقط، أما إذا كنت فنانا فستكتبه من خلال شخصيات أو عواطف - شعرا كانت، أم انفعالات، أم مسرحا.. وأنت تكون كاتبا ماهرا بقدرها تستطيع إخفاء نفسك في النص. بحيث لا تبدو انك تتدخل. ولكنك، في حقيقة الأمر، تكتب هذا العمل لأن لك موقفا في الأصل. وتريد لهذا العمل أن يخدم هذا الموقف، ولكن بطريقته كفن، وليس كمقالة فكرية أو كبحث اجتماعي أو خطاب أيديولوجي.

* هناك سخرية حادة، فاضحة، ماكرة، وسوداء في شتى نتاجاتك الفنية.. هل تفضل لو كنت جربت السخرية الحنونة أو التهكمية، أو فير ذلك من صفوف السخرية؟

- ربما، لو لم أكن عصبيا- أكثر مما يتطلب الأمر- كنت كتبت بسخرية أفضل من التي كتبت، وكل الذين يعرفونني يتساءلون عن الفارق بين المرح والسخرية والذكاء في الأجوبة وردود الأفعال الحاضرة في حياتي، وبين ما هو أدنى من ذلك في كتاباتي؟ وهذا صحيح. ربما لأنني أتناول الكتابة بعصبية، والعصبية لا تعطيني الفرصة لأن استرخي مع خبثي، وبالتالي يظهر الخبث في الموضوع وليس في التفاصيل، أتمنى لو أنني أقل عصبية، لأكون أكثر خبثا!

* إذن هل تفكر اليوم - وأنت على مسافة مناسبة من نتاجاتك الأولى- بنقلة جديدة؟! ومن أي نوع؟

- أنا، مثل أي فنان آخر، مشغول بنقلة فنية أجدد فيها نفسي، وأجدد نتاجاتي لأنني أنا أيضا أتجدد. ولأن هذا العالم الذي نعيشه يتجدد. وبالتالي أنت تبحث، دائما، لتكون ردود أفعالك مناسبة لما يعطى لك. عندما أعود بالنظر إلى نتاجي السابق أشعر أنني، الآن، أفتقد لأمرين: أولا الرومانسية، وهذا أتوهم إمكانية استعادته. وثانيا الطفولة، التي يفتقدها أي شخص بعد الخمسين من عمره، هذه نوستالوجيا الطفولة المفقودة، واستعادتها- أي الرغبة في العودة إلى مرحلة الشيطنة والرؤية البكر للعالم - تمثل حاجة عند الإنسان، هناك فنانون قادرون على أن يظل في عيونهم طفل يرى العالم.

* هذا الحنين للطفولة أفهمه على انه ليس لمرحلة عمرية، بل إلى نوع من الرؤية الحرة، غير الملتزمة بما هو خارجها، أي غير المسؤولة أيضا- هل توافقني؟

- لا شك أن أحد العوامل التي منعت الطفل الذي في أعماقنا من الاستمرار هو أننا اضطررنا ان نكبره، بشكل قسري. ونشده ليعي أشياء لا يجوز أن يعيها: ولكنه مضطر لذلك، لكي يليق بالحياة القائمة، لكي ينسجم مع أدوات القمع من حوله: قمع الأسرة، قمع المجتمع، قمع الأخلاق والعادات، قمع الدولة، ومتطلبات البناء، و... هناك مليون صيغة من القمع التي تجبر الطفل على أن يكبر بشكل قسري، ويصبح طفلا غير سوي- مثل الخضراوات التي يحقنونها بالهرمونات. تصور، مثلا، انك تلزم طفلا، عمره ثماني أو تسع سنوات، ان يتعلم كيف يحلق ذقنه!

* بين لغتنا الحية، في التواصل الكلامي، وبين اللغة التي نكتبها، وهي أقرب إلى اللغة الميتة، من شدة وطأتنا عليها (وكثر الشد يرخي- كما يقول المثل) ثمة سر: أين يكمن، برأيك؟ هل هو في تراثنا الشفوي؟

- أعتقد أني، في كتابتي الصحفية والدرامية، أكتب بالسهولة التي أتحدث بها، وبالتالي يخيل، لبعض القراء، أنها سطحية. وانه يمكنه كتابة مثلها: هي نوع من السهل الممتنع: لا يوجد فيها تعال، أو فذلكة، أو تهافت على القارئ. ومن هنا يأتي إحساس القارئ بإمكانية مقارنتها بحديثه اليومي.
الشعر - وربما لأنه حوار مع الذات، وليس بين أشخاص مفترضين - تصبح صيغته أكثر خوفا، وتعكس في النفس إحساس الدخول في بيت معتم. أنت تتلمس، كل خطوة، بحذر لتحمي نفسك، هذا ما يحدث لك حين تدخل إلى أعماقك، في الكتابة الشعرية، ومن هنا يصبح الشعر، بلغته الحذرة، أقل سلاسة.

* هذه العتمة، هل هي المسؤولة عن "الصنعة الشعرية"؟ أم أن هذه الأخيرة وليدة نمط من التشفير الشعري، الذي دفع بأصوات إبداعية جديدة لإطلاق صرخة "الشعر ضد الشعر" أو دعوة موت الشعر، أو لغة السأم من اللغة، نحو وضوح يأخذ قوامه من اللغة اليومية، بتنافراتها، وعبثيتها؟

- أعتقد انه ليس هنالك فن ليس فيه صنعة، والفن هو صنعة متقنة، إلى درجة تبدو أنها عفوية، انه أشبه بمنحوتة يعالجها الفنان بالأزميل، ويقدمها لك، ولا أثر فيها لضربة أزميل واحدة!
كل فن هو صنعة، حتى ما يبدو منه سلسا ويوميا؛ وإذن ما يميز مادة الحديث اليومي، في الجريدة، عن مادة الحديث اليومي الفعلية القائمة بين جارة وجاراتها؟ أو في الحانوت، بين بائع وزبون؟ نحن، حتى حين نلجأ إلى هذا الواقع، نلجأ إليه عبر انتقائية خاصة، من خلال عين الفنان، والفنان هو الذي ينتقي ما يبدو انه يومي ويحيله إلى فن هناك مقولة لـ(اميلي ديكنسون) تقول ان الفنان هو الذي يلتقط الممسحة، التي في الطريق، ينفضها ويعلقها على الجدار، فتصبح لوحة!

* أصبحت الغائية في الشعر، وتعيينا الشعر الموجه، الملتزم بخدمة قضية ما، مثار انتقاد حاد من دعاة تنظيف الشعر من الايدولوجيا والعنبرية... الخ؛ هل أنت مع الشعر خالصا لوجه الشعر؟

- هذا الموضوع جرت مناقشته كثيرا. ولا أستطيع أن أضيف عليه الكثير، ولكن سأوضح موقفي منه: العنبرية، بمعنى الخطابية ذات النبرة العالية، التي تصلح للمنا سبات وللتظاهرات، هذه تقتل الشعر والشاعر، وهي ليست شعرا؛ ولكن عكسها ليس صحيحا، بمعنى أن محاولة تجاهل القارئ ليست فنا راقيا، بالضرورة.
هذه المحاولة تحمل موقفا سخيفا ومفتعلا، ليس هناك من يكتب إلا ويتصور القارئ في ذهنه. ولولا ذلك لما نقل ما في ذهنه إلى الورق. الحياة مليئة بأناس يفكرون، في الطريق، بأشياء كثيرة، ويشردون في المقهى بأشياء كثيرة: ولا يكتبونها؟ وحده الكاتب يفعل ذلك، وعندما ينقلها إلى الورق معنى ذلك انه أراد تثبيتها لكي يردها الآخر (القارئ). إذن توجد رغبة في التواصل والتوصيل، لابد منها، وهناك دعوة واسعة - بحجة الحداثة - تصور الشعر بأنه "هو ما لا يصل"، "هو الذي لا يبحث عن قارئ"، أو "لا يحتاج إلى جمهور".. وهذا غير صحيح؛ ولكن تقصد الجمهور هو الافتعال، وهو الخطابية.

* في هذا السياق، هل توافق القائلين بصلاحية الشعر للقراءة، فحسب، دون الإلقاء؟

- هذا الاعتقاد اجتهاد آخر، لابد من التوقف عنده، وتأمله، وليس قبوله كما هو.
قبل كل شيء يجب أن نتأمل في أن الدخول من أبواب حضارية جديدة يؤثر على أنماط ثقافية، ووسائل تعبير سائدة؛ يعني لما كانت الناس في مرحلة الثقافة الشفوية، كان لديها مواصفات خاصة للخطاب. واختلفت هذه لما صار هناك كتابة. ما عادت هناك حاجة لان تكون أمامي، لكي ألقي خطابي وتسمعني، صار من الممكن ان أكتبه لك وتقرأه متى شئت وبحيادية، أي بمعزل عني أنا. حماسي وحرارتي صار يلزم ان ينتقلا إليك عبر الكلام، وليس عبر صوتي، اكتشاف الكتابة أحدث تغييرا بلهجة الخطاب. اكتشاف الطباعة أحدث نقلة حضارية أخرى، أوجد الرواية، الطباعة ارتبط ظهورها بالرواية. صار بوسعك ان تأخذ قصة وتقرأها في بيتك، لوحدك. لست بحاجة لشاعر يقرأ لك. ولست بحاجة إلى أمسية، ولا عازفين. أصبح هناك ذاتية، الطباعة صنعت التوزيع الواسع، وعملت الصحافة، أيضا لولا الطباعة لا توجد صحافة - والصحافة نوع جديد في الكتابة.. والآن دخل التليفزيون، دخلت ثقافة بصرية مختلفة، ودخل أيضا الكمبيوتر والانترنت نحن لم نتفاعل، بعد، مع هذه المعطيات الحضارية بشكل جيد وكاف، لكي تؤثر على أنماط كتابتنا: لكن يجب ان نتوقع أنها ستؤثر ذات يوم.
في تقديمي لكتاب "هيثم حقي" حول السينما، كتبت عن اشكاليتنا مع الثقافة البصرية التي هي مرتبطة بالتليفزيون والسينما.
والآن، لاشك ان البحث عن إيقاعات جديدة - التي هي مفتاح الحداثة العربية - والخروج على العمود الشعري التقليدي المألوف: هذا البحث كان له مبرراته الحضارية الأخلاقية والسياسية والاجتماعية. لكن له مبرراته التكنولوجية، أيضا، أعني: ما عاد بامكانك أن تنظم شعرك على إيقاعات الجمال، صار هناك إيقاع للحياة مختلف، وبالتالي صار مبررا لك أن تبحث عن إيقاع مختلف لقصيدتك.
هذا أوصل، في النهاية، إلى مقولة "إلغاء الإيقاع الخارجي والبحث عن الإيقاع الداخلي". وهو ما اتخذ شكل قصيدة النثر، التي راحت تتعامل مع الإيقاع الداخلي، وألفت الإيقاع الخارجي، هذا مبرر، لكنه غير متقن دائما، والذي يتقن ذلك: "شابو" (يلوح بيده ممثلا حركة رفع القبعة عن الرأس - تعبيرا عن الاحترام). البعد عن الإيقاع أدى، طبعا، إلى البعد عن الإلقاء. لكن أنا اعتقد انه حتى قصائد النثر الجيدة يمكن إلقاؤها بشكل جيد، ومؤثر، وجميل. ويمكن ان تلحن وتغنى، وهناك تجارب كثيرة في هذا النوع.
قد يكون من المواصفات، التي سنصل إليها، إن هذه الفردية التي بدأت مع الطباعة، والتي غذاها التليفزيون والكمبيوتر (وشيئا فشيئا صار الإنسان يجلس مع نفسه، لم يعد يذهب إلى السينما، وبدلا منها اكتفى بالفيديو).. إذن هذه الفردية ستصل بالإنسان إلى القراءة الصامتة - حتى ينسجم مع فرديته هذه، ومع معطيات العصر.

* هذا التوصيف، يشي بتبخيس ما آلت إليه حياة الإنسان المعاصر، يغفل قيمة الفردية ومنعكساتها على الإنسان الفرد، والتي من أهمها الرفقة الذاتية، المتخففة من وطأة النيابة عنه، والوصاية عليه؟

- هذا موضوع آخر، يمكن مناقشته لاحقا؛ دعنا في السياق.

* الشعر محطة يعود إليها "ممدوح عدوان"، بعد كل جولة له في ميدان الكتابة بفنونها المختلفة؛ هل أنت اليوم في إجازة، أم في مراجعة مع الذات؟

- ما زلت أكتب الشعر. ولكن، مثلما يقول لك الناشرون ان الشعر ليس له سوق؛ أنت أيضا لم تعد تعرف أين ستنشر قصيدتك. صحيح ان المجلات كثيرة؛ ولكن بمقدار ما تتاح أمامك فرص كثيرة للنش فانك تضيع فرصة التلاقي مع القارئ، الذي لم يعد يعرف أين ينشر شعر شاعره. ولأنه غير قادر على الجري خلفه، لمعرفة المكان الذي ينشر فيه: يخيل له ان الشاعر قد توقف عن الكتابة.

* ثمة تراجع للشعر، حدث بصورة مفاجئة وسريعة - كما يرى بعض المتابعين - خلال نحو عقد من السنين؛ كيف تفسر ذلك؟

- باختصار: الشعر كان في أزمة على مر العصور، كل عصر من الشعر شهد أزمة صلة بينه وبين الناس، اعتقد انه لم يكن للشعر جماهيرية في أيام البحتري وامرئ القيس والمتنبي، أكثر مما له اليوم، ولكن تاريخ الشعر وصل إلينا كمادة ثقافية، نقرأها ونتخيل أن شعر المتنبي، في عصره، كان حديث الناس.. أنا أعتقد أن جمهوره الشعري لم يكن يتجاوز المئتي شخص، من الناطقين بالعربية. هناك وهم أن لشعره كل هذه القيمة الجماهيرية التي وصلتنا. كان المتنبي يقرأ شعره في بلاط سيف الدولة، حيث يوجد هناك من يحفظه وينقله.

* وماذا، إذن، عن مقولة "الشعر ديوان العرب"؛ وحكاية ان أهم حدث في حياة القبيلة العربية هو ولادة شاعر؟

- سأصل إلى هذه النقطة / الوهم؛ الآن: أزمة الشعر، اليوم، هي نفسها في كل عصر. وهي دائما تولد لدينا إحساسا بأن الشعر سيموت، وهو على وشك الانقراض، ان من يراجع تاريخ الشعر، في القرون الثلاثة الأخيرة، وعلى مستوى العالم بكامله، يرى الحالة نفسها، يعني: "بودلير" أو "رامبو" لم يطبع من ديوان كل منهما سوى مائة نسخة! قمت مؤخرا، بترجمة كتاب لـ "اوكتافيوباث"، عنوانه "الشعر ونهاية القرن"، فيه فصل كامل عن هذا الموضوع، يبين ان كبار الشعراء، الذين نوليهم كبير اهتماما (يجب ان نستثني قلة من الأسماء التي تقف خلف شهرتها أسباب لا علاقة لها بالشعر- كالأحزاب مثلا)، لم يطبع واحد منهم أكثر من مائة نسخة للديوان، بالمتوسط - كما هو الحال اليوم. لكن لا شك انه في العشرين سنة الأخيرة ظهر عامل جديد من عوامل أزمة الشعر، وهو رداءة ما يكتب - بحجة التجريب. وأنا اعتقد أن هذه ظاهرة ليست خطيرة كثيرا. هناك أسباب، لم تكن من قبل، فتحت بابا واسعا للرداءة. منها تعدد وسائل النشر، تعدد المنابر المتوافرة للنشي، سهولة ان يطبع الشخص على حسابه الخاص. مع انه لا توجد دار تتشجع لطباعة الشعر؟ وهذا اعتراف بأزمة الشعر الحقيقية؟ لكنني اعتقد انه، بعد عشر سنوات، سوف نشهد غربلة للنفايات الشعرية. والزمن كفيل بهذه الغربلة. نمو الوعي الثقافي، نمو الحاسة النقدية العامة لن يبقيا من هذه الآلاف المؤلفة، من الأسماء التي تكتب الشعر، أكثر من بضعة أسماء.

* إلى أي حد أنت متفائل بالذائقة النقدية "العامة"، التي تتحدث عنها؟

- هناك ذائقة عامة تنمو مع الزمن، هذا مؤكد، ولكن ليس بالضرورة عندما نقول ذائقة عامة - في سوريا مثلا- ان يكون عدد أصحابها بالملايين، لا فمثلا، عندما نقول ان لادونيس جمهوره، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه عدد من يحضر أمسية شعرية له ألف شخص في عاصمة عدد سكانها بالملايين: ماذا نعني بذلك؟ نعني ان كلمة الجمهور الشعري لا تحمل معنى الكم الهائل، كنسبة، وإنما تعني الجمهور صاحب الذائقة الشعرية.

* كيف تنظر إلى تأثير وسائل الاتصال الحديثة على تكوين هذه الذائقة الشعرية العامة؟

- هذه هي النقطة التي كنت أود الحديث عنها، عندما نتحدث عن مقولة "الشعر ديوان العرب" فالمقصود أن الشعر كان يقوم بوظائف متعددة في حياة القبيلة العربية - في الماضي. إذ يصح القول: الشعر والمادة الشعرية الثقافية، أو الشعر والمادة الغنائية، الشعر والمادة الإخبارية، أو المادة التاريخية... الخ. يعني الشعر هو مستند القبيلة، أي سلاح بيد القبيلة، أما الآن، فالعمر يفرز، بالتدريج، تخصصات تلفي حاجة الشعر للوظائف هذه.. أي ان الشعر لم يعد بحاجة لان يكون وسيلة إعلام أو تأريخا للقبيلة، أو للوطن أو للأمة. وسائل الإعلام حملت هذا التخصص، والتاريخ صار اختصاصات وعلوما، وهكذا بدأت مهمات الشعر تنحسر.. إلى أن يزداد تفرغا لجمالياته. وبالتالي يبدو اليوم وكأن الناس لم يعد لهم مع الشعر علاقة، إلا المهتم منهم بالجمال.

- إذا كان الأمر كذلك، فما تفسيرك لهذا التسابق على إصدار المجموعات الشعرية؟؛ فحتى الناجح في تخصصه (طبيب، مهندس..) لا يرتاح إلا إذا أصدر مجموعة شعرية؛ حتى لو لم تجد من يقرأها ؟

= يبدو أن هناك "بريستيج" اجتماعي، يجد الشخص نفسه مدفوعا لان يكون له كتاب باسمه، هذا نوع من التفاخر الطبقي، لطبقة أحبت ان تتميز. أو لأناس أحبوا الظهور. لكن يجوز - في المقابل - ان تجد مهندسا تعود قراءة الشعر طوال حياته، إلى جانب مهنته، معنى ذلك ان العواطف البشرية لا تزال موجودة، عند العلماء وعند الزبالين، وعند الصحفيين، وعند السياسيين: أنا- مثلا- لا أثق بأي سياسي لا يقرأ الشعر لأنه لا يتعامل مع النفس البشرية..
- ذكرتني بقول للغزالي، معناه ان النفس التي لا تتذوق الموسيقى لا نفع منها.. أو أنها نفس فاسدة.
= الفن إجمالا- والموسيقى نوع منه - حاجة روحية لا غنى للبشر عنها.

* أين تشعر بالرضا أكثر: حين تلتفت إلى جيلكم، وجيل من سبقوكم، أم حين تنظر إلى هذا الجيل الذي يرسم ملامحه بتلوينات مختلفة؛ وبخاصة منها تلك التي يطلق عليها أصحابها اسم "الحساسية الجديدة"؟

- أنا الآن في عمر يستمتع فيه المرء بالحديث عن "عصره الذهبي" (يضحك)؛ مثل كل الآباء، مثل كل الأجداد. لكن - بشيء من الحيادية - أعتقد انه كان هناك عشرات الآلاف من الشعراء يكتبون شعرا، وخلال عشر إلى خمس عشرة سنة، تمت غربلة طبيعية - الحياة قامت بها: رمت بقسم كبير مما كتب، وصرفت قسما كبيرا من الكتاب إلى هموم ومشاغل أخرى، يتقنونها أكثر. هذا كان في مرحلة الدراسة الجامعية شاعرا، فانتهى إلى محام. وآخر مثله، صار طبيبا. وثالث "كندرجي"... الخ، ولكن هذه الغربلة الطبيعية، التي أنتجتها شؤون الحياة ومهن البشر، ترافقت مع "غربلة نقدية". أيضا فإذن رمي بكل ما كتب من شعر جانبا، إلى النسيان، وابقي على بضع قصائد لبضع شعراء.

ما يجري الآن من بحث الجيل الجديد عن تسميات جديدة، مثل "الموجة الجديدة" أو "جيل الثمانينات، أو التسعينات" أو "الحساسية الجديدة"...، أسأل: لماذا حساسية؟ ألم يكن عند جيلنا حساسية؟ أو عند الجيل الذي سبقنا، أو سواهما..؟!

كل جيل لديه الجيد ولديه الرديء، أنا أقرأ قصيدة لشاعر من الجيل الذي سبق جيلي، فأجدها رديئة، وأقرأ قصيدة آخر، من الجيل ذاته، وأجدها عظيمة. والكلام ينطبق على الحديث عن الجيل الجديد وكل جيل. لا تزال نسبة الجيد قليلة جدا. بل ونادرة (لا تبلغ أكثر من واحد على ألف - برأيي)، وهذا شيء طبيعي: إذن أنا لست راضيا ولا غاضبا من الجيل الجديد. أنا أفهمه، تجربته، هي الأخرى، مثل تجربتنا، والمسألة تتكرر كل جيل.

* إذا كنت تملك مثل هذا الإحساس الأبوي: فمن أين أسباب شكوى الأبناء، برأيك؟

- كل واحد (شاعر) يعتقد انه، بقصيدتين، سيغير العالم، وهذا يعني ان الأنظار كلها يجب أن تلتفت إليه، والى إنجازه الإبداعي. وحين لا يتم له مثل هذا الالتفات، بشكل جيد، يعتقد ان الجيل الذي سبقه هو الذي يسرق منه الكاميرا (الأنظار)، طيب: الجيل الذي سبقه اشتغل ثلاثين عاما وأنت ثلاثة!!، يجوز بعد ثلاثين سنة أن تصبح مصدرا لشكوى جيل لاحق عليك. ويعني هذا انك تكون سرقت الأنظار!! عندنا - وهذه نقطة يجب التأكيد عليها- يعتقد كل شخص أن التاريخ يبدأ به: الشاعر يظن أن الشعر العربي، كله، يبدأ فيه، السياسي يظن أن التاريخ العربي يبدأ فيه، العسكري يظن أن العسكريتاريا العالمية تبدأ فيه. والمؤرخ يظن ان التاريخ لم ير النور إلا على يده. هذا الالفاء، لما ولمن سبق، يومي إلى أننا لقطاء حضارة، وليس لنا ذاكرة أو تاريخ؛ وهذا غير صحيح.. نحن امتداد؟ أنا امتداد لبدوي الجبل - ولو لم أكتب القصيدة التقليدية. وبدوي الجبل امتداد لامرئ القيس.. تراثي يبدأ من قصيدة كتبت يوم أمس إلى ما شئت من القدم.

* هذا النزوع الاستنكاري، الالغائي، للأخر يتجلى فينا كمرض، يتعدى المسألة الجيلية ليطال المعاصر لنا (محايثا كان أم منفصلا) ومن سوف يأتي أيضا. انه اغتيال للزمان والمكان، في تجلياتهما المتعددة والمختلفة؛ هذا النزوع، هل هو نتيجة لنمط حياة - سواء أعان مختارا، أو مفروضا؟ وهل التعددية - إذا ما استطعنا إليها سبيلا تنقذنا من هذا المرض؟

= هذا يجرنا للكلام في الايدولوجيا؛ وأنا لا أتقن الكلام فيها. أنا أتقن الحديث بزاوية معينة، لها علاقة بعلم النفس؛ أنا أظن أن مركب النقص يترك، في نفس المصاب به، خوفا من الآخرين ان يكشفوا حقيقته -مثل واحد يخاف ان يرده الناس انه ذاهب إلى المرحاض (مع أن كل الناس تفعل هذا)؛ لكيلا يكتشفوا انه "إنسان عادي"، هذا المركب يتركه في خوف دائم من الآخر: فيلغي كل من قبله، لكي يكون منفردا في عصره، ويلفي الحاجة لمن بعده، لأنه هو "الشرط اللازم والكافي" للتاريخ.
هذا الرجل المصاب بمركب النقص، يداري نفسه بقناع مركب عظمة - وهذا الأخير تجل مقرون بمركب النقص، عادة، وكلما ازداد مركب النقص لديه ازداد تأليها لنفسه.. مثل واحد خجول جدا، يدفعه خجله البالغ لأن يتصرف بوقاحة!
آخر كتاب قرأته، عن سيلفادور دالي- الذي يعتبر أكبر استعراضي- يظهر انه خجول جدا، وكان يخاف من ان يقيم تجارب عاطفية مع النساء، لئلا يكتشفن انه ليس فحلا كبيرا!!

- مقاربتك للإجابة على سؤالي، من زاوية علم النفس، هي خدمة حقيقية - أشكرك عليها، ولكن اسمح لي بالتوضيح ان التعددية المأمولة تحمل تفكيكا للمركزية، والانطوائية - كنوع منها- على السواء بما تتيحه للشخص من مشاركة ايجابية، تجعله يتقبل الآخر، في الوقت الذي تذوب فيه مركزيته، شيئا فشيئا..

= أنا كنت أتحدث عن الجانب المرضي.. أنت تتحدث عن الجانب المعافى؛ وهنا أود أن أضيف ما يلي: ان ذلك الشخص المريض يخاف من أن تفتضح حقيقته؛ لذلك هو يخاف وجود الآخر. فوجود الآخر يفتح مجالا للمقارنة. ولأنه يخسر دائما، أو يخاف أن يخسر، في امتحان المقارنة، الذي يجريه الآخر له (كما يتوهم)؛ فانه يريد ان يلفي الآخر: لكي يتحقق له النجاح في الامتحان - امتحان يجريه لنفسه بنفسه، أو معركة انتخابية هو مرشحها الوحيد.

* هذا يقودنا إلى إعادة النظر في ثنائية الشخصية الغربية والشخصية الشرقية - إذ درجنا على توصيف الأولى بالفردية والثانية بالجمعية.. وقلنا ان الفردية الغربية هي نتاج مجتمع مفكك: في حين ان المجتمع الشرقي، متلاحم متعاطف حميمي ويحافظ على روابط الشخصية الاجتماعية... الخ. السؤال: كيف لشخصية تقصي الأخر، أو تتهرب منه، ان تكون اجتماعية؟

- الجواب بسيط: الفردانية القائمة على احترام الذات، لابد ان تقوم على احترام الآخر، أما الفردانية القائمة على الخوف من الذات، أو على كره الذات، فلابد ان تكره الآخر، لكي تتجنب رؤية نفسها.

* من مميزات المترجم الحقيقي ان يكون دقيقا في اختيار موضوعه الذي ينسجم مع ذائقته، وعمق معرفته. ما هي معايير الترجمة عند ممدوح عدوان؟ ولماذا "كازنتزاكي" بصورة خاصة؟

- حين اختار كتابا للترجمة اشترط بعض الشروط. أولا: أن يقدم معرفة - أظن أن القارئ بحاجة لها؛ بل يأتي قبل أولا هذه، شرط ذاتي هوان أحب الكتاب، قبل كل شيء، وأحب أن يشاركني الآخرون بمتعة قراءته، أو متعة اكتشافه. وبالتالي أنا انتقي- في معاييري- ما أظن ان فيه متعة، وفيه معلومة (فائدة). لا أقصد معلومة بمعنى الرقمية.. قد تكون اكتشاف أساليب الآخرين، اكتشاف طريقة معالجتهم لمشاكلهم. مثلا: كيف يعالجون البغاء في البرازيل؟ أنا لا أريد باحثا اجتماعيا، هنا يمكن ان أترجم مثل هذا لباحث اجتماعي، لكن عندما يكتب روائي في مثل هذا الموضوع، أمس أنني بحاجة لأن أقدمه وأقول للناس؛ انظروا كيف تمت معالجة هذا الموضوع، كيف الجرأة على المحرم، في المجتمعات الأخرى
باختصار: كل ترجمة هي فتح صندوق من صناديق الكنز الإنساني، الموجود في هذا العالم، وكل صندوق فيه جوهرة خاصة. وأنا، بين الحين والآخر، أحس أن هذه الجوهرة تستحق أن ترى، فأقوم بالكشف عنها للقارئ، أبذل جهدي في الترجمة، بعد ذلك يأتي أسلوب الترجمة، وهذا بحث آخر.

* هل تعنيك معرفة الكاتب الذي تحب ترجمته، وخلفيات موضوعه الذي تختاره للترجمة؟ هل يحكم عملية ترجمته، عندك، نوع من التوحد الإبداعي مثلا؟

- تفاعلي معه ككاتب مهم، ومهم أيضا معرفتي بتفاعل هذا الكاتب مع خلفيته هو: كيف تعامل مع واقعه ومجتمعه، مع مشاكل بلده، مشاكله هو.. من هو الكاتب؟ هل هو ابن المريخ؟ هو ابن بيئة وجغرافية وابن شعب، وابن حضارة.. أليس كذلك؟ فإذن لابد من السؤال عن كيفية تعامله مع هذه الخصائص؟ كيف عكس هذا العامل إبداعيا؟ أنا أحس أن هذا يساعدني، ويساعد القارئ، الذي أترجم له، على رؤية المبدع الغربي.. وان المبدع البرازيلي يشتغل هكذا والأرجنتيني هكذا و... تعالوا، بناء على هذا، لنرى كيف يشتغل أديبنا.
أنت لاحظت اهتمامي بكازنتزاكي، بصورة خاصة: كازنتزاكي، برأيي، واحد من أغنى الكتاب - نعني داخليا- الذين مروا علي في التاريخ. وأنا أرى انه في ذلك يوازي شكسبير، هذا الفني الداخلي يجعله يبدو مسرفا. بمعنى: أمسك رواية من رواياته؟ كل صفحة تجد فيها مادة يكتبها غيره في رواية. يستطيع هو أن يحصل على ألف مادة، بدلا من رواية واحدة، لكثرة ما لديه من نمني، لكنه ليس بحاجة لأن يذيب - كما يفعل الكثيرون - ملعقة سكر في برميل ماء، هو ليس بحاجة لأن يفعل ذلك.

* لنتوقف قليلا أمام الجدار الذي طالما صلبت إليه: أنت ممن لهم شجون مع المحرم.. كيف تنظر إلى حركة الخط البياني للمسموح والممنوع اليوم؟

- أنا أظن أن مسألة المسموح والممنوع لها علاقة بحرية المبدع: المبدع، لكي يكون مبدعا حقيقيا، يجب أن يحس في أعماقه انه حر، بلا قيد: يخرج إبداعه وكأنه ليس هناك آخرون - بمعنى ليس هناك من يراقب! ولكن عندما تخرج المادة، وتأخذ طريقها إلى القارئ، تمر في "شبكات التوصيل". وهذه لها شروطها، وهذه الشروط تدخل في المحرم، والممنوع السياسي، والممنوع الديني، وهذه الدائرة أنا أرى أن مسؤولية الكاتب فيها واسعة جدا. وهي أن يظل يصطدم بحدود الدائرة، لأن اصطدامه هذا يفرض على حدودها ان تتسع. وأما تركها بدون اصطدام فسيتركها تضيق من نفسها- لأنها مثل المطاط. وتجنب التماس معها يتركها تضيق أكثر، وتسوغ المزيد من المحرمات.. لكن كلما صدمها المبدع أكثر، وصدمها غيره، تراخت واتسعت، الآن أعطيك مثالا: أكثر ما يخيف، في الوطن العربي، هو المخابرات، استمر الكاتب العربي يكتب عن المخابرات إلى حد أن المسرح التجاري، والناس المرتزقة، صاروا يتحدثون (ينتقدون)، ولا أحد يعترضهم، هذا مثال على ان صدم الموضوع استمر، حتى. أصبح عاديا، بينما كان في الماضي، لا يتجرأ الواحد على القول ان في البلد مخابرات!!

