عباس بيضون
(لبنان)

ممدوح عدوانلم يطل الوقت حتى امتلأت القاعة الشاسعة في الأوبرا. كان على المرء أن يصعد سلالم عدة قبل أن يصل إلى القاعة الحمراء التي غمرها احمر هادئ لطيف لمس الحشد الكبير الذي انتظم بسرعة وبلا صوت تقريبا. عشر دقائق فوق الموعد المحدد "السادسة" وأظلمت الصالة لترى ممدوح عدوان على الشاشة كما صوره محمد ملص وهو يلقي تلك القصيدة التي يتحدث فيها عن "فتانا" الذي رحل في غير دوره. عن موته الذي انقلب حنانا و"إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع" و"قد متنا شبابا" كان واضحا أنها مرثية لشاب، لكن بعد أن مر الوقت وضاعت المناسبة. ففي وسعنا أن نجد في القصيدة مرثية ذاتية مبكرة أو بالأحرى متأخرة وها هو ممدوح عدوان من وراء القبر يرثي ذاته. كان صوت عدوان حرا طلقا ونظراته تتوجه إلى كل الجهات. كنا جميعا تحت نظرته وصوته. لقد عاد شابا ومزهوا وكأنما الآن يبدأ حياته الثانية. لقد كان اقوي المتكلمين في يومه. احتفال طويل. عشرة متكلمين. اغلبهم حسب حساب الوقت، لكن ساعتين ونصف الساعة انقضتا قبل أن نخرج ونتأنى في الباحة كثيرا حتى نعرف إلى أين نذهب.

لا نبالغ إذا قلنا أن الجميع احترموا المناسبة. الكلمات كلها محبوكة جيدا وسهر أصحابها وتأنوا في انجازها، إحدى السامعات قالت لي أنها كانت تنتقل من نشوة إلى نشوة، ولم يسمح لها أي متكلم بأن تستريح. عاد الاحتفال مباراة أدبية خاضها الكل بجدارة. لنا أن نسأل هنا لماذا لم نسمع قصيدة. هذا في الغالب مزيد من الاحترام. الجميع وكثيرون منهم شعراء أدركوا أن في الشعر ابتعادا غير محمود عن المركز وان عليهم أن لا ينسوا مهما استطردوا نقطة البداية.
كان واضحا أن لممدوح عدوان من الأهمية ما يجعله بسهولة رمزا للجمال والثقافة والشعر نفسه وهكذا تكلم نزيه أبو عفش عن "حماقة الحبر وشهوات الجمال" وتكلم محمود درويش عن "شعر لا يجعل الاستعادة عبئا على الحياة". ومثلهما تجنب الجميع أن ينحدروا إلى التعليق السياسي أو الخطابة المباشرة، بقي الكل تحت سقف الشعر وتكلموا جميعا بالصور والمجاز والكنايات. كان في معظم الكلمات لفظية شعرية على الأقل وفي بعض الأحيان نتف من شعر فعلي. بقي الشاعر هو المخيم وحين كانت السياسة تلح فان هذا لا يتم إلا بعد استئذان الشعري وفي رعايته. الشعري الذي جعل النصوص متوترة بين النحت والابتكار الأدبيين من جهة وبين الاحتجاج السياسي وغير السياسي من جهة أخرى.

الاحتجاج
يمكن القول أن الاحتجاج كان عطش الكلمات وجوعها وغريزتها التي لا تشبع. بل أن الاحتجاج لا يكفي فهناك غضب مر مسحوق يائس، بل أن المرارة الخانقة كانت بالأحرى طين الكلمات ومادتها، الزميل طلال سلمان تكلم عن "شعاراتنا المقدسة التي صارت في منزلة الأوهام" وأهدافنا السامية التي تحولت إلى زجليات وتكلم عن قتل نحن فيه القاتل والقتيل معا وكل أطرافه قتلى والجريمة مقيدة ضد مجهول. نزيه أبو عفش أدار كلامه على الحياة التي لم نعشها ونعيش من فائضها. المرارة بالطبع ذات مصدر سياسي بالدرجة الأولى، إنها يأس سياسي كامل شامل. أكد عادل محمود "جيلنا كله لا يستطيع أن يكتب تعريفا جامعا ومانعا لكلمة هي الحرية" ليس مجرد يأس ولسنا أمام ميتافيزيق سياسي فالسياسة المتضمنة في الكلمات، رغم ادبيتها وكنائيتها فان إشاراتها تصيب أحيانا وتكاد تلامس أوضاعا عينية. إشاراتها تكاد تعين أمورا وحين يحدث ذلك يتعالى التصفيق، كان الاحتفال ضخما وبرعاية وزارية لكن سياسة الاحتفال بالرغم من ذلك معارضة وتلعب المعارضة بتهويل بلاغي، ولكن أيضا بتوريات شبه واضحة، كانت هناك دائما هذه "الهُم" المتهمة، التي تكاد أحيانا تخرج من غبشها وتتعين. أو على الأقل يتراءى أنها تجسدت أو على وشك أن تتجسد. يمكننا القول عندئذ وباختصار أن الاحتفال هو أيضا مؤتمر مثقفين وأن خطابه اقرب إلى أن يكون خطابا منشقا.

مع ذلك فان جوا ثقيلا بل كابوسيا من الكآبة كان يرزح على هذه الكلمات. ثمة حداد سياسي خيم عليها، بل هناك تلك اللغة التي تحر الوجع وتحر الجرح وتذهب فيهما إلى الأقصى، كان في النصوص قوة عصبية، قوة توخز وتوتر ومشاعر وأفكار مروسة ومشدودة إلى الأقصى، لغة لا ترحم ولا تجازف بشفقة على الذات، كانت القوة البادية في الكلمات قابضة مقلقة أحيانا. وأظن أن الجو المحتقن زادت وطأته من كلمة إلى كلمة. كانت هناك حاجة إلى الصراخ، إلى الإعلان، لم يكفها الأدب. ولا اللغة.

ممدوح عدوان لم يكن ذريعة بل محور للكلام، شعره وشخصه. احمد عبد المعطي حجازي قرأه ثانية ليتأكد مما قالته له الهام زوجة الشاعر من أنها وجدت أن الموت كان شاغله الأكبر. لقد كان عدوان يضحك ويصخب فيما كان الموت موضوعه الأصلي. صادق جلال العظم الذي ليس شاعرا ولا يجتلب الشعر إلى نصه وجد أن عدوان هو أفضل من عبر عن جيل الستينات ومعاركه. لم يتردد ولم يقع في التأثيرات العقيمة التي شلت ثقافتنا، هكذا ميز نفسه بجدارة وتفوق على جيله والانتلجنسيا العربية. طلال سلمان وصل إليه متأخرا رغم انه طالما أحب لقاءه. هاتفه قبيل رحيله بعد أن حثه محمد ملص على ذلك. لقد وصل إليه متأخرا، نزيه أبو عفش وازى بينه وبين الشعر والجمال. محمود درويش تكلم عنه كتوأم شعري ورفيق مغامرة واحدة. وفي ما يشبه قصيدة نثرية كان هنالك أيضا "هم" الذين يبحثون عن "الشعر الصافي في جناح بعوضة ويجدون الاستعارة عبئا على الحياة". عبلة رويني وصفت كيف كان يكتب بمسؤولية جعلته في نظر نفسه صارما ومتجهما، حتى انه وهو الساخر الضاحك لم يكتب في حياته أي كوميديا.

صيحة اليأس
كلمات مختلفة بالطبع. كانت هناك مرثية جماعية لتاريخ ومرحلة، وكان هناك شعر مشدود وشعر طلق وكان هناك تحديدات ثقافية وتاريخية ونقد للشعر وبالطبع نقد سياسي. يمكن القول أن مباراة الذكرى كانت جامعة ومثيرة. لقد تلاقى المتكلمون على أكثر من إنشاء وجداني بالطبع.

لم يحضر محمد الماغوط وانتظرنا أن يلقي عنه احد كلمته لكننا فوجئنا به على الشاشة. رأيناه شبه سجين على مقعده. وضع سيجارته في المطفأة وتناول ورقة وجاء صوته متحشرجا. احتجنا لوقت حتى نتحرى ألفاظه. قال انه رافق ممدوح في الشعر والحانات وانه عقد اتفاقا شخصيا مع الله، تلك هي بالطبع نبرة الماغوط لا تزال في كلامه. صلته الشخصية بالله قديمة بلا شك. سنضحك معه ثانية، مع ذلك في صوت الماغوط وحركته وضخامته غير العادية ما يجعلنا نشعر بأن هناك وجها آخر. وليس أكثر سعادة المسار العقيم للمثقف العربي.

زياد عدوان ابن ممدوح. لم تكن كلمته كلمة الختام كما جرت العادة. تكلم قبل محمود درويش. ربما ليقول أن هذه هي كلمته لا كلمة العائلة، ظل زياد يقول أن أباه لا يخصه أكثر مما يخص كثيرين من أصدقائه. وانه كان يناديه "ممدوح" فحسب رغم استنكار كثيرين لأنه، شأن ممدوح، يكره الأنماط والتنميط. ممدوح قبل الموت حين نمطه المرض وجعله لا يشبه نفسه.

كان حفلا تكريميا لا تأبينيا كما قال وزير الثقافة السوري محمود السيد. بالأحرى كان أكثر من تأبين ومن حفل تكريمي. ذكرى الرجل الذي يتلاقى على احترامه المثقفون كانت أيضا تظاهرة للمثقفين أنفسهم، ففي هذا اللقاء الحاشد تكلموا ليس فقط عن بيت الأحلام المنهار ولكن أيضا عن نكباتهم الخاصة وعن غبنهم الخاص، عن تهميشهم المتزايد وتدهور الثقافة نفسها. تكلموا باسم الجميع وباسمهم. بتورية وبدون تورية. رغم البلاغة والمجاز ظل في الكلام "هُم" وما لم يسم كان لا يحتاج إلى اسم. الكناية هنا تهول أكثر من التصريح. كان الاحتفال بأربعين ممدوح عدوان مرة أخرى مؤتمرا للمثقفين: أكثر حياة من باقي المؤتمرات وان لم يكن أكثر فاعلية. على كل حال كانت صيحة اليأس السائدة إعلانا مسبقا عن ذلك.

السفير
2005/02/02

* * *

أنهى "كتابة الموت" تاركاً أعداءه خلفه

جمال آدم

ذات مساء خريفي من عام 1961، بدد الشاعر علي كنعان الصمت الذي فرضه خرير مياه نهر بردى الدمشقي على مشواره مع صديق دربه ممدوح عدوان قائلا:

(لم لا تبقى على أرصفة الشارع آثار خطانا..
ومتى ساقية الأحزان تختار سوانا)

(ضحك ممدوح ضحكته المدوية ورد على صاحبه من المبكر سماع شعر الرثاء انتظرني حتى أموت كي تقول هذه الكلمات..!!).

انتهى الكلام وظلت ذكرى تلك الحادثة في مخيلة الاثنين، كما احتفظ نهر بردى بكل أحاديث أولئك الذين سرق لحظات بوحهم، وموتهم العابر، كسعد الله ونوس وفواز الساجر وأخيرا ممدوح عدوان.. وفي تعليق ساخر جدا قال غسان مسعود مرة:" يموت الشرفاء في المسرح يا للخيبة هذا ليس من حسن حظنا.. إذا من نحن، وما هي هوية من بقي على قيد الحياة"..
بمفهوم الجسد، سيستيقظ محمد الماغوط كل صباح، سيقوم الى المطبخ بعد ان يوقظ مذياعه على الأخبار.. سيهم بصنع القهوة وسينظر الى الساعة الهرمة عدة مرات وسيهمس بينه وبين نفسه" لقد تأخر ممدوح.. هذه ليست عادته، أعرف أنه سيكذب علي ولكنني أحبه.
وهو يكذب، أصلا أنا لا أستطيع ان أحب ممدوح الا بكل ما فيه ".. وفي المعهد العالي للفنون المسرحية سيطول انتظار الطلاب، سيجلسون في بهو المعهد لربما أطل عليهم بعد قليل معتذرا عن تأخير غير مقصود، ولربما قال لهم الجو جميل ما رأيكم ان نخرج للحديقة ويكون الدرس في الطبيعة سيوافق الطلاب وسيخرجون.
ولكن أين هو.. أين اختفى تسأل إحدى طالباته"، سيبحث عنه الندماء وأبطال الليل الشامي، كل يريد ان يسمع منه او يسمعه، سيطول الوقت ولكن الليل لن ينتهي حتى ينتهي الشراب.. !
سيفقتده زياد ومروان من سماهما وأطلقهما في الحياة، وسيسأل الجيران عن سر صمت البيت وغياب الضجيج عنه، ولن ترد الهام لأنها تعلم أنه نائم في الداخل سيستيقظ قبل السابعة ويشرب قهوته المسائية وترد على كل الاستفسارات "أرجوكم بلا ضجيج"...
يعلمون جميعا انه رحل وبلغة الروح سيعزون أنفسهم أنه يسكن بيننا.
ومرة أثناء معرض الكتاب الماضي سهرنا سويا نتحدث عن سحره في توصيف والده في "عليك تتكئ الحياة" فأخبرته أنني أشعر بوجود والدي الذي رحل مؤخرا في كل مكان اذهب اليه فرد سريعا قبل قليل أحسست ان أمي موجودة هناك "مشيرا بيده" فابتسمت لها وهذا هو السر الذي لا يشعر به الا من فهم معنى الغياب، والموت لا يعني نهاية حتمية ونهائية مهما كان قسريا وأنا لا أخافه وإن كنت أكرهه منذ ان خطف مني والدتي".

بمفهوم المباراة بين طرفين تغلب مرض السرطان على الشاعر والكاتب السوري ممدوح عدوان بعد صراع دام ثلاث سنوات لتوافيه المنية قبل أيام كتب عدوان حوالي 20 عملا مسرحيا من أبرزها "الرجل الذي لم يحارب"، و"سفر برلك" و"جمال باشا السفاح" و"ليل العبيد" و"هملت يستيقظ متأخرا" و"الغول" وغيرها.
كما صدرت له حوالي20ئ مجموعة شعرية منها "الظل الأخضر" و"أقبل الزمن المستحيل" و"أمي تطارد قاتلها" و"لابد من التفاصيل" و"حياة مفلوشة". وله أيضا العديد من الروايات كان آخرها رواية "أعدائي" عام 2002 التي رصدت انتهاء الزمن العثماني وبدايات تغلغل الصهيونية.
ودخل عدوان التلفزيون من خلال كتابة المسلسلات التلفزيونية الدرامية الناجحة ومن أهمها مسلسل "الزير سالم". ودون أن يكون هناك وقت إضافي أنهى القدر اللقاء غير الودي بينهما، على الرغم من ان ممدوح يحتاج بعض الوقت، وكانت هذه واحدة من أزماته المعلنة مع الحياة ولطالما تشبه بكازنتزاكي الذي أحب الوقوف في الشارع كي يسأل عمن يعيره بعضا من وقته الفارغ...!! ولكن الصافرة كانت أسرع.
كتب عدوان في أكثر من حقل إبداعي حيث تنقل بين الشعر والمسرح والرواية والنقد والترجمة والصحافة. ويبدو ممدوح عدوان في أيامه الأخيرة صديقا غير حميم مع الموت الذي أراد هزيمته.. وتراه يخاطب الحياة في أشعاره الأخيرة قائلا: "إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع "تركنا فوقها منسف أحلام"، نحن أكملنا مدار العمر فرساناً، وقد متنا شبابا".