* ممدوح عدوان يرسم لوحة لتراجيديا الشاعر المناضل، ويكفنها بشارتين سوداوين - هما سلطة الرقيب وسلطة المجتمع (أو تحديدا السلطة البديلة في المجتمع - أي المعارضة): ماذا طرأ على هذه الترسيمة من تطورات؟

= هناك سلطة السياسة وسلطة العرف. الأولى تضم سلطة الدولة وسلطة المعارضة - لأن الاثنتين تحملان المنطق نفسه، في التعامل مع الفرد. وهناك السلطة الأخرى، نمير المرئية، التي تقمعك بالتربيت على كتفك، كما لو أنها تقول لك: "أنت، أيها المدلل، لا تصطدم بي، ابق عند حدود معينة"، أو هي تفعل ذلك بحجة الخوف عليك: "مالك ولهذا الموضوع؟ سيثير غضب الآخرين"؟ من هم الآخرون؟ الآخرون هم أنت، وهم فلان وفلان..! دائما هناك من يقول لك: أخي هذا سيثير رجال الأمن، وهذا سيثير رجال الدين، وهذا سيثير المرأة، وهذا سيثير الأحزاب اليسارية، وهذا سيثير الرجعية.. في النهاية: من هم هؤلاء الذين "خوفا علي" يجب أن أخاف منهم؟!!
إذا كنت أخاف عليك من ان تثير أحدا بكتابتك؛ فهذا يعني أني لا أريد لك أن تكتب. أو أريدك ان تكتب التمائم، والأحجبة.. (يضحك).

* ننتقل إلى نقطة، هي من صلب اهتمامك - على ما أظن: هناك من يأخذ على الانتلجنسيا توهمها الكلمات واقعا: مما يتركها عرضة لصدمات واقع لا يكترث بـ"المسبق النظري" (بتعبير ادونيس).. كيف يرى ممدوح عدوان إلى علاقة الفكر بالواقع، ما دام النقد السابق يرى ان معاقرة المثقفين للواقع زادته التباسا، وأبعدت الحلول؟

- أنا أرى أن على المثقف ان يستمر بمعالجة كل الموضوعات، التي يرى أنه مؤهل لمعالجتها، أو يرى أن هناك ضرورة لمعالجتها، حتى لو بدا ان صوته في فراغ. ليس هناك صوت في فراغ، دائما هناك من يقرأ، وهناك من يتابع، ولكن قد لا نحسر به مباشرة، على إلا نتوهم أننا بديل عن الشعب، أو الثورة، أو الجماهير الكاتب ليس بديلا عن أحد، ليس بديلا إلا عن نفسه؛ حتى انه ليس بديلا عن كاتب آخر، فكيف يكون بديلا عن الشعب؟ يجب إلا نتوهم أننا نمتلك الحقيقة الكاملة، يجب ان نتعلم أن ما نفعله هو فتح أبواب للحوار. نحن لا نلقي بالحكمة؛ القائد السياسي، فقط، هو من يعتقد انه يلقي بالحكمة الخالدة للجماهير. المثقف، والمبدع، يقول لا. أنا أحاول فتح باب لأتحاور، عبره، مع الناس: ما رأيكم بكذا؟ وليس: "ان" المثقف لا يستخدم "ان"، وما إليها من عبارات حاسمة.. (يضحك).

- سلوني قبل أن تفقدوني....

- نعم؛ هناك - لا شك - مثقفون متوهمون، لكن هؤلاء هم من يموت، وبسرعة، ويموت نتاجهم، وتموت فاعليتهم، أما المثقفون الذين يعتقدون أنهم يقيمون حوارا مع الأخر، مع الشعب، وليس قصدهم تعليم الناس، بقدر ما هدفهم إثارة أذهانهم، تجد أن كتاباتهم للتفكير لا للقلقين.

* هل قصدت هذا المعنى من دعوتك المعروفة للكتابة / التحريضية؟

- نعم.. التحريض على التفكير، هو ما عنيته. وهذا يختلف عن التحريض بمعنى أنني سأكتب قصيدة لكي أثير بها مظاهرة.. أو ثورة..

* هل ندعوه التهييج؟

- هناك أكذوبة تريد ان تتصور مثل هذه الإمكانية للقصيدة. أو ان لوحة قادت الجماهير، لا أعرف إلى أين.. هذه أكاذيب صنعتها الـ"بروباجندا" السياسية المستعجلة للقيام بانقلابات.

* يبدو أنك عانيت من وطأة هذه التوليفة الإيديولوجية للأدب - إذا صح التعبير.. ففي كلمة قدمت بها مجموعة شعرية حديثة، لشاعر شاب، يتلمس القاري انك إنما تتنفس الصعداء- كما يقال - فأطلقت عبارات تبشر بتراجع وطأة / كابوس التشنج الإلزامي. وهذا يدفع بالسؤال إلى أي مدى أنت آسف على المراحل التي قطعتها؟ أي هل تشعر اليوم بالأسف على رهن نتاجك الشعري لخدمة القضايا العامة وهو نوع من الالتزام الذي تشكو منه؟

- أبدا، أنا ما زلت حريصا على ان أقوم بدوري، في خدمة القضايا العامة، وذلك بمقدار ما يستطيع الفن أن يفعل.. ولكن أيضا بمقدار ما كنا نعاني من الرقيب الثالث، أو الرقيب المزدوج (رقابة السلطة ورقابة المعارضة)... المعارض اليساري كان بيده أسلحة قمعية أكثر من السلطة.. وضع هؤلاء معايير نقدية لا تصلح إلا للمسلخ؛ وسلخوا تاريخا من الحياة الثقافية. ولذلك كانت معركتنا معهم أكثر ضراوة. لأن المعارض يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة الكاملة، بمقدار ما يملكها رجل السلطة: بفارق أن رجل السلطة - ولأنه يفعل فعلا يوميا على الأرض - يرى أن هناك مبررا للحوار معه ولنقده. ولو نقدا خفيفا. أما الأول - ولأنه لا يفعل شيئا إلا التنظير- فانه يعتقد أن الحقيقة لديه كاملة. ولذلك تأتي أحكامه أكثر صرامة، واشد قسوة، مثال على ذلك كتاب "الأدب والأيديولوجيا" للمؤلفين المرحوم "بوعلي ياسين" و "نبيل سليمان". وفيه، مثلا، ذكر لبطلة قصة للكاتبة "ألفت الادلبي"؛ البطلة امرأة عادية تقف أمام الفرن ساعتين - في الأرض المحتلة - دون أن تستطيع الحصول على الخبز. فتقول "الله ينتقم منكم"، وتغادر. لاحظ ان الناقدين علقا على هذه الجملة وأولاها على نحو: "هذه الأيديولوجيا الدينية المتعفنة... الخ" (يضحك، بذهول - كأنه يقرأ الكلام للمرة الأولى). هذا الساطور النقدي كان أكثر قمعية من أي دور لمخابرات في الدولة.
- لكن قيل أن الكاتبين بادرا للاعتذار عن آرائهما الواردة في الكتاب، بعد فترة من صدوره..
- ولكن، مع ذلك، نبيل سليمان يعيد طبعه - الآن؟!

* ماذا فعل الزمن بممدوح عدوان - الشاعر والشخص: علاقته بقريته، بأصدقائه، بالفلاحين، بصورة أمه، وحتى أولاده... الخ؟

- أنا أحب الناس.. أحب الحياة البسيطة. ولذلك بقيت علاقتي ظريفة مع أبناء القرية، والحارة، وأصدقاء الطفولة، وبالتالي أيضا علاقتي جيدة مع جيراني، وأولادي.. لكن، في الحقيقة، هناك بحث يدور حول مقدار ما عكسه هؤلاء في إبداعي.. أو قل مقدار عكس إبداعي لهم: وكيف تتجلى القرية (موجودة أو غير موجودة) في قصائدي كافة؟ حتى لو لم تكن القرية موضوع هذه القصيدة أو تلك.. ذلك أن هناك، دائما نبرة القرية، تربية القرية، عين القرية... الخ. هذه المسألة تحتاج لعين ناقدة - ترى أين القرية في نتاج هؤلاء الشباب الذين جاءوا من الأرياف: دون أن تنشغل هذه الرؤية بالبحث عن القرية كموضوع للمادة الإبداعية، بقدر ما هي طبع ونظرة للعالم.. أي بنفس الطريقة التي يمكن أن نقول بها ان "نزار قباني" شاعر مدينة؟ ولأنه شاعر مدينة كان لشعره مواصفات كيت وكيت. وكانت نظرته للمرأة والسياسة على هذا النحو أو ذاك... الخ، فهذه المسألة بحاجة لعين ناقدة، قد تستطيع أن ترى أكثر مني. وأنا، دائما، أتمنى أن نكون قادرين على الحفاظ على القرية، في شعرنا، لان القرية، في الواقع لم تعد موجودة.

* هذه النوستالجيا، هل يدعمها لديك موقف معرفي- لا سيما وأن هناك اتهاما ينسب للريف دورا سلبيا تسوغه عبارة "غزو الريف للمدينة"؟ أم انك تتلمس خلف هذا الاتهام موقفا أيديولوجيا قدس المدينة، كمعادل للتقدم؟

- أرى أن إثارة هذا الموضوع هي إثارة سياسية بحتة. وهي ليست حضارية - بمعنى ريف / مدينة. هناك إحساس بأن الريف يحكم سياسيا، وبالتالي فان المعارضة لهذا الريف الحاكم هي التشبث بالمدينة، لكن نظرة دقيقة للواقع تكشف انه لم يعد هناك من قرية على الإطلاق: الكهرباء، الطرق المعبأة، التليفزيون، البراد.. وما إليه من أدوات المدينة.. موجودة في الريف، هذا أولا، ثانيا: في كل العصور، وبخاصة بعد الثورة الصناعية، هناك هجرة من الأرياف إلى المدن، بحثا عن العمل، تنشأ عنها ظاهرة اجتماعية خطيرة؛ تتشكل من حزام فقر هائل حول المدينة، في قاع اجتماعي ممزق القيم: لأنه ترك قيمه في الريف، ونزل إلى المدينة.. وهذه الظاهرة كتب عنها الأدباء الطبيعيون - أمثال "إميل زولا"، و "ديكنز" وسواهما.. هذا البؤس الهائل الذي عاشه الريفيون المهاجرون إلى المدينة. ثم ان هؤلاء الذين عاشوا في المدينة جاء التعبير الثقافي عنهم بواسطة مذاهب فنية، هي "الواقعية والطبيعية"؛ لكن هم، عندما عبروا عن أنفسهم، عبروا بالرومانسية - أي بالحنين إلى الريف! (من هذا التلوث، من هذا الكد اليومي المهين للإنسان، والتسليع لقيمته.. إلى الحنين للريف) من هنا ولدت الرومانسية: ما هي الرومانسية؟ حنين للريف، حنين للطبيعة، حنين للبساطة، حنين لمجموعة مسائل بدأ الإنسان يفقدها.
إذن فالهجرة من الريف للمدينة موجودة لدى كل الشعوب. ولا يحتج عليها إلا من جانب إنساني؛ بمعنى أن هؤلاء المهاجرين يعيشون بؤسا في المدينة؛ أو من جانب سياسي، بمعنى أنهم يغيرون هوية المدينة.

* ولكن لواقع العالم الثالث، ووطننا العربي بصورة محددة، خصوصية تنبع من ان السلطات الحاكمة فيها ذات منشأ ريفي، ومن هذه الزاوية، ربما، جاءت الانتقادات سابقة الذكر.

- ربما. ولكن يجب ان نضع في اعتبارنا أننا، نحن، مجتمع عالم ثالث زراعي، أليس كذلك؟
ونسبة سكان المدن إلى سكان البلد ككل لا تتجاوز واحدا على عشرة، وهذا يعني ان تسعة أعشار السكان يقطنون الأرياف. وكانوا مهمشين لأنه لم يكن هناك تعليم، ولا مواصلات، ولا كهرباء... وبالتالي كانوا مظلومين: مما جعل من واقعهم حاضنا نموذجيا لولادة ونشاط الحركات السياسية - بوصفهم أصحاب مصلحة في التغيير. وكان لابد، مع انفتاح البلد- وبمنطق التعددية والديمقراطية - ان تكون لهم الغالبية؛ سيما وأنهم قد اكتسبوا وجودهم، ولم يعودوا مهمشين. (لم يعد هناك في سوريا، مثلا، مناطق نائية - يخصص لمن يذهب إليها راتب إضافي).

- منطق سليم. ولكن لي ملاحظة على استخدام "منطق ديمقراطي"، هل جرت الأمور، فعلا، على هذا النحو من المنطق؟

= لا ليس بالضرورة، ولكن كلامي كان محددا في جملة افتراضية، تقيم المنطق السياسي الذي اغفل الأغلبية.

* يقول "حيدر حيدر" انه في بلاد العرب سيأتي يوم تصرخ الجماهير "الموت للسلطات العسكرية التي أودت بنا إلى الهاوية.. سيكون الوقت قد فات". وأنت جعلت "هاملت يستيقظ متأخرا" لماذا الكتابة إذن؟

- كل كاتب يحس أن جزءا من دوافعه، التي تحرضه على الكتابة، نابع من صرخة احتجاج تقول: هل من المعقول أنكم لا ترون ما أرى؟ فيكتشف أما أنهم لا يرون ما يرى، فعلا، أو أن رؤيته لا تصل إليهم، لانسداد قنوات الاتصال بينه وبينهم: الأمية، طغيان وسائل الإعلام التجارية، عدم وجود حرية للنشر.. ومجموعة كبيرة من الأسباب تحول دون إيصال رؤيتك إلى الناس.. وبالتالي أنت دائما تقول سيصل صوتي إلى الناس: ولكن متأخرا أي بعد ان يكون قد فات الأوان: ويكفي ان نقول ان كتابات بداية القرن كانت - مثلا- تحذر من خطر الصهيونية، مثلما نحذر الآن من خطرها: لكن الصهيونية الآن تحتفل بالميلاد الخمسين لدولتها. ونحن بيننا من لا يزال يعتقد بإمكانية الاستفادة من العدو! لا شك ان هناك شيئا مؤسيا في الموضوع. إحساس بالعزلة انك تصيح في صحراء؛ لكنك لا تستطيع إلا أن تصبح، وستبقى تصيح.

- قيمة الكلمة في عصر التقنية والاستهلاك والسياحة في تراجع، والأسماء الكبيرة تغيب، ولا بدائل، هل هذا ناتج عن غياب الحركات الانعطافية (الثورات مثلا) في عالم اليوم؟ أو هل الأفكار الكبيرة مقرونة مع الأحداث الكبيرة؟

= لا شك ان الانعطافات التاريخية تتمخض عن أسماء تستطيع أن ترى الانعطاف. نرى مخاضه، لكن هذا أيضا يولد أفكارا كبيرة وأسماء كبيرة، ممن يتشبثون بالماضي ويتجاهلون التغيير؛ هؤلاء يثابرون على التمسك بالماضي وكأن التغيير لم يحدث. يبقون خارج الزمن، وتصبح أسماؤهم كبيرة لأنهم يتمسكون بقيم ممتدة ألفي سنة في الماضي، لها جذورها ولها من يروج لها، ولها من يطلبها بالمقابل هناك أسماء تستشرف المستقبل، وتقول: يا جماعة نحن انعطفنا فانتبهوا إلى تغيير البوصلة، فتستمع إليهم شريحة معينة من الناس، وتراهم أسماء كبيرة، في الوقت الذي يظنهم آخرون أنهم خارجون على القانون.

* في الغرب تعلن نهاية التاريخ أو استقرارا (كما عبر فوكوياما) وهذا قد يفسر جرئيا- إذا كان له وجهة صواب - غياب الأسماء والأفكار الكبيرة اليوم، هل تصوب مثل هذا التفسير؟

- لا. الواقع كانت هناك أسماء كبيرة، ولكن بشي، من التوهم: يعني كان يوجد واحد أو اثنان في بلد مثل سوريا، يصلان إلى دوائر النشر الخارجية - العربية أو الدولية (بالترجمة)، الآن بدلا من اثنين يوجد ألفان؛ وبالتالي فان اهتمام الناس توزع ملي ألفين، بدلا من اثنين..

* وهل هذا ينسحب على الحقول الإبداعية والفكرية إجمالا؟ أفلا نفتقر اليوم لمفكرين من وزن هيجل - مثلا؟

- هناك كتاب لاريك فروم - ومع انه صدر في أول السبعينات - يقول فيه ان العقول المفكرة العبقرية الموجودة، في هذا اليوم، تفوق عددا كل ما هو موجود في التاريخ. وبالتالي في هذا اليوم توجد عبقريات، يوجد مفكرون مجتهدون بإخلاص لدراسة العصر- برأيي- أكثر مما في التاريخ كله. لكن لكثرتهم، وسرد الأصوات، وتعدد المنابر، لم يعد ممكنا ان يلفت واحد منهم نظرنا.

* ممدوح عدوان في المظهر نشاط وقوة وحيوية ومرح، وفي العموم "تلويحة الأيدي المتعبة" و"هاملت يستيقظ متأخرا" و"زيارة الملكة" و "لماذا تركت السيف" و "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" و "ليل العبيد" والعديد من الدواوين الشعرية، وذبحة قلبية هددت حياته؛ ترى هل ستموت حزنا أم ستنفجر من الضحك؟!

- أعتقد أن الشعار الدائم هو: "من راقب الناس فقع ضحكا"!

***

حوار / 2

ممدوح عدوان لـ "القاهرة":

أن تفهم الفتاة أنني أحبها

من سوريا جاء إلي القاهرة ليشارك في فاعليات "المنتدى الدولي الأول للكتاب بمحكي القلعة"، وفي ندوته شاهدنا هذا التجاوب الغائب بين الشعر والجمهور، حيث احتشد عشاق الشعر لسماع قصائد الشاعر العربي الكبير ممدوح عدوان الذي ألهب وجدان المئات ممن ضمتهم هذه الأمسية بقصائده السياسية الساخنة وقصائده القومية والعاطفية المشحونة بالحدة والسخرية والرفض
وفي هذا الحوار يتحدث الشاعر الكبير عن آرائه ومشواره مع الشعر والمسرح وعن مسلسله القادم عن "أبي الطيب المتنبي"، والذي يصور حاليا بإمكانات ضخمة ليكون حدثا دراميا غير مسبوق.

* رغم وصول دواوينك وقصائدك إلي قطاع كبير من المثقفين إلا أن شهرتك لم تصل بعد كثيرا للقارئ والمواطن العادي.. ما قصة البدايات الأدبية وما أهم إنتاجك المنشور؟

ـ بدأت أنشر الشعر وأنا طالب في الجامعة منذ عام 1964 بمجلة "الآداب البيروتية" وفي الصحافة السورية تخرجت في الجامعة عام 66 من قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بدمشق، وبمجرد تخرجي صدر لي أول ديوان وكان بعنوان "الظل الأخضر"، وفي نفس العام كتبت أول مسرحية شعرية وكانت مسرحية "المخاض"، وقد صدر الديوان والمسرحية معا في عام 67، ولأنني من الذين يشتغلون بالثقافة بشكل يومي فقد تتابع إنتاجي بلا توقف، ولذلك فحصيلتي حتي الآن 17 مجموعة شعرية وثلاثون نصاً مسرحياً قدمت جميعها علي المسارح السورية والعربية، كما ترجمت ثلاثين كتابا آخرها ما قمت به من ترجمة "إلياذة هوميروس"، كما نشرت روايتين وخمسة كتب دراسات هذا غير المسلسلات التليفزيونية والكتابات الصحفية.

* هل كان لنشأتك أثر في هذا الحس القومي العارم في أشعارك؟

ـ حين حدثت الوحدة بين مصر وسوريا كنت في أولي ثانوي وحدث الانفصال وأنا في طريقي للجامعة في هذه المرحلة كنت أظن نفسي مصلحا دينيا وقد كتبت أشعاري الأولي ليس في الغزل بل في هجاء بعض المظاهر الاجتماعية واستغلال الدين، ولكن نتيجة للأحداث السياسية المتلاحقة، الوحدة ثم الانفصال ثم وصول حزب البعث للسلطة عام 1963، ثم هزيمة حزيران "يونيه"، وقد عمقت هذه الأحداث في نفسي شعوراً بأنني مسئول شخصيا عن كل الفجائع التي تحيط بنا وهذا ما دفعني للتطوع في العمل الفدائي أواخر عام 67، ثم العمل كمراسل حربي حتي نهاية حرب أكتوبر، وقد عمقت أيضا شعوري الداخلي بالحس القومي الذي ارتبط عندي بضرورة المصارحة التامة فأنا مثلا أعتقد أن هزيمة 67 لم تنته حتي الآن، وأن كل ما يمر بنا نتيجة لهذه الحرب وأننا قبلنا كلمة "نكسة" لكي نتوهم أن بالإمكان تجاوزها لكننا أدركنا وبالتدريج أنها هزيمة كاملة بالمعني الاستراتيجي، هذا الحس القومي هو الذي يقودني الآن لشعور ويقين بأننا مقبلون وبكل قوة علي أيام سوداء لا شك فيها!.. لقد وصل الحال إلي أن مجرد التفكير أو مجرد الحلم في تحسين الحال أو تزيين بعض الخراب غير موجود، لقد كنا منذ فترة ليست بعيدة متعلقين بقيم خاصة بنا كعرب مثل الوحدة العربية وأن فلسطين كلها عربية، فلابد من تحريرها بالكامل.

* هل سببت لك قناعاتك السياسية متاعب كالتي يعرفها ويألفها المثقفون العرب من اعتقال أو مطاردة؟

ـ إيماني بالوحدة والقومية وإيماني الذي لا يزال متأججا بالاشتراكية جعلني غير قادر علي الانسجام مع المقولات السائدة التي تعممها السلطات أو يعممها المثقفون علي النظم، ولذلك لم أكن مرضيا عني لا من قبل السلطات ولا من قبل المثقفين، وإن كنت لا أشك في علاقتي بجمهوري والحقيقة أنني لم أتعرض للاعتقال ولم أضطر للهجرة لكنني تعرضت لمضايقات كنت أستطيع تحملها باستمرار علي اعتبار أنها وضع طبيعي بالنسبة للمواطن العربي!

* تكتب شعرا بالغ الحدة.. هل لا تزال راغبا في كتابة حادة في واقع شديد البلادة؟

ـ هذه البلادة تفرض عليك أن تصرخ بصوت أعلى وهذه الحدة هي سمة فنية أكثر منها موقفاً سياسياً، أنا أكتب ما يخطر على بالي وأكتب بوضوح شديد، وأريد أن تصل رسالتي واضحة إلى من يعنيني إيصالها إليه، ولا أقيم اعتبارا للجلادين النقديين الذين يكرهون كل ما هو مفهوم.

* وصل مستوي الحوار حول "الحداثة" إلي درجة من العقم التي يري الكثيرون أنها ستقضي علي فن الشعر ذاته؟

ـ نقاد الحداثة أو غالبيتهم أصبحوا يطالبون بوضوح بأن نكتب ما لا يُفهم والحقيقة أنني كثيرا ما أقرأ قصيدة جديدة باستمتاع، ثم أقرأ النقد عليها فيزول استمتاعي وفهمي لها، لكن هذا في الغالب ناتج عن سوء الفهم، فالحداثة لا تعني الألغاز وطمس الرسالة بل تعني عندي في المقام الأول توصيل الرسالة بطريقة أفضل، فحين أكتب مثلا أنني أحب فتاة أليس من الواجب على الأقل أن تفهم هذه الفتاة أنني أحبها، ثم بعد هذا ينبغي أن نتعمق في حالة الحب لكي يهتم بالقصيدة شخص آخر لا يعرفني ولا يعرف الفتاة، ولكن مهمتي كشاعر أن أقنع عقله ووجدانه أنها حالة حب حقيقية، وبما أنني مشغول بالحب والجنس والثقافة والسياسة والوطن والأمة والشعوب المضطهدة والحكومات الاستبدادية فإن موقفي يجب أن يكون واضحا في هذه المسائل كلها.

* بمناسبة الحداثة وقصيدة النثر أثار كتاب "الحرب الباردة الثقافية" جدلا حول دعم المخابرات الأمريكية لهذه التيارات؟

ـ يجب أن نتناول مسألة خطيرة كهذه بقدر كبير من الجدية، إذ إن تهمة أن الحداثة مشروع استعماري تهمة أطلقها المحافظون، لأن الحداثة تعني تجديد العقل وتجديد النظرة إلى الإنسان وإلى العالم وإلى القصيدة، صحيح بلا شك أن المخابرات الأمريكية قد مولت مشاريع لها شكل الحداثة، لكن لها وظيفة سياسية بدرجة أولى وقد لعبت المخابرات الأمريكية هذه اللعبة بذكاء شديد، فنحن حينما نقول إن حرية التعبير مقدسة هذا قول صحيح ولا شك، لكن وكالات الاستخبارات قامت بتغذية هذه الشعارات لهدف وحيد هو هدم المعسكر الاشتراكي، في النهاية نريد أن نقول إننا نريد شعرا متفاعلا مع العصر ومستفيدا من إنجازات ورؤى هذا العصر، لكنه في نفس الوقت متين الصلة بالتراث دون أن يكون سجينا فيه، وللأسف فإن الحوار بين التيارات الشعرية يحدث معارك صغيرة ولها شعاراتها المؤقتة، وبنظرة هادئة يمكن القول إن الشعر الحقيقي موجود في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، لكن النمط ليس هو المعيار الوحيد للحكم علي الشعر، وبالنسبة لكتاب قصيدة النثر فقليل منهم يكتبون قصيدة جيدة وحقيقية، لكن المشكلة تأتي مما يحدث الآن من تشابه شديد فيما يكتبه الشعراء حتي أننا نعجز كثيرا عن التمييز بين شاعر وآخر، وكثير من هؤلاء يعتقدون أن الطرفة قصيدة وتقليد القصيدة المترجمة قصيدة والجهل باللغة العربية قصيدة، لكن هذه الموجة غير مقلقة لأن الزمن سيقوم بالغربلة وطرح النفايات المتراكمة ليبقي عدد قليل من القصائد الحقيقية.

* رغم أنك لا تكتب قصيدة نثر إلا أنك تبدو معجبا ببعض نماذجها؟

ـ هذا صحيح فـ "محمد الماغوط" لم يكتب كلمة موزونة في حياته، لكن شعره يأتي في الصف الأول من الإبداع العربي، وهناك آخرون يكتبون قصيدة نثر بلون مختلف وربما استطاعوا تجاوزه، لكن مشروعيتهم لا تأتي فقط من كونهم يكتبون دون وزن، بل تأتي من كثافة التعبير واقتصار اللغة والصدق في التعبير عن الحالة الإنسانية.

* تبدو في قصائدك إشارات كثيرة لشعراء من التراث بل إنك في إلقائك تبدو "منشدا" يحاول أن يقود ويتقدم ويوجه الجموع؟

ـ أنا قارئ دقيق للتراث ولست معجبا بشعراء قدر إعجابي بقصائد مثل أنني أحب أغنيات ولا أحب مغنين!.. أما عن إلقاء الشعر فأنا أعتقد أن القصيدة التي تكتب بصدق يجب أن تقال بطريقة تساعدها علي الوصول، وهذه الطريقة تضمن نقل الشحنة الانفعالية للمستمع، وفي النهاية نحن لدينا تراث من إنشاد الشعر وروايته وحتى غنائه وهذا جزء من هويتنا، وكان "الحطيئة" أول شاعر اهتممت بشعره اهتماما خاصا، ولذلك جعلته بطلا لمسرحيتي "ليل العبيد" كما كتبت قصيدة هو محورها عنوانها "يوميات الحطيئة".

* انتهيت من كتابة مسلسل عن شاعر العربية الأعظم "أبي الطيب المتنبي".. كيف قدمت هذه الشخصية الضخمة ولماذا اخترت "المتنبي" تحديدا؟

ـ بعد أن كتبت مسلسل "الزير سالم" فكرنا في كتابة مسلسل عن شخصية إشكالية من التراث فكان اختياري لـ "المتنبي" علي هذا الأساس ولأنني أحب الموضوعات الإشكالية، فقد وجدت في "المتنبي" أكبر شخصية إشكالية في تراثنا كله تقريبا، فالدارسون كلهم مختلفون حول نسبه هل هو ابن سقاء في الكوفة أم ابن أحد أئمة الشيعة ومختلفون حول علاقته بخولة أخت سيف الدولة، ومختلفون حول أخلاقه هل كان بطلا أم جبانا وبخيلا أم كريما، ثم علاقته بالوضع السياسي في عصره وبالأمراء والملوك الذين مدحهم والذين ترفع عن مدحهم، كل هذه القضايا ناقشتها بتعمق، وقرأت أكثر من 70 كتابا عن "المتنبي" وأثناء بحثي للإعداد لهذا المسلسل توصلت لقضايا كانت تشغلني واستطعت اكتشاف أشياء ستقال لأول مرة عن "المتنبي"، ومن هذه الأشياء "زوجته" التي لم يتحدث أحد عنها مطلقا وقد توصلت إلي أنه بعد عودته إلي الكوفة عند جدته التقي بأسرة شامية مهاجرة تزوج ابنتها وقد أنجبت له "محمد" الذي لقبه المتنبي" بـ "محسد" وظلت معه حتي اليوم الذي سافر فيه من إنطاكية إلي حلب وعند سفره جاءها الطلق وتعذرت ولادتها وماتت أثناء الولادة.

* بعد الدراسة المكثفة كيف استطعت تكوين صورة محددة الملامح عن "المتنبي"؟

ـ التقييم النهائي الذي توصلت إليه أن "المتنبي" شخص ذو نفس غنية وهو متعدد الجوانب عظيم الموهبة، وهو كريم وسخي جدا لكنه يعرف قيمة المال وهو شجاع في غاية الشجاعة والدليل علي ذلك معركة "الفنا" التي فني فيها جيش سيف الدولة، ولم يبق فيها إلا سبعة أشخاص منهم "المتنبي"، وبالنسبة لأوصافه الجسمانية فقد تعبت جدا في الوصول إليها، فلا توجد في كل الكتب أية إشارة لذلك سوي عبارة أنه "كان بدينا متين البنية، قوي الجسد"، ولهذا فوجئ الممثلون بإصراري علي الممثل السوري "سلوم حداد" البدين لتمثيل دور "المتنبي" الذي أشاع شعره عنه أنه كان بخيلا، وغير "سلوم حداد" هناك الممثل اللبناني "رفيق علي أحمد" وهو الذي سيمثل دور سيف الدولة، أما المخرج فهو المخرج الأردني "فيصل الزعبي" وهناك طاقمان من الممثلين، حيث تدور الأحداث في مرحلتين الأولي صبا "المتنبي" وشبابه والثانية حياته بعد أن كبر وسيفصل بين المرحلتين الفترة التي سجن فيها في حمص.

* شاركت في احتفالات مصر بالعيد الخمسين لثورة يوليو وكانت قصيدتك "زفة شعبية لسليمان خاطر" هي الهدية التي تهديها للشعب المصري في هذه المناسبة.. لماذا "سليمان خاطر" ولماذا قلت إنك كتبتها نيابة عن الشاعر الكبير أمل دنقل؟

ـ كنت ولا أزال متأثرا للغاية بما فعله البطل المصري الكبير سليمان خاطر، فقد قاوم المهانة وقد كتبت القصيدة "نيابة عن مغني مصر الأصيل أمل دنقل" لأنني أعرف أمل جيدا وأقدر شعره ودوره الوطني وأعرف كذلك أنه لو كان حيا ـ رحمه الله ـ لكتب واحدة من أجمل قصائده عن "سليمان خاطر".

القاهرة - العدد (122) السنة الثالثة

***

حوار / 3 :

الأديب والشاعر والمسرحي ممدوح عدوان :
الفن الميت هو فن موتى، يكتبه موتى ويتلّقاه موتى.