وإذا اختلف أي مثقفين سوريين على شيء فإنهما سيتفقان حتما على إبداع عدوان وحدة ذكائه وهما قلما يتفقان على أي شيء غير صوت فيروز.. !!
ويذكر الرجل في جلساته ان مجموعة من المثقفين السوريين اجتمعوا كي يحاكموه على أفكاره وتمرده في بداية السبعينات.. فعندما انضم إليهم دون ان يعلم سر هذا اللقاء انقلبت الجلسة الى سخرية وحديث لاذع وضحكات رنانة ونسي الجميع لماذا هم موجودون وليعلموا ان شخصا كهذا يصعب فرض أفكار عليه وتقييده بمسار ما..
وهكذا عاش هو يقول رأيه أعجب أم لا يعجب، كلامه من رأسه، وهذا ما حير كل فروع الأمن وكل أجهزة الرصد والمتابعة التي كانت تلحق به والنكتة انه كان يعلم بهم وغالبا ما كان يسلم عليهم أثناء تتبعه في مشهد كوميدي لا يتقن رسمه الا ممدوح عدوان، الذي نتوقف عنده الآن، نترك إبطاله في الحياة والأدب وأصدقاء مرحلة مهمة في عمره يتحدثون عنه ويقولون ما يقولون في رحيله..

د. رياض نعسان آغا

حين سمعت قبل سنوات أن ممدوح عدوان مريض بالسرطان ساورني شعور واهم بأن ممدوح سيقهر المرض، ولن يقوى السرطان على كسر إرادته، أو على قهر حبه للحياة بهذه الكلمات استهل د. رياض نعسان اغا السفير السوري لدى الدولة.
ولكن ممدوحاً كان قد استعد للرحيل حين قدم ديوانه (كتابة الموت) وأعلن فيه أننا (ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع، نحن أكملنا مدار العمر فرسانا، وقد متنا شبابا).
نمت الصلة بيني وبين ممدوح من خلال وفائي لحسن استقباله لي يوم قدمت إلى دمشق مبتدئاً رحلة الكتابة قبل ثلاثين عاماً، وحين اكتشفت عوالم ممدوح الغنية المفعمة بالحب والصدق والإبداع أحببته ووجدت فيه شخصية فريدة في تعدد المواهب، فهو الصحفي المحترف والأديب الشاعر والمسرحي اللامع، والروائي الحكاء، والمترجم الدوؤب، والسيناريست المبدع، والمحدث العذب.
والذكي الوهّاج، والساخر الضاحك، والعربيد المتزن، والمشاكس الشرس، واللطيف المهيب، والعاقل المجنون إبداعاً، والوطني المعارض بحثاً عن العدل والإنصاف، والجريء إلى حد التهور، والصادق مع نفسه إلى حد الاعتراف بما يحرص الناس على إخفائه من خصوصياتهم، والممتلئ فرحاً بالحياة، وحزناً لامتلائها بالخواء، القوي إلى أدنى درجات الضعف أمام الحقائق الكونية الكبرى، والضعيف إلى درجة الاستهتار بالموت ومواجهته باللامبالاة.
وأذكر من جرأة ممدوح اللطيفة أن أحد السادة وزراء الإعلام السابقين دعا ممدوح مع عدد من الأدباء لمناقشة تطوير الإعلام السوري، وكنت بين الحاضرين وحين توجه الوزير إلى ممدوح يسأله رأيه قال ممدوح (يتطور الإعلام حين تخرج المسطرة من درجك وتكسرها) قال الوزير أي مسطرة يا ممدوح ؟
قال: التي تقيسون عليها آراءنا على مقاس آرائكم، فمن كان على المقاس تقبلونه ومن تجاوز يمنع، وضحكنا وقلنا لممدوح لقد كسرت أنت المسطرة من زمان، وكان ممدوح قد أوجد لنفسه خصوصية في الكتابة المعارضة، فهو يكتب بطريقة تحرج من يفكر بمنعه، وقد أعجبني قوله (حين عرفوا أن صوتي من رأسي سمحوا لي أن أكتب ما أريد).
والطريف أن ممدوحاً (غول الأدب في سوريا) كما سماه بعضهم كان على غزارة إنتاجه المدهشة يشكو من فقر إنتاجه، ويقول إنه لا يزال يكتشف في نفسه وأعماقه قدرات وأساليب أخرى للتعبير، ويتمنى لو أنه كان يجيد الرقص والغناء والتمثيل كي تكتمل قدراته الإبداعية.
والحديث عن ممدوح يطول كما سيطول حزننا لفقده في ساحة الحياة التي ملآها فرحاً وضحكاً وسخرية، وفي ساحة الثقافة التي ملآها عطاء وفنا وإبداعاً.
قلت أمس لصديق ونحن نعزي أنفسنا إن ممدوحاً لم يعش ثلاثة وستين عاماً فقط، بل لقد عاش نحو مئة وتسعين عاماً، فإنتاجه يحتاج إلى ثلاث حيوات من السنين التي عاشها بالطول والعرض، فقد كان وحده مؤسسة ثقافية إبداعية، وحسبنا عزاء في رحيله أنه ترك لنا وللأجيال ثروة من الفن والثقافة العربية العريقة.
وهو في نظري كاتب أخلاقي رغم كل ما قد يقال عن صبواته الفنية، لأنه كان محارباً عنيداً للفساد في العالم، يدعو إلى العدل وإلى الإنصاف وإلى الدفاع عن الكرامة الإنسانية، وقد كان مسكوناً بحب أمته، تتفجر في نفسه الأحزان لما آلت إليه من ضعف وهوان.

علي كنعان

الشاعر علي كنعان يتذكر مرحلة الدراسة والبدايات فيقول "نحن الآن في حضرة ممدوح بعد الغياب ولا أجد كلاما استطيع ان احكي فيه عن علاقتي مع هذا المبدع، الغائب الحاضر، واستطرد فيه لأقول مالئ الدنيا وشاغل الناس، فقد كان زميلا وصديقا وأخا ومشاكسا وعدوا وندا وكل ما في هذه الحياة من مفاهيم وصفات يمكن ان تلحق بعلاقتنا.
وذات مرة قدمت لي الإذاعة مبلغ أربعين ليرة سورية عن قصيدة قدمتها لهم فخفت ان أذهب لقبضها وقلت لممدوح أليس عيبا ان اقبض ثمن الشعر فقال يا أخي ليس عيبا هيا نقبضها وسنجد طريقة مهمة لصرفها.. وحينما كان المد الفلسطيني في أوجه غاب ممدوح عنا لمدة شهر وعاد بها ولنعلم انه التحق بإحدى جبهات العمل الفدائي .

وحتى الآن الكثير من الفلسطينيين لا يرون في ممدوح الا فلسطينيا ويخاطبونه على انه واحد منهم، كما ان الكثير من الأحزاب كانت تدعي ان ممدوح عضوا فيها ذلك انه كان يشيد بوقف ما لحزب او للايدولوجيا ما ولكنه حقيقة الأمر لم ينتم الى أي حزب طيلة حياته ولكنه ظل يدافع عن خيارات الناس ويقول لماذا لا يكون للفقراء قبيلتهم وطريقهم.
كان يكره الرتابة والثبات ومن هنا قدم ديوانه "يألفونك فانفر" وفي حديث اذكره الآن في الستينات قال لي يجب ان نقاتل كقتال الشوارع إذا أردنا للشعر الجديد والموجة الجديدة التي نحن منها ان تنتصر.. يصعب علي ان أتصور ممدوح غائبا عني وعن هواتفي اليومية يتعبني غيابه ويزعجني رحيله ولكنها الحياة.. "وها هما غرابان من البرية الثكلى يحومان على قبر جديد..".

هيثم حقي

المخرج "هيثم حقي كان قريبا جغرافيا وتاريخيا من الراحل وهو مخرج أهم أعماله والقريب منه حتى ساعاته الأخيرة يقول متذكرا: "منذ ثلاثين عاماً وفي مهرجان خطابي أقيم في مخيم اليرموك في ذكرى رحيل غسان كنفاني، تساءل الشعراء على المنبر: من قتل غسان؟. ثم جاء دور ممدوح عدوان، الذي كنت أعرفه من خلال نشاطه الصحفي والشعري والمسرحي دون أن أتعرف عليه شخصياً، فألقى قصيدة بدأها: حين أتاني النبأ الفاجع في عجلة لم أسأل نفسي من قتله. وأنهاها قائلا: من منا سيكون المقتول؟.
أثار هذا الشاب إعجابي وأنا القادم حديثاً من دراسة السينما في موسكو. وتعرفت عليه يومها وبدأت صداقة امتدت لثلاثين عاماً دون أن تهتز رغم تباعدنا أحياناً في المكان لأشهر وأحياناً لسنوات.
ويوم الأحد 19/12/2004 غاب صديقي ممدوح عدوان. غاب الإنسان الطيب المحب الذي لم تفارقه بساطة الريف المتآلفة دون تعقيد مع ثقافته العالية ومعرفته الموسوعية.
صداقتي لممدوح كانت مختلفة عن أي صداقة فقد بدأت بين اثنين يعملان في الثقافة دون تقاطع عملي. كانت لنا آراء متقاربة في السياسة والحياة والفن. كنا نعارض كل ما هو متخلف وفاسد ومفسد. وكان ممدوح الأجرأ بين أبناء جيلنا في التعبير عن سخطه وغضبه شعراً وصحافة ومسرحاً، ثم جاءت لحظة التقاء الصداقة بالتجربة العملية. حين لجأت إليه في منتصف الثمانينات ليكتب لي مسلسل (دائرة النار). كنا نبحث عن دراما تلفزيونية مختلفة وأردنا أن نقدم نموذجاً لها في وقت كان الإنتاج الدرامي التلفزيوني شبه معدوم والمعاصر منه غائب تماماً.
لم ينسحب منا ممدوح فجأة فقد خاف ألا نصدق أنه سيغيب. لقد مرض منذ أكثر من عام. وكنا نراه يفقد شعره ويذوب لكنه بقي متألقاً نشيطاً يكتب ويترجم ولا يتوقف عن السهر والنقاش والود. الود الذي ميز بيت ممدوح عدوان. ففي منزله التقت أطياف الثقافة والسياسة. وإلى منزله لجأ متعب الروح والقلب لينهل من محبة الصديق وليداوي جراحاً يخلفها الصراع اليومي مع الجهل والتجهيل.
هنا عند ممدوح كان يقترب من صلابة الموقف، موقف من لا يهادن ولا يتنازل ويدفع ثمن ذلك من معيشته وحياته. يقترب من شخص أراد مثلنا جميعاً، ولعله أكثر منا جميعاً، أن تكون لبلدنا سورية ثقافة تليق بها وبمبدعيها. فغاب قبل أن يحقق الحلم لكنه آمن به. ونحن آمنا مثله لأن بلداً ينجب مثل ممدوح عدوان لقادر على ذلك.

د. عجاج سليم

السماء ملبدة بالغيوم ـ صوت الريح يعوي ويصم الأذنين.
غضب الطبيعة واضح، كل شيء ـ ديكور وإضاءة وصوت ـ جاهز لإذاعة النبأ المشؤوم.
هذا ما قاله المخرج المسرحي عجاج سليم في مطلع هذه الشهادة وأضاف: يلف القلب حزن عميق، وتزداد لوحة الطبيعة قتامة وعتمة وتعود الذكريات... شريطا سينمائيا، يصر ان يكون باللونين الضدين الأسود والأبيض، لونا الموت، الولادة.. لافرق، ويقفز إلى الذاكرة أسم سفربرلك.
أو كما وصفها أبو زياد (أيام الجوع)، سفربرلك، لم تكن مجرد نص مسرحي، بل كان بحثا طويلا، سافر لأجله ممدوح عدوان، وعاش في المكتبات وأخرج للوجود نصا مسرحيا، سيظل في ذاكرة الأجيال، وستحفظه الأوراق والمجلدات باعتباره نموذجا للنص التاريخي الذي مزج الشعر بالوثيقة بآلام الآباء والأجداد.
ثم بدا فجأة وكأنه يكتب ليومنا، لأيامنا، ونرجو أن لايكون لغدنا.
ممدوح عدوان... المشاكس - المقاتل ـ كان يشعر أن العصملية ليست مجرد حنود (إنكشارية) فقط، بل هي آيديولوجيا محنطة وأساليب إدارة متخلفة وجوع مقنع بأشكال عديدة ـ لا يزال يعشش في زوايا الدوائر الرسمية والحكومية، ومازال الإنكشارية بعد أن غيروا زيهم الرسمي، ينهبون، بطرق عصرية مخازننا وأسواقنا، ومازال الأبناء يساقون.. إلى المجهول.
ومازالت العقلية العصملية تحكم الكثير من نواحي حياتنا، وتدافع بل تستميت بالدفاع عن الأصولية والسلفية المتجذرة، وكان يعرف تماما أن الأخطبوط.. يمتد ويكبر ويتجذر.
حكاية (سفربرلك) حكاية الجوع والنضال، النضال الحقيقي باللقمة، وروح الابن، وجسد المرأة، وحريق المحصول، وليس بالشعارات المحنطة، والخطابات الغبية الفارغة.
أبو زياد، أيها السوري الكبير، ياطائر الفينيق الذي يصحو ويعود إلى رحم السماء، إلى حيث ينتمي بين الأرواح الطاهرة، ياشاعر ديرماما، ووادي جهنم، ومصياف القلعة، ياملك الألم، إلى اللقاء، أكتب لنا من عليائك لأننا.
يا ممدوح،. من آل عدوان،. نحبك.
كلماتي يارائع، بسيطة، ناقمة.. خجولة، لاتنفع لشئ، لاتقدم ولاتؤخر، لكنها تسعى لأن تكون وفية، في زمان لا وفاء فيه.
ولا تنس.. أكتب لنا، لأننا، سنحاول أن لاننسى، حبك.

د. حبيب غلوم

المخرج المسرحي حبيب غلوم قال: حقيقة شكل غياب الراحل ممدوح عدوان خسارة للشعر والمسرح العربي وما أحوجنا في الإمارات في الفترات التأسيسية لمسرح خاص بنا الى نصوص كنصوصه والى إبداع كذلك الذي كان يثيره في مسرحياته، انه احد أكثر الكتاب المسرحيين العرب فهما ورسما للشخصيات المسرحية..
ولا أظن ان الجيل الجديد يمتلك حرفة كتابته وسرعة بديهته وحسه الساخر في النص المسرحي او الشعري.. وقد التقيت الراحل في مهرجانات كثيرة ومناسبات مسرحية أكثر ودائما عندما كان يتحدث كان الجميع ينصت اليه باهتمام شديد.. وكانوا يرون في رأيه الدقة والموضوعية.. وحتى لا يزعل منه احد حتى وان كان العرض الذي يتحدث عنه سيئا جدا كان ينهي الحديث بالضحكات.. يعز علينا فراقه ولكنها إرادة الرب فلا حول ولا قوة الا بالله.