حاوره
سعيد البرغوثي
(سوريا)

يقول مظفر النواب: (قليل من الناس من يترك في كل شيءٍ مذاقاً)
وممدوح عدوان واحد من هذا القليل فهو الشاعر والكاتب المسرحي، والكاتب الدرامي والصحفي.. والمترجم.. والمثقف الصاخب، الحاضر دائماً بحيوية يُحسد عليها وفي كل هذا وذاك هو ممدوح - الإنسان الذي يترك نكهته بكل ما تلمسه أصابعه، وبغض النظر عمّن يقف إلى جانبه أو ينتقده، فالكل يسلّم له هذا الحضور الإبداعي والثقافي المشّع الذي امتلأ عبر السنين ألواناً وتنوّعاً، وخبرةً، وعمقاً، حتى بات واحداً من أعلام المشهد الثقافي السوري.
في هذا الحوار يلقي عدوان الأضواء على خلفية هذا التنوّع - الهاجس الذي لم يُشبع نهمه بعد إنجاز ستين كتاباً، لكأنه يريد أيضاً أن يطير ويرقص ويغني ويمثّل بجسده وروحه كي يعبّر عن هذا التوق الجارف للتعبير بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة.

* لنبدأ من الماضي، ونتكلم قليلاً عن المكان.. عن الطفولة.. عن البدايات؟! وعن منابع "الوحشة" في أعمالك الأخيرة؟

** حين تكون فتياً، تتوهم أنك تصنع نفسك، وأنك تبني هذا الكيان، الذي هو أنت، عبر جهدك الخاص، بالقراءة والكتابة والمتابعة والتجربة. بعد أن تهدأ الفورة. ويخلد الإنسان قليلاً إلى نفسه، يكتشف داخلها مكوّنات قد تجاهلها، وكلها من مؤثرات الماضي. من الأب والقرية، والطفولة، وأيضاً من الفلكلور والتراث.. مجموعة أشياء مترسبة في النفس هي التي تعطيك خصوصيتك، دون أن تدري.
كل واحد من أبناء جيلنا يتذكر تلك القرية، وذلك الزقاق، أو ذلك الجبل وتلك الشجرة، ويسبح في ذلك الماء الوسخ، الآسن، الذي كان يعتبره بحراً. لقد كنا نعيش مع الطبيعة كجزء منها، الفاجعة الآن هي اكتشافنا أننا في اللامكان لأن المكان أُلغي ولم يعد له حضور إلاّ في الذاكرة، هذا الكلام ينطبق على طفولتي في قريتي، وقد ينطبق على فلسطيني يحلم بفلسطين، هذا الفلسطيني حتى لو عاد إلى فلسطين، فسوف يرى فلسطين أخرى غير التي حلم بها، وبالتالي هو يحلم بشيءٍ لم يعد موجوداً، لأنه بمعنى ما، يريد أن يعود لكي يعيش الحلم، وكأنه يريد العودة إلى رحم أمه، وهذا مستحيل.
أعتقد أن أحد أسرار، أسْر الرحابنة لنا، هو تمسكّهم بهذا الماضي، وكأنه موجود فعلاً، فهم غنّوا للقرية عبر وهم أننا في القرية، ولكن في الواقع، لا القرية موجودة، ولا طفولتنا موجودة.
أما "الوحشة" التي أتيت على ذكرها، ربما ناجمة عن إحساسٍ بالخواء، فأنا الآن، في عمرٍ بدأت أحسُّ معه أن المستقبل مغلق، والماضي الذي اكتشفت أنه كونّني، باقٍ فيّ كندوب، وكلُّ ما أحنُّ إليه لم يعد موجوداً، وحتى ما هو موجود، مثل الأب الذي أخاطبه في ديواني الأخير:(وعليك تتكئ الحياة)، أتمنى أن يموت، وهو محتفظٌ بكرامته، لأنني لا أريد له أن يُذّل، كما هو حاصل معنا، فنحن نخشى أن يمضي الحال بنا نحو الأسوأ.

* تذكّرني بمطلع قصيدة لسلمى الخضراء الجيوسي، تقول فيها عند زيارتها لمدينتها صفد: (غريبة أنا يا صفد وأنت غريبة..)

** لا شك أن سلمى تعبّر عن شعور شخصي، إنما تجاه قضية عامة. ذات يوم، عندما جاء محمود درويش إلى دمشق وأجرى معه التلفزيون السوري مقابلة - كنت أتمنى يومها أن أجري هذه المقابلة - لكن حال دون ذلك بيروقراطية تافهة، ولو أجريت المقابلة، كان بودي أن أبدأ الحوار معه بالسؤال التالي: "أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي"، عندما رجعت يا محمود إلى هناك، هل وجدت أمك؟! (حتى لو لم تمت) هل وجدتها؟! وكذلك هل شممت هناك، رائحة قهوتها، أم كنت تحمل ذلك في الذاكرة فقط؟ كل الأصدقاء الفلسطينيين الذين رجعوا بعد أوسلو (وطبعاً لهم عذرهم في هذا التوق للعودة للوطن) لم يجدوا الحلم الذي كان يسكنهم.

* أعتقد أن محمود درويش طرح مثل هذا التساؤل بمعنى ما، لقد تساءل: عندما أعود إلى فلسطين، هل سأجد فلسطين؟ فهل تقصد هذا المعنى؟

** هو كذلك. إنه موضوع جوهري، ودقيق في النفس الإنسانية، وهو أمر ينطبق على كل البشر سواء كانت قضيتهم سياسية، أم نوستالجيا طفولية، أو حتى عاطفية، كأن تكون عاشقاً لفتاة وتغيب عنها عشر سنوات، تعود وأنت في غاية التوق لرؤيتها، ولكن عندما تراها لن تلقى تلك الفتاة التي غادرتها قبل عشر سنوات، بل ستجد فتاة أخرى، ولذلك فإما أن تتآمر على نفسك، وتقول: هذه هي الفتاة التي أحب، أو ستبدأ بعمل شاق جداً في البحث عن تلك الفتاة داخل هذه المرأة.

* التنوّع والغزارة في الكتابة في أكثر من حقل إبداعي (الشعر، المسرح، الدراما.. الصحافة..)، هي من الأمور اللافتة في تجربتك الإبداعية فكيف تجد الوقت والطاقة لمقاربة كل هذه الأشياء؟.

** أعتقد أن هكذا سؤال، يمكن أن يجيب عليه ناقد، ولكن بإمكاني الإجابة عليه بالبساطة التالية: أنا أفعل ما أعتقد أنني أستطيع فعله، وأشعر أن لديّ طاقةً، وتراكماً ثقافياً، وعندي رؤية نقدية (دون أن أكتب النقد) تمكّنني من الكتابة في كل هذه الأشكال الإبداعية.
باختصار، رغم كل ما يقال عني، أو أُسأل عنه حول تعدّد الأنشطة التي أقوم بها، فأنا أحسُّ بالفقر في إنتاجي! وأتمنى أن تكون الأنشطة متاحة أكثر لكي أعبر عن نفسي أكثر. لأنني أخشى أن أتعوّد التعبير عن نفسي بطريقة واحدة، وبمنهج واحد، إذ ثمّة ظلال تبقى في النفس لا يمكنك التعبير عنها لأنها لا تصلح لهذا الجنس الفني أو ذاك، لكنها موجودة في داخلك.
فأنا عندما أريد أن أكتب، أشعر أن هذا الشيء الذي يعتمل في داخلي لا يصلح إلا كقصيدة، فأكتب الشعر، وحينئذٍ ألغي مِنْ داخلي: المترجم والمسرحي، والصحافي، وأتعامل مع الحالة بوصفي شاعراً، ثم يخطر لي خاطر ما، فأقول: هذا لا يصلح إلاّ مسرحية فأكتبه نصاً مسرحياً، وعند ذلك يصبح عقلي مسرحياً فقط. أظن أن هذا الأمر ممكن وبسيط لإنسان يعتبر الثقافة همّاً وحرفة، ولا يكتب بدافع الهواية فقط. هاجسي أن أتقن ما أفعله، لكن، لا شك أن التعامل مع هذه الفنون كلها قد أغنى تجربتي في كل جنسٍ من أجناسها، فالقصيدة عندما تكون درامية، تكون أكثر قوّة، وأن يكون في المسرحية شعاع شعري، تصبح أكثر قوة وجمالاً، ولا تكون مسطحة بالمعنى الواقعي المباشر، وحتى الزاوية الصحفية، حين تُكتب بحرارة، وروح شعرية تتألق وتختلف عن كل الزوايا الصحفية الأخرى. وهنا أوّد أن أفتعل هجوماً معاكساً وأقول: أنا سعيد بأن لدي وسائل تعبير أتقنها، وأتمنى لو أن لدي وسائل تعبير أخرى أتقنها أيضاً. أتمنى أن أكون راقصاً وموسيقياً.. أو ممثلاً، لكي أعبّر عن نفسي أكثر.
أيضاً لديّ إحساس دائم بضيق الوقت، الذي لا يمكن تعويضه، وفي هذا السياق أشعر أنني منفعل كثيراً بكازانتزاكي، وأحس أنه يشبهني كثيراً، أو أنا أشبهه!
عندما ترجمت السيرة الذاتية لكازانتزاكي "تقرير إلى غر يكو"، لمست هذا التقاطع فهو يقول: "إن إحساسه بالضغط، بمواجهة الأشياء الكثيرة التي يريد أن يكتب عنها كبير جداً، حيث لا يوجد لديه زمن كافٍ لذلك، خاصة وأنه
بالوقت نفسه يريد أن يعيش. يقول: بودي أن أنزل للشارع وأشحذ من الناس الذين يهدرون الوقت بلا معنى ربع ساعة من عمر كل منهم، وطبعاً هذا أيضاً غير ممكن."
لديّ إحساس مماثل بأن الوقت ضيق جداً، لأن حجم الأشياء التي نتعامل معها أكبر وأوسع بكثير من الوحدة الزمنية المتاحة لنا، مع ذلك ورغم كل ما أنجزته أحس فعلاً أن هناك أشياء في داخلي لم أعبّر عنها بعد.

* انطلاقاً من كون الخطاب المسرحي هو خطاب ثقافي بامتياز، كما الخطاب السينمائي بماذا تفسّر طغيان التلفزيون، وكيف ترى إلى بعث حياة مسرحية وسينمائية تكاد تكون مفتقدة في بلدنا؟.

** هي مفتقدة فعلاً، كم فيلم ينتج سنوياً في سورية؟! الصالات السينمائية بائسة، ولم تتجدّد منذ نصف قرن.. وهذا بسبب عدم الاهتمام بالجمهور الذي يرتاد الصالات، وأيضاً لأن استيراد الأفلام محصور بقنوات ضيّقة، وعقليات رقابية تافهة، في حين يتعذّر علينا رؤية الأفلام التي تغزو العالم، والتي تحصل على جوائز. في النهاية، الجمهور معزول عن رؤية السينما الحقيقية، والمتميزة، إضافة إلى كسل الجمهور المكتفي بمتابعة ما يعرضه التلفزيون.
الآن هناك ما أسميه: حصار التفاهة.. عندما تعوِّد مجموعة من الناس على الاستمتاع بالتفاهة، عبر القصة البوليسية أو القصة الجنسية إلخ.. فهذا الأمر يروّض العقول ويعودّها على الاستمتاع والاسترخاء، أمام هذا النوع من الأداء. وبالتالي عندما يأتي أداء أكثر عمقاً يصبح متعباً وعبئاً عليهم، فلا يقبلون عليه.إذن المشكلة ليست بالمسرح أو الشعر، ولا بالشاعر، وإنما بهذا المناخ الذي أفسد الناس.

* أنت تكتب دراما تلفزيونية بأكثر من موضوع. هناك فرق شاسع مثلاً بين "دائرة النار" كدراما اجتماعية معاصرة، وعملك الأخير "الزير سالم" كدراما تاريخية.. أو عملك الذي يصور حالياً "المتنبي".. ما الذي تقدمه هذه الأخيرة للمتلقي.. وهل من تقاطع مع الراهن؟

** شرعت في كتابة الدراما التلفزيونية، وأنا أحس أن هذه الشاشة التي تقتحم البيوت يجب ألا نتركها لعديمي الموهبة ومروجي التفاهة إلخ.. ومن خلال ملاحظتي لما يُطرح هناك أشياء تعجبني.. وأشياء لا تعجبني، وحين أُصدم بما لا يعجبني أقول لنفسي: لو كنت الكاتب لكتبت كذا.. ولأنني قادم إلى الكتابة الدرامية من المسرح والشعر، كان يهمني بطريقة غير مباشرة، وحتى تعليمية أن أقول للكتّاب: "هكذا يجب أن تخدم الشخصية الدرامية"، لكنني بالتأكيد لم أكتب بهدف إعطاء الدروس. أنا كتبت الدراما لأروي قصصاً، وأقدم متعة، كما يفعل الفن، ففي التلفزيون، كما هو الحال في المسرح، وربما كما الحال مع الشعر، كنت أبحث عن الصلة غير المرئية في النفس البشرية. إنسان اليوم الموجود حولنا نراه في الدراما السائدة ضمن نمط واحد؛ فمعظم الأعمال الدرامية تقدّم لنا نمط الشرير أو الخائن.. والخائنة.. إلى الشريفة.. أو المرابي إلخ.. هذه كلها أنماط، وهذا أسوأ ما في الدراما، أنا أردت منذ البداية أن أبيّن كل شخصية كما هي، فكل شخصية قادرة على الدفاع عن سلوكها، حتى اللص، يمكنه أن يبرر، لماذا هو لص، فإذا سُئل أمام المحكمة لماذا سرقت، فسيقول لأني محتاج وجائع، وهكذا فدائماً هناك حجة ما.. لماذا اغتصبت امرأة؟ يقول أنا مكبوت، أو ربما يقول هي كانت متعرية وأغرتني.. فأنا أريد للشخصية أن تقدم حجتها، وهي مقتنعة بها. لقد عودتنا الدراما المصرية والهندية على تقديم الشرير شريراً مطلقاً، والخير خيّراً مطلقاً. برأيي في أعماق كل واحد منا -بما في ذلك أنا- يوجد لص وفدائي، وشريف، وشاعر، ومرابي، لولا ذلك لما استطعت أن أفهم هؤلاء الناس. طبعاً تساعدني الثقافة على فهمهم وفهم نفسي، ومعالجة هذه المسألة تتم في الدراما التلفزيونية، كما في الشعر والمسرح بناءً على هذا الفهم وسواء كان الحدث واقعياً أو تاريخياً، لذلك فأنا لا أرى على الإطلاق أي فرق في معالجتي بين "الزير سالم" و"دائرة النار" وبين "ليل العبيد" و"الخدامة"، ففي كل هذه الأعمال، هناك بشر يجب أن نفهمهم. هؤلاء البشر ليسو مصنّعين، بل هم بشر مثلنا، فالزير سالم يمكن أن يتكلم مثلنا، والمدير العام في مسلسل ما، يشبه مثيله في الحياة. كلهم يتكلمون مثلنا، ولكن كل واحد ضمن الظروف والشروط المحيطة به مضافاً إلى ذلك إيقاع العصر الذي يعيش فيه.

* لنعد إلى الشعر، وأنت الشاعر. يرى البعض أن الشعر الحداثي، يفتقر للغنائية ومغرق في الغموض، وهذا يحيل إلى قطيعة مع المتلقي. كيف تنظر إلى ذلك عبر تجاربك الشخصية، وعبر رصدك لشعراء آخرين؟ وما هي برأيك أهمية وضرورة الغنائية في الشعر؟.

** بشكلٍ شخصي أرى أن الغنائية ضرورية جداً، ولكن من الممكن أن يكون لهذه الغنائية معنىً متطوراً، فأنا أرى مثلاً محمد الماغوط الذي يكتب قصيدة نثرية هو شاعر غنائي، وأرى المتنبي شاعراً غنائياً، إذن الغنائية هي كل ما يلامس
الأعماق الإنسانية. وهي ليست في الصيغ اللغوية. هناك صياغات لغوية ركيكة، وهناك شعراء مدّعون للشعر، وهذا دائماً موجود حتى في زمن المتنبي "في كل يوم تحت إبطي شويعر"، لكن المتنبي بقي هو الشاعر. فوجود شويعرون ومدعوّ شعر، يجب ألا يلغي قدرتنا على رؤية الشعر، لا شك أن الحداثة كانت مربكة في الحياة العربية، فهي حتى بصرياً أدت إلى تغيير في شكل القصيدة، وإلى تغيير في شكل التعامل مع القارئ، أيضاً تعمقت الحداثة أكثر من ذلك عندما أخذت تتعامل مع موضوعات لم يكن يتم التعامل معها أو الاستفادة منها سابقاً وأعني الموضوعات التي تتناول الأعماق النفسية وتستفيد من المكتشفات في علم النفس والانتربولوجيا. فهذه المكتشفات إضافة إلى العقل المعرفي للشاعر نفسه هي إضافات يقولها الشاعر بينما ظل القارئ بعيداً عنها تماماً.
وبرأيي، إذا كان الشاعر شاعراً حقيقياً فهو يستطيع أن يستفيد ويمتص كل هذا النسغ الخارجي ويصنع منه قصيدة يقبلها القارئ المتوسط وليس الأمي أو الجاهل، ولكن القارئ المتوسط الثقافة ليس همه الشعر أولاً، ثانياً الشاعر اللبيب يضيف على هذه التقنية الماهرة حسّه الشعري العميق.

* لم تحدثني في إجابتك عن بعض الشعراء الذين يتعمدون الغموض ويرون في ذلك الغموض تمايزاً، ألا ترى أن ذلك الغموض يمكن أن يحيل إلى قطيعة حتى مع النخبة؟

** الغموض هو صفة الجمال، وكل جمال هو غامض، ولكن تعمّد الغموض كتعمد الوطنية، وكتعمد البذاءة.. أي تعمّد في القصيدة يفسدها.. وأنا أريد أن أدقق قليلاً في هذه المسألة فأحياناً ثقافة الشاعر تطغى على القصيدة ، فربما يستفيد الشاعر بطريقة ما من الفولكلور ويوظفه في القصيدة، بينما فولكلوري آخر لا ينتبه لذلك الأمر، أيضاً هناك مسؤولية البحث في القصيدة. أرى أن الفن الجيد في هذا العصر لم يعد ما تتلقاه وأنت مسترخٍ، هذا ينسحب على الموسيقى والرسم والشعر وحتى الغناء.. فالغناء الذي تتلقاه باسترخاء هو غناء رديء! كل فن جيد يجب أن يوثّب ذهننا، ويوقظ في نفوسنا أسئلة ما، فضولاً ما، تنبهّاً ما. ذلك هو الفن، أما الفن الذي يؤدي بنا إلى الاسترخاء فذلك هو الفن الميت، وفن الموتى، يكتبه موتى ويتلقاه موتى..

* لا أريد أن أسألك ماذا قدّمت للتلفزيون فالكل يعرف ذلك، بل أريد أن أسأل ماذا قدّم لك التلفزيون؟

أتاح لي التلفزيون اقتحام عالم فني لم أكن أعرفه، وقدّم لي فرصة تعميم أفكاري الدرامية وتثبيتها، وقدّم لي أيضاً، مورداً مالياً لم تقدّمه لي كل الفنون الأخرى التي أمضيت عمري فيها، ومع ذلك لم أتنازل عنها، فأنا ما زلت شاعراً ومسرحياً و.. إلى جانب التلفزيون.
كذلك قدّم لي التلفزيون الشهرة، لأن ظهوراً واحداً على الشاشة يُغْني عن ثلاثين سنة من كتابة الشعر.

* دعنا ندخل بخصوصية أكثر، كيف تنظر للمرأة الأم، الزوجة، الحبيبة وضمن أية صيغة استطعت مع "إلهام" زوجتك الحفاظ على استمرار هذه الجذوة؟

** أنا كنت أعيش خائناً دائماً، أُحبُّ لكي أخون. كان لحبي متعته، ولخيانتي متعتها، ثم أحببت "إلهام" ولا أستطيع أن أوصّف المسألة عقلانياً، لكن وجدت عذرها أنه يستحيل أن تستقيم الأمور بيننا إلاّ إذا عشنا سوية، وهذا معناه أن نتزوج، وقصة الزواج بالمعنى العقلاني مرعبة، قلت لنفسي: قد تكون هذه حالة مؤقتة، نتزوج ونطلّق (أقول ذلك بصدق) وفي مقابلة سابقة أجراها معي الشاعر أحمد الشهاوي، سألني سؤالاً قريباً من ذلك فقلت له: هذه المرأة، أعني زوجتي "الهام" كل يوم أريد أن أطلّقها منذ خمس وعشرين سنة! (يضحك) لكن بالأعماق يتولد بعد الحب الذي هو توق، وعواطف، وشوق، وشهوات، يتولد شيء من الحاجة. تحس أن لديك حاجة لا يلبيها إلا هذا الشخص "الشخصة".

* أليس في هذا أنانية؟.

** أكيد ثمة أنانية في النهاية، فهناك حاجات لا يمكن لأحد أن يلبيها حتى ولا كل جميلات الدنيا. كل العلاقات العابرة وكل الشغب الذي يحصل حول واحد معروف مثلي، يُمكّنه واقعه من "تجاوزات"، بحيث يشاكس هنا، ويغازل هناك.. لكن الحاجة الأساسية في النفس لا يلبيها إلا هذا الطرف بالذات. لا شك يمر الإنسان (سواء أنا أو الزوجة) بما يشبه ما أسميه في الفيزياء التفاعل الحروري. ضع كمية من الماء البارد مع أخرى من الماء الساخن تمر فترة فيصبحا بدرجة حرارة واحدة، فأنا لي مجموعة من المزاجيات وكذلك هي، أنا أدّعي أنني كزوج تفهمت مزاجياتها وتقبلتها على الأقل بحدود تسعين بالمائة. وفي هذا الشرق، ولأنني لا أريد أن أرتكب إحدى الخيانتين كأن أقنعها حتى تصبح ملائمة لي، وبالتالي، ولدى استجابتها، سأكون فعلياً أمارس العيش مع امرأة غير التي هي، أو أن تَقْمع هي نفْسَها، وتقدم لي بالتالي شخصية مختلفة. من هنا كنت حريصاً على عيش مناخ نكون فيه كلانا نحن تسعين بالمائة على الأقل كما نحن، ضمن اختلاف خصوصية كل منا، وهكذا أصبحت الحياة ممكنة. ولو كان الأمر مختلفاً لاختلف كل شيء.

***

حوار / 4 :

ممدوح عدوان
الشعر إحساس الدخول في بيت معتم

أجرى الحوار:
علي ديوب
(سوريا)

منذ عام النكسة وممدوح عدوان يكتب الشعر، بلا انقطاع، ومن غير أن يوقف نتاجه ل هذا الفن؛ لقد كتب المسرحيات - تأليفا واقتباسا- والمقالات الصحفية، والنقل الأدبي - ولعله شغل الصف الأول في هذين الفنين، طوال عقد السبعينات. كما كتب السيناريو والأغنيات، لأفلام سينمائية ليجرب (؟) الرواية، في آخر مشاريعه (صدرت له رواية حديثا، عن دار الريس، بعنوان أعدائي- ترصد، من النافدة الخلفية للقرن العش رين، أحوال البلاد والعباد، أواخر العهد التركي). وحيث يعمل مدرسا، في المعهد ا لعالي للفنون المسرحية، تداولنا هذا الحوار:

* ممدوح عدوان مجرب مجتهد في شتى فنون الكتابة؛ أكان ذلك بتأثير المشاريع الفكرية الكليانية؟ أم نتيجة صراع مع خارج شديد التعقيد والغرابة؟ أم هو مجرد فوران طاقات يشدك في كل اتجاه؛ سيما وأن حب النجومية راودك لأن تخوض تجربة التمثيل؟

- أبدأ من النهاية: لم أحب التمثيل بسبب النجومية، بقدر ما أحببت التمثيل كأول نشاط مارسته في حياتي، خارج نشاط تلميذ في المدرسة. منذ عام 1958 قمت بدراسة التمثيل بالمراسلة. في (59-60) كنت أقدم مسرحياتي في مصياف (بلدتي)، في أعياد الوحدة، كنت أكتب نصوصا مسرحية وأقدمها بنفسي: إلى الآن هذه الرغبة مختزنة في. وقد صرفت في اتجاهين: الأول إلقاء الشعر، والثاني رسم الشخصيات بشكل جيد في الدراما. سواء كانت الدراما مسرحية، أو تليفزيونية.. وأخيرا روائية. وأنا أكتب أحس دائما، أنني أمثل الأدوار كلها، بما فيها الأدوار النسائية! أما عن تنوع وغزارة المشاريع والتجارب، فباختصار: أحس أنني ابن هذا العالم؛ وأريد أن أتدخل في كل م ا فيه، لذلك أنا أشتبك مع العالم يوميا. ويأخذ هذا صيفا متعددة.. أحيانا أعانقه، أحيانا اشتمه، أحيانا أضربه بالحجارة.. وبالتالي أحيانا أكتب المسرح وأحيانا الشعر وأحيانا الصحافة؟ فهي رغبة في التفاعل مع العالم.

* ألا يحدث لديك، هذا التوزع بين فنون الكتابة نوعا من الفصام في التعبير عن ا لتجربة، بدلا من تشكيل رؤية مركزة عن العالم بواسطة جنس فني واحد؟ أم أنك تشفق على هذا التنوع الذي يطبع الوجود، من رؤية واحدية؟

- أنا أعتقد أن كل كاتب يكتب بنسبة 70% عن نفسه، و30% بأفكاره. وبالتالي كل كاتب - اعترف بذلك أم لم يعترف - يحتوي في داخله على كل الأنماط التي يكتب عنها، إذا كان كاتبا جيدا. وأنا أعتقد أن في داخل شكسبير يوجد شايلوك كما يوجد هاملت، ويوجد روميو، وتوجد جولييت؛ وإلا ما كان بمقدوره الكتابة عنهم.
الكاتب يكتب عوالم متعددة، هي عالمه هو؛ طبعا هي قدرة استثنائية على الكشف الداخلي. ليس غنى استثنائيا، لان كل إنسان لديه القدرة على تأمل داخله بطريقة خاصة في الفن. بينما المفكر أو الفيلسوف يتأمل داخله بطريقة مختلفة. والفنان يتأمل داخله فيكشف هذا العالم المليء بالرغبات والنزوات. وأنا عندما أكتب عن اللص، فان في أعماقي يوجد لص. وعندما أكتب عن الخيانة يوجد في أعماقي خائن. وعندما أكتب عن الفدائي، أيضا يوجد في أعماقي فدائي، وأنا أكتب أحاسيس المرأة جنسيا مع أنن ي سوي من هذه الناحية... الخ.

* ماذا تعني بسوي؟

- كلامي يعني إمكانيتي ان أكتب عن أحاسيس المرأة الجنسية - مثلا- وأنا رجل سوى في حياتي الجنسية؛ أي انه لا يوجد عندي شذوذ.. كيف؟ بالتماهي مع الأحاسيس الجنسية للمرأة؟ بالمطالعة؟ أم بالسؤال ذلك؟أم بعمل استفتاء مع النساء؟ قد يفيد كل ذلك؟ ولكن يجب أن أبحث عن المرأة في داخلي- المرأة التي أحتاجها في الكتابة.

* هذه النسبة التي قدرتها في كتابة الكاتب عن نفسه وكتابته بفكره، هل عنيت بها فصلا بين الوعي الذاتي والوعي المضاف؟

- لا. ولكن أحيانا تتأمل موضوعا ما، فإذا كنت مفكرا كتبت أفكارا فقط، أما اذاكنت فنانا فستكتبه من خلال شخصيات أو عواطف - شعرا كانت، أم انفعالات، أم مسرحا وأنت تكون كاتبا ماهرا بقدرها تستطيع إخفاء نفسك في النص. بحيث لا تبدو انك تتدخل. ولكنك، في حقيقة الأمر، تكتب هذا العمل لأن لك موقفا في الأصل. وتريد لهذا العمل أن يخدم هذا الموقف، ولكن بطريقته كفن، وليس كمقالة فكرية أو كبحث اجتماعي أو خطاب أيديولوجي.

* هناك سخرية حادة، فاضحة، ماكرة، وسوداء في شتى نتاجاتك الفنية.. هل تفضل لو
كنت جربت السخرية الحنونة أو التهكمية، أو فير ذلك من صفوف السخرية؟

- ربما، لو لم أكن عصبيا- أكثر مما يتطلب الأمر- كنت كتبت بسخرية أفضل من التي كتبت، وكل الذين يعرفونني يتساءلون عن الفارق بين المرح والسخرية والذكاء في الأجوبة وردود الأفعال الحاضرة في حياتي، وبين ما هو أدنى من ذلك في كتاباتي؟ وه ذا صحيح. ربما لأنني أتناول الكتابة بعصبية، والعصبية لا تعطيني الفرصة لأن أسترخي مع خبثي، وبالتالي يظهر الخبث في الموضوع وليس في التفاصيل، أتمنى لو أنني أقل عصبية، لأكون أكثر خبثا!

* إذن هل تفكر اليوم - وأنت على مسافة مناسبة من نتاجاتك الأولى- بنقلة جديدة؟ !ومن أي نوع؟

- أنا، مثل أي فنان آخر، مشغول بنقلة فنية أجدد فيها نفسي، وأجدد نتاجاتي لأنني أنا أيضا أتجدد. ولأن هذا العالم الذي نعيشه يتجدد. وبالتالي أنت تبحث، دائما، لتكون ردود أفعالك مناسبة لما يعطى لك. عندما أعود بالنظر إلى نتاجي السابق أ شعر أنني، الآن، أفتقد لأمرين: أولا الرومانسية، وهذا أتوهم إمكانية استعادته. وثانيا الطفولة، التي يفتقدها أي شخص بعد الخمسين من عمره، هذه نوستالوجيا الطفولة المفقودة، واستعادتها- أي الرغبة في العودة إلى مرحلة الشيطنة والرؤية البك ر للعالم - تمثل حاجة عند الإنسان،
هناك فنانون قادرون على أن يظل في عيونهم طفل يرى العالم.

* هذا الحنين للطفولة أفهمه على انه ليس لمرحلة عمرية، بل إلى نوع من الرؤية الحرة، غير الملتزمة بما هو خارجها، أي غير المسئولة أيضا- هل توافقني؟

- لا شك أن أحد العوامل التي منعت الطفل الذي في أعماقنا من الاستمرار هو أننا اضطررنا ان نكبره، بشكل قسري. ونشده ليعي أشياء لا يجوز أن يعيها: ولكنه مضطر لذلك، لكي يليق بالحياة القائمة، لكي ينسجم مع أدوات القمع من حوله: قمع الأسرة، قمع المجتمع، قمع الأخلاق والعادات، قمع الدولة، ومتطلبات البناء، و... هناك مليون صيغة من القمع التي تجبر الطفل على أن يكبر بشكل قسري، ويصبح طفلا غير سوي- مثل الخضراوات التي يحقنونها بالهرمونات. تصور، مثلا، انك تلزم طفلا، عمره ثماني أو تسع سنوات، ان يتعلم كيف يحلق ذقنه!

* بين لغتنا الحية، في التواصل الكلامي، وبين اللغة التي نكتبها، وهي أقرب الى اللغة الميتة، من شدة وطأتنا عليها (وكثر الشد يرخي- كما يقول المثل) ثمة سر: أين يكمن، برأيك؟ هل هو في تراثنا الشفوي?

- أعتقد أني، في كتابتي الصحفية والدرامية، أكتب بالسهولة التي أتحدث بها، وبالتالي يخيل، لبعض القراء، أنها سطحية. وانه يمكنه كتابة مثلها: هي نوع من السهل الممتنع: لا يوجد فيها تعال، أو فذلكة، أو تهافت على القارئ. ومن هنا يأتي إحساس القارئ بإمكانية مقارنتها بحديثه اليومي.
الشعر - وربما لأنه حوار مع الذات، وليس بين أشخاص مفترضين - تصبح صيغته أكثر خوفا، وتعكس في النفس إحساس الدخول في بيت معتم. أنت تتلمس، كل خطوة، بحذر لتحمي نفسك، هذا ما يحدث لك حين تدخل إلى أعماقك، في الكتابة الشعرية، ومن هنا يصبح الشعر، بلغته الحذرة، أقل سلاسة.