البيان
22- 12- 2004

***

انتصر على المرض ورحل مظللاً بحروف القصائد

ممدوح عدوانفجعت الأوساط الثقافية والفنية العربية برحيل الكاتب السوري  ممدوح عدوان، مساء اول من أمس، في العاصمة السورية دمشق، عن عمر يناهز الثلاثة والستين عاما، اصدر خلالها زهاء (80) كتاباً في الشعر والرواية والترجمة والنقد الادبي والمسرح والدراما التلفزيونية.

ونعت وزارتا الإعلام والثقافة السوريتان عدوان المولود في قرية "قيرون" بمصياف العام 1941، والذي سيشيع جثمانه ظهر اليوم في مسقط رأسه الذي كرمه واحتفى به قبل أيام قليلة وكأنما كان يودعه.

حسن حميد*: أجمل ما يقال عن المبدع حيا

اعتقد ان أجمل ما يقال عن المبدع والشاعر ما يقال عنه وهو حي. وقد كان لي قبل ثلاثة أيام او أربعة، شرف المشاركة في تكريم ممدوح عدوان، في مسقط رأسه بلدة مصياف حيث كان عدد طالبي الكلام حول ممدوح شخصا وشاعرا ومسرحيا ومترجما وروائيا كثيرا جدا.
وقد كان عددهم يحتاج الى أيام عديدة لكي يقول كل منهم ما لديه من محبة حول ممدوح عدوان.

لأول مرة أرى ممدوح عدوان يبكي اثنتي عشرة مرة، اي بعدد الذين وقفوا على المنبر ليتحدثوا عنه. كان أشبه بزنبقة الماء وهو يتأرجح يمنة ويسرة، وقد عذبه الكلام الجميل. لكأن الشاعر فيه، استيقظ مساء ليقول: إنني اختنق بهذا الكلام الجميل، ورأيي الذي قلته في ممدوح عدوان هو انه كائن بري، تفلت من كل الأطر والقيود. شاعر فتي كر على المدينة العاصمة (دمشق) وليس في جعبته نبال ولا رسائل للولاة، لم يكن في جعبته، سوى قصيدته، سوى موهبته، اللتين بهما صار شاعرا فلسطينيا لكثرة ما كتب عن فلسطين، وصار شاعر رأي لكثرة ما تمرد على الدوائر التي رسمت حوله، وصار شاعرا عالميا لكثرة اللغات العالمية التي ترجمت شعره وتجربته الأدبية كان لا بد لهذا الكائن البري، ان يتفلت من المحدود، ويمضي الى اللامتناهي، مثل حصان أحس بأنه شقيق البراري، هكذا كان ممدوح عدوان، في القصيدة عدوان كاتب وشاعر له نكهة مميزة، وفي المجالين لم يقدم سوى الأعمال الجيدة، حيث عبرت كتاباته وأشعاره عن موقف واضح وملتزم بالقضايا العربية والإنسانية وقضية وطنه.

لقد ساهم عدوان مساهمة مشهودا لها في مجال الترجمة لأعمال أدبية أجنبية مهمة، وأتاح للقارئ العربي ان يطلع عليها وهو متعدد الاهتمامات، وفيما يتعلق بأنواع الكتابة فكتب المسلسلات والمسرحيات والرواية والمقال، كان مبدعا مخلصا لحرفته، أعطى الكتابة جل وقته وجهده، وترك وراءه آثارا إبداعية لها خصوصيتها وأهميتها.
من المؤسف انه رحل وهو ما يزال في أوج عطائه.

الياس فركوح: رحيله خسارة للثقافة

رحيل ممدوح عدوان المبدع في شتى المجالات هو خسارة كبير ة للثقافة العربية فهو احد ابرز شعراء الستينيات والسبعينيات في سورية و الوطن العربي، إضافة الى كونه احد كتاب الدراما المميزين، ودون شك من أفضل المترجمين العرب الذين نقلوا مجموعة روايات عالمية ذات أهمية هي بدورها، ومن ابرز ترجماته رواية "دميان" و"سدهارتا" للكاتب الألماني هيرمان هيسة، ومذكرات اليوناني نيكولاس كازنتاكيس المعروفة بـ "الطريق الى جريكو" كما انه صاحب مواقف مبدئية ثابتة في كل من الحقلين السياسي والثقافي، كما انه من مثقفي سورية الذين عاشوا وماتوا وهم يرفعون راية الحرية كمطلب عربي إسلامي.

* * *

ممدوح عدوان.. زوربا العربي

جهاد هديب
(الأردن)

مات ممدوح عدوان. مات ولم يكن ذلك غير متوقع بل أكيد للقريبين من هذا الشاعر الكبير. وهنا فإن ما يتذكره المرء في الوهلة الأولى لسماع الخبر هي رقصة زوربا الإغريقي. فقد كان ممدوح عدوان ينتمي بعمق شديد الى تلك النوعية من الشعراء الذين أحبّوا الحياة بعمق.
حقا على نحو ما فعل زوربا لا متَخَيَّل آخر لممدوح عدوان سوى تلك الصورة الأبدية راقصا على نغمات تخرج من روحه وفقا لمشيئة قربه الى الحياة.

(لم أعد في حاجة الى الندماء) قال الشاعر العربي الكبير ممدوح عدوان في أمسية شعرية في إحدى قاعات المدارس العصرية في آخر أمسية له في عمان في آب الماضي. تلك الأمسية التي أمَّها حضور نسائي لافت. وكانت قد تأخرت عن موعدها قرابة نصف ساعة بسبب زيارة تفقدية سريعة للطبيب بحسب ما أعلن المثقف اسعد عبد الرحمن المدير العام للموسوعة الفلسطينية الذي قدم الشاعر عدوان الى ناسه وكذلك وفي الجانب الأخير من الأمسية أبلغت زوجة الشاعر عدوان الى عبد الرحمن ان كفانا قصائد حزن ومرض.
لم يكن ذلك بعيدا عن الإحساس بأن الرجل قريب من نهاية ما رغم قوة الروح التي بدت في صوته ببحته المميزة التي تقرِّب شعره الى القلب.
كل ما عدا ذلك أشار الى مزاج آخر في شعر عدوان الجديد، ثمة عزلة ووطأة عزلة وفعل معاينة لتجربة ذاتية خاضها هذا الرجل الذي نقل الى العربية كتابا فادحا للإغريقي نيكوس كازانتزاكيس عنوانه: تقرير إل غريكو وكذلك إلياذة هوميروس.

جاءت أغلب قصائده قصيرة، كانت العزلة مؤثثة بتفاصيل صغيرة وحميمة راكمت حبا بين رجل وامرأة كما لو أن هذي التفاصيل حبات قمح توضع في خابية هي الحياة.
وهنا كانت الغنائية جزءا لصيقا بمزاجية الشعر الا انها جانب من مبنى بأكمله قام على تمظهر سردي تبلورت في داخله البنية الغنائية تجاورها بنية أخرى حكائية هي في أغلبها قد استفزها التذكر... حتى بات التذكر تقنية في التخييل ورسما للصور الشعرية في الكتابة فتردد الفعل في الصيغة النحوية للماضي وتردد الماضي كموج بحر.
ثمة نزوع كبير الى التأمل في قصائد عدوان الأخيرة، قد تكون حقا قصائد حزن ومرض لكنها على الأرجح نتاج إحساس عميق بالخسارة لا الكآبة.. فالشاعر على نحو مطلق خاسر دائماً ويتوجع أبدا.