* هذه العتمة، هل هي المسؤولة عن "الصنعة الشعرية"؟ ام أن هذه الأخيرة وليدة ن مط من التشفير الشعري، الذي دفع بأصوات إبداعية جديدة لإطلاق صرخة "الشعر ضد ال شعر" أو دعوة موت الشعر، أو لغة السأم من اللغة، نحو وضوح يأخذ قوامه من اللغة اليومية، بتنافراتها، وعبثيتها؟

- أعتقد انه ليس هنالك فن ليس فيه صنعة، والفن هو صنعة متقنة، إلى درجة تبدو أنها عفوية، انه أشبه بمنحوتة يعالجها الفنان بالأزميل، ويقدمها لك، ولا أثر فيه ا لضربة أزميل واحدة!

كل فن هو صنعة، حتى ما يبدو منه سلسا ويوميا؛ وإذن ما يميز مادة الحديث اليومي، في الجريدة، عن مادة الحديث اليومي الفعلية القائمة بين جارة وجاراتها؟ أو في الحانوت، بين بائع وزبون؟ نحن، حتى حين نلجأ إلى هذا الواقع، نلجأ إليه عبر انتقائية خاصة، من خلال عين الفنان، والفنان هو الذي ينتقي ما يبدو انه يومي ويحي له إلى فن هناك مقولة لـ(اميلي ديكنسون) تقول ان الفنان هو الذي يلتقط الممسحة، التي في الطريق، ينفضها ويعلقها على الجدار، فتصبح لوحة!

***

حوار / 5 :

الشاعر ممدوح عدوان: لـ (الوطن الثقافي):
الغالبية تتعامل مع الشعر كمادة للمتعة والتسلية.. وليس كعمل إبداعي..

قال الشاعر ممدوح عدوان ان الحركة النقدية العربية تعاني من القصور منذ عشرات السنوات. ودعا في حوار معه إلى تجاوز هذا القصور وإعادة الحياة للحركة النقدية ودورها، وأعرب عن قناعته بأن الإبداع يعتمد على الموهبة والصنعة لكنه قال ان الموهبة لا تشكل أكثر من 25 بالمائة من العملية الإبداعية. ورأى أنه ليس مطلوبا من القصيدة الشعرية محاكاة الحياة اليومية لكنه قال ان القصيدة تتطور والشاعر لديه القدرة على أصباغ شعره على موضوع يلامسه وأكد ان كاتب الدراما ليس مؤرخا. بقية المحاور مع الشاعر العدوان في الحوار التالي:

* أين أصبحت القصيدة العربية الآن..؟

** في اعتقادي أن القصيدة الشعرية تتطور وتتطور أدواتها في التعامل مع الحياة، ولكن ليس مطلوبا من القصيدة أن تحاكي الحياة اليومية. القصيدة لديها القدرة على أصباغ الشعر على موضوع يلامسه والشاعر يستطيع أن يؤنس الصخر والشجر والتراب.
وقد ساعدت العلوم الحديثة التي لها علاقة بشكل ما بالشعر وبددت أوهاما كثيرة وساعدت الشاعر على الغوص في جوف النفس والمجتمع، هذا الغوص قد يوحي بالابتعاد عن الناس لأن الناس ليس كلهم تابعين للمعطيات الجديدة وليس كلهم يتعاملون مع الشعر بوصفه مادة ثقافية إنما الغالبية يتعاملون مع الشعر كمادة متعة أو تسلية لكن أريد أن أؤكد أنه حتى الشعر الذي كان يلتزم بالقضايا الإنسانية والقضايا العامة. الشاعر إذا كان شاعراً جيداً فهو يكتب فنا نخبويا والناس لا تتداول الشعر نفسه بوصفه التعبيري، الإبداعي، الناس تتداول الشائعة التي حول الشعر، أي ان الشاعر السياسي يتداول الجمهور أفكاره السياسية، يتداولون قصيدته من اجل أفكاره السياسية والشاعر الغزلي يتداولون قصائده من اجل الحب وهكذا، لكن يجب أن يتم التعامل مع القصيدة بوصفها عملا إبداعيا فقط وليس بوصفها مادة حب أو سياسة أو غير ذلك.

* كيف تقيّم الإبداع...؟

** الإبداع يرتكز على الموهبة أولا والصنعة ثانيا، واعتقد أن الموهبة لا تلعب أكثر من 25 بالمائة من الدور في عملية الإبداع وما تبقى هو الشغل المتقن لكنه متقن إلى درجة أن تختفي الصنعة فيه، فهي صنعة متقنة إلى درجة تبدو أنها ليست صنعة.

* يقول العديد من المبدعين في مختلف الجوانب الأدبية ان النقد لا يقف إلى جانبهم ما رأيك في ذلك..؟

** وظيفة النقد أن يفتش عن النصوص. لا أحد يدعي أنه يمتلك نصا كاملا لكن على الناقد أن يعرف كيف يقيم التجربة الإبداعية وهو قادر على سبر أغوار العملية الإبداعية وكشف أسرارها لكي يكشفها للقارئ. ولكي يكتشف المبدع نفسه أنه فعل ذلك دون أن يدري وقد مر النقد في الأربعينيات والخمسينيات وبداية الستينيات بمرحلة اغناء في العملية الإبداعية لأنه كان مواكبا للحركة الإبداعية نفسها ولكن فيما بعد ابتعد النقد عن العملية الإبداعية وصار النقد عالما مستقلا وانشغل النقاد بالتنظير أكثر مما انشغلوا باكتشاف أسرار العملية الإبداعية ومن المتابعات النقدية.
أنا لا أرى نقدا إلا نقدا تنظيريا أو إعادة نظر في التراث أو نقد الذين لم يعد من المفيد نقدهم كأن نقرأ مقالا جديدا عن محمود درويش أو أدونيس أما هذه الأجيال المتلاحقة فهي بحاجة أن تواكبها عملية نقدية تفيدها وتفيد قراءها لكن للأسف النقد لم يفعل ذلك وها أنا اكتب الشعر منذ 45 سنة لم يكتب عني سوى ثلاث مقالات نقدية مهمة أو جدية.

* هل تعتقد أن الحركة النقدية تعاني القصور..؟

** نعم واعتقد أن هذا القصور غير مبرر ويجب أن ينتهي.

* ما هي الرسالة التي تريد إيصالها للجمهور في كتابتك للدراما...؟

** ليس هناك رسالة محددة وإنما عندما أتعامل مع مادة اشعر أنها تصلح للدراما المسرحية أو التليفزيونية أطالب نفسي بتصحيح مفاهيم حول الدراما وأنا ادرس مادة منذ عشر سنوات في معهد الفنون المسرحية لكتاب الدراما وأقول دائما للنقاد وللجمهور والطلاب ان المطلوب من الكاتب ألا لا ينحاز مع شخصية أو أن يقف ضد شخصية بل عليه أن يفهم الشخصية ويترك لهذه الشخصية مساحة لتبرر أفعالها. نحن قد نحكم على شخصية ما أنها جبانة وهذا حكم خارج لكن هذا الزمن له منطقه الخاص في التعامل مع الحياة والمعرفة. هذا المنطق يجب ان نسمعه حتى لو لم نقبله حتى نترك للشخصية فرصة كي تعبر عن نفسها. وإذا استطعنا أن نكشف أبعاد مجموعة من البشر الذين يشبهوننا وأنا أرى أنهم يشبهوننا سواء كانت شخصيات خيالية أو حقيقية. إذن حين نحقق ذلك في العمل الدرامي قد يساعدنا العمل الدرامي على فهم أنفسنا وهذا أكثر حميمية بكثير من أن هذه رسالة لقول حول ضرورة النضال أو التحرير أو الوحدة العربية.
أكثر أهمية ان نكتشف الإنسان بأعماقه نكتشف هواجس صغيرة ورغبات صغيرة ونزوات صغيرة لكي نكتشف ان لدينا هذه النزوات وان كنا نجهلها أو نتجاهلها أو نخفيها خجلا من الناس.

* هل من بصمات لشخصيتك الشعرية على أعمالك الدرامية...؟ أم أن شخصيتك الشعرية تتنحى جانبا في الدراما..؟

** عندما أتعامل مع الدراما أجد لزاما على أن أغيب شخصيتي الشعرية بقدر كبير ولكن ليس بشكل نهائي فعندما أقدم هذا الكشف للحادث وللأعماق الإنسانية أرى أن كل نص مبدع هناك وهج من الشعر حتى لو لم يكن الكاتب شاعرا، ففي الرواية الجيدة قد نجد مقاطع تتألق وكأنها شعر وفي المسرحية الجيدة نصل إلى مقاطع نجدها تألقت شعرا وبالعمل التليفزيوني نصل إلى لحظات نجد فيها وهجا شعريا.

* هل تتعمد الشاعرية كي تعطي الموقف حقه..؟

** أنا لا أتعمد هذه الشاعرية لكي أعطي الموقف حقه. عندما افترض أن هناك علاقة غامضة بين اثنين كعلاقة الزير سالم وامرئ القيس بالجليلة مثلا هناك شيء بينهما ان كلا منهما يرى أنها جميلة ولا أحد يستحقها إلا شخص مثل الزير وهي تعرف ان هذا زير نساء وبالتالي فهي تريد أن تنال إعجابه ولو أنها لم ترد أن تبني علاقة معه. وأنا تعمدت الكشف عن هذه الدواخل وقد أظهرت ان الشخص الوحيد الذي كان يعرف ويكشف هذه المشاعر بين الزير والجليلة هو امرؤ القيس الذي كان الزير سالم يتمنى له الموت رغم انه كان صديق عمره لأنه الوحيد الذي كان يكشف هذا الشيء المخفي في أعماقه.

* هل على كاتب الدراما أن يلتزم الصدق في طرح المعلومات التاريخية...؟

** الكاتب مبدع وليس مؤرخا. المؤرخ هو الذي يقدم المعلومة. أما كاتب الدراما عليه تقديم الأشخاص الذين صنعوا الأحداث كيف كانوا. أنا افترض ذلك وبالتالي أنا مضطر لإجراء تغيرات ليس لها علاقة بطبيعة الأحداث وهناك مكان للتخيل ولكن ضمن جزئيات العلاقة ودوافعها النفسية.

* متى تكتب الشعر ومتى تكتب الدراما وهل تجد صعوبة كبرى في الانتقال بين الأجناس الأدبية...؟

** عندما تحضرني أفكار وانفعالات معينة أحس ان التعبير عنها يكون بالشعر، اكتب الشعر وعندما أحس بأن هذه الأفكار والمشاعر درامية اكتبها بالدراما. المسألة هنا ليست تقسيما حسابيا، بل إحساس وشعور أن هذه المشاعر والأحاسيس هي شعرية اكتبها. أما التنقل بين الأجناس الأدبية فهو إبداع وقدرة وأحس ان التنقل يغنيني ويثريني ويعمق الإحساس لدي ويزيدني قوة ولا أجد في ذلك صعوبة.

* وأيهما أقرب إليك...؟

** كلهم أبنائي ونتاجي. أحبهم جميعا واشعر بالاعتزاز بهم، فهم لي جميعا.

عمان- الوطن القطرية

***Eman

***

ممدوح عدوان وطفولات مؤجلة

صلاح فضل

للشام نكهة طرية عبق, ‏, ‏ تضوع بفوح الزهور ورفيف الطيور‏, ‏ تضج بالصبا والصبوات‏, ‏ تفطر في حلب بالشعر والزعتر‏, ‏ وتتغذي في منازه الغوطة بالغنج والدلال‏, ‏ وتسمي في مقاهي بيروت ودمشق علي حكايات الوجد وحلقات الرقص المشتعل في دوائر الشباب والكبار علي غير انتظار‏.‏
هذا الشام الكبير, ‏‏ قبل تقطيع أوصاله‏, ‏ كان دائما أرض الفن والعشق والخيال‏.‏ كان للمرأة فيه فضاء من الحرية لم تعرفه الأنثى, ‏لعربية في موطن آخر‏, ‏ فأضاءته بحضورها الشهي الباهر‏, ‏ ومنحته أنغاما من موسيقي الكون لم تصدح سوي في فضائه‏, ‏ فألهمت شعراءه فيضا من جمال الروح وحلاوة الأداء قلما تتوافر لغيرهم‏.‏ ومن حسن الحظ أن اللغة ـ وهي وطننا الذي نسكنه, ‏‏ وعقلنا ووجداننا الذي نستبطنه ـ تيار واحد‏, ‏ ما يصب في جداولها في جميع البقاع يتدفق بسلاسة عبر شرايين الثقافة العربية دون حدود‏, ‏ فنرتوي جميعا منه‏.‏
وقد سعدت بإصدار مكتبة الأسرة ديوان الشاعر السوري المبدع ممدوح عدوان طفولات مؤجلة‏, ‏ وهو شاعر وكاتب مسرحي ومترجم إعلامي‏, ‏ بلغ الستين من عمره ولا يزال في خصوبة الشباب وتوقده‏, ‏ وقد تسنم ذروة نضجه دون أن ينشر له في القاهرة فيما أعلم ديوان واحد‏, ‏ فيأتي مشروعنا الرائد في القراءة لجميع المبدعين ليحتضن أبناء اللغة‏/‏ الوطن في موجة تحنان وتواصل جميل‏.‏
وبوسع القارئ أن يري في ديوان ممدوح عدوان صورة الشام وصبواتها‏, ‏ حلاوة بلاغتها وجرأة كلماتها‏, ‏ وفيض رقتها وهي تعزف مقطوعات العشق التي جفت في حلوقنا أنغامها‏, ‏ كما أن بوسعه أن يستمتع بغمزاتها السياسية وإشاراتها الذكية لعناصر الطبيعة وتقلبات الحياة‏.‏ صبوات الشام‏:‏
لأن الديوان بعنوانه المثير لا يقتصر علي الطفولات فحسب‏, ‏ بل يجر في مختاراته أشجان الكهولة ليعبر عنها ببراءة ودهاء معا‏, ‏ فإننا نلمح فيه عدة وجوه‏, ‏ ربما كان أشدها نضرة ما يمثل نزوات الشباب‏, ‏ ويجسد ملامح المجتمع‏, ‏ ويكشف عن طفولة الروح الشعري في مثل قوله‏:‏ـ

كانت ترفرف فوق مقعدها وتزقو
كي تري الرمان ينضج في روابيها
تريني الخمر ينضج من دواليها
وكان الطلع ينبع فائرا
والليل ينثره عبيرا غام‏/‏ينفر من تويج الحسن
يدعو سرب نحل هائم بين الطلول‏..‏
كانت تراسلني بإشعاعات فورتها

ترفرف وهي تدعوني‏/‏فأسمع نبضها مثل الطبول
راحت ترفرف وهي توهم أنها تلهو
وتغضي عن حرائق أشعلتها
أو حرائق أضرمت فيها‏.‏
وتنثر فتنة‏, ‏ ووميض شهوات
تلامع فوق موجات تطول‏.‏
بدأت تصوب‏,‏ ثم تطلق في الفضا
عصفور ضحكتها‏,‏ يحوم بغنجه نحوي
أنشد بالخيط الذي سحبته من طيش

وأخرس‏..‏ لا أقول‏..‏ إلي آخر هذه الغزلية البديعة‏,‏ التي ترصد لحظات الافتتان بين الرجل والصبية‏,‏ في موجاتها المتعاقبة وتترجمها الى لغة عاشقة متحركة‏,‏ تصنع موسيقاها وهي توقع علي أوتار غافية في ضمير الشعر المعاصر‏,‏ إذ لم نعد نقرأ مثل هذه الصياغة العذبة لأحلام الشباب‏.‏
وإذا كانت عمليات التخييل والتصوير هي محور تشكيل الشعر فإنها تنجح في تمثيل التجربة الخاصة بقدر ما تكتشف في مستواها العميق القدر المشترك مع تجارب الآخرين‏, ‏ لكن يظل الملمح البارز في هذا المشهد والذي يعبر عنوان القصيدة عنه بدقة لافتة تخاطر هو تراسل إشعاعات الدعوة والفتنة بين الطرفين‏, ‏ فلغة العيون والقلوب لا تصح بدون أطراف علي قدر كبير من توافق الروح وتخاطر الوجدان‏, ‏ وخاصية هذا التشبيب الشامي الطريف أنه يمثل الأنثى وهو يصدر عن الرجل‏, ‏ حيث يمتلك كفاءة التقاط إشاراتها والحفاوة بلغة جسدها والاستجابة الولهى لغواية افتتانها‏.‏

مسرحة الحياة‏:‏

ولأن ممدوح عدوان كاتب مسرحي‏,‏ فإنه يعمد في أشعاره الى تشكيل مشاهد دالة علي تحولات حياته العاطفية عبر رحلة العمر‏.‏ مصورا ما يعتري مشاعر الوجد والشبق واللهفة من تغيرات بفعل المعاشرة والزمن‏.‏ وهذا جانب قلما فطن الشعراء الى تمثيله بحساسية جديدة‏, ‏ يحتاج الى الاعتراف بتقلبات القلوب والقدرة علي تجسيدها بشكل فني رائق‏, ‏ لا يقع في المبالغات المألوفة‏, ‏ بل يمس أهواء الوجود الفعلي بحنو وفطنة‏, ‏ يقول شاعرنا مثلا في قصيدة صباحية‏:‏

نفتح أعيننا‏/‏ كي نغلق أوجهنا‏.‏
ننهض‏/‏يرهقنا أنا موجودان معا‏.‏
مازلنا في البيت معا‏.‏
أمس نسينا فوق سرير الحب‏/‏تغافلنا وتأججنا
كي نسترجع بعض تآلفنا
عبر الجسدين الملتهبين‏.‏
فيعبر كل منا نحو الآخر صحراء‏.‏
شرد الحب وراء سراب الشهوة
حتى نشف وتاها‏.‏ ننسيحمام اليقظة
كي نفتح فوق الرأسين المكدودين
مياه كآبتنا‏.‏

ننسي بعض عناء الأمس
وسعيي المرهق‏/‏ أن أستخرج منك البنت الحلوة
بنتا كنت أراها‏/‏ أو أهواها‏.‏
أجهد قلبي‏/‏كي تقدر عيناي ملاحقة هواها‏.‏
ومكابدتي أن استرجع تلك البنت
لأنساها‏.‏

يقدم لنا الشاعر دراما مصغرة للحياة الزوجية‏, ‏ حيث يتكفل سرير الحب ببعث شيء من توهج النار في رمادها الثقيل‏, ‏ وتصنع الأخيلة المستثارة دورها في تحفيز الحب وتمديد أزمنته‏.‏ لكن الملاحظ أن الشاعر يستخدم أولا ضمير الجمع‏, ‏ كي يعبر عن حال الزوجين معا‏, ‏ فما يحدث له هو بالضرورة عين ما يجري لرفيقته‏, ‏ إذ تتولي كآبة الصراعات اليومية‏, ‏ وإرهاق الليالي المكرورة‏, ‏ إحالة الزمن الى صحراء يضل فيها سراب الحب وتتبدد أحلامه‏.‏ ثم لا يلبث أن يتحدث بصوته المفرد‏, ‏ ليبوح بسعيه المكدود لإبقاء صورة المحبوبة متألقة ناضرة‏, ‏ ليسترجع فيها تلك البنت التي توله بها‏, ‏ غير أن النسيان وهو قانون الوجود لا يلبث حتى يفرض نفسه‏.‏ ومع أن تلك التجربة قدر مشاع بين معظم الناس‏, ‏ فإن تحويلها الى هذا النمط المسرحي‏, ‏ وتشعير حركاتها عبر سلسلة من مفارقات التعبير يجعلها قطعة فنية ممتعة‏, ‏ منذ اللحظة التي يرتبط فيها فتح العينين صباحا بإغلاق الوجه ـ لاحظ ما في هذا المجاز من عمق ودقة ـ ويتوالى الشعور بالنهوض المرهق والاسترجاع الذي يئول الى النسيان ليمثل بحق دراما الوجود اليومي وقدر الصبوات عندما تستحيل الى مجرد ذكريات‏.‏

غمزات السياسة‏:‏

ولأن الإنسان الشامي سياسي بفطرته‏, ‏ مهما تم ترويضه وتطويعه وإخماد فورته‏, ‏ فإن شعراء سوريا ـ ولا ننسي شيخهم الراحل نزار قباني ـ يتورطون دائما بين ناري الجنس والسياسة‏, ‏ معبرين عن وعي الشعب العربي كله بمصارع العشاق ومقاتل السياسيين‏.‏ ومع أن الزمن قد تغير‏,‏ فإن النقد السياسي المر يظل بعدا جوهريا في شعر ممدوح عدوان‏,‏ يقول في قصيدة رامزة‏:‏

ذلك النسر في بيتنا مذهل
جاء حين أضاء الصغار تطلعهم في الظلام
واقتيناه مثل دمي في المنام
كان فخرا‏/‏وصار شعارا‏/‏به نباهي‏/‏نبز الأنام
بغتة رف جنحيه‏/‏ضاق به البيت
حول كل أثاث لدينا حطام‏.‏
صار عبئا ثقيلا علينا‏/‏وفي بيتنا صرت أشكو الزحام‏.‏
سقفنا واطيء‏/‏والفضاءات ما بين جدرانه ضيقة

وهو لا يدخل القفص المقتني لينام‏..‏
فلنقص الذي فاض من ريشه واستطال
ولنخلصه من كبرياء النسور
ص, ‏ يليق بنا أن نربي الحمام‏/‏لأجل السلام

ولا يشك القارئ الفطن في أن البيت هو الوطن‏, ‏ وربما كان الوطن العربي كله الذي ضاق فضاؤه عن حركة النسور التي تجمدت علي صفحة راياته‏, ‏ ومع أن القصيدة شديدة الإتقان في صياغة أمثولة النسر‏, ‏ وما ينبغي من قص ريشه وتقويم مخلبه ومنقاره‏, ‏ وتخليصه من كبرياء لم تعد تتوافق مع السقف الواطيء والبيت الضيق فإن بوسعنا أن نلمح دون صعوبة مطابقة هذه الأوصاف لمشاعر العرب‏, ‏ وربما كل الدول الصغرى في الآونة الراهنة بقلة حيلتها وهوانها علي العالم في نظامه الطاغي الجديد‏.‏
واللافت في هذه الأمثولة أن الشاعر لا يلقي التبعة علي أحد, ‏‏ لكنه يلاحظ بدقة تحولات التاريخ وفعل الزمن‏, ‏ ويكاد يستسلم للمصير الذي يساق إليه الجميع عندما يتخذون الحمام بدلا من النسور إيثارا للسلامة وارتياحا للسلام‏.‏ ومع أن رمز النسر يحتمل تأويلات عدة‏,‏ إذ يمكن للقاريء أن يمر به علي طيف واسع مع الدلالات المقابلة‏,‏ ابتداء من ضمير الفرد الذي أخذ يؤرقه الى وعي الجماعة بمنظومة القيم التي لم تعد ملائمة للعصر‏,‏ فإن التفسير السياسي يظل أقرب الى طبيعة المقطوعة بحذرها ودهائها وكنايتها التي لا تمنع من إرادة المعني الأصلي‏,‏ كما يقول البلاغيون‏,‏ لكن هذا المعني الحرفي يظل غير مقصود بطبيعة الحال‏,‏ وتظل القصيدة مفتوحة علي الدلالات الشعرية الغنية بخيالها الخصب وإيقاعها الجميل وتمثيلها المدهش لروح الإنسان العربي في العصر الحديث‏.‏

الأهرام - 30 ديسمبر 2002

***

ممدوح عدوان يكتب عن الشاعر الانفجاري:

هكذا يحشو الماغوط مسدسه بالدموع


بمناسبة صدور مختارات شعرية للشاعر السوري الكبير محمد الماغوط ضمن العدد الأخير من "كتاب إلى جريدة" أقامت مؤسسة تشرين السورية حفل تكريم للشاعر بحضور وزير الإعلام عدنان عمران. "الأهرام العربي" تنشر نص الشهادة التي ألقاها الشاعر ممدوح عدوان بهذه المناسبة.
حين أردت أن أكتب هذه الكلمة لتقديم محمد الماغوط لم أحتج إلى إعادة قراءته. اكتشفت أنه موجود في ضميري الذي أخاف منه، تسربت كلمات له كانت مروعة من وجداني فذكرتني بحقي الذي منحني إياه منذ طفولتي في الاعتراف بالخوف والذل والكبت.
يم يظهر محمد الماغوط صوتاً في المشهد الشعري العربي في الخمسينيات، بل انفجر فيه قنبلة فراغية، ومنذ أصواته الأولى كان شاعراً فاجراً ومنفجراً.
هذا الرجل الذي لم يهتم بوزن ولا قافية ولا آداب ولا شعائر سياسية، رأى نفسه مشرداً وجائعاً وخائفاً فعرف ببداهة الإنسان الأول أن العالم متآمر عليه، ولذلك فإن مؤامرة أخرى في هذه الدنيا الخادعة لم تكن تصلح لإلهائه عن مجابهة تلك المؤامرة الكونية.
ولأنه لا يخجل من دموعه ومن هزائمه ومن الاعتراف بإذلال العالم له، فقد علمنا أن الاعتراف بهذا الذل هو النصر الوحيد الذي بقي لأناس مثلنا في عالم مثل هذا العالم.
ولذلك لم أحس يوماً أنني أقرأ الماغوط، بل كنت أشعر دائماً أنه يعلمني آداب الانفجار الوقح الذي لا يقيم اعتباراً لشيء. وكلما كنت أقرأ الماغوط كنت أحس أن هذا الرجل يتغلغل إلى أعماق روحي ليجبرني على الاعتراف بالوضاعة التي أوصلني إليها هذا العالم الذي أعيش فيه.
هو ذا شخص وحيد في الدنيا يعلن أنه يحشو مسدسه بالدموع. وينتهي إلى أن يأكل النساء بالملاعق، ولا يرى فرصة للعنان إلا أن يضع ملاءة على شارة مرور ليناديها: يا أمي، ويأمر الغيوم بالانصراف لأن أرصفة الوطن لم تعد لائقة حتى بالوحول.
وفيما نحن نرى التبجج بالقوة الكاذبة، هو ذا شخص يعلمنا أن نحب ضعفنا وأمام الانتصارات الإعلامية الخلبية، يعلمنا أن نعتز بهزائمنا، وأما المراحل الوهمية يعلمنا أننا في حاجة إلى البكاء، وأمام الانتماءات الضيقة يعلمنا أننا نملك الحق في أن نطالب أوطاننا بأن تعيد لنا الأغاني والدوع وكل فاصلة في أناشيد حبنا لهذه الأوطان قبل أن تطردنا من جحيمها.
ذات يوم كتب صديقي الشاعر علي كنعان: "سيكفي جبهة التاريخ من أمجادنا أن هُزمنا"، وأقول اليوم باعتزاز: سيكفي "حماسة" العرب الشعرية المعاصرة أن تحتويى على تلك الهزائم الوجدانية التي اعترف بها محمد الماغوط والتي تبدأ من هزائم الجبهات إلى عزائم الروح، ومن خسارة الأرض إلى خسارة الكرامة، ومن الفجيعة بالحكام إلى الفجيعة بالأهل، ومن الحاجة إلى اللقمة إلى الحاجة للدفء، ومن الحاجة اليتيمة للأم إلى الحاجة الشيقة للمرأة التي نتفرز بين نهديها كالصئبان. لقد هجا محمد الماغوط وطنه وهو يمزق ملابسه كأية أرملة، أو أن ثاكلة مفجوعة وأعلن عن رغبته في خيانة وطنه. ولكنني كنت أفهم المجاز الذي يشويه غضبه على ناره الهادئة، ولم أصدق يوماً إلا وصفه للرجل المائل الذي يقصد به نفسه، والذي يتشرد متأبطاً كتبه ووطنه.
محمد الماغوط لا يُقدم في أمسية تكريمية، ولا يقدم بكتابه المطبوع، بل يحق لمن يتورط في الإعلان عن ظهور شعره أن يطلق صفارة الإنذار، فها هنا غارة شعرية على ضمائرنا وعلى كل ما تعودناه من كذب ومكابرة وادعاء، إنني لا أقدم لكم شاعراً بل أطلق بينكم قنبلة انتُزع صمام أمانها.
إذا قرأ محمد الماغوط شعراً، أو إذا تورطتم باقتناء ديوان له، فانزلوا إلى الملاجئ الأخلاقية التي تعودتموها، البسوا الكمامات الواقية من الصدق الجارح وتسلحوا بالمكيفات الإعلامية التي تعودتم على تهدئتها وتخديرها.
ولكنني أقول لكم إنها لن تنفعكم، ما من ملجأ يحميكم من هذا الاعتراف الشعري الجامع بأوبئتكم، طالما أنكم قد تورطتم بسماعه أو قراءته.
وأرجو أن أحذركم إلى أنكم قد ترونه الآن رجلاً ضعيفاً يستند عكاز، هذا ليس رجلاً تقدم به العمر، بل هو رجل تقادمت فيه الهموم والأحزان والفجائع وتخمرت في أعماقه الدموع الحبيسة، وتعتقت في روحه الآهات التي لم يسمعها أحد.
وأحذركم أيضاً أن القنبلة التي يبدو غلافها صدئاً هي انفجاراته بالمقدار الذي كانت عليه دائماً.
وهو أيضاً تلك المرأة التي أهملناها قليلاً، ويكفي أن نفتح آذاننا وضمائرنا ليتساقط عنها الغبار ونرى أنفسنا فيها على حقيقتها.
لقد استطاع محمد الماغوط أن يحرجنا ويجرحنا بشعره لأنه ظل قادراً على الاحتفاظ بالطفل المقهور الذي كأنه، طفل لا يندهش من الجمال ويفرح به فقط، بل يشمئز من القبح ويبكي من الظلم.
لقد صرخ منذ البداية: ألا ترون كم هو العالم فظيع وعفن ونتن كم هو غير لائق بمعيشة البشر؟ كم يثير من القهر والغضب والبكاء؟
احتقان كهذا لا يعرف كيف يقلم أظافره ليليق بأجواء الشرف العربي، ولا كيف يلبس الياقة والقفاز ليصلح لصالونات الأناقة الثقافية، فانفلت في الأجواء الأدبية حافياً مشعثاً رثاً كما لو أنه ما يزال يلعب في وحل الحارة، ولم يهتم لملابسه المتسخة وقدميه الموحلتين، لم يهتم من نفور أبناء الصالونات أو الداعين أو استتباب الأمن في استعراضات الأناقة الفعلية والبروتوكوليا: ببساطة قال لهم: لم أجلب الوحل من بيت أبي، ولم أتسخ في حضن أمي، ولم يكن البكاء هوايتي، ولا الجوع رياضة أمارسها. عالمكم وسخ وموحل ولعين وموحش، ولست معنياً بتنظيف نفسي أو حتى أسناني لكي أساعدكم على التهرب من مسؤولياتكم عن وسخ عالمكم.
معاناة اليتم والغربة والجوع والتشرد والكبت، وحب الوطن والنساء والحرية والتسكع والتدخين والشراء، والمجاهرة بالرأي في الكتابة وتعرية العالم الذي يحيط به كل صباح. . هذه هي حدود ملكوت محمد الماغوط وهي حدود عذاباته ذاتها.
لم يكتب من قارءته أو تأملاته بل كتب من زعيق بطنه الخاوية وارتجاف أعصابه الخائفة.
وهكذا راح يكتب دون أن يهتم بتسمية ما يكتبه، حتى أنه ذات يوم خاف من أن يكون الذين يسمون كتابته شعراً يقصدون السخرية منه والضحك عليه، فشتمهم في مجلة أدبية رائجة، ولكنه استمر ------ أظافره المتسخة على الحيطان ويكتب بهذه الأظافر، فيثير الصرير والغبار لترتجف منه العظام وترمد العيون.
وليصبح واحداً من أهم الشعراء العرب، شعر؟ فليكن، يقول الماغوط، ابحثوا أنتم إذاً عن قوانين لما أكتب ولا تطبقوا على قوانين كتابتكم.
إن صدور مجموعته الكاملة، أو صدور هذه المختارات في "كتاب في جريدة" حدث مهيب، وإرهاق هادئ إذ من سيطيق أن يغامر بقراءة عذابات عمر الماغوط كلها دفعة واحدة؟ كم تستغرق منك قراءة المجموعة ؟ يوماً؟ شهراً؟ سنة؟ تصور أنك ستتحمل في مدة قصيرة كهذه عذابات رجل كان يتألم عن أمة كاملة وطوال جيل كامل، وقد ظلت روحه تئن تحت هذه العذابات طوال هذا العمر المرير. . حتى نخخت قلبه وجسده.
ونحن إذ نختار أن نقرأ شعره فإننا نجيء إلى مخبر التحليل بأنفسنا، والشاعر المخبري المحلل سيقدم لنا تقريره ليقول لنا إننا مصابون بفقدان المناعة الأخلاقية والوجدانية والسياسية والوطنية، وإننا مصابون بالشلل الوطني وبسرطان الجبن والتخلي والتخاذل.
اقرأ دفعة واحدة إذا رغبت، ولكن احذر القرحة . . والرقابة فهذا من الشعر النادر الذي يحمل قارئه مسؤولية القراءة بمقدار ما حملها كاتبها حين كتب.
ولكن الماغوط، ولأنه مؤدب بآداب الشعر المتصعلك العظيم المقهور الرجيم المضمخ بالنزيف، سيوهمنا أنه لا يتكلم إلا عن نفسه وعن آلامه.
ولكن دققوا قليلاً، وستكتشفون أنه يحكي عنا جميعاً. . .