وكنا، في اغلبنا نحن الحضور، مدفوعين بفضول رؤية ممدوح عدوان وما ترك عليه المرض من اثر وكذلك مدفوعين بفضول سماع شعر جديد له.. وهنا بدا واضحاً أثر الدواء في ما طرأ على وجهه وفي تساقط قليل من الشعر وليس كما بدا في إحدى الصور شبيها بالراحل سعد الله ونوس في أيامه الأخيرة. اللافت في الوجه الذي يميل الى الحمرة تلك العينان الناعستان اللتان لذئب.
كما رأيت، أنا كاتب هذي السطور، وضعت على قلبي يدي. قلت ان الموت روما والمرض جند هيردوس العبيد يلقون القبض على مسيح؛ اقصد يلقون القبض على شاعر.
غير ان الشعر في دلالته العميقة والكبرى قال سوى ذلك تماما.. ما الذي يستفز روح الشاعر الى هذا الحد عندما يواجه مرضا يرجِّف القلب ويجعله يتأرجح؟ ما الذي يجعل الشاعر منتصرا على ضعف الجسد وهوانه وقادما الى الناس؛ ناسه بكبرياء الروح؟ أية قوة تلك للروح التي تحول الألم الى مخيلة.
كان الذين قد رأوه وسهروا معه في عمان ربما لآخر مرة ليلة قبل الأمسية قالوا ان الشاعر لم يختلف ولا اختلفت روح (النكتة) التي فيه عما كانت عليه في جاري عادته وقبل ان يزوره المرض فيقيم.. قالوا أيضا انه ما زال يتذكر نساءً ومدناً التهمها بأناقة وتمهل الذي (يرش) ملحا وبهارا على ما يشتهيه.
مات ممدوح عدوان.. زوربا الآن في رقصته التي لا تنتهي.
مات الشاعر، غير أن ممدوح عدوان ما زال مختلفا فهو القادر على ان يجعل من الرحيل الأبدي (نكتة) هو موضوعها ويضعها في مفارقة او قصة او مصادفة لا تخلو من سوداوية ما، فهو رغم مزاجه الخاسر لا يحب النميمة على أحد.

السفير
22- 12- 2004

***

كل ما كتبه هو (لا) كبيرة ضد الظلم والاضطهاد

الدستور
عمر أبو الهيجاء

ابراهيم نصر الله: عاش حياته محتفياً بالحياة
المرة الأولى التي التقيت فيها ممدوح عدوان كانت قبل خمسة وعشرين عاما تماما، كان ذلك اللقاء في دمشق، أهداني يومها ديوانه (أمي تطارد قاتلتها) وكانت القصيدة الأولى فيه عنوانها الجنازة، وفي المرة الأخيرة التي قابلته فيها كانت في عمان، حيث قرأ مجموعة كبيرة من قصائده التي تتحدث عن الموت، الى ذلك الحد الذي دفع زوجته لأن تطلب منه قليلاً من القصائد عن الحياة.
لكن الحقيقة تقول: ان ممدوح عدوان عاش حياته يحتفي بالحياة لا بالموت، وحتى في قصائده الأخيرة التي بدت كما لو أنها كلمة وداعه الطويلة وهو يدرك ان الموت يقترب كل يوم أكثر فأكثر، كان تعلقه بالحياة وبكرامة الأحياء شيئاً يفوق الوصف. فقد أدرك ممدوح عدوان دائماً أن الشعر الحقيقي لا يكتبه شاعر يقبل بأن يحني جبينه، ولذلك كان كل ما كتبه هو (لا) كبيرة ضد سحق البشر وطحنهم، كان ضد (حيونة الانسان)، التي جرى العمل عليها طويلاً في هذا الوطن العربي الممتد بين ماءين وأكثر من صحراء.
ولذلك كان يرى دائماً ان الشعر هو (لا) هو ذلك الشيء الايجابي العظيم. هو ما يؤكد لنا أننا نبكي لأننا لم نتعود الذل، بعد، ولم نقبله، إنه يذكرنا أننا بشر". ولعل قصيدته الشهيرة عن دونكيشوت جزءاً أصيلا من هذا العناد، وهو يشير في نهايتها على لسان بطلها انه لم يقطع وعداً بالنصر في واقع مهزوم ولكنه يقطع وعدا بألا تتوقف الحرب ضد كل أشكال الظلم.
ولعلي أقول له الآن ما قاله في قصيدته (الجنازة) وهو يرثي العروس القتيلة:
انها متعبة
فلتوقفوا هذا الصراخ
أنا أطبقت لها الجفنين
واكبت انطفاء السحر والبسمة
راقبت اندلاع الصمت فيها
ستغني.. أمهلوها)
وإذا ما كان من كلام آخر فسأقول، لعل أجمل وصية هي تلك التي كانت عنوانا لواحد من دواوينه، وهو يرى الى مرحلة تتساقط ورموز تتساقط، وأعني بها تلك الدعوة للعصيان والحذر والتعالي عن المكتسبات، صغيرة كانت أم كبيرة، اعني عنوان مجموعته الشعرية (يألفونك فانفر).

يوسف عبد العزيز: أخيراً مضى ممدوح في عتمه الخاص
لن يكون الشاعر ممدوح عدوان - رحمه الله - آخر من سيخذله قلبه في هذه المتاهة الشائكة من عمر التاريخ العربي والتي تتفوق ضراوةً ولعنةً عن درب الآلام، تلك الدرب التي سلكها ذات يوم السيد المسيح عليه السلام. فالفاجعة باتت كبيرة والسخرية من العربي وصلت أوجها.
لم يتحمل قلب ممدوح عدوان ذلك كله. ويخيّل اليّ ان السرطان الذي عاركه الشاعر بيدين قويتين وبرغبة عارمة في الحياة توصل معه في آخر الأمر الى نوع من الحل: الولوج في الغياب.
أخيراً مضى ممدوح عدوان في عتمته الخاصة، والتي هي عتمتنا جميعاً مثل سهم صلب انطلق من قوس مشدودة. مضى غير آبه بالموت ولا بالميتين الذين تكتظ بهم الشوارع والبيوت.
مثل شعره كان ممدوح وسيظل الصوت القوي الصارخ أبدا في البرية والمحرض على الحرب والحرية والجمال.

فخري قعوار: جذاب الى درجة مذهلة
علينا ان نسلّم بحقيقة انتهاء الأعمار عن طريق الوفاة، وعلينا أن نتذكر أننا جميعا سوف نرحل من هذه الدنيا الفانية، على غرار كل الذين ولدوا قبلنا ورحلوا بدون اي استثناء. ورغم بديهية الموت، فإننا لا نملك إلا أن نشعر بالأسى الشديد والحزن العميق حين نفاجأ بوفاة صديق عزيز او مبدع مرموق او إنسان ودود.
وقد شعرت بالأسف عندما علمت ان الزميل الكاتب محمد عيد قد رحل قبل أيام قليلة، وتصاعد الأسف عندما علمت ان الزميل الكاتب والشاعر والمترجم السوري ميخائيل عيد قد رحل فعليا اثر مكابدة طويلة مع المرض، وازداد الأسف أكثر عندما لحقت بوفاتهما وفاة المبدع المعروف في كل أنحاء سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وفي معظم الأقطار العربية المرحوم ممدوح العدوان.
فقد كان ممدوح - رحمه الله - إبداعيا مميزاً في مختلف المجالات التي مارسها، فهو شاعر من المرتبة الأولى في الوطن العربي، وهو كاتب جذاب الى درجة مذهلة، وهو مترجم يملك إمكانية خاصة في اختيار المواد، وفي رفع شأنها بعد ان تنتقل بأنامله الى اللغة العربية، وهو كاتب سيناريو وحوار تلفزيوني، وهو - بالتأكيد - مازالت لديه حزمة من المخطوطات التي لن يقصر اتحاد الكتاب العرب (السوري) في طبعها ونشرها وتوزيعها.
ولعل الذين التقوا بالصديق الراحل ممدوح العدوان، يعرفون روحه المرحة، وعقليته المزدحمة بالثقافة ووجدانه الطيب، ومودته الهائلة.. وليس لدينا ما نفعل اي شيء من اجله سوى الرثاء والتذكير بشخصيته والدعوة له بالرحمة.

رسمي أبو علي: كان كاتباً شريفاً ومستقلاً
رحيل الصديق ممدوح عدوان خسارة كبيرة غير متوقعة تماماً كنا نأمل ان يتغلب على المرض الخبيث بضع سنوات أخرى خاصة وانه بدا أثناء زيارته الأخيرة لعمان مصمماً على مقارعة المرض بل رافضاً له ورافضاً ان يغير نبض حياته أيضا. ممدوح شكل حالة استثنائية من حيث عشقه العارم للحياة والضحك بشكل خاص وحيثما كان يوجد ممدوح وخاصة عندما يكون برفقته صديقه الشاعر علي الجندي فإن مطعم الريس في دمشق كان ينفجر بالصخب والضحك العنيف.
وممدوح رغم أوصوله العلوية فقد كان كاتباً شريفاً مستقلاً وبرحيله افتقد احد رموز الثقافة السورية واحد رموز الثقافة العربية أيضا. وكم أحس بالأسف الآن أنني لم استطع أرى ممدوح في زيارته الأخيرة لعمان أنني آسف حقاً.

د. ابراهيم خليل: خسارة كبيرة للأدب العربي
لقد التقيت بممدوح عدوان مراراً وقد أعجبتني في شخصيته ميله الدائم الى المرح والنكتة والمجاملة وحرصه الدائم على تطوير نفسه ومتابعة ما ينشر سواء في الصحف او المجلات او في كتب وهو من هذه الناحية يعد قارئاً نهماً يكاد لا يفرق بين الأنواع الأدبية والثقافية التي يقرأوها وخاض تجربة الكتابة في كل الأشكال الأدبية من مسرح ومسلسل تلفزيوني وإذاعي ومقالة صحفية ورواية وترجمة، ولكنه برز في الشعر أكثر من غيره من الفنون ومازلت اذكر انه زار رابطة الكتاب الأردنيين بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وقد استمعنا منه لقصائد في ذلك الحين جعلتنا نرى الدموع في أعين الحضور وقصيدته المشهورة عن "سليمان خاطر" تعد واحدة من القصائد التي تحتسب من عيون الشعر العربي الحديث، لقد فقدنا برحيل ممدوح عدوان شاعراً وكاتباً ودرامياً وإنسانا رقيق النفس مرهف الإحساس وهو لأسفنا الشديد خسارة كبيرة للأدب العربي.

حسن ناجي: صديق الشعر والمثقفين
عندما يموت شخص ما فانك تحزن عليه وعندما يموت الشاعر فانك تحزن له وترثي نفسك. ممدوح عدوان كان مجموعة إبداعية متكاملة تمثل إبداعاته الأواني المستطرقة فقد أتقن مزاوجة فعله الدرامي مسرحياً مع إبداعه الشعري ادرامياً، وقد قطف ثمار الترجمات في أعماله الأدبية بصياغة عصرية أدت دورها الثقافي والاجتماعي معاً. ممدوح عدوان الذي اغتاله السرطان المرضي يغتالني بعده السرطان الإعلامي وحنق الحريات، هل لنا ان نقف أمام عام جديد نعدد موتانا أم نحصي كم مرة موتنا هذا العام.
كان ممدوح عدوان صديق الشعر والكتابة وصديق المثقفين الذين غرفوا من منهله الكثير، نعزي الشعر والمسرح والدراما التلفزيونية بشخص ممدوح عدوان الذي منحنا الزهو حين كنا نقرأه كما يمنحنا فعل الكتابة هذا الزهو.

الدستور
21- 1 - 2004

* * *

صديقي ممدوح عدوان وين رايح!؟

فاروق صبري
(العراق/ نيوزيلندا)

ممدوح عدوانما زالت لهجتك المصيافية الجميلة تعبّر عن ودّك الصافي وأنت تودعني عبر الهاتف :
ولك وين رايح .. أنت كمان تسافر.. بقى خليك عدنا!!!!
وأنا في هذه الجزيرة البعيدة والجميلة كأسطورة حاولت التواصل معك وكم ونّت روحي حين قرأت ما يشبه الرثاء كتبه أحدهم عنك واكتشفت بعد ذلك بأنك مريض وتكررت محاولاتي كي اسمع ضحكتك المدوية كأحزاننا ولم افلح ولكن الصديق علي سفر طمأنني بأنك بخير ، وسوف يرسل لي عنوانك الإلكتروني ولم احصل عليه عنده خاطبت نفسي وقلت: أن تكون بخير و"ضحكتك" تضئ سما الشام كما فوانيس رعود اذارية تنير شوارع كركوك هذا أمر لا يشك فيه أنا وأنت الذي وعدتني بأن نحيا ونسكر ونكتب ووووو رغم الموات الذي يحيطنا ويغزونا (يجب أن نعترف بالموت الذي نمر به، فنحن في مرحلة موت إذا لم نعترف بها نكون أغبياء فعلاً ، وعلى الرغم من ذلك فأنا أنبض بالحياة ، واستمر في كتابة الشعر ولا أصرح بوجود مستقبل زاهر ، إنني فقط أؤكد عدم موتي ويجب علينا أن لا نموت " هذا ما تقوله لي ضمن متابعة كتبتها حول أمسيتك الشعرية في "مكتب عنبر" منشورة في جريدة " المحرر نيوز" اللبنانية في شهر تموز لعام 1998 لأتوقف قليلاً عن ما تصرخ هواجس ونترك فسحة لما تنطق قصيدة:
كل شئ صار موزوناً مقفى
صار محدود المعاني
مجلس الشعب
المسيرات
نظام السير
تصميم المباني
وقفة الناس أمام الفرن
دور الناس في السجن
مواعيد الولادات
الجنازات , الأغاني ، والأماني…
كل شئ صار موزوناً ومقفى …فلماذا تكتب الشعر الحديث .. يا خبيث!؟
هذا المقطع بحجم كف وحلم"علي البصري" الذي بترتهما ديمقراطية التكنلوجيا السافلة وديناصورية أقذر الطغاة ، هذا المقطع من قصيدتك يوقف الجريدة عن موعد توزيعها المعروف للقراء الدمشقيين يوماً ويخرجني منها نهائياً كمراسل ثقافي في دمشق وبأمر من رئيس تحريرها نهاد الغادري الذي ترتجف شفتاه وشارباه كتاجر حلبي يرتعب من غضب الذين يسوّقون بضاعته ، لا بأس بما حدث لي مع الغادري لأنك تواسيني بجلسة عرق في نادي الصحفيين ….. عرق !! ها ، لا يقدمونه في النادي ،فقط يقدمون بيرة ونبيذ ، تمحي دهشتي وأنت ترفع كأس العرق وتقول كأسك يا فاروق وتوضح لي بأنك الوحيد المسموح له ذلك، وأردّ عليك: اها والله أنت ما محروم من حقوقك ككاتب يا خبيث!!!!
يا الله وينداح ضحكك الصاخب المنتهي "بأسى شفيف" وأنت تؤكد في حوار صحفي_نشر في جرائد كردستان عام1995 مع شاعر كردي عراقي يزور دمشق :
اشعر بأن القنابل الكيماوية التي نزلت على "حلبجة" أحرقت ضيعتي "دير ماما" أيضا!
في وقت صرخ فيه صاحب "دمشق الحرائق" في وجه هذا الشاعر الكردي وفي مقهى فندق الشام والذي حاول التعرف عليه ومحاورته :
لا أريد أن أعرفك أو أحاورك انتم الأكراد كلكم خونة وعصاة!!
ما تزال نساء أكراد العراق يضفرن نبل وجسارة موقفك مع ضفائر بناتهن المطرزة بـ_قرديلات_ حمراء، خضراء ، صفراء ،بيضاء …….
وما يزال أكراد العراق ومثقفوهم ينظرون بغضب صوب مثقف تنفث مواقفه بكيميائيات الفريق الركن الأول علي حسن المجيد !!
وها هم شباب عراقيون في عام 1982- أقصاهم أقذر طاغية - اتخذوا من "مساكن برزا" مسكناً لهم ، يستمعون من كاسيت مسجلتهم لقصيدتك وهم يرددونها مغناة وهاهو كوكب حمزة يدندن على عوده وأنت تقرأ مقاطع من شعرك ومن ثم تحلق مع "طيوره الطايره" وها تلفون بيتي يرن في الساعة الواحدة ليلاّ وإذا بصوت صديق يقول : بسرعة اخذ تكسي وتعال إلى نادي الصحفيين إذ تنتظرك مفاجأة تعشقها' وهناك مائدك منتصبة كفضاء وجدك الساحلي ، عانقت خلاله مبدعنا سامي عبدالحميد والفنان فاضل خليل القادمين تواً من العراق واللذين ترتل صوتهما عبر نشيج الأغنية العراقية القديمة ومن ثم ونٍّيت :
كل الأغاني انتهت الا أغاني الناس
والصوت لو يشترى ما تشتريه الناس
منهم أنا مثلهم والصوت منهم عاد
ياجار آمنت بالنجم الغريب الدار
يا ما ارتحلنا وظل القلب صوب الدار
اليوم بتنا هنا والصبح في بغداد
و… يا سالم المرزوق خذني في السفينة ، في السفينة
خذ مقلتي ما تشاء الا حكايات النساء
يا سالم المرزوق زوجتي الحزينة في بيت والدها سجينة
ومع هذا الونين اعتذر لسعدي يوسفنا لارتباك اقتنائي لمقاطع شعرية من قصائدك ويظل قلبك النبيل والجسور صوب بغدادك الجريحة وأنا الآن … الآن في هذه الجزيرة التي تطفو فوق بحار الله الأولى انتظر سفينة سالم المرزوق ، لعلها تأتي وتأخذني إليك ، إلى عراقك الذي يشيّع كل لحظة.
لكن سمعت أنت الأخر مسافر .ولك وين رايح ياصديقي!!!