عن الأهرام العربي

***

ممدوح عدوان ومسرحة الجوع والتاريخ

ناصر ونوس

في عام 1995 كتب ممدوح عدوان نصاً مسرحياً بعنوان "سفر برلك ـ أيام الجوع" وذلك ضمن مشروع كتابي يتناول مرحلة "السفر برلك" المرحلة الأشد قسوة في تاريخ سوريا الحديث، وكان من المفترض ان يتمخض هذا المشروع عن سلسلة أعمال مسرحية ومسلسل تلفزيوني ورواية، كما قال الكاتب آنذاك، لكن ما ظهر منه إلى الآن هو نص مسرحي آخر بعنوان "الغول" ومشروع ممدوح عدوان في "سفر برلك" يندرج ضمن المبدأ الذي يقول باستعادة الماضي من أجل إضاءة الحاضر، هنا سنتحدث عن "أيام الجوع" الذي أتى في سياق ما نسميه بـ "مسرحة الجوع والتاريخ".
يتحدث الكاتب في "أيام الجوع" عن المجاعة التي مرت بها منطقة بلاد الشام في مرحلة الحرب العالمية الأولى في ظل الاحتلال العثماني، وهي أهم المراحل التي مرت بها هذه المنطقة وشكلت ملامح تاريخها المعاصر، من حكم جمال باشا إلى تراجع الدولة العثمانية أمام غزو الاستعمار الأوروبي، ومن ثورة الشريف حسين إلى وعد بلفور. من وقائع هذه المرحلة ينسج الكاتب مسرحيته التي تبدأ حكايتها تاريخيا بإعلان السلطان العثماني الدخول في الحرب "المقدسة" لرفع راية المسلمين" ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا، فيعلن التعبئة العامة التي تشمل كل من يستطيع حمل السلاح من سن العشرين إلى الخمسين، إضافة إلى جمع المؤمن والمواشي والدواب، يذهب الرجال مرغمين، تاركين نساءهم وأولادهم وأراضيهم تحت رحمة الجوع والفقر وسطوة من بيده المال والسلطان، وعندما تنتهي الحرب بهزيمة السلطان وجيشه يعود من يعود ليجد زوجته سبيت وأرضه بيعت، فمنهم من ينتقم بقتل زوجته ومنهم من يتفهم الموقف ويواصل حياته مع زوجته وأولاده.
تبسط لنا المسرحية تلك المرحلة من خلال بنية ملحمية تتراصف فيها اللوحات ذات المضامين الاجتماعية والتاريخية، وتتناثر فيها مفردات مثل: الجوع، الفقر، البؤس، القهر، السلطان عبدالحميد، جمال باشا، جماعة الاتحاد والترقي، 1912، 1914، الباب العالي، جيش الشريف حسين، حرب الترعة، وغيرها.. مرحلة لخصت سماتها الاجتماعية إحدى الشخصيات عندما تتحدث عن الموت جوعاً وجماعياً، تقول (والحوار يدور بالعامية): "يا حسرتي.. أول سنة كنا نكفن.. تاني سنة صرنا نلف بالملاحف ونقبر.. وثالث سنة صار ابن آدم ينقبر بتيابه.. رابع سنة اللي أبو زيد خاله كان يلتقي عليه شرتوحة.. ما ضل على المعالف غير كل تالف.. صارت العالم تنزت فوق بعضها، وتنطمر بس منشان ما تطلع ريحتها..".
والمسرحية تعرض لنا جملة الأسباب التي أوصلت الناس إلى هذا الوضع المأساوي، وذلك استنادا إلى الذاكرة الشعبية التي تشكل المصدر الأساسي لمسرحية ممدوح عدوان هذه.
والمؤلف يذكر بعض المصادر، مثل قصيدة "الجوع" للشيخ صالح المحمد الابراهيم (ريف مصياف). وقصيدة "السفر" للشيخ سلامة علي متوج (ريف اللاذقية). ومذكرات محمد مختار الدروبي (حمص)، وهناك مقاطع كثيرة من القصيدتين المذكورتين منثورة في ثنايا النص الذي يحفل بالحكايا والقصص والأمثال الشعبية التي مازال الكثير منها متداولاً حتى الآن، ويحمل مغزى حيوياً وراهناً.
تتوزع شخصيات المسرحية، عدا الراوي والمغني، إلى فئتين: الفئة الأولى تمثل عامة الشعب أو ما يمكن تسميته بـ "قاع المجتمع"، وقد تجسدت هذه الفئة بكل من: حميدة وزوجها عباس، جفلة وزوجها صالح، ريما وخطيبها غانم. إضافة إلى صطوف والبدوي ورجل حوران وعامر. الفئة الثانية تمثل المختار، التاجر أبو إبراهيم، الضابط العثماني، البيك، الشاويش، المقاطعجي، التاجر الحلبي، الشيخ عبدالرحمن.
وهنا لا يتسع المجال للوقوف عند جميع الشخصيات، لذلك سنتوقف عند شخصيات الفئة الأولى ونركز على "صطوف" لما تحمله من أبعاد اجتماعية وفنية، ففي هذه الفئة نجد "حميدة" تعيش صراعاً داخلياً، فهي إما ان تموت جوعاً هي وأولادها، وإما ان تبيع جسدها لتطعم أولادها وأولاد جيرانها وتحمي بقية النساء من سطوة العسكر، فتختار الحل الثاني، خصوصا وأنها أكثر النساء إحساسا بالحرمان بفعل غياب الزوج، لكنها تدفع الثمن غاليا عندما يعود الزوج عباس ويراها حاملاً فيقلتها بخنجره الذي كان يحمله لقتل "أعداء المسلمين".
أما "جفلة" فتضطر لأن تختبر الفطر بأحد أولادها لتعرف إن كان مسموماً أم لا، لأنها لو جربته بنفسها وماتت لكان الأولاد أكلوا من دون ان يعلموا انه مسموم، وبالتالي ماتوا أيضاً، لكن لحسن الحظ لم يكن الفطر مسموماً. أما ريما التي تنتظر عودة غانم فلم تعد تستحمل مضايقات رجال الشرطة، ومن ثم "أبو إبراهيم" فتقرر الرحيل، بينما غانم يحاول الهرب من الحرب ورفض مغريات "زلفا" ليعود للقاء ريما. لكن مع عودته يقتل خطأ عند مدخل الضيعة برصاص عباس.. عباس الذي كان قد حمله في الصحراء على كتفه ثلاثة أيام.
لعل أهم شخصية في العرض كله هي شخصية "صطوف" فهو منبع الكوميديا في النص، وهو يوازي المهرج، أو الخادم، أو البهلول، في المسرح الكلاسيكي، عند شكسبير، وكوميديا ديلارتي وموليير وجولدوني، والذي يحمل دائما صفات الذكاء والوعي والنباهة، والحكمة المستقاة من الأمثال الشعبية التي يحفظها ويرددها للتعليق على المواقف المحرجة والنفاذ من المآزق التي يتعرض لها.
يعشق جفلة رغم أنها متزوجة من ابن عمه، وطوال الوقت يغني لها: "جفلة يا أم الزلف، جفلة يا عيني. لا تدعسي عالغمر، تحت الغمر حية". لكنه، وهو الذي يدَّعي الجنون بقصد الهرب من التعبئة العامة، يذهب إلى الشاويش ويطلب منه ان يأخذه إلى العسكر، وهنا يكون قد أوهم الشاويش مرة أخرى انه مجنون، فالمجنون وحده هو الذي يسلم نفسه إلى العسكر، وبالتالي أقنع الشاويش تماما انه مجنون.
في أحد المشاهد يجلس متنكراً في ثياب امرأة وسط نساء الضيعة اللواتي يبحثن عن "السليق" في الوادي، وعندما يأتي الدرك ليتحرشوا بالنساء يهرع نحوهم ويشاركهم أكل اللحم وشرق العرق ويرقص ويغني معهم، وعندما يكتشفوا انه رجل تأتي النسوة وتشرح للدرك انه مجنون.
هذا الموقف الذي ينسجه الكاتب لصطوف يتحلى بوعي سياسي فطري يتكشف من خلال حديثه الذي يتخيله مع جمال باشا، وهو حديث يتخذ شكل الأسئلة التي تصلح لأن تكون أسئلة المواطن العربي لحاكمه، منها: "ليش بدك تقتلنا نص قتل، وتجبرنا نحبك، ونحنا عم نموت، وتجبرنا نصدق إنك عم تدافع عنا وأنت عم تقتلنا؟ (...) معقولة فيه حاكم يرفع رأسه وهوى عم يحكم ناس كلهم موطايين روسهم؟" إنها أسئلة محرقة وراهنة. أما وعيه الاجتماعي فنتلمسه في حواره مع جفلة حول الحب والزواج، يقول: هلق عرفت شو عملت فينا سنين الجوع، وشو عملوا العصمليي والبكوات والخزانة. خلونا ما نعرف نحب، خلوا أول ضحكة بين تنين تفكر بالجازة، وأول ليلة بعد العرس تفكر بالخلفة، بتعرفوا شو يعني، يعني ما عادنا بشر، نحنا بقر، بقرة وتور، بتضل رقابهم تحت الكدانة، طول عمرهم وهنن ينحوا، لا هوى حاسس فيها ولا هيي حاسة فيه، ومن أول لحظة بيحس فيها بينط عليها من شان تجبلو العجل اللي بدو يحط رأسه تحت الكدانة متلهم..". إن هذا الوعي الذي يجسده صطوف هو في نهاية الأمر وعي الكاتب نفسه، وعيه كمثقف يعيش وسط واقع مليء بالقهر والقمع والتخلف.
بعد حديثه إلى جفلة يستفيق صطوف من غفلته ليجد ان ادعاءه الجنون، وحالة العطالة التي يعيشها، سيقودانه ليصبح "دابة" في نهاية المطاف، حسب تعبيره هو، فيسلم نفسه مرة ثانية إلى الشاويش ليأخذه إلى العسكر، لكن الشاويش يطرده للمرة الثانية لأنه يعتبره مجنوناً.
وعندما ينهزم الأتراك في الحرب ويرحلون عن الوطن ليدخل مكانهم الإنجليز والفرنسيون يصطف "البيك" مع الأتراك آملا بعودتهم وإعطائهم له "الباشوية" بينما التاجر أبو إبراهيم يصطف مع الإنجليز أملاً بأن يجعلوا منه تاجراً كبيراً، عندها نجد صطوف وحده يعي هذا الوضع فيفضح الاثنين أمام الجميع.
ان "سفر برلك ـ أيام الجوع" نص مسرحي يضيء مرحلة هامة من تاريخنا الحديث، مرحلة مغيبة عن وعي أجيالنا، لا تزال لها امتدادات في واقعنا الراهن.

****

ممدوح عدوان:

التاريخ لا يتوقف عند المزاج الشعبي

بيروت - رويترز

واجه الكاتب والشاعر ممدوح عدوان من خلال مسلسل تليفزيوني كتب نصه المشكلة التي واجهها حكواتي أيام زمان عندما جعل بطلا قالت روايات انه عنترة بن شداد يقع في الأسر‚
ويصل القارىء مع عدوان إلى ان الماضي وأبطاله حتى الذين يكادون يكونون شبه وهميين لا يزالون فاعلين في حاضرنا بكل ما يحمل ذلك من مدلولات سلبية أو ايجابية‚
وقد واجه الأديب السوري مشكلة لا تختلف كثيرا عن ذلك عندما كتب سيرة بطل آخر هو الزير سالم من أجل مسلسل تليفزيوني ملتزما الموضوعية فوقع بين ما وصفه بأنه دفاع الناس عن صورة البطل النمطية والحقيقة التاريخية‚ كما انه فضلا عن ذلك اتهم بتشويه صورة أبطال الأمة وإثارة النعرات القبلية‚
تقول الروايات الشعبية ان حكواتيا ختم حصة إحدى لياليه من سرد سيرة عنترة بإدخال البطل الشعبي إلى سجن أعدائه أسيرا ثم صمت صمت شهرزاد عندما أدركها صوت ديك الصباح‚
ويفاجأ الحكواتي بأحد القبضايات ممن كانوا يستمعون إليه في المقهى الشعبي يقرع بابه قبيل الفجر ويأمره مهددا بالويل بأن يخرج عنترة من الأسر فهو لا يستطيع النوم وبطله أسير الأعداء‚
وإذا كان احد القبضايات قد ثار على الحكواتي قديما من اجل كرامة عنترة فقبضايات هذه الأيام الذين حملوا على عدوان كانوا كما يقول أناسا عاديين ورجال أعلام ومثقفين عاشوا مع نتف من ذكريات عن السيرة ولم يتحققوا من الحدث التاريخي‚ إلا أنهم ربما كانوا اشد إيلاما من القبضاي القديم‚
صدر الكتاب عن دار قدمس للنشر والتوزيع بعنوان "الزير سالم‚‚ البطل بين السيرة والتاريخ " وجاء في 126 صفحة من القطع الصغير‚ وفيه يتناول عدوان مسألة مهمة تجسدها مشكلته مع قبضايات عصرنا‚
ويروي الكاتب كيف ثار جدل حول مسلسل "الزير سالم" الذي كتب نصه فيقول ان النهاية التي انتهى إليها الزير سالم في المسلسل كانت من أكثر الموضوعات إثارة للجدل إذ ان السيرة الشعبية التي تتناول احد أيام العرب فيما عرف باسم "حرب البسوس" التي دارت بين بكر وتغلب وتحول بعدها اسم البسوس إلى رمز للشؤم تختلف عن الواقع التاريخي‚
وأضاف ان هذه السيرة تنتهي عند انتصار الزير وتمكن الجرو من قتل خاله جساس وإذلال بني بكر "ولكن التاريخ لا يتوقف عند المزاج الشعبي الذي تتفاعل معه السيرة"‚ وقال معلقا على الجدل الذي أثاره المسلسل ان عنتر والزير وأبو زيد الهلالي هم أكثر الشخصيات البطولية ترددا على الالسنة حتى في الأمثال والأغاني‚
لكنه أضاف "إنني واثق من ان سيرة الزير لم تعد تقرأ في المقاهي منذ نصف قرن على الأقل‚ كما ان نسبة من قرأها من الأجيال الجديدة ضعيفة جدا‚ التقط البعض الاسم من الثقافة العامة الشائعة على الألسن والبعض الآخر قرأ شيئا عنها في الكتيبات التي تنشر للأطفال أو اليافعين عن أبطال التاريخ والسير‚ ولا شك في ان هناك من قرأ عن حرب البسوس في كتب التراث ولعل نسبة قليلة جدا قرأت السيرة في كتاب‚ لكن في الجدل الذي أثير في الصحف لم يبق احد إلا ادعى انه سمع القصة في المقهى أو سمعها أبوه أو جده"‚
وأشار إلى ان هناك فضلا عن ذلك جهلا يتمثل بما ورد في هذا المجال في مقال لكاتبة سورية في صحيفة عربية خلطت فيه بين سيرة بني هلال وحرب البسوس على ما بينهما من بعد في الزمان والمكان‚ ودعا إلى "مراجعة توثيقية يجب ان يقوم بها المثقف الجاد بوصفه باحثا أو مستفيدا من التراث لعمل إبداعي"‚ ونبه إلى ان هناك في السيرة الشعبية كما تروى كثيرا من الإضافات غير المعقولة ومن ذلك ان بعضها مثلا متأخر زمنيا عن تاريخ الأحداث الحقيقية في السيرة‚
ووصف عدوان هذا "بالادعاء المعرفي" مضيفا "ان المتقولين أرادوا أمورا ليست موجودة في كتب التراث ولا في صيغ السيرة المطبوعة بل انكروا وتجاهلوا أحداثا وشخصيات وردت في السيرة ذاتها وفي الكتب والمراجع وبعضها ارتبطت فيه قصائد من ديوان الزير سالم نفسه"‚ وقال ان البعض ذهب إلى حد إنكار معركة "تحلاق الذمم" التي أذل فيها الزير سالم واعتزل الحرب بعدها‚
ولعل هذه الضغوط كما يقول عدوان هي التي أجبرت المخرج والممثل بطل المسلسل والمنتج أيضا على "عدم تصوير الموقف المذل إلى نهايته كما ورد في التاريخ وكما أوردته في المسلسل وفيه ان الحارث بن عباد أذل الزير الأسير وجز ناصيته قبل ان يطلق سراحه"‚ وقال "لست ادري ماذا كان يمكن ان يكون عليه رد الفعل لو ان المشهد صور كما كتب"‚ واستخلص عدوان ان "الناس يدافعون عن الصورة النمطية التي في أذهانهم عن البطل والحقيقة التاريخية تخرب هذه الصورة وتشوهها‚ ولذلك فان إنكار هذه الحقيقة أسهل عليهم من تقبلها‚ ويأتي الإنكار إما من خلال اتهامنا بالتزوير أو بالتحريف من اجل الإسقاط أو بالجهل بالتاريخ أو بالسيرة ناهيك عن الاتهام بمعاداة الأمة وتشويه صورة أبطالها"‚
ومضى قائلا "هذه الحساسية التي تحيط بأبطال التاريخ هي العقبة الأولى التي تواجه الباحث الذي يريد ان يتقصى حقيقة الإحداث والشخصيات‚ فمن غير المسموح به ان يتم التشكيك في حدث متفق على وقوعه أو في شخصية متفق على تصنيفها السلبي أو الايجابي"‚

الوطن القطرية - Mar-31-2003

****

ممدوح عدوان.. والجري وراء قوس قزح

بيروت - رويترز

في تكريم للشاعر محمد الماغوط أصدر الشاعر والروائي ممدوح عدوان مسرحية جاءت أشبه بشراكة بين الاثنين ووصفها بأنها تقوم على التناص و"التلاص" أي السطو على أشعار الماغوط. الفكرة الأساسية المستحيلة التنفيذ في المسرحية تذكر بما يقال للأطفال من ان المرور تحت قوس قزح يحول الصبي إلى بنت والبنت إلى صبي.. تقوم على القول باستحالة تغيير الطبيعة البشرية مهما حاول الحاكم المستبد ذلك باسم المجد والوطن وعلى ان محاولة غرس قيم وأفكار لا تنسجم مع الطبيعة البشرية التائقة دائما إلى الحب والعدل والكلمة الحلوة أمر ينتج عن قصر نظر. فالطبيعة تنتصر دائما.
ويشبه ذلك ما كان يجري من وضع أقدام النساء الصينيات خلال زمن غابر في قوالب حديدية كي تبقى وفق مقاييس أرستقراطية الصين صغيرة جميلة.. فلم تكن القوالب لتمنع النمو الذي يستمر لكنها كانت تشوهه وتحوله إلى مفجع.
حملت المسرحية عنوانا هو "الفارسة والشاعر" وتحت ذلك كتب "تكريما لمحمد الماغوط". وقد صدرت في 135 صفحة عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت.
روى عدوان في المقدمة ان محاولات جرت في مديرية المسارح في دمشق لإعادة تقديم مسرحية الماغوط "العصفور الأحدب" لكن بدا ان ذلك صعب دون القضاء على العنصر الشعري الغالب في تلك "القصيدة العظيمة".
وقرر عدوان كتابة نص مسرحي جديد لكن لم يكن من السهل عليه التخلص من سيطرة نص الماغوط. تذكر فكرة خطرت له سابقا عن شخص يوصله جبروته إلى ان يسعى إلى تغيير ابنته إلى رجل. وكان الماغوط في تلك الفترة قد دخل في حالة من الاكتئاب والمرض ولم يعد يغادر بيته فتقرر تكريم الماغوط "وإدخال شيء من السرور" إلى قلب الشاعر الكبير.
أضاف ان العمل تطلب منه ان يدخل في شخصية الشاعر الماغوط من خلال تقمص أسلوبه في الكتابة أي أنني أردت تبني أسلوب الماغوط دون ان أتخلى عن أسلوبي. انه الشيء الذي يسميه النقاد الجدد التناص. ولكنني أردت ان أضيف كلمة "التلاص" أيضا. فانا قد سطوت فعلا على أشعار الماغوط وأدخلتها في النص.
شخصية الشاعر في المسرحية تقوم على شخصية الماغوط.. وكلام الشاعرة سنية صالح زوجة الماغوط "مطعم بشيء" من قصائدها.
في الكلام عن الزمان والمكان في المسرحية يقول عدوان كل زمان.. منذ اكتشاف النار حتى ما بعد تنسيق الكومبيوتر. المكان.. حيث توجد غابة وقصر وقرية فقيرة.. وإمكانية الحديث عن وجود سجن سابق. الأميرة التي كلف الملك ضابطا تحويلها إلى مقاتل قوي تنبت له لحية تنجح في فنون القتال والسعي إلى المجد.. والشعب الفقير يئن ويشكو.
تسمع الأميرة غناء الشاعر الشريد في الغابة حيث يسعى إلى مكان ينام فيه وطعام يعود به إلى عائلته الفقيرة. انه كلام مختلف عن نمط الكلام "العظيم" المعتمد في المملكة. تتحرك مشاعرها لسماع الشاعر يصف نفسه بأنه "احد المناديل التي تلتقط دموع العالم" فتقول مخاطبة التابع المرافق لها انه "كلام يبكي.. كلام فيه بكاء لأناس لا يبكون". وأسعدها ان الشاعر لم ير فيها بطلا محاربا بل "زهرة برية أو يمامة".
يغضب الملك لان ابنته أخذت تكتشف الإنسان الأنثى في نفسها "بدأت تكتشف جسدها" ويسأل عمن أيقظ عواطفها فيقال له انه الشاعر. ويقرر الملك وضع حزام حديدي حول صدر الأميرة ليوقف نمو ثدييها.
يمثل الشاعر أمام الملك الذي يوبخه لعدم رغبته في القتال من اجل الوطن قائلا "من يريد ان يأكل من الوطن عليه ان يدافع عنه" ويرد الشاعر مخاطبا الأميرة "لا يا أميرتي. أنا من الذين يأكلهم الوطن فلا يبقي فيهم قدرة حتى على الموت من اجله".
ويكتشف الشاعر ان الملك كان صديقه ورفيقه أيام السجن وكان رقيقا لطيفا يبكيه الظلم لكنه الآن لا يريد ان يعرف احد عنه انه كان سجينا أو فقيرا ويدعي ان الدم الأزرق يجري في عروقي قبل ان أتكون في بطن أمي. كل ما يطلبه الشاعر منه الآن ان يقول له "وداعا أيها الصديق القديم" لكن لا وقت لدى الملك له.
الأميرة القوية البريئة تتوجه إلى الحرب وتنتصر. ولكثرة ما لقنت عن بطولة والدها وتقاليد الحرب في المملكة تتوهم ان الاغتصاب من متطلبات البطولة فتفعل ذلك مع قائد العدو وتأتي به أسيرا مع رجال العدو ونسائهم لتوزعهم على الشعب للغاية نفسها. لقد نمت وخرجت عن القالب الحديدي.
يغضب الملك من التابع الذي يقول له: لم افعل شيئا إلا ما أمرتني به يا مولاي. أنت طلبت ان نصنع منها رجلا. والرجل هكذا. يقاتل وينتصر ويغتصب. ويقول الملك للشاعر بحقد: أرى نفسي الآن نمرا جريحا في الغابة يجرؤ ثعلب ماكر مثلك على مجادلته. يرد الشاعر عليه قائلا: مثلما توهمت انك تستطيع ان تجعل الناس ينسون بطونهم وآباءهم.
في المسرحية المنسوجة بالسخرية والألم والضحكات المرة وعند النهاية يقول الشاعر للملك بكلمات من الماغوط الشجرة قصيرة والظل طويل. انه الغروب يا مولاي.

المصدر: الدستور الأردنية

****

تحولات المجتمع في مونودراما ممدوح عدوان

ناصر ونوس

يعتبر ممدوح عدوان أول من كتب المونودراما في سوريا, وأول نص كتبه من هذا النوع كان بعنوان (حال الدنيا) وتبعه بـ (القيامة) ثم (الزبال), وذلك في النصف الثاني من الثمانينيات.
وهي نصوص يعالج فيها الكاتب جملة من القضايا الاجتماعية الراهنة, مثل الفقر والفساد. وكان الممثل زيناتي قدسية قد قام تباعا بإخراج وتمثيل هذه النصوص الثلاثة. هنا سنكتفي بالحديث عن الزبال كنموذج لهذا النوع من المسرح.
تتناول مونودراما الزبال حياة الزبال (أبو عدنان) في علاقاته مع مهنته ومع أهالي الحارة التي يعمل بها. انه الشخصية المحورية في النص, رجل بائس في الستين من عمره, يعمل في هذه الحارة منذ ثلاثين عاما, سبق وان طرد منها لعام واحد ثم عاد إليها, وهو يعرف أسرارها من خلال زبالتها, يعيش في صراع دائم مع ابنته وكنته, وهو صراع أجيال في جوهره, فهو يرفض سلوكهما وطريقة عيشهما وعلاقتهما مع الآخرين ومع بعضهما البعض داخل البيت.
وأبو عدنان يكشف لنا واقع أهالي الحارة بكل أبعاده. فأبو فهيم مثلا كان يعمل مناديا في كراج سرفيس المزة ثم صار مناديا في كراج بيروت, وهنا بدأ يعمل بالتهريب مما جعل أوضاعه المعيشية تتحسن.
لكن لديه ولد مصاب بالربو. أما (ام عبدالرحيم) فهي مصابة بالروماتيزم نتيجة برودة المنزل الذي تعيش فيه, وهي تتظاهر بالغنى رغم فقرها. وهناك (ام حامد) امرأة لا وراءها ولا قدامها كما يقول عنها أبو عدنان, تنزل إلى سوق الخضار فتجمع الخضروات المهترئة التي يرميها الباعة وتحضرها إلى البيت وتخرج منها بطيخة. أما الفتاة لميس فهي تعيش مع والدتها في الحارة, في احد الأيام يكتشف أبو عدنان في زبالتها علبة حبوب منع الحمل مما يصيبه بصدمة يعبر عنها بالقول: (واحدة غير متزوجة لماذا تستخدم حبوب منع الحمل؟) ولميس فتاة شابة تريد ان تعيش مثل غيرها من الفتيات, لذلك لا تجد حلا, وهي الفتاة الفقيرة.
إلا في الخروج مع الشباب الذين ينفقون عليها, وهذا ما يثير غضب أهالي الحارة ومنهم صاحب الفرن الذي يقول لها عندما يجدها برفقة شاب جديد: (أرى انك غيرت الموضة؟) لكن لميس لها إجابتها ومنطقها الذي تدافع به عن نفسها, حيث تجيبه: (لماذا لم تتأثر الحارة ولم تسمع عندما كنت أجوع مع أمي ونقضي الشتاء دون تدفئة؟) عندها يتطاير الشرر من عيني الفران منذراً بالشر فتباغته بالقول: (قبل ان تتورط وتطول لسانك اعرف من هذا الذي معي, فهو يستطيع ان يخرب بيتك) ومن يومها لم يستطع احد ان يقول للميس: (ما أحلى الكحل بعينك).
في الحارة أيضا يعيش الشاب عصمت, وهو نموذج للشاب المثقف, يعمل في الصحافة, يعي ويدرك واقعه بدقة, لكنه عاجز عن القيام بأي دور في تغيير هذا الواقع, لذلك لا يجد وسيلة أمامه سوى تعاطي الكحول ومحاولة فضح الواقع القائم سواء بالكلام أو عبر الكتابة في الجرائد, هنا وهناك.
وهذا ما يؤدي به إلى السجن, ويجعل أبا عدنان يقول عنه: (أخونا يظنها جرائد أبيه, يريد ان يكتب فيها القصص التي يسمعها في الحارة) فدخول الأستاذ عصمت السجن هو برأي هذا الرجل البسيط (الزبال) نتيجة غباء هذا الأستاذ وغلطه, يقول له: (اسكت, أصلا أنت لا تعرف رأسك من رجليك لما حبسوك, أنت الغلطان وليس أنا, هذا هو الدليل, حبسوك ولم يحبسوني) ومنطق الزبال هذا يصل غاية السذاجة عندما يقول: (الحكومة لا تحبس إلا الغلطان).
ان هذا الزبال يعرف أسرار الحارة كلها ويكشف لنا بعضا منها: فأهالي الحارة يسكرون جميعا رغم فقرهم وصلواتهم, يستأجرون الخضار والفواكه من دكان عبدالجليل ويذهبون إلى خمارة أبي ناصيف في الصالحية (وهي مكان حقيقي), يضعونها أمامهم ويتصببون عليها دون ان يلمسوها, لدرجة ان احدهم تناول في إحدى الجلسات جرعة كبيرة من العرق وحاول بعدها ان يتناول حبة مشمش, فزجره زميله قائلا: (ما بنا؟ سكرنا يا أبو محمد؟).
هناك مجموعة أخرى من الأفراد هم أصدقاء الزبال مثل أبو عبدالله وأبو إسماعيل. فأبو عبدالله يقضي الليل باحثا في الزبالة عن لقمة يأكلها, بعد ان أخذ أولاده كل أمواله ورزقه, وهو رغم ذلك لا يشكوهم للقضاء, ولا يطلب المساعدة من الناس, فهو, كما يقول عنه الزبال: (رأس مرفوعة وكرامة محفوظة), انه الصديق الحميم لأبي عدنان.
ورغم ذلك يتنافسان ويتخاصمان على اخذ زبالة الحارة لكنهما يتقاسمان الهموم: (اليوم جئت إليك لأنني لم استطع النوم.. كنت أريد ان احكي لك عن وجعي, لم يعد في هذه الدنيا غيرك). أما أبو إسماعيل فهو حارس ليلي, يعرف ان مهنته في الحراسة لم يعد لها معنى, يقول عن نفسه: (نحن فزاعات منسية في كروم منسية), ذلك لأن الحراس الحقيقيين صاروا في السيارات وهم بالآلاف. يحل الخلافات التي تنشب بين أبي عدنان وأبي عبدالله. يقول عنه الزبال: (رجل معدل, لم أر في حياتي من هو أكثر منه حبا للناس واهتماما بهم). يشرب باستمرار في محاولة منه للتخلص من همومه أو نسيانها. لديه إحساس بأنه لم يعد له وجود حتى في منزله.
إذا كان الزبال كشخصية محورية يكشف لنا واقع أهالي الحارة, فإن الزبال كنص مسرحي يرصد لنا التحولات التي شهدها مجتمعنا في العقدين الأخيرين, وهذه التحولات يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
تفكيك العلاقات الأسرية, وهي العلاقات التي كانت إحدى سمات المجتمع الإقطاعي, مما يدل على تحول هذا المجتمع إلى نمط آخر (برجوازي, برجوازي صغير, ولا أقول رأسمالي). ومثل هذا التفكك الأسري علاقة أبي عبدالله بأولاده الذين اخذوا أمواله ورزقه وتركوه وحيدا يبحث عن طعامه في الزبالة.
التبعية للمجتمعات الرأسمالية, وهذا ما نراه في كلام الأستاذ عصمت الموجه لأبي عدنان, عندما يقول له: (البلدان التي مثل بلدنا صارت مزبلة العالم الراقي. هناك لم يعد يتلفون شيئا, حيوانات مريضة, معلبات انتهى أوانها, أدوية لم تنجح صناعتها, حليب فاسد, كله يرسلونه إلينا, وتجارنا يبيعوننا إياه ونأكله).
ظهور وصعود فئات اجتماعية على حساب أخرى, وقد رافق هذا الظهور والصعود تغير القيم والمعايير الاجتماعية وظهور قيم ومعايير جديدة, وحكاية خروف ام شاهر التي يتحدث عنها أبو عدنان مثال واضح على ذلك. تفشي البطالة في المجتمع, فمهنة الزبالة أصبح يتقدم إليها خريجو الجامعات لأنهم لا يجدون مكانا للعمل في اختصاصاتهم.
أخيرا من ميزات هذا النص انه يساهم في إنتاج مجموعة من الأسئلة حول الواقع الراهن ومن ضمنه المسرح القائم, منها: لماذا هذا الإصرار على تقديم الواقع حصراً من خلال هذا النوع المسرحي الجديد الذي يسمى مونودراما؟ يقول المؤلف: (نعم نحن نزداد عزلة وتباعدا, عالمنا الشخصي يتقلص, ولهذا راح كل منا يتطلع مع نفسه. ان في الانحسار نحو الممثل الواحد تعبيرا عن انحسار الفعالية الجماعية في الفن والحياة. لكننا كمتلقين نقدم إجابتنا التي تتخذ شكل السؤال التالي: هل الأمر يتعلق بتضييق حرية التعبير يوما بعد يوم؟ هذه الحرية التي هي الشرط الأول والأساس لظهور واستمرار المسرح كفن جمعي وجماعي.

جريدة البيان - 10 مارس 2001

****

عليك تتكىء الحياة
شغف باحتمالات المعاني

عبدالحفيظ الشمري

للشاعر ممدوح عدوان تجربة شعرية طويلة توجها بإصدار جديد وسمه بعنوان (عليك تتكىء الحياة) هيأ من خلاله القارىء لان يكون طرفا في معادلة البحث عن جمالية المفردة واحتمالات المعاني ولتصبح القصائد شرفة يطل منها القارىء والمتذوق على غابة الشعر المكتظة بشجر الأسى ولواعج التعب.
يقع ديوان الشاعر عدوان في نحو 166 صفحة من القطع المتوسط ويحوي العديد من القصائد استهلها بقصيدة (في حضرة من أخشى) وختمها بقصيدة حملت اسم الديوان (عليك تتكىء الحياة) ليأتي الخطاب الإنساني في هذا النص مدويا، وصارخا يلامس واقع الألم الذي يعيشه بطل القصيدة والمتمثل في (الأب) الذي تحولت به الحياة إلى ما يشبه الصورة المفرغة من مضامينها السائدة ليصبح الصوت هو الحالة التي لم تختل بعد.
الديوان نسيج إنساني موحد يشرح الواقع ويفصل المعاناة في صوت يتوجه العناء والبحث عن مخرج مناسب يضفي على التجربة بعدا فنيا يحمل السياق إلى مساره الحقيقي ويزاوج بين خيارات كثيرة أولها رثاء الإنسان لعالمه وآجرها رثاؤه لذاته.

****

مقالات :

الإرث الصعب

ممدوح عدوان

بمعزل عن الصحافة والسياسة والأيديولوجيا نستطيع أن نتساءل‏:‏ ما الذي ورثناه عن الأنظمة التي اتفق علي تسميتها بالأنظمة الشمولية؟
هذه الأنظمة كان لديها اجتهاد ـ أو وهم ـ أنها تبني الاشتراكية‏.‏ ولكي تحقق ذلك كان لابد لها من تغييرات أساسية في بنية المجتمع وتركيب مؤسساته‏.‏ ولما كانت هذه التغييرات جديدة علي المجتمع‏,‏ كان لابد شيء من القسوة لمقاومة التشويش الذي تسببت فيه الحرب الباردة‏,‏ وما نجم عنها من حرب إعلامية بين المعسكرين‏.‏
وكانت المجتمعات الاشتراكية تقبل تلك المساومة‏:‏ شيء من التنظيم الجديد مقابل التنازل عن شيء من الحرية‏.‏ فنال القمع حرية الصحافة والتنظيمات والعمل والتفكير والكتابة والكلام‏.‏ ولم يتحقق التنظيم الجديد الذي وعدوا أنفسهم به‏.‏
وإذا كان الأمر قد احتاج إلي نصف قرن لاكتشاف أن المساومة كانت لصالح الحكومات وعلي حساب الشعوب في تلك البلدان‏,‏ وأن الناس قد قبلوا بالتضحية بحرياتهم لقاء ذلك الرهان علي المستقبل‏,‏ فإن بلدان العالم الثالث التي تعرضت لانقلابات عسكرية تحت اسم الثورات‏,‏ وتحت شعارات إضافية مثل تحرير الأرض أو الاقتصاد‏,‏ قد بدأت حياتها السياسية من حيث انتهت إليه تجارب البلدان ذات الأنظمة الشمولية‏.‏
بدأت بالقمع ودون وجود أية فرصة للتحقق مما سيناله المجتمع من جراء تنازلاته‏.‏
ونستطيع التوقف عند ظاهرة بسيطة متعلقة بنوع أعمالنا‏.‏
فالأنظمة الشمولية القزمة ورثت فكرة التنظيمات النقابية‏(‏ وبينها منظمات الكتاب والصحفيين والفنانين‏).‏ وكان من الطبيعي أن يتواكب ذلك مع بروز فكرة الرقابة وإلغاء المبادرات الذاتية وتمت السيطرة علي الأوضاع من خلال وزارة الإعلام‏.‏
ومع تفاقم السيطرة والانصياع لضرورات المرحلة تم إلغاء كل ما له علاقة بحرية الرأي والتعبير وتحولت النقابات إلي قوة قمعية في يد السلطة أكثر مما هي أداة تنظيم شعبية‏.‏
وصارت الحكومة تتدخل في تشكيل مجالس النقابات مثلما تتدخل في تنظيم أية قوة أمنية لديها‏.‏
ومع وجود فكرة الحزب الحاكم صارت النقابات فرعا من فروع الأمن الفكري والثقافي تخضع في نشاطاتها كلها لما تراه تنظيمات الحزب والظروف الأمنية‏.‏ وفي الوقت ذاته ظلت هذه النقابات توحي بأنها البديل الفعلي عن أي تحرك جماهيري عفوي أو منظم فلدي السلطة شعار مخادع‏:‏ ماذا يريدون؟ المجتمع كله منظمات ويستطيع أيا كان ممارسة حريته ومبادراته من خلال هذه التنظيمات القائمة‏.‏ فهناك منظمات للفلاحين والطلاب والشباب والفنانين والصحفيين والكتاب وما إلي ذلك‏.‏
وبلغ الأمر بقيادات الظل أن صارت ترسم السياسة اليومية لهذه المنظمات‏.‏ وصار الموعودون في المراكز القيادية فيها واثقين أكثر من الضباط المقبلين علي الترفيعات‏.‏
ولقد حدث لأحدهم حادث طريف في هذا المجال‏,‏ إذ تطاول مدير إحدى المؤسسات علي بعض موظفيه‏.‏ فلجأ ببساطة إلي مجلس النقابة لينقل شكواه‏, ‏ لكنه فوجئ بأن المجلس التنفيذي للنقابة مؤلف من المدراء ا, ‏املين للمؤسسات المعنية‏, ‏ وحين نوقش الأمر هناك خرج الجميع بأن هذه ظاهرة شغب يجب القضاء عليها فضوعفت العقوبة علي العاملين‏.‏
وحين أبلغوا بالقرار احتجوا بأنه من غير اللائق أو المنطقي أن يكون المكتب التنفيذي مشكلا بهذه الطريقة, ‏‏ فإذا كان رب العمل هو ممثل العاملين في النقابة فإلي من يلجأ الموظف المظلوم إذن؟
وهذا ما زاد المجلس يقينية بأن هذا الشغب قابل للاستفحال ولذلك حولوا المشتكين إلي عبرة إذ وضعوا الشرطة العسكرية علي مداخل أمكنة العمل لتمنع هؤلاء المشاغبين من التحرك‏.‏

الأهرام العربي- 21 يونيو 2003

****

لم ألتق بأمل دنقل.. لأنني أحمله معي !

ممدوح عدوان

أمل في معهد الأورام علي
يساره لويس عوض وخلفه
محمد بدوي وجابر عصفور

قليلون هم الأشخاص الذين يحضرون في غيابهم مثلما كانوا حاضرين في حياتهم
وأمل دنقل واحد من هؤلاء القلائل.
فهو في غيابه أكثر حضورا مما كان عليه وهو بين الأحياء، لأن غيابه يدل علي الحجم الذي كان يملأه ولم نكن نعرف. فللحياة عاديتها التي تنسحب علي الآخرين فتجعلهم يبدون عاديين مثلما تتطلب منهم الحياة. ولكن غيابهم عن المكان يدل علي المكانة التي كانت لهم في القلوب والضمائر.
جمعتني به مصادفة حين أرسلت الى القاهرة مراسلا إلي مدن القناة أيام حرب الاستنزاف المصرية نهايات عام 1967، وكنت أذهب وأعود بين القاهرة ومدن القناة، 'وفي ريش 'كان لقاؤنا الأول. وأين غير ذلك؟
وكان قد كتب قصيدتيه: 'البكاء بين يدي زرقاء اليمامة' 'وكلمات سبارتاكوس الأخيرة'.. ولم توافق عليهما الرقابة المصرية آنذاك، فكان يحمل بروفتيهما معه ليقرأهما علي الجميع وفي كل مكان، فأخذتهما منه لنشرهما في الصحافة السورية.
ولأننا تصاحبنا دون ترتيب اوبروتوكولات كانت علاقتنا علاقة شابين متمردين لا وسيلة لهما للتعبير عن رغبتهما في نسف العالم إلا بالشعر، وشاعرية أمل واضحة لا يرقي إليها الشك.
كنا شابينفي مطلع شبابهما، وكانت النساء والشراب والشعر والأقاويل مادتنا اليومية، لقد تآلفنا ألفة وحشين في غابة.. جمعتهما غريزة البقاء واستشعار الخراب القادم.
وبعد سنوات من زيارتي تلك للقاهرة كتبت قصيدة شديدة الحدة ضد المخابرات والقمع بعنوان 'لابد من التفاصيل' ولم أجد من يستحق أن أهديها له إلا أمل دنقل، فنشرتها في الآداب البيروتية مهداة إلي أمل دنقل بلا مناسبة.. ويومها لم يعلق علي القصيدة إلا بقوله:
ابن ال.. يريد أن يسجنني. أبلغوه أنني سأهديه قصيدة مطلعها، أسد علي وفي الحروب نعامة. ولكنه والحمد لله. لم يفعل.

ولم نلتق بعدها حتى مطلع الثمانينات حين جاء الى بيروت ليشارك في مهرجان الشقيف أي أننا التقينا بعد خمسة عشر عاما. ولكن لقاءنا كان غريبا.
كان المرض قد بدأ يفتك بجسمه النحيل، وكان يحمل معه زجاجة الماء أينما ذهب.
التقينا في بهو الفندق الذي ينزل فيه الشعراء.. وبعد السلام جلسنا نتحادث وكأنا لم نفترق الا مساء الأمس.. النكات والمناقشات وقراءة الشعر والتعليق على النساء واغتياب من نعرف.. الخ.
وبعد المهرجان في بيروت استضافت منظمة التحرير خمسة شعراء هم محمود درويش وأمل دنقل وسعدي يوسف وأحمد دحبور وأنا لإحياء أمسية شعرية في دمشق.
وفي دمشق قضينا بضعة أيام، تعرف خلالها ببعض أصدقائي، وسهرنا عدة سهرات لا تنسي
ولكنه كان يستقبل في دمشق، وعلى جميع الأصعدة (السياسية والاجتماعية والثقافية) علي انه المصري الحقيقي ممثل ضمير مصر والناطق باسمها.
وبعد ذلك لم نلتق أبدا.
وحين وصلني نبأ موته شعرت أن جملا ينخ في قلبي.
وأشعر ان أمل قد غاب عنا، ولكنه أوكل إلينا، أو الى بالتحديد. مهمة متابعة طريقه ومسيرته، ولهذا حين سمعت بقصة سليمان الخاطر شعرت أن موته كان ناقصا لأن أمل كان سيرثيه بطريقته لو كان موجودا. وهذا ما جعلني أكتب قصيدتي، 'زفة شعبية لسليمان الخاطر.. نيابة عن مغني مصر الأصيل أمل دنقل'.
ومازلت حتى الآن أشعر، كلما ذهبت الى القاهرة، إنني سألتقي بأمل فيها. ولما كان هذا مستحيلا كنت أعزي نفسي ان هذا الشاعر يعيش معي في أزقة القاهرة وحواريها وصالات فنادقها.
ولكنني في كل مرة أصل فيها إلي المطار مغادرا القاهرة أشعر أنني قد نسيت شيئا مهما لم أفعله.. إني أغادر مصر دون أن ألتقي بأمل.
وهنا لا أجد عزاء حقيقيا إلا بالإصرار علي أنني لم ألتق به لأنني أحمله معي.


أخبار الأدب- الأحد 18 مايو 2003

***

حكم البابا (ونوستالجيا الطفولة)

ممدوح عدوان

نوستالجيا الطفولة مرض يبدأ فيروسه بالنمو في الأربعينات.. وكلما تقدمت الشيخوخة تقدم معها الحنان والشوق إلى هذه الطفولة الضائعة المنسية.
هذه أول مرة أقرأ فيها نوستالجيا من هذا النوع لشاب لم يبلغ الثلاثين بعد. أهي الشيخوخة المبكرة؟ أم التسارع في تهدم العالم والرغبة في الإمساك بما تبقى ولو في ذاكرة شعرية؟
حكم البابا يقدم تفاصيل البيت المفقود بنوافذه وحنانه وعتبته ووروده وشجيراته. يدفعك مرغماً إلى تذكر دفء طفولتك يوم كنت آمناً في ظل آخرين قبل أن تصل إلى عراء مسؤوليتك عن أمنك أو أمن غيرك.
في هذه الكتابة شحنة هائلة من الشعر.. تشملك حتى النعاس وتهزك حتى العصف.
"سيرة العائلة" سيرة كل بيت وتفاصيلها تفاصيل حياة كل أسرة يمكن أن يحمل الطفل منها ذكرياته التي تصبح سعيدة عند تذكرها ومهما كانت قاسية في حينها.
أعتقد أن قصيدة نزيه أبو عفش "القلعة" هي التي فتحت أمام حكم البابا هذا المجال. لكن ذكاء البابا جعله يبني عالمه الخاص غير متأثر بأحد ،لكنه في النثر الذي يكتبه في المقدمة والخاتمة يقع في ظل كازانتزاكي وهو مرغم.
مرة أخرى تفرض الخصوصية الذاتية نفسها مفتاحاً لعالم الشعر الواسع ولو أن حكم البابا اعتنى بقواعد اللغة (التي يتعثر بها في أكثر من مكان) لأغنى التجربة أكثر..
ولكن لا بأس.
ها هو ذا من ظل "يتزعرن" حتى كتب شعراً.

مجلة"الحرية"

****

المدى مُنشِّطاً ثقافياً

ممدوح عدوان

منذ عقود لم ير الجو الثقافي السوري نشاطاً نوعياً. فباستثناء بعض الندوات التي صارت تقام على هامش معرض دمشق للكتاب لا نكاد نرى أي تحرك قادر على اجتذاب الناس وإثارة اهتمامهم.

ولكن..
منذ سنوات تحرك الجو الثقافي السوري تحركاً نوعياً حين استطاع الدكتور (المرحوم) حامد خليل، بالتعاون مع الدكتور صادق العظم والدكتور أحمد برقاوي، بشكل خاص، أن يحول الأسبوع الثقافي السنوي لقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق من نشاط كلية إلى نشاط ثقافي على المستوى القطري والعربي.
واستطاع هذا الأسبوع أن يتحول إلى مهرجان سنوي حقيقي من خلال قدرته على اجتذاب جمهور كبير يتزاحم لحضور ندواته، ويقصده بعضهم من المحافظات البعيدة.
ولم يكن ليحقق ذلك إلا بفضل أمرين جوهريين:
الأول: هو دعوته مجموعة من الأسماء ذات الوزن الثقيل في ميدان الفكر العربي من كافة الأقطار العربية، ومن المقيمين خارج بلدانهم العربية.

والثاني: هو جدية الموضوعات التي كانت الندوات تناقشها، واقتراب هذه الموضوعات من الراهن بين ما يشغل عقل المواطن العربي وأعصابه.
ولم يدم هذا المهرجان طويلاً. فقد نقل الدكتور حامد خليل من عمادة كلية الآداب (وعين في مكان آخر لم يستطع أن ينشط فيه كثيراً بسبب المرض الذي تعرض له، والذي انتهى إلى وفاته)، وأحيل الدكتور صادق العظم (رئيس قسم الفلسفة آنذاك) إلى التقاعد.
وبالطريقة التي انطلق بها هذا النشاط خمد بشكل فجائي، وصار يقتصر على نشاطات محلية لا تتجاوز اهتماماته وتأثيره أسوار الجامعة، وربما حدود قسم الفلسفة في كلية الآداب ونسبة ضئيلة من طلابه، حتى نسيه الناس نهائياً.

وعاد الجو الثقافي إلى خموده.
إلى أن جاء الأسبوع الثقافي لدار المدى. وهذه دورته الثالثة.
لقد استطاع هذا الأسبوع أن يعيد إلى الجو الثقافي حيويته المفقودة، وأن يحرض الآلاف من الشبان على ارتياد نشاطاته لحضور الندوات المثيرة والتفاعل مع المثقفين الفاعلين والمؤثرين الذين استقطبهم لندواته ونشاطاته المتنوعة.
وسرعان ما تمكن هذا الوريث للأسبوع الثقافي لكلية الفلسفة من التفوق على مورثه في أكثر من ميدان، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: كانت الموضوعات التي أثارها وفجر النقاشات حولها أوسع مدى وأكثر تنوعاً. لم يقف أسبوع المدى عند موضوع واحد (فكري أو سياسي) يكون هو شعاره. بل نوّع في الموضوعات، وتجول بين الثقافة الأدبية والفكرية والسياسية والفنية.
ثانياً: احتل الأدب مكاناً بارزاً في أسبوع المدى، وهو الأمر الذي غاب عن أسبوع كلية الفلسفة.
ثالثاً: ربما بسبب كون الأسبوع بإشراف دار نشر، يحمل اسمها، وبسبب أن هذه الدار تتولى توزيع مطبوعات عربية لدور نشر أخرى، كان لمعرض الكتاب الموازي للأسبوع أهميته الاستثنائية، خاصة أن المعرض قد هدف إلى تقديم تنزيلات حقيقية (وليست تنزيلات وهمية كما يحدث في معارض الكتب الأخرى) على أسعار الكتب. وهذه التنزيلات ليست على منشورات الدار وحدها، بل على كافة الكتب المشاركة أياً كانت دار النشر التي تصدرها. وبعد شعار الثقافة للجميع، الذي كان شعاراً للتطبيق فور إطلاقه، وصلت التنزيلات في الأسبوع الثقافي الأخير إلى حدود غير متوقعه، وبحيث يتمكن الشاب من شراء الكتاب بسعر علبة تبغه أحياناً.
ثالثاً: الاهتمام بالفنون الأخرى. فبالإضافة إلى ما سبق كانت هناك أمسيات فنية موسيقية وغنائية لنجوم الصف الأول في الفن الجاد والرصين الملتزم.
رابعاً: مشاركة نجوم من عالم الفن والسينما والتلفزيون في ندوات خاصة كانت لها جاذبيتها لجمهور كبير من الشبان.
خامساً: الأمسيات الشعرية لعدد محدود ومختار من شعراء الصف الأول العرب والمعروفين. (كانت أمسية هذا العام مخصصة للشاعر محمود درويش. وقد تم تأجيلها بسبب الأحداث المتفجرة في فلسطين. كما دعي الشاعر عبد الرحمن الأبنودي إلى أمسية خاصة اعتذر عنها في اللحظة الأخيرة لظروف قاهرة. وكانت أمسية العام الماضي لمظفر النواب.
سادساً: تكريم أسماء لها باعها الطويل في الإبداع والثقافة. وكان التكريم لهذا العام لعلي الجندي، وتكريم خاص لمحمد الماغوط من خلال معرض رسم استوحى الفنانون لوحاتهم المشاركة فيه من قصائد الشاعر.
لهذا كله لا نكتفي بالقول إن "المدى" دار نشر نشطة. بل إنها مشروع ثقافي جدي. وهي تقوم بدور ثقافي تنشيطي نحن في أمس الحاجة إليه.

*****

عن أعماله :

أعــدائـــي

ممدوح عدوان تحكي الرواية أحداث وتفاصيل فترة الحكم العثماني لحظة انهياره. وكذلك أصداء التحول الخطير على أبواب الحرب العالمية الأولى. والأبطال هم جمال باشا وعشيقته اليهودية سارة وحولهما رجال أجلاف وجواسيس وضباط مغامرون وجنود هائمون على وجوههم يسعون إلى دفع العرب الذين يعيشون مرارة نوستالجيا الماضي، إلى خارج أرضهم وتاريخهم وعصرهم

*****

من أعماله - 2

هوميروس / الإلياذة
ترجمة وتعليق: ممدوح عدوان
المجمع الثقافي 2002

من أعظم الملاحم الإنسانية التي ألفها هوميروس جامعاً فيها بأسلوب شعري عادات وتقاليد العصر الذي عاش فيه وطبائع الناس وسلوكهم وأساليب حياتهم مصوراً أبرز أبطال زمانه الملحميين الذين طبعوا تاريخ الإنسانية بأساطيرهم القتالية وفروسيتهم وقد ردد الشعراء الجوالين والفلاسفة هذه الملحمة لمدة مئتي سنة بعد وفاة هوميروس حتى عمل على تدوينها وقد ترجمت إلى أغلب لغات العالم وتتوفر في المكتبة العربية ترجمة عن اليونانية مباشرة، إلا أن أهمية الترجمة الحالية كونها تجمع مزايا ترجمات عدة وسد الثغرات والنواقص وتوثق أسماء الأعلام والأماكن التي وردت في النص الأصلي وذلك بأسلوب أدبي رصين يجمع بين جمالية اللغة ومنطق العقل مما يجعلها إضافة هامة لما تضمنه مكتبتنا من أمهات الكتب في التراث الإنساني.

*****

من أعماله :

تهويد المعرفة

نجم الدين سمان

يستطيع ممدوح عدوان ان يجعل أي شيء بين يديه.. كتابا! ففي كتابه الجديد "تهويد المعرفة" ثمة.. هامشان فحسب، يشير في أولاهما إلى كون كتابه هذا، مقدمة لترجمة قام بها لكتاب الباحث "كيت وايتلام: تلفيق ـ إسرائيل ـ بهمزة على السطر ـ التوراتية" لكن خلافات بين دار قدمس التي حصلت على حقوق الترجمة من المؤلف ذاته وبين سلسلة عالم المعرفة الكويتية التي نشرت ترجمة الكتاب، جعلت دار قدمس تستكتب المؤلف ذاته لكتابة مقدمة لترجمتها العربية، هكذا.. صارت مقدمة المترجم ممدوح عدوانا.. كتابا!. في الهامش الثاني والأخير، ينوه عدوان حول كتابة مفردة "إسرائيل".. هكذا: اسرءيل، بهمزة على السطر، تمييزا لها عن التسمية الحالية للكيان الصهيوني، باقتراح من الباحث د. زياد منى.. وإذن، فأينما وردت كلمة: إسرءيل، هذه.. فهي تعني. إسرائيل القديمة.. الأسطورية، التي لفقها اليهود أوهاما، لم تفلح كل التنقيبات الأثرية في فلسطين أن تثبت واحدة منها، ثم كان اكتشاف مكتبة أشور ـ بانيبال عام 1839، في ثلاثين ألف رقيم فخاري باللغة الآكادية، وترجمة ملحمة جلجامش وفيها: اللوح الحادي عشر من قصة الطوفان المكتوبة في نهايات الألف الثالثة قبل الميلاد، ليفجر أول قنبلة في دوائر الدراسات الأكاديمية التوراتية ـ اللاهوتية والاستشراقية، إذ ظهر ان ثمة مصدرا آخر، وأكثر قدما من التوراة ذاتها، التي نجح اليهود في جعلها مصدرا للتاريخ القديم كله.. في المؤسسات الأكاديمية الغربية.
يصف إدوارد سعيد مؤلف كتاب: تلفيق إسرائيل التوراتية، بالشجاعة، وهي نادرة في العالم الغربي، حيث استطاع اليهود استعمار العقل الغربي واستيطانه قبل في فلسطين، ويواجههم كيت وايتلام في كتابه بالأدوات الأكاديمية ذاتها، وبالحقائق والبراهين.
ولكي ينجو ممدوح عدوان في كتابه هذا.. من وطأة الكتاب الأصلي، يتوسع قليلا في سبيل تحويل مقدمة ترجمته إلى كتاب، مستعينا بمقالات وأبحاث، منتقلا من فكرة إلى أخرى: الإنجيل بحسب العبرانيين، صورة اليهودي في الأدب الإنجليزي، الاختراق اليهودي للكنيسة الغربية، البيورتانيون البريطانيون ومن ثم.. البيورتانيون الأميركيون، التنوير الأوروبي والاستشراق ودور اليهود فيه، سرقة العبقريات، تعميد يهوذا، الهولوكوست ومعاداة السامية.. على هيئة تلخيصات لاهثة متلاحقة في أقل من مئة صفحة من قطع دفاتر الجيب، بحيث بدا كتابه هذا مقالة موسعة، أو.. كراسا، على أهمية ما فيه من معلومات عامة.. في حين تزداد الإصدارات الغربية وترجماتها إلى العربية في هذا المجال، ومنها: كتاب: اليهودي العالمي لهنري فورد الصادر في بيروت، وكتب بنيامين فرانكلستين، وكتاب: عودة اليهود في الفكر البروتستانتي الإنجليزي لمؤلفه: ميرفيرته، والصادرة ترجمته في دمشق.
بالإضافة إلى كتب يؤلفها باحثون عرب، بينهم كتاب: تاريخ أورشليم أحدث كتب الباحث فراس السواح، والذي يوالي تفنيد التلفيق التوراتي للتاريخ القديم في كتبه المتوالية، وثمة كتب عبدالوهاب المسيري، وأحدثها: الجماعات الوظيفية اليهودية، الصادر لتوه عن دار الشروق بالقاهرة، ومثله في دمشق: الاستشراق والعنصرية الصهيونية لسمير صالح، مع سيل من المقالات والأبحاث في الصحافة العربية وفي المجلات المتخصصة.
لا تقتصر صحوة السؤال هذه.. على باحثين في الغرب، بينهم يهود.. كفرانكلستين وتشومسكي، وبينهم صحفيون مثل الفرنسي دانيال ميرميه، والذي خصص برنامجه الإذاعي في إذاعة فرانس إنتير، ما بين 18 ـ 22 يونيو الماضي، لمسألة النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ما عرضه لحملة قادتها المؤسسات اليهودية، والتهمة جاهزة بالطبع: بث أقوال وتصريحات ذات طابع لاسامي!.. بما يقوده إلى المحاكمة، وهناك قال ميرميه بدهشة: إنها مجرد قصيدة، كتبتها صبية فلسطينية في العاشرة من عمرها من مخيم رفح للاجئين تقول فيها: إنهم يقتلون آباءنا، يعتقلون أخوتنا، يذلون أمهاتنا، يلوثون سماءنا، يسممون مياهنا. ولم تكن هذه الطفلة تعرف أنه في المعتقد الشعبي الأوروبي في القرون الوسطى الأوروبية، اتهم اليهود غالبا.. بتسميم الآبار!
قامت قيامة اليهود في فرنسا والعالم.. لمجرد قصيدة!
مع ذلك تستمر صحوة السؤال هذه، حيال خديعة تهويد المعرفة والتاريخ، وحتى في الكيان الصهيوني ذاته، فثمة.. تيار أكاديمي يسمى: المؤرخون الإسرائيليون الجدد، أو.. مدرسة ما بعد الصهيونية، الذين يعيدون النظر في تاريخ تشكل دولة إسرائيل، وفي تاريخ الحركة الصهيونية ذاته، ومنهم: جفرسون شافير في دراسة: علم الاجتماع النقدي وتصفية الواقع الاستعماري الصهيوني، وإيلان بابيه أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، والذي طردته الجامعة لمساندته أطروحة طالب دراسات عليا، اسمه: تيري كانز ـ المطرود من الجامعة أيضا ـ حول مذبحة الطنطورة عام 1948، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق هذه القرية الفلسطينية.
ثمة.. غير إيلان بابيه هذا، من مدرسة ما بعد الصهيونية، يتعرضون في إسرائيل ذاتها، لملاحقات مكارثية محمومة، من مثل: بني موريس، الذي أنجز دراسة حول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ما بين 1949 ـ 1974، ثم ارتد عن كل دراسته واعتذر!.
لكن تيار الدراسات هذه.. يتوالى، ومنها دراسة توم سغيف: الإسرائيليون الأوائل والمليون السابع، ودراسة ديفيد غروسمان: الهواء الأصفر، وسميحا فلابان في دراسته: مولد إسرائيل ـ أسطورة ووقائع، ودراسة اي شلايم: صدام حول نهر الأردن، وأنيتا شابيرا في دراستها: سيف الحماقة ـ الصهيونية والقوة.
وعلى الرغم من ان هؤلاء المؤرخين الجدد في إسرائيل، لا ينطلقون من مفاهيم تقويض الدولة الصهيونية، وإنما.. من تصحيحها فقط، وإزالة ما علق بها من دم وأوحال، لتكون ـ حسب تعبيرهم ـ أكثر قدرة على مواجهة تحدياتها المستقبلية، فإن هذه المجموعة تعرضت لهجوم مضاد، فقط.. لأن دراساتهم قدمت بعض الرؤى المغايرة للتيارات الرسمية ـ الدينية الصهيونية، ومنها: ان إقامة إسرائيل تتضمن ظلما لشعب آخر هو الفلسطينيون، وأن الموقف الإسرائيلي من السلام مع العرب يهدف إلى إطالة أمد الصراع بهدف تحقيق مزيد من المكاسب، وهي سياسة ممتدة من بن جوريون إلى شارون.
وكشف هؤلاء عن حقيقة إسرائيل.. كدولة عنصرية يهودية، على الرغم من ادعاءاتها المتوالية عن واحة الديمقراطية في صحراء الديكتاتوريات العربية، حيث رصدوا في دراساتهم مسلسل التنازلات التي قدمتها حكومات إسرائيل المتوالية: يمينية ويسارية، للتيارات الدينية المتطرفة، مما حول إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية.. بامتياز!
ولقد أثارت مثل هذه الآراء والدراسات والكتب، داخل إسرائيل وخارجها حفيظة المؤسسات اليهودية في العالم، بل.. واستنفارها الشرس، إلى درجة ان مسرحية "معاداة السامية" التي تبدو اليوم في ذروتها، سوف تجعل الاحتجاجات الصامتة علنية، ومسيرات احتجاج.. كما قد جرى في أوساط أوروبية كثيرة بعد مجزرة جنين، وكتبا تتوالى وحملات تضامن مهما بدت محدودة التأثير، وذلك أيضا.. بغيابنا عربا.. عنها، وعن مساندتها ودعمها ومشاركتنا الفاعلة.
بالعودة إلى ممدوح عدوان في "تهويد المعرفة" يشير كيت وايتلام في كتابه: تلفيق اسرءيل التوراتية، إلى مسألة ذات أهمية بالغة.. يقول وايتلام: حصر الفلسطينيون والعرب صراعهم الثقافي مع الصهيونية في حلبة الصراع السياسي، بينما كانت الصهيونية تلتهم التاريخ كله.. لصالحها.
كيف نجح اليهود، من حيث فشلنا نحن، وفشل آخرون؟!
وهل يكفي التصريح عن حقوقنا المشروعة، ونحن خارج الإعلام، خارج الثقافة والفن العالمي، خارج العلم وثورة الاتصالات.. نكتفي بالمسيرات الكلامية الغاضبة!
كنت أود لو ان عدوانا.. قد مر ـ ولو سريعا ـ على لحظة مفصلية في التاريخ العالمي.. هي لحظة سقوط غرناطة، من حيث هي لحظة صراع شرق بغرب، كان اليهود.. متواجدين فيها أيضا، وقد كانوا ينعمون في الحقبة الاندلسية بكل أشكال التعايش والمواطنة، ثم عانوا من محاكم التفتيش، كما عانى العرب الذين بقوا في الأندلس منها. وهكذا.. فان سقوط غرناطة.. كانت في الجانب العربي حصيلة ممالك الطوائف التي لازلنا نعيشها في راهننا، وفي الجانب الأوروبي بداية اكتشاف قارة جديدة ونهضة جديدة ستعيد تشكيل العالم كما تراه، أما اليهود فقد استطاعوا اختراق كل أشكال المؤسسات المدنية والدينية في الغرب، وكانوا متواجدين في اليسار حتى أقصاه وفي اليمين حتى أقصاه وفي الوسط بكل تدرجاته، وفي أولى الحركات العمالية كما في أولى المؤسسات المصرفية والرأسمالية الصناعية، واتسمت علاقة الجماعات اليهودية بالمجتمع الغربي ـ كما يقول عبدالوهاب المسيري ـ بأنها علاقة نفعية تعاقدية جعلتهم أكثر الجماعات حركية داخل التشكيل الحضاري الغربي، ولازالوا كذلك حتى اليوم، ففي محاكمة الصحفي الفرنسي دانيال ميرميه كانوا متواجدين بكثافة.. في غياب أي حضور عربي!. ولم نفعل شيئا حيال محاكمة غارودي، والأب بيار، وآخرين. بل أننا. تغاضينا حتى عن سلاح المقاطعة العربية، وها هي.. قد هدأت حملة مقاطعة البضائع الأميركية!
من جانب آخر.. فإن إقامة معرض للصناعات التقليدية العربية، أكثر مخاطبة للرأي العام العالمي وأكثر فاعلية، وكذلك معرض متجول للآثار، أو للفنون التشكيلية، مسرحية عربية متميزة فنيا أكثر جدوى من كل البيانات، فيلم سينمائي ينقل صوتنا إلى الآخر بحرفية ومعرفة راقية، توحيد المنظمات العربية في المهجر أكثر جدوى من قمة عربية رسمية، وكذا الارتقاء بلغتنا من الخطابة والبلاغة إلى لغة العقل والسؤال والفعل الملموس.
ثمة.. شيء جوهري في العقل الجمعي العربي، وفي الذاكرة الجمعية العربية، يمكن استنهاضه، وهو أننا من بين قلة من شعوب العالم الأكثر تعايشا مع الآخر وانفتاحا على الحضارات.
ومن المفيد ان نقرأ كتاب كيت وايتلام، وغيره.. ليس من أجل التضامن مع كليشيه المؤامرة اليهودية التي تحكم العالم، أو.. نكتفي بردود الأفعال، وإنما.. لمعرفة ان صراعنا الحضاري الوجودي مع الصهيونية لا ينحصر في فلسطين وحدها، وإنما.. هو صراع حضاري عالمي، نحن احد أطرافه فحسب، وقد ندفع أكثر من غيرنا أثمانا مضاعفة من قوتنا اليومي ومستقبل أطفالنا، وهو صراع مع ضعفنا وتخلفنا العلمي.. وحتى مع أنماط حياتنا اليومية التي بدأت تخترقها العولمة.
ربما سيكون ـ ولو بعد عقود ـ ان نستطيع عربا تخليص اليهود أنفسهم من تلفيقهم التوراتي، لأننا عقلا واحداً وتاريخياً لم نكن في يوم من هواة تقويض الأديان، بل.. إن الأديان الرئيسية نشأت بين ظهرانينا، وخرجت من رحمنا الحضاري إلى الناس أمماً وشعوبا يعتنقها من يشاء.
وفي تواريخنا العربية أمثلة لا يمكن تلفيقها عن تعايش الديانات والشعوب والحضارات، وليس من شأننا.. تعريب المعرفة، أو.. عوربة العالم ردا على تهويده، وإنما المساهمة الحضارية في بنائه وارتقائه وخلاصه من كل وهم أو.. تلفيق، من غير ان نرى اليوم في التحالف القائم بين اليهودية العالمية والإدارة الاميركية.. تحالفا أزليا، قائلين مع منظمة "كيهلا نيويورك" أكبر المنظمات اليهودية في العالم: "ان المصالح الأميركية شيء، والمصالح اليهودية شيء آخر".
ثم نضيف: أن المصالح الأميركية شيء، والرأي العام الأميركي والعالمي شيء آخر، من غير ان نراهن على أحد.. سوى على أفعالنا.
أخيرا.. كأني استطعت تفادي تلخيص التلخيص في "تهويد المعرفة"!

تأليف: ممدوح عدوان
الناشر: دار جنين ـ بيروت 2002
الصفحات: 110 صفحات من القطع الصغير

******

جديد الشاعر السوري ممدوح عدوان

كتاب تهويد المعرفة

صدر حديثا كتاب جديد للأديب والشاعر السوري المعروف ممدوح عدوان حمل عنوان (تهويد المعرفة), يتناول الكاتب في دراسته تلك الأساليب والممارسات والمحاولات الصهيونية في إضفاء طابع اليهودية على كل مناحي المعرفة والثقافة والفنون والتراث والتاريخ في العالم.
يشير المؤلف في مقدمة كتابه إلى أنه في الوقت الذي كان المشروع الصهيوني يتبلور حركة سياسية ثم استعمارية ثم استيطانية كان هناك مشروع يهودي صهيوني، ومتصهين غير يهودي بالضرورة يجتاح العقل الأوروبي الذي يستعمر العالم مادياً وثقافياً وفكرياً، وحين سيطروا على العقل.
ويرى المؤلف أن اليهود قد سعوا ببراعة للتغلب على الكراهية المترسبة عن دور أجدادهم في قتل المسيح، وقد نجحوا أخيرا في استصدار (فتوى) بتبرئتهم من دم المسيح من البابا نفسه وصار من يذكر هذا الأمر يصنف فوراً على أنه معادٍ للسامية.
ثم بدأت الحملة المضادة لتتوصل إلى أن المسيح نفسه يهودي، ولكن هذا لم يتم بسهولة، هناك تراكم من عمليات سرقة المسيح من أصله ونبوته لإحالته إلى اليهودية، وقد تم ذلك في ميادين متعددة..
يشير المؤلف إلى أنه منذ القرن الثامن عشر بدأت صورة اليهودي الكريه تتراجع من الأدب الغربي، وتحتل محلها بالتدريج صورة اليهودي الإنساني (الجار والمعين) وبعد يهودي مالطا عند مارلو، وشايلوك عند شكسبير والأدبيات الكثيرة الأخرى التي تندد باليهود وجشعهم واستغلالهم بدأ طرح شخصية اليهودي الطيب في رواية (هارنغتون) لماريا إدجورث، فمقابل باباس (عند مارلو وهو أيضا اسم اللص الذي كان مصلوباً إلى جانب المسيح) الذي يرفض إقراض الدولة لمواجهة الغزو التركي) وشايلوك (عند شكسبير) الذي يطالب باللحم الآدمي مقابل دينه، هناك مونتيزو اليهودي الذي ينقذ هارلنغتون الإنكليزي من أزمته المالية، لقد قالت تلك الكاتبة في روايتها بشكل غير مباشر إن اليهود بشر عاديون وفيهم أثرياء طيبون يمكن أن يحلوا المشكلات الاقتصادية في بريطانيا وأوروبا وحتى عند تشوسر تعود حاكم المدينة ان يقترض الأموال منهم، ومن الملاحظ أن هذه الصيغة متكررة، اليهودي معه المال دائماًَ، وكما يقول مونتسيكو في (رسائل فارسية): (فلتعلم أنه حيث يوجد المال فهناك اليهودي) والآخرون يقترضون منه، تارة يرفض (يهودي مالطا) وتارة يقبل بشروط قاسية على المدين (تاجر البندقية، ولكن في (ضمان التاجر).
بين القصص التي جمعها بيفرلي بويد في (معجزات العذراء مريم المكتوبة بالإنكليزية العصور الوسطى). هناك اليهودي الذي يقترض ثم ينكر الدين.
ثم جاءت جورج إليوت (في (الغجرية الأسبانية) لتقول: (إسرائيل) بين الأمم بمنزلة القلب من الجسد هكذا يكتب شاعرنا يهوذا) وفي 1876م كتبت: (إننا نحن الذين نشأنا على المسيحية مدينون لليهود بشكل خاص أنهم، أي المسيحيين، لا يعرفون أن المسيح كان يهودياً).
يتساءل المؤلف: ما الذي يضع هذه المرأة الرائدة في خدمة القضية اليهودية وبحيث يصبح (يهوذا شاعرنا؟).
ويجيب على تساؤله بقوله: إن قضية اليهود كانت قد صارت جزءاً من قضايا التحرر في الفكر الغربي، وفي الوقت ذاته كان اليهود يقدمون وجهاً ثقافياً ودينياً في خدمة المجتمع الغربي، فصارت العودة إلى العبرية تحمل معنى دينياً، يتضمن العودة إلى الجذور المسيحية التي أوحى أنها كانت يهودية أو مكتوبة بالعبرية على الأقل فصدرت أول طبعة عبرية للكتاب المقدّس في إيطاليا عام 1488م، ثم طبعة التلمود عام 1508م في البندقية، وبين 1492 و1755 بدأت تصدر ترجمات بالعبرية للاهوتيين وفلاسفة ومؤرخين وشعراء أوروبيين غير يهود.
ويشير المؤلف إلى أن المصطلحات والتعابير التوراتية كانت قد دخلت منذ زمن طويل إلى لغة الكنيسة، ففي القرن الرابع عشر استخدمت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تعبير (الأسر البابلي) لوصف الإقامة في أفينون بين 1309 و 1377، وهي استعارة لـ (الأسر البابلي) الذي حدث لليهود في القرن السادس قبل الميلاد، على يد نبوخذ نصر الذي رحّل اليهود إلى بابل.
وتجدر الإشارة إلي أنه بعد تمكن اليهود من مواقعهم الأكاديمية، وبعد إشباع الموسوعات بالمعلومات المرتبة لخدمة الهدف اليهودي، بدأت عملية مزدوجة في المراجعات التاريخية وكان هناك لهذه المراجعات التاريخية ثلاثة أغراض لا يخطئها أي قارئ ممحص.
الأول: هو غسل التاريخ اليهودي من كل شائنة، فأي حدث قام اليهود فيه بدور غير محمود تتم إعادة النظر فيه؛ إما لنفي دور اليهود فيه، وإما لتبرير هذا الدور.
والثاني: الذي يواكب الأول هو عملية (سرقة العبقريات)، فكل عبقرية تأتي في التاريخ يتم اختراع نسب يهودي لها.
والثالث: (احتكار المآسي) وقد تم ذلك من خلال إعادة النظر بمآسي الشعوب الأخرى لطمسها أو تبريرها أو إنكارها نهائياً، للإبقاء على مأساة اليهود على أنها المأساة الإنسانية الوحيدة، وهي تشتمل على المأساة اليهودية المعاصرة (الهولوكوست) والمأساة التاريخية (التيه والسبي).. وفي نهاية كتابه يقول المؤلف: لقد هيمنوا على التاريخ ليسكنوا الواقع الذي استولوا عليه في حضن ذلك التاريخ ويرضعوه حليبه، إنهم يؤلبون العالم ضدنا ويحشدونه معهم، هذا إذا اضطروا إلى الاعتراف بأننا موجودون، ونحن كنا دائماً نتجاهل العالم، معتقدين أن إيماننا بحقنا يكفي لإنجازه، وأننا استطعنا الاستغناء عن العالم، وفي كثير من الحالات يتوقف ردّ فعلنا عند الامتعاض المستسلم: (إنهم يسيطرون على الإعلام) ولكنهم كانوا في الواقع يصنعون عقل العالم المعاصر، ولم تكن هذه العملية متوقفة على الإعلام الموجه إلي عامة الناس، بل هي ممتدة في الأكاديميات والدراسات التاريخية وتصنيع المؤسسات العلمية وتغذية الإنترنت بالمعلومات (سنكتشف الآن حجم الخسائر الحقيقية التي تعرضنا لها).
وبصيغة هي أقرب ما تكون إلى الحزن والمرارة المتحسرة لفقدان الوقت والجهد الفعال والحركة المنتجة، يقول المؤلف: نحن لم نخسر الأرض والوطن والبيوت والمزارع فقط، بل خسرنا التاريخ ومنابع المعرفة أيضا.

جريدة الوطن القطرية



عن أعماله :

*****

قراءة في كتاب:
التعذيب تاريخ من الوحشية والتكنولوجيا المتقدمة

بيرنهاردت ج.هروود

ترجمة: ممدوح عدوان

(هل يتطور الإنسان حقاً نحو مستوى حضاري أسمى؟ أم أننا اليوم متوحشون مثلما كنا في فجر التاريخ...
إن الوقائع مرعبة. ولكن ما من وصف مهما بلغت دقته وحيويته، يستطيع أن يصف الحقيقة التي لم تقل).
في صفحة (الإهداء) نقرأ:
(إلى ضحايا التعذيب الذين لا تحصى أعدادهم في العالم، أمس واليوم وغداً)
وفي الكلمة (تمهيد) نقرأ:
(في كتاب كهذا، صغير نسبياً، يستحيل إيراد كل جانب من جوانب الموضوع، لقد كُتبت مئات المجلدات عن ألمانيا النازية وحدها، ولكي تكتمل قائمة المراجع المتعلقة بالتعذيب لا بد أن يكون حجمها موسوعياً.
وأكثر من ذلك فإنه حتى في الوقت الذي نكتب فيه هذه الكلمات هناك دم جديد يسفك في مكان ما في العالم، وهناك مهانات جديدة يوقعها بشر على رؤوس بشر آخرين، ولا يحتاج المرء إلى ذكر التجويع المنظم... تلك المأساة التي يجب أن تكتب عنها كتب كاملة، ولكن ليست هناك أهمية لأي تمييز بين من هم الجلادون ومن هم الضحايا، فالعنف يطغي على التفاصيل كلها..
إننا نقرأ عن إرهابي الفيتكونغ الذين قطعوا الرؤوس وانتزعوا الأحشاء وقاموا بعمليات إخصاء وقطعوا الأوصال لضحاياهم... ولكن انتظر، لا تسترخي باعتداد وتفترض أن الأشرار كلهم في الجانب الآخر فنحن الطيبون، نسجل بعض النقاط الخاصة بنا. إن عشرات من القرى قد أحرقت عن بكرة أبيها وأعداداً لا تحصى من الفيتناميين الجنوبيين الأبرياء قد صفهم جنودنا على الجدران ثم أطلقوا عليهم النار لأن القرى كانت (مشتبهة) بإيواء العدو، والجنود الذين قاموا بإطلاق النار هم أبناء الأمريكيين أنفسهم الذين كرهوا الجنود الألمانيين لأنهم، قبل ما يزيد عن عشرين سنة ارتكبوا أعمالاً مشابهة.
وبعد ذلك في 29 تشرين الثاني من عام 1968م حكم على سبعة عناصر سابقين من الإس إس في محكمة بألمانيا الغربية في دار مستادات بخمسة عشر عاماً لكل منهم لمشاركتهم في قتل ثمانين غجرياً.. وروسياً.
ماذا عن أولئك الناجين الذين تشوّه معظمهم طيلة ما تبقى من حياتهم، أولئك الذين هبوا واقفين في قاعة المحكمة وصرخوا يطلبون الانتقام؟ ماذا نقول لهم؟ بل إن ما هو أكثر أهمية: ماذا نقول لأنفسنا؟
هل هناك أمل بأن يتغير الإنسان؟
بحقل (التعذيب في العصور القديمة) نقرأ:
(يجد الإنسان العادي، حسن النية، نفسه مضطراً لإثبات نبل البشر أو على الأقل تفوق البشر على المخلوقات الأخرى) وكلما هيمن هذا الدافع... عن فضائل الإنسان تم اختبار أمثلة ساطعة. وتنتقى هذه الأمثلة دائماً من مراتب أشباه القديسيين الذين تجعلهم شجاعتهم وضبطهم لأنفسهم وفضيلتهم الشاملة يكادون يكونون أكثر طيبة من أن يكونوا حقيقيين..
ما من أحد يستطيع أن يحدد بثقة مطلقة، متى مورس التعذيب لأول مرة. بالنسبة للاستخدام الرسمي لا ذكر للتعذيب في القانون البابلي... غير أننا نعرف أن البابليين... يعدمون المجرمين بالرجم أو بالنشر إلى نصفين أو بالحرق. وكانت لدى الآشوريين والمصرين تدابير تشريعية لاستخدام التعذيب مثلما كان الأمر عند الفرس والإغريق والقرطاجيين والرومان.
كان الإغريق يعتبرون التعذيب وسيلة لانتزاع الحقيقة، وقد دعاه أرسطو (نوعاً من الإكراه قد تمت ممارسته) أما بحقل (التعذيب حول العالم) نقرأ:
(إن إحدى الشائعات الرائجة في العالم العربي هي أن (الشرقيين) عملياً أشرس الشعوب على وجه الأرض وبالتالي فإنهم الأكثر خبرة في فن التعذيب، والحقيقة أن الشرقيين معذبون ذو خبرة ولكن ليس صحيحاً أنهم، بأي شكل من الأشكال، أكثر قسوة من الغربيين، الفارق كامن في حقيقة أنه في الشرق هناك اعتراف أكثر أمانة بالقسوة الغريزية التي تعتمل في قلوب البشر كلهم).
وبحقل (التعذيب وسيلة لتحقيق الهدف) نقرأ:
(لقرون خلت والفلاسفة وعلماء النفس يبحثون عن إجابة عن السؤال المحير حول السبب الذي يجعل الإنسان بكلمات جان بول سارتر أكثر... فحشاً وضراوةً وجبناً).
وعلى الرغم من هذا البحث المغرق في قدمه عن مفتاح حقيقة (وحشية الإنسان تجاه الإنسان) فقد كان هناك كمية هائلة من الأعذار... أن التعذيب بين القدماء يعتبر وسيلة لانتزاع المعلومات، وهذا بالطبع، كان وما يزال المبرر شيوعاً لاستخدام التعذيب... فالذين يرغبون في أن يكونوا شهداء نادراً ما يعترفون أن يكشفوا عن أي شيء بالإكراه، وعلى العكس من ذلك كان آخرون قد عرف عنهم أنهم يعترفون بأية جريمة ويقدمن أي معلومات عندما يخضعون للتعذيب.
وكذلك ففي حقل (التعذيب كعقوبة) نقرأ:
(عملياً كان هناك دائماً خط دقيق غير واضح بين التعذيب والعقاب..
ولكما توغلنا في الزمن نجد أن الانتقام هو القوام الأساسي للعقوبة.
ومن التعذيب الانتقامي.. يثبت مرة أخرى أن القسوة تولد القسوة.
ومع حقل (أصول التعذيب في الأدب) نقرأ:
(في كل عام تظهر كمية هائلة من القصص التي تعالج ولو جزئياً، الوحشية الجسدية.. واحد الأدلة على ذلك يبدو في عدد المبيعات الهائل لما يسمى مدرسة الكتابة البوليسية الواقعية... وكل من يستطيع القراءة هذه الأيام صار على صلة بكلمتي السادية والمازوشية).
وهناك حقول مثل: (التعذيب الذاتي والطوعي) و(المضمون الجنسي للتعذيب) و(التعذيب والجريمة) و(التعذيب العسكري والبحري وبدايات التوجه ضد التعذيب الحكومي) و(التعذيب في القرن العشرين) ونقرأ فيه:
(لم تكن كافة صنوف التعذيب التي مورست على الضحايا المتألمة حتى عام (1899) أكثر من تجارب (بروفات) على الفظائع بالجملة وعلى القتل الجماعي الذي قدر له أن يكون آفة القرن العشرين.
حين بزغت شهر الأول من كانون الثاني عام (1900) لم تفكر جماهير كبيرة أكثر من لحظة تفكير سطحي في المستقبل..
سيكون من الطيش فعلاً أن نحاول تقديم تغطية شاملة لفظائع القرن العشرين في كتاب واحد...
إن معظمنا من مواليد القرن العشرين. ولقد رأى الكثيرون منا أموراً يتمنون أن ينسوها.

الكتاب: تاريخ التعذيب
المؤلف: بيرنهاردت ج.هروود
المترجم: ممدوح عدوان
الناشر: دار الجندي للنشر والتوزيع (دمشق - سورية)
مواصفات الكتاب: الطبعة الثانية 1998م (223) صفحة من القطع الصغير
يحوي على كلمة (الإهداء) (تمهيد) وكلمة و(10) محاور

شبكة النبأ المعلوماتية - الثلاثاء 15/7/2003 -

****

من شعره :

سئمت مناجاة روحي

أغني للهوى القتال أغنية
على طلل يصير ركامْ

أغني كي أنقب في بقايا الصمت
عن أشلاء مجزرة ٍ
يغطيها اخضرار كلامْ

وها إني عثرت الآن
:على شيء سأفعله بلا استئذان
أموت
لكي أفاجئ راحة الموتى
وأحرم قاتلي من متعة التصويب
نحو دريئة القلب
الذي لم يعرف الإذعان
سأحرم ظالمي من جعل عمري
مرتعا لسهام أحقاد
وأرضا أجبرت أن تكتم البركان

أموت
وقد نزفت مخاوفي
لم يبق مني غير جلد فارغ
قد صار كيسا فيه بعض عظام
فصائغ يأسي المقرور فرغني من الأحلام.

****

أتلفت نحوكِ.. أبكي

تقبلين من الفرح المرتجى
تقبلين من الفرح المستحيل
وتأتين كالضوء من عصبي
تطلعين من القلب
ينكشف العمر في عريه
هيكلا من عظام الأماني
وزوبعة من شقاءْ
تكشفين قصوري عن الحب
بعدي عن الله
عجزي عن الحلم والذكريات
تجيئين ملء القلوب العريقة
ملء العيون العتيقة
لم تتركي فسحة للرغائب واللهو
لم تتركي خفقة للّقاءْ
غربتي كشفت وجهها
فرأيتك كل الذي مرمر القلب
لم أتحمل دفاعاًَ عن العشق
أو عن طفولتنا
ورأيتك:
لم يضطهدني الطغاة لرأي
ولم يأت خلفي الغزاة لأرض
ولم تجرح القلب في لوعة هجرة الأصدقاءْ
كنت خلف التوجع والدمع
في الخوف كنت... وكنت الشقاءْ
ولكي أتقرّب منك
لكي أتلمس نبضك
أو أتقرى ابتسامة عينيك
كابدت هذا العناءْ
فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي
ودمعيَ غال
تعلمت كيف استوى الدمع بالدم
أعبد من سفح الدمع والدم كرمى لها
فضح الدمع حقدي
فلا عفو عمن أباحوا دمائي
ولا عفو عمن أباحوا البكاءْ
قلت:قلبيَ يقفز
ينذر بالشر
قلبي تعلق مرتعداً
عند أول هذا السواد
الذي يملأ الأفق
قلت: جبيني على وشك الانكفاء
والعواصف إذ تعتريني تبددني
وأنا أتماسك في ذكرياتك
هدَّأتني
لم تكن غيمة تتجمع سوداء في الغرب
كي ترتمي مطراً
فالغيوم التي اعتدتها أصبحت ناشفة
والرياح استكانت
فلم تأتنا نذر العاصفة
قلت لي:
إنها الطير
في رهبة الأفق سوداء
والناس ترقبها
أقبلت كالشحوب الذي يعتريني
إذا ما ارتعدت على ذكرهم نازفه
ما الذي سوف يأتي؟
ترنحتُ..أمسكتِني
وتوجعتُ..أسكنتِني
واندحرتُ..فأرجعتِني
كانت الطير في رهبة الأفق سوداءَ
جاءت كعتم يفاجىء عند الظهيرةِ
غطت سماءَ المدينة
واصطدم الخلق بالخلق
فالضوء يسودُّ
والقلب يسودُّ
والمدن المستعيذة مشلولة واقفه
وصلت زعقة
وتلاها عويل
تغير نبض السماءْ
ذهل الخلق
وابتدأتْ هجماتُ الطيور
وراحت مناقيرها تنتقي في الزحام
فرائسها الراجفة
خفت ملء عظامي وأوردتي
أقبلت هجرة راودتني
هممت بها
غير أني رأيتك،
قلت: معاذَ هوانا
رجعت أسلِّم عمري
وأخلع خوفي
أواجه نبض نهايتنا
خفت أن تفقديني
وخفت إذا شدني الخوف صوب الأمان
إذا لفني الذعر بين المنافي
بأن لا ألاقيكِ عند المساءْ
حينما شبَّ بين القلوب هروبُُ
تشبثت باسمكِ
أطبقتُ قلبي على نظرتيك
لأجلك أبقى
وتطبق حولي مصيدة الطير
أبقى لديكِ
ولستِ معي
أتمسك بالبرق من ذكرياتك في حلكي
أتعلق بالماء، يندفع السيل
أنشدّ للضوء، يندلع الليل
أنشدّ نحو التراب، يثور العجاج
بلاد تفور
وأخرى تغور
وشمس تغيب وراء الطيور
أطارد خيط شعاع
تسرب ما بين طير وطير
وأغمض عينيّ.

*******

سيرة أدبية

ممدوح عدوان

على غير جرح معتق، يتقلب هذا الشاعر العربي السوري، المولود في عز الحرب عام 1941 في قيرون (مصياف)، ويخرج من العربية الأم ولسان كتاباته إلى الأدب الإنكليزي دارساً ومدرساً فيجول في كل أمصار الثقافة وأصقاع الشعر والصحافة والإعلام والمسرح والتعريب (الترجمة) وعلى غرار كل الحالمين الكبار، الموسوعيين الظامئين إلى الكل، بعد هذا اللاشيء الذي استغفلنا منذ سقوط بغداد سنة 1258 حتى سقوط القدس سنة 1948.
نقل إلى العربية "سد هارتا" لهيرمان هسة، ومذكرات كازنتزاكي 81-1982، وفي الرواية ابتكر واحدة سنة 1970، موسومة بعنوان مفرد "الأبتر".

وأطول من التعريب كانت رحلته في الكتابة للمسرح العربي الناشيء من فراغ النصوص إلى تجاوب النفوس مع المحكي والتمثيل وفي هذا المضمار امتدت رحلة ممدوح عدوان ما بين 1967 "المخاض" و 1971 "زنوبيا تندحر غداً" دون أن ننسى ما بين هذين الموعدين "تلويحة الأيدي المتعبة" و "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" (1970)، و "ليل العبيد" (1977) وأخيراً "هاملت يستيقظ متأخراً" 1979.
إلا أن الشهرة قدمته شاعراً حفياً، متأنقاً بجراحه متألقاً بالهموم القومية والإنسانية التي تراوده ويراودها. عضواً في اتحاد الكتاب العرب منبرياً في مهرجانات الشعر كأنه فارس جديد من فرسان الصولات الشعرية العربية القديمة.
وتبدو محطات المخاض عند ممدوح عدوان ذات منطلق مشترك هو بكل أسف واعتبار، منطلق انكسار 1967، فليس مصادفة إذا أن ينشر في ذلك العام مسرحية "المخاض" ومجموعة شعر "الظل الأخضر"، ثم ينهمر هادراً صاعقاً ثابتاً في استنفاره صابراً في مواقعه بل في متاريس ممانعته ومراهناته على الآتي الأجمل.
سنة 1967، أطلق ممدوح عدوان سهام الشعر والمسرح من جعبة واحدة: "القلب العربي، المنكسر، المقاوم، الممانع والباحث عن ولادة أخرى".
بعد "الظل الأخضر" الذي يمحو بالكلمات الحلوة المحمسة آثار العدوان الإسرائيلي على الأرض والشعب ينطلق ممدوح عدوان متفائلا واثقا من عروبة أو أمة لا تقهر، لا انهزمت آنا بعد آن.
سنة 1974، بعدما أدت الحروب المتتالية 56، 67، 1973، إلى انقلاب في النفسية القتالية العربية، وضع الشاعر مجموعته الثانية "الدماء تدق النوافذ" و "أقبل الزمن المستحيل".
سنة 1977 يذهب إلى بيان شعري رفيع "أمي تطارد قاتلها" و "يألفونك فانفر" ويندر أن نجد شاعراً سواه، ينشر في العام الواحد مجموعتين من الشعر، ومسرحية، وكأنه بحر يفيض بذاته على حبر جمره وعمره.
سنة 1980 يتقدم من العام إلى الخاص، ومن حدود القضايا العربية القومية إلى لب القضية الفلسطينية "لو كنت فلسطينياً" معلنا رغبته في هوية المظلوم وفي الانتماء أو الاستناد لمقاومته المتمادية بالأجساد والأشجار وبالرصاص والحجارة.
ويستحضر في الزمن المستحيل تلك الصور الإمبراطورية القديمة التي تدعي أن "كل الدروب تؤدي إلى روما" ليعلن سنة 1990 "لا دروب إلى روما".
سنة 1999 فاجأنا الشاعر المقاوم ممدوح عدوان بقصيدته الجديدة الأخيرة بعنوان "طيران نحو الجنون" "الصادرة عن شركة رياض نجيب الريس - بيروت".

***

ولد في قرية قيرون (مصياف) عام 1941 تلقى تعليمه في مصياف، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة الإنكليزية، عمل في الصحافة الأدبية، وبث له التلفزيون العربي السوري
عدداً من المسلسلات والسهرات التلفزيونية عضو جمعية الشعر


من مؤلفاته :

.المخاض- مسرحية شعرية- د1967.7.الظل الأخضر -شعر- دمشق 1967
.الأبتر -قصة- دمشق 1970
.تلويحة الأيدي المتعبة -شعر- دمشق 1970

.محاكمة الرجل الذي لم يحارب -مسرحية- بغداد 1970
الدماء تدق النوافذ -شعر- ب1974.74.أقبل الزمن المستحيل -شع1974.
أمي تطارد قاتلها -شعر- بيروت 1977
يألفونك فانفر -شعر- دمشق 1977.ليل العبيد- مسرحية - دمشق 1977
هملت يستيفظ متأخراً- مسرحية- دمشق 1977
-زنوبيا تندحر عداً- مسرحية
-لو كنت فلسطينياً- شعر
مذكرات كازنتزاكي -ترجمة -جزآن- بيروت 1980-1983
حكي السرايا والقناع - مسرحيتان- دمشق 1992- اتحاد الكتاب العرب

***

ممدوح عدوان يكتب عن الشاعر الانفجاري:
هكذا يحشو الماغوط مسدسه بالدموع

بمناسبة صدور مختارات شعرية للشاعر السوري الكبير محمد الماغوط ضمن العدد الأخير من "كتاب إلى جريدة" أقامت مؤسسة تشرين السورية حفل تكريم للشاعر بحضور وزير الإعلام عدنان عمران. "الأهرام العربي" تنشر نص الشهادة التي ألقاها الشاعر ممدوح عدوان بهذه المناسبة.
حين أردت أن أكتب هذه الكلمة لتقديم محمد الماغوط لم أحتج إلى إعادة قراءته. اكتشفت أنه موجود في ضميري الذي أخاف منه، تسربت كلمات له كانت مروعة من وجداني فذكرتني بحقي الذي منحني إياه منذ طفولتي في الاعتراف بالخوف والذل والكبت.
يم يظهر محمد الماغوط صوتاً في المشهد الشعري العربي في الخمسينيات، بل انفجر فيه قنبلة فراغية، ومنذ أصواته الأولى كان شاعراً فاجراً ومنفجراً.
هذا الرجل الذي لم يهتم بوزن ولا قافية ولا آداب ولا شعائر سياسية، رأى نفسه مشرداً وجائعاً وخائفاً فعرف ببداهة الإنسان الأول أن العالم متآمر عليه، ولذلك فإن مؤامرة أخرى في هذه الدنيا الخادعة لم تكن تصلح لإلهائه عن مجابهة تلك المؤامرة الكونية.
ولأنه لا يخجل من دموعه ومن هزائمه ومن الاعتراف بإذلال العالم له، فقد علمنا أن الاعتراف بهذا الذل هو النصر الوحيد الذي بقي لأناس مثلنا في عالم مثل هذا العالم.
ولذلك لم أحس يوماً أنني أقرأ الماغوط، بل كنت أشعر دائماً أنه يعلمني آداب الانفجار الوقح الذي لا يقيم اعتباراً لشيء. وكلما كنت أقرأ الماغوط كنت أحس أن هذا الرجل يتغلغل إلى أعماق روحي ليجبرني على الاعتراف بالوضاعة التي أوصلني إليها هذا العالم الذي أعيش فيه.
هو ذا شخص وحيد في الدنيا يعلن أنه يحشو مسدسه بالدموع. وينتهي إلى أن يأكل النساء بالملاعق، ولا يرى فرصة للعنان إلا أن يضع ملاءة على شارة مرور ليناديها: يا أمي، ويأمر الغيوم بالانصراف لأن أرصفة الوطن لم تعد لائقة حتى بالوحول.
وفيما نحن نرى التبجج بالقوة الكاذبة، هو ذا شخص يعلمنا أن نحب ضعفنا وأمام الانتصارات الإعلامية الخلبية، يعلمنا أن نعتز بهزائمنا، وأما المراحل الوهمية يعلمنا أننا في حاجة إلى البكاء، وأمام الانتماءات الضيقة يعلمنا أننا نملك الحق في أن نطالب أوطاننا بأن تعيد لنا الأغاني والدوع وكل فاصلة في أناشيد حبنا لهذه الأوطان قبل أن تطردنا من جحيمها.
ذات يوم كتب صديقي الشاعر علي كنعان: "سيكفي جبهة التاريخ من أمجادنا أن هُزمنا"، وأقول اليوم باعتزاز: سيكفي "حماسة" العرب الشعرية المعاصرة أن تحتويى على تلك الهزائم الوجدانية التي اعترف بها محمد الماغوط والتي تبدأ من هزائم الجبهات إلى عزائم الروح، ومن خسارة الأرض إلى خسارة الكرامة، ومن الفجيعة بالحكام إلى الفجيعة بالأهل، ومن الحاجة إلى اللقمة إلى الحاجة للدفء، ومن الحاجة اليتيمة للأم إلى الحاجة الشيقة للمرأة التي نتفرز بين نهديها كالصئبان. لقد هجا محمد الماغوط وطنه وهو يمزق ملابسه كأية أرملة، أو أن ثاكلة مفجوعة وأعلن عن رغبته في خيانة وطنه. ولكنني كنت أفهم المجاز الذي يشويه غضبه على ناره الهادئة، ولم أصدق يوماً إلا وصفه للرجل المائل الذي يقصد به نفسه، والذي يتشرد متأبطاً كتبه ووطنه.
محمد الماغوط لا يُقدم في أمسية تكريمية، ولا يقدم بكتابه المطبوع، بل يحق لمن يتورط في الإعلان عن ظهور شعره أن يطلق صفارة الإنذار، فها هنا غارة شعرية على ضمائرنا وعلى كل ما تعودناه من كذب ومكابرة وادعاء، إنني لا أقدم لكم شاعراً بل أطلق بينكم قنبلة انتُزع صمام أمانها.
إذا قرأ محمد الماغوط شعراً، أو إذا تورطتم باقتناء ديوان له، فانزلوا إلى الملاجئ الأخلاقية التي تعودتموها، البسوا الكمامات الواقية من الصدق الجارح وتسلحوا بالمكيفات الإعلامية التي تعودتم على تهدئتها وتخديرها.
ولكنني أقول لكم إنها لن تنفعكم، ما من ملجأ يحميكم من هذا الاعتراف الشعري الجامع بأوبئتكم، طالما أنكم قد تورطتم بسماعه أو قراءته.
وأرجو أن أحذركم إلى أنكم قد ترونه الآن رجلاً ضعيفاً يستند عكاز، هذا ليس رجلاً تقدم به العمر، بل هو رجل تقادمت فيه الهموم والأحزان والفجائع وتخمرت في أعماقه الدموع الحبيسة، وتعتقت في روحه الآهات التي لم يسمعها أحد.
وأحذركم أيضاً أن القنبلة التي يبدو غلافها صدئاً هي انفجاراته بالمقدار الذي كانت عليه دائماً.
وهو أيضاً تلك المرأة التي أهملناها قليلاً، ويكفي أن نفتح آذاننا وضمائرنا ليتساقط عنها الغبار ونرى أنفسنا فيها على حقيقتها.
لقد استطاع محمد الماغوط أن يحرجنا ويجرحنا بشعره لأنه ظل قادراً على الاحتفاظ بالطفل المقهور الذي كأنه، طفل لا يندهش من الجمال ويفرح به فقط، بل يشمئز من القبح ويبكي من الظلم.
لقد صرخ منذ البداية: ألا ترون كم هو العالم فظيع وعفن ونتن كم هو غير لائق بمعيشة البشر؟ كم يثير من القهر والغضب والبكاء؟
احتقان كهذا لا يعرف كيف يقلم أظافره ليليق بأجواء الشرف العربي، ولا كيف يلبس الياقة والقفاز ليصلح لصالونات الأناقة الثقافية، فانفلت في الأجواء الأدبية حافياً مشعثاً رثاً كما لو أنه ما يزال يلعب في وحل الحارة، ولم يهتم لملابسه المتسخة وقدميه الموحلتين، لم يهتم من نفور أبناء الصالونات أو الداعين أو استتباب الأمن في استعراضات الأناقة الفعلية والبروتوكوليا: ببساطة قال لهم: لم أجلب الوحل من بيت أبي، ولم أتسخ في حضن أمي، ولم يكن البكاء هوايتي، ولا الجوع رياضة أمارسها. عالمكم وسخ وموحل ولعين وموحش، ولست معنياً بتنظيف نفسي أو حتى أسناني لكي أساعدكم على التهرب من مسؤولياتكم عن وسخ عالمكم.
معاناة اليتم والغربة والجوع والتشرد والكبت، وحب الوطن والنساء والحرية والتسكع والتدخين والشراء، والمجاهرة بالرأي في الكتابة وتعرية العالم الذي يحيط به كل صباح. . هذه هي حدود ملكوت محمد الماغوط وهي حدود عذاباته ذاتها.
لم يكتب من قارءته أو تأملاته بل كتب من زعيق بطنه الخاوية وارتجاف أعصابه الخائفة.
وهكذا راح يكتب دون أن يهتم بتسمية ما يكتبه، حتى أنه ذات يوم خاف من أن يكون الذين يسمون كتابته شعراً يقصدون السخرية منه والضحك عليه، فشتمهم في مجلة أدبية رائجة، ولكنه استمر ------ أظافره المتسخة على الحيطان ويكتب بهذه الأظافر، فيثير الصرير والغبار لترتجف منه العظام وترمد العيون.
وليصبح واحداً من أهم الشعراء العرب، شعر؟ فليكن، يقول الماغوط، ابحثوا أنتم إذاً عن قوانين لما أكتب ولا تطبقوا على قوانين كتابتكم.
إن صدور مجموعته الكاملة، أو صدور هذه المختارات في "كتاب في جريدة" حدث مهيب، وإرهاق هادئ إذ من سيطيق أن يغامر بقراءة عذابات عمر الماغوط كلها دفعة واحدة؟ كم تستغرق منك قراءة المجموعة ؟ يوماً؟ شهراً؟ سنة؟ تصور أنك ستتحمل في مدة قصيرة كهذه عذابات رجل كان يتألم عن أمة كاملة وطوال جيل كامل، وقد ظلت روحه تئن تحت هذه العذابات طوال هذا العمر المرير. . حتى نخخت قلبه وجسده.
ونحن إذ نختار أن نقرأ شعره فإننا نجيء إلى مخبر التحليل بأنفسنا، والشاعر المخبري المحلل سيقدم لنا تقريره ليقول لنا إننا مصابون بفقدان المناعة الأخلاقية والوجدانية والسياسية والوطنية، وإننا مصابون بالشلل الوطني وبسرطان الجبن والتخلي والتخاذل.
اقرأ دفعة واحدة إذا رغبت، ولكن احذر القرحة . . والرقابة فهذا من الشعر النادر الذي يحمل قارئه مسؤولية القراءة بمقدار ما حملها كاتبها حين كتب.
ولكن الماغوط، ولأنه مؤدب بآداب الشعر المتصعلك العظيم المقهور الرجيم المضمخ بالنزيف، سيوهمنا أنه لا يتكلم إلا عن نفسه وعن آلامه.
ولكن دققوا قليلاً، وستكتشفون أنه يحكي عنا جميعاً. . .

عن الأهرام العربي

***

ممدوح عدوان ومسرحة الجوع والتاريخ

ناصر ونوس

في عام 1995 كتب ممدوح عدوان نصاً مسرحياً بعنوان "سفر برلك ـ أيام الجوع" وذلك ضمن مشروع كتابي يتناول مرحلة "السفر برلك" المرحلة الأشد قسوة في تاريخ سوريا الحديث، وكان من المفترض ان يتمخض هذا المشروع عن سلسلة أعمال مسرحية ومسلسل تلفزيوني ورواية، كما قال الكاتب آنذاك، لكن ما ظهر منه إلى الآن هو نص مسرحي آخر بعنوان "الغول" ومشروع ممدوح عدوان في "سفر برلك" يندرج ضمن المبدأ الذي يقول باستعادة الماضي من أجل إضاءة الحاضر، هنا سنتحدث عن "أيام الجوع" الذي أتى في سياق ما نسميه بـ "مسرحة الجوع والتاريخ".
يتحدث الكاتب في "أيام الجوع" عن المجاعة التي مرت بها منطقة بلاد الشام في مرحلة الحرب العالمية الأولى في ظل الاحتلال العثماني، وهي أهم المراحل التي مرت بها هذه المنطقة وشكلت ملامح تاريخها المعاصر، من حكم جمال باشا إلى تراجع الدولة العثمانية أمام غزو الاستعمار الأوروبي، ومن ثورة الشريف حسين إلى وعد بلفور. من وقائع هذه المرحلة ينسج الكاتب مسرحيته التي تبدأ حكايتها تاريخيا بإعلان السلطان العثماني الدخول في الحرب "المقدسة" لرفع راية المسلمين" ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا، فيعلن التعبئة العامة التي تشمل كل من يستطيع حمل السلاح من سن العشرين إلى الخمسين، إضافة إلى جمع المؤمن والمواشي والدواب، يذهب الرجال مرغمين، تاركين نساءهم وأولادهم وأراضيهم تحت رحمة الجوع والفقر وسطوة من بيده المال والسلطان، وعندما تنتهي الحرب بهزيمة السلطان وجيشه يعود من يعود ليجد زوجته سبيت وأرضه بيعت، فمنهم من ينتقم بقتل زوجته ومنهم من يتفهم الموقف ويواصل حياته مع زوجته وأولاده.
تبسط لنا المسرحية تلك المرحلة من خلال بنية ملحمية تتراصف فيها اللوحات ذات المضامين الاجتماعية والتاريخية، وتتناثر فيها مفردات مثل: الجوع، الفقر، البؤس، القهر، السلطان عبدالحميد، جمال باشا، جماعة الاتحاد والترقي، 1912، 1914، الباب العالي، جيش الشريف حسين، حرب الترعة، وغيرها.. مرحلة لخصت سماتها الاجتماعية إحدى الشخصيات عندما تتحدث عن الموت جوعاً وجماعياً، تقول (والحوار يدور بالعامية): "يا حسرتي.. أول سنة كنا نكفن.. تاني سنة صرنا نلف بالملاحف ونقبر.. وثالث سنة صار ابن آدم ينقبر بتيابه.. رابع سنة اللي أبو زيد خاله كان يلتقي عليه شرتوحة.. ما ضل على المعالف غير كل تالف.. صارت العالم تنزت فوق بعضها، وتنطمر بس منشان ما تطلع ريحتها..".
والمسرحية تعرض لنا جملة الأسباب التي أوصلت الناس إلى هذا الوضع المأساوي، وذلك استنادا إلى الذاكرة الشعبية التي تشكل المصدر الأساسي لمسرحية ممدوح عدوان هذه.
والمؤلف يذكر بعض المصادر، مثل قصيدة "الجوع" للشيخ صالح المحمد الابراهيم (ريف مصياف). وقصيدة "السفر" للشيخ سلامة علي متوج (ريف اللاذقية). ومذكرات محمد مختار الدروبي (حمص)، وهناك مقاطع كثيرة من القصيدتين المذكورتين منثورة في ثنايا النص الذي يحفل بالحكايا والقصص والأمثال الشعبية التي مازال الكثير منها متداولاً حتى الآن، ويحمل مغزى حيوياً وراهناً.
تتوزع شخصيات المسرحية، عدا الراوي والمغني، إلى فئتين: الفئة الأولى تمثل عامة الشعب أو ما يمكن تسميته بـ "قاع المجتمع"، وقد تجسدت هذه الفئة بكل من: حميدة وزوجها عباس، جفلة وزوجها صالح، ريما وخطيبها غانم. إضافة إلى صطوف والبدوي ورجل حوران وعامر. الفئة الثانية تمثل المختار، التاجر أبو إبراهيم، الضابط العثماني، البيك، الشاويش، المقاطعجي، التاجر الحلبي، الشيخ عبدالرحمن.
وهنا لا يتسع المجال للوقوف عند جميع الشخصيات، لذلك سنتوقف عند شخصيات الفئة الأولى ونركز على "صطوف" لما تحمله من أبعاد اجتماعية وفنية، ففي هذه الفئة نجد "حميدة" تعيش صراعاً داخلياً، فهي إما ان تموت جوعاً هي وأولادها، وإما ان تبيع جسدها لتطعم أولادها وأولاد جيرانها وتحمي بقية النساء من سطوة العسكر، فتختار الحل الثاني، خصوصا وأنها أكثر النساء إحساسا بالحرمان بفعل غياب الزوج، لكنها تدفع الثمن غاليا عندما يعود الزوج عباس ويراها حاملاً فيقلتها بخنجره الذي كان يحمله لقتل "أعداء المسلمين".
أما "جفلة" فتضطر لأن تختبر الفطر بأحد أولادها لتعرف إن كان مسموماً أم لا، لأنها لو جربته بنفسها وماتت لكان الأولاد أكلوا من دون ان يعلموا انه مسموم، وبالتالي ماتوا أيضاً، لكن لحسن الحظ لم يكن الفطر مسموماً. أما ريما التي تنتظر عودة غانم فلم تعد تستحمل مضايقات رجال الشرطة، ومن ثم "أبو إبراهيم" فتقرر الرحيل، بينما غانم يحاول الهرب من الحرب ورفض مغريات "زلفا" ليعود للقاء ريما. لكن مع عودته يقتل خطأ عند مدخل الضيعة برصاص عباس.. عباس الذي كان قد حمله في الصحراء على كتفه ثلاثة أيام.
لعل أهم شخصية في العرض كله هي شخصية "صطوف" فهو منبع الكوميديا في النص، وهو يوازي المهرج، أو الخادم، أو البهلول، في المسرح الكلاسيكي، عند شكسبير، وكوميديا ديلارتي وموليير وجولدوني، والذي يحمل دائما صفات الذكاء والوعي والنباهة، والحكمة المستقاة من الأمثال الشعبية التي يحفظها ويرددها للتعليق على المواقف المحرجة والنفاذ من المآزق التي يتعرض لها.
يعشق جفلة رغم أنها متزوجة من ابن عمه، وطوال الوقت يغني لها: "جفلة يا أم الزلف، جفلة يا عيني. لا تدعسي عالغمر، تحت الغمر حية". لكنه، وهو الذي يدَّعي الجنون بقصد الهرب من التعبئة العامة، يذهب إلى الشاويش ويطلب منه ان يأخذه إلى العسكر، وهنا يكون قد أوهم الشاويش مرة أخرى انه مجنون، فالمجنون وحده هو الذي يسلم نفسه إلى العسكر، وبالتالي أقنع الشاويش تماما انه مجنون.
في أحد المشاهد يجلس متنكراً في ثياب امرأة وسط نساء الضيعة اللواتي يبحثن عن "السليق" في الوادي، وعندما يأتي الدرك ليتحرشوا بالنساء يهرع نحوهم ويشاركهم أكل اللحم وشرق العرق ويرقص ويغني معهم، وعندما يكتشفوا انه رجل تأتي النسوة وتشرح للدرك انه مجنون.
هذا الموقف الذي ينسجه الكاتب لصطوف يتحلى بوعي سياسي فطري يتكشف من خلال حديثه الذي يتخيله مع جمال باشا، وهو حديث يتخذ شكل الأسئلة التي تصلح لأن تكون أسئلة المواطن العربي لحاكمه، منها: "ليش بدك تقتلنا نص قتل، وتجبرنا نحبك، ونحنا عم نموت، وتجبرنا نصدق إنك عم تدافع عنا وأنت عم تقتلنا؟ (...) معقولة فيه حاكم يرفع رأسه وهوى عم يحكم ناس كلهم موطايين روسهم؟" إنها أسئلة محرقة وراهنة. أما وعيه الاجتماعي فنتلمسه في حواره مع جفلة حول الحب والزواج، يقول: هلق عرفت شو عملت فينا سنين الجوع، وشو عملوا العصمليي والبكوات والخزانة. خلونا ما نعرف نحب، خلوا أول ضحكة بين تنين تفكر بالجازة، وأول ليلة بعد العرس تفكر بالخلفة، بتعرفوا شو يعني، يعني ما عادنا بشر، نحنا بقر، بقرة وتور، بتضل رقابهم تحت الكدانة، طول عمرهم وهنن ينحوا، لا هوى حاسس فيها ولا هيي حاسة فيه، ومن أول لحظة بيحس فيها بينط عليها من شان تجبلو العجل اللي بدو يحط رأسه تحت الكدانة متلهم..". إن هذا الوعي الذي يجسده صطوف هو في نهاية الأمر وعي الكاتب نفسه، وعيه كمثقف يعيش وسط واقع مليء بالقهر والقمع والتخلف.
بعد حديثه إلى جفلة يستفيق صطوف من غفلته ليجد ان ادعاءه الجنون، وحالة العطالة التي يعيشها، سيقودانه ليصبح "دابة" في نهاية المطاف، حسب تعبيره هو، فيسلم نفسه مرة ثانية إلى الشاويش ليأخذه إلى العسكر، لكن الشاويش يطرده للمرة الثانية لأنه يعتبره مجنوناً.
وعندما ينهزم الأتراك في الحرب ويرحلون عن الوطن ليدخل مكانهم الإنجليز والفرنسيون يصطف "البيك" مع الأتراك آملا بعودتهم وإعطائهم له "الباشوية" بينما التاجر أبو إبراهيم يصطف مع الإنجليز أملاً بأن يجعلوا منه تاجراً كبيراً، عندها نجد صطوف وحده يعي هذا الوضع فيفضح الاثنين أمام الجميع.
ان "سفر برلك ـ أيام الجوع" نص مسرحي يضيء مرحلة هامة من تاريخنا الحديث، مرحلة مغيبة عن وعي أجيالنا، لا تزال لها امتدادات في واقعنا الراهن.

****

ممدوح عدوان:

التاريخ لا يتوقف عند المزاج الشعبي

بيروت - رويترز

واجه الكاتب والشاعر ممدوح عدوان من خلال مسلسل تليفزيوني كتب نصه المشكلة التي واجهها حكواتي أيام زمان عندما جعل بطلا قالت روايات انه عنترة بن شداد يقع في الأسر‚
ويصل القارىء مع عدوان إلى ان الماضي وأبطاله حتى الذين يكادون يكونون شبه وهميين لا يزالون فاعلين في حاضرنا بكل ما يحمل ذلك من مدلولات سلبية أو ايجابية‚
وقد واجه الأديب السوري مشكلة لا تختلف كثيرا عن ذلك عندما كتب سيرة بطل آخر هو الزير سالم من أجل مسلسل تليفزيوني ملتزما الموضوعية فوقع بين ما وصفه بأنه دفاع الناس عن صورة البطل النمطية والحقيقة التاريخية‚ كما انه فضلا عن ذلك اتهم بتشويه صورة أبطال الأمة وإثارة النعرات القبلية‚
تقول الروايات الشعبية ان حكواتيا ختم حصة إحدى لياليه من سرد سيرة عنترة بإدخال البطل الشعبي إلى سجن أعدائه أسيرا ثم صمت صمت شهرزاد عندما أدركها صوت ديك الصباح‚
ويفاجأ الحكواتي بأحد القبضايات ممن كانوا يستمعون إليه في المقهى الشعبي يقرع بابه قبيل الفجر ويأمره مهددا بالويل بأن يخرج عنترة من الأسر فهو لا يستطيع النوم وبطله أسير الأعداء‚
وإذا كان احد القبضايات قد ثار على الحكواتي قديما من اجل كرامة عنترة فقبضايات هذه الأيام الذين حملوا على عدوان كانوا كما يقول أناسا عاديين ورجال أعلام ومثقفين عاشوا مع نتف من ذكريات عن السيرة ولم يتحققوا من الحدث التاريخي‚ إلا أنهم ربما كانوا اشد إيلاما من القبضاي القديم‚
صدر الكتاب عن دار قدمس للنشر والتوزيع بعنوان "الزير سالم‚‚ البطل بين السيرة والتاريخ " وجاء في 126 صفحة من القطع الصغير‚ وفيه يتناول عدوان مسألة مهمة تجسدها مشكلته مع قبضايات عصرنا‚
ويروي الكاتب كيف ثار جدل حول مسلسل "الزير سالم" الذي كتب نصه فيقول ان النهاية التي انتهى إليها الزير سالم في المسلسل كانت من أكثر الموضوعات إثارة للجدل إذ ان السيرة الشعبية التي تتناول احد أيام العرب فيما عرف باسم "حرب البسوس" التي دارت بين بكر وتغلب وتحول بعدها اسم البسوس إلى رمز للشؤم تختلف عن الواقع التاريخي‚
وأضاف ان هذه السيرة تنتهي عند انتصار الزير وتمكن الجرو من قتل خاله جساس وإذلال بني بكر "ولكن التاريخ لا يتوقف عند المزاج الشعبي الذي تتفاعل معه السيرة"‚ وقال معلقا على الجدل الذي أثاره المسلسل ان عنتر والزير وأبو زيد الهلالي هم أكثر الشخصيات البطولية ترددا على الالسنة حتى في الأمثال والأغاني‚
لكنه أضاف "إنني واثق من ان سيرة الزير لم تعد تقرأ في المقاهي منذ نصف قرن على الأقل‚ كما ان نسبة من قرأها من الأجيال الجديدة ضعيفة جدا‚ التقط البعض الاسم من الثقافة العامة الشائعة على الألسن والبعض الآخر قرأ شيئا عنها في الكتيبات التي تنشر للأطفال أو اليافعين عن أبطال التاريخ والسير‚ ولا شك في ان هناك من قرأ عن حرب البسوس في كتب التراث ولعل نسبة قليلة جدا قرأت السيرة في كتاب‚ لكن في الجدل الذي أثير في الصحف لم يبق احد إلا ادعى انه سمع القصة في المقهى أو سمعها أبوه أو جده"‚
وأشار إلى ان هناك فضلا عن ذلك جهلا يتمثل بما ورد في هذا المجال في مقال لكاتبة سورية في صحيفة عربية خلطت فيه بين سيرة بني هلال وحرب البسوس على ما بينهما من بعد في الزمان والمكان‚ ودعا إلى "مراجعة توثيقية يجب ان يقوم بها المثقف الجاد بوصفه باحثا أو مستفيدا من التراث لعمل إبداعي"‚ ونبه إلى ان هناك في السيرة الشعبية كما تروى كثيرا من الإضافات غير المعقولة ومن ذلك ان بعضها مثلا متأخر زمنيا عن تاريخ الأحداث الحقيقية في السيرة‚
ووصف عدوان هذا "بالادعاء المعرفي" مضيفا "ان المتقولين أرادوا أمورا ليست موجودة في كتب التراث ولا في صيغ السيرة المطبوعة بل انكروا وتجاهلوا أحداثا وشخصيات وردت في السيرة ذاتها وفي الكتب والمراجع وبعضها ارتبطت فيه قصائد من ديوان الزير سالم نفسه"‚ وقال ان البعض ذهب إلى حد إنكار معركة "تحلاق الذمم" التي أذل فيها الزير سالم واعتزل الحرب بعدها‚
ولعل هذه الضغوط كما يقول عدوان هي التي أجبرت المخرج والممثل بطل المسلسل والمنتج أيضا على "عدم تصوير الموقف المذل إلى نهايته كما ورد في التاريخ وكما أوردته في المسلسل وفيه ان الحارث بن عباد أذل الزير الأسير وجز ناصيته قبل ان يطلق سراحه"‚ وقال "لست ادري ماذا كان يمكن ان يكون عليه رد الفعل لو ان المشهد صور كما كتب"‚ واستخلص عدوان ان "الناس يدافعون عن الصورة النمطية التي في أذهانهم عن البطل والحقيقة التاريخية تخرب هذه الصورة وتشوهها‚ ولذلك فان إنكار هذه الحقيقة أسهل عليهم من تقبلها‚ ويأتي الإنكار إما من خلال اتهامنا بالتزوير أو بالتحريف من اجل الإسقاط أو بالجهل بالتاريخ أو بالسيرة ناهيك عن الاتهام بمعاداة الأمة وتشويه صورة أبطالها"‚
ومضى قائلا "هذه الحساسية التي تحيط بأبطال التاريخ هي العقبة الأولى التي تواجه الباحث الذي يريد ان يتقصى حقيقة الإحداث والشخصيات‚ فمن غير المسموح به ان يتم التشكيك في حدث متفق على وقوعه أو في شخصية متفق على تصنيفها السلبي أو الايجابي"‚

الوطن القطرية - Mar-31-2003

****

ممدوح عدوان.. والجري وراء قوس قزح

بيروت - رويترز

في تكريم للشاعر محمد الماغوط أصدر الشاعر والروائي ممدوح عدوان مسرحية جاءت أشبه بشراكة بين الاثنين ووصفها بأنها تقوم على التناص و"التلاص" أي السطو على أشعار الماغوط. الفكرة الأساسية المستحيلة التنفيذ في المسرحية تذكر بما يقال للأطفال من ان المرور تحت قوس قزح يحول الصبي إلى بنت والبنت إلى صبي.. تقوم على القول باستحالة تغيير الطبيعة البشرية مهما حاول الحاكم المستبد ذلك باسم المجد والوطن وعلى ان محاولة غرس قيم وأفكار لا تنسجم مع الطبيعة البشرية التائقة دائما إلى الحب والعدل والكلمة الحلوة أمر ينتج عن قصر نظر. فالطبيعة تنتصر دائما.
ويشبه ذلك ما كان يجري من وضع أقدام النساء الصينيات خلال زمن غابر في قوالب حديدية كي تبقى وفق مقاييس أرستقراطية الصين صغيرة جميلة.. فلم تكن القوالب لتمنع النمو الذي يستمر لكنها كانت تشوهه وتحوله إلى مفجع.
حملت المسرحية عنوانا هو "الفارسة والشاعر" وتحت ذلك كتب "تكريما لمحمد الماغوط". وقد صدرت في 135 صفحة عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت.
روى عدوان في المقدمة ان محاولات جرت في مديرية المسارح في دمشق لإعادة تقديم مسرحية الماغوط "العصفور الأحدب" لكن بدا ان ذلك صعب دون القضاء على العنصر الشعري الغالب في تلك "القصيدة العظيمة".
وقرر عدوان كتابة نص مسرحي جديد لكن لم يكن من السهل عليه التخلص من سيطرة نص الماغوط. تذكر فكرة خطرت له سابقا عن شخص يوصله جبروته إلى ان يسعى إلى تغيير ابنته إلى رجل. وكان الماغوط في تلك الفترة قد دخل في حالة من الاكتئاب والمرض ولم يعد يغادر بيته فتقرر تكريم الماغوط "وإدخال شيء من السرور" إلى قلب الشاعر الكبير.
أضاف ان العمل تطلب منه ان يدخل في شخصية الشاعر الماغوط من خلال تقمص أسلوبه في الكتابة أي أنني أردت تبني أسلوب الماغوط دون ان أتخلى عن أسلوبي. انه الشيء الذي يسميه النقاد الجدد التناص. ولكنني أردت ان أضيف كلمة "التلاص" أيضا. فانا قد سطوت فعلا على أشعار الماغوط وأدخلتها في النص.
شخصية الشاعر في المسرحية تقوم على شخصية الماغوط.. وكلام الشاعرة سنية صالح زوجة الماغوط "مطعم بشيء" من قصائدها.
في الكلام عن الزمان والمكان في المسرحية يقول عدوان كل زمان.. منذ اكتشاف النار حتى ما بعد تنسيق الكومبيوتر. المكان.. حيث توجد غابة وقصر وقرية فقيرة.. وإمكانية الحديث عن وجود سجن سابق. الأميرة التي كلف الملك ضابطا تحويلها إلى مقاتل قوي تنبت له لحية تنجح في فنون القتال والسعي إلى المجد.. والشعب الفقير يئن ويشكو.
تسمع الأميرة غناء الشاعر الشريد في الغابة حيث يسعى إلى مكان ينام فيه وطعام يعود به إلى عائلته الفقيرة. انه كلام مختلف عن نمط الكلام "العظيم" المعتمد في المملكة. تتحرك مشاعرها لسماع الشاعر يصف نفسه بأنه "احد المناديل التي تلتقط دموع العالم" فتقول مخاطبة التابع المرافق لها انه "كلام يبكي.. كلام فيه بكاء لأناس لا يبكون". وأسعدها ان الشاعر لم ير فيها بطلا محاربا بل "زهرة برية أو يمامة".
يغضب الملك لان ابنته أخذت تكتشف الإنسان الأنثى في نفسها "بدأت تكتشف جسدها" ويسأل عمن أيقظ عواطفها فيقال له انه الشاعر. ويقرر الملك وضع حزام حديدي حول صدر الأميرة ليوقف نمو ثدييها.
يمثل الشاعر أمام الملك الذي يوبخه لعدم رغبته في القتال من اجل الوطن قائلا "من يريد ان يأكل من الوطن عليه ان يدافع عنه" ويرد الشاعر مخاطبا الأميرة "لا يا أميرتي. أنا من الذين يأكلهم الوطن فلا يبقي فيهم قدرة حتى على الموت من اجله".
ويكتشف الشاعر ان الملك كان صديقه ورفيقه أيام السجن وكان رقيقا لطيفا يبكيه الظلم لكنه الآن لا يريد ان يعرف احد عنه انه كان سجينا أو فقيرا ويدعي ان الدم الأزرق يجري في عروقي قبل ان أتكون في بطن أمي. كل ما يطلبه الشاعر منه الآن ان يقول له "وداعا أيها الصديق القديم" لكن لا وقت لدى الملك له.
الأميرة القوية البريئة تتوجه إلى الحرب وتنتصر. ولكثرة ما لقنت عن بطولة والدها وتقاليد الحرب في المملكة تتوهم ان الاغتصاب من متطلبات البطولة فتفعل ذلك مع قائد العدو وتأتي به أسيرا مع رجال العدو ونسائهم لتوزعهم على الشعب للغاية نفسها. لقد نمت وخرجت عن القالب الحديدي.
يغضب الملك من التابع الذي يقول له: لم افعل شيئا إلا ما أمرتني به يا مولاي. أنت طلبت ان نصنع منها رجلا. والرجل هكذا. يقاتل وينتصر ويغتصب. ويقول الملك للشاعر بحقد: أرى نفسي الآن نمرا جريحا في الغابة يجرؤ ثعلب ماكر مثلك على مجادلته. يرد الشاعر عليه قائلا: مثلما توهمت انك تستطيع ان تجعل الناس ينسون بطونهم وآباءهم.
في المسرحية المنسوجة بالسخرية والألم والضحكات المرة وعند النهاية يقول الشاعر للملك بكلمات من الماغوط الشجرة قصيرة والظل طويل. انه الغروب يا مولاي.

المصدر: الدستور الأردنية