كيكا

* * *

ممدوح عدوان في نهاية "المخاض"

سوسن الأبطح
(بيروت)

ممدوح عدوانعن عمر يناهز 63 عاماً، رحل ممدوح عدوان ابن قيرون السورية، وهولا يريد أن ييأس ولا يستطيع أن يصدّق الأمل، متألماً حزيناً لما وصلت إليه حال أمته، متيقناً أن تأثير المثقف العربي بات هزيلاً، ومصراً، في الوقت ذاته على أن يبقى يمارس واجبه الأدبي حتى النفس الأخير. أيام قلائل بعد ان كرّمه مهرجان المسرح في دمشق، وسنوات بعد أن خذلته الأحلام أغمض عينيه وكأنه يسخر من دنيا اختار فيها الصراع والمشاكسة والغضب، فشاكسته بدورها ولعله انتصر.

عدّد ممدوح عدوان "الكارات"، لكنها كانت تدور جميعها في دائرة الكتابة والأدب. ناضل بالقلم، رغم انه حمل البندقية عام 1976 حين كان في الجيش الشعبي. ومثّل في المسرحيات التي كان يكتبها بداية حياته، وحشر أنفه في كل شاردة وواردة حين كانت مسرحياته توضع على الخشبة، وعمل صحافياً في مطبوعات سورية وفلسطينية، ومارس المهنة مراسلا حربيا وذهب أكثر من مرة مع الفدائيين في عملياتهم، وغطى معارك أيلول عام 1970، كما عمل مراسلاً في القطاع الشمالي من الجبهة السورية طوال حرب تشرين عام 1973. كما اشتغل عدوان في الترجمة، ودرّس حتى أيامه الأخيرة في الجامعة، وذاب مع طلاّبه في معهد الفنون المسرحية، وبقي طوال عمره مشدوداً إلى السياسة ينتقم من مكائدها في نصوصه، وناقداً كيفما تحرّك أو تكلّم أو كتب، حاد النزعة قاسي الألفاظ، وقد شرح ذات يوم وجهة نظره قائلاً: "لا مانع لدي أحياناً من المباشرة، إن فهم البعد السياسي لمعاناتي ومعاناة شعبي هو الذي يقف أمام كل محاولة لي للتقرّب من أي مشكلة أعيشها. وأنا في كتاباتي أميل إلى استخدام أي عنصر أتقنه لخدمة غرضي: أستخدم التراث أحياناً والمادة الواقعية اليومية والسخرية أحيانا أخرى والخطاب الاستفزازي المباشر أيضاً".

لهذا ربما بدأ عدوان حياته شاعراً مسرحياً من خلال كتاب طبعه على نفقته الخاصة في دمشق تحت عنوان "المخاض" عام 1966، ثم صدر ديوانه الشعري الأول عن وزارة الثقافة السورية عام 1967 بعنوان "الظل الأخضر" لتكر السبحة بعد ذلك، فكفّ بعد حين، عن المسرحيات الشعرية لاجئاً إلى النصوص المسرحية النثرية إيماناً منه بأن الزمن تغيّر والأدب ليونة وديناميكية. وإضافة إلى مجموعاته الشعرية التي بلغت الـ17 وكلها موزونة، جمع الرجل شعره النثري الذي سجّله في مراحل متفرقة وأصدرها أخيرا في ديوان عنوانه يشي بمضمونه، إذ سماه "حياة متناثرة"، ويبدو أن ثمة قصائد نثرية اخرى لم يجمعها عدوان ما تزال تنتظر أن تبصر النور. وبنشر قصائده النثرية إضافة إلى الروايتين اللتين نشرهما "الأبتر" عام 1969 و"أعدائي" عام 2000، وترجماته التي بينها "الشاعر في المسرح" لرونالد بيكوك، و"تقرير إلى غريكو" لكازانتزاكي، نقع على أديب تعددي يتخطى الأشكال كلها ويخترقها بنهم، ويمتطيها كفارس ليصل إلى غاياته التعبيرية التي تختلج في صدره، ولم تسلم منه المسلسلات التلفزيونية التي كتبها هي الأخرى.

نصف قرن وهو ينحت في جسد الكتابة، حتى حين كان السرطان ينحت في جسده، مدى السنتين الأخيرتين، فأصدر أربعة مؤلفات بينها "حيونة الإنسان" عن ظاهرة الاستبداد، فيه توثيق وبحث، وهو مجموعة مقالات كانت قد نشرت من قبل.

وخلّف الرجل وراءه حوالي سبعين مؤلفاً في كل مجال أدبي. ورغم التعب والجهد الذي كان يبدو عليه لم يهدأ ولم يطلب الراحة بل بدا كمن يريد أن يستنفد كل دقيقة بقيت له، وهو بذاك السلوك الشره للكتابة، ومغالبة الموت يذكّر بمواطنه سعد الله ونوس الذي أمهله المرض فترة أطول من تلك التي فاز بها عدوان.

عُرف عدوان واشتهر، وهو ما يزال ابن سورية البار، لم يكن يخرج من بلاده أو يسافر. وكما يقول نفسه، فإن ثقافته الأساسية جاءت من القراءة باللغتين العربية والإنجليزية، ومن الأفلام التي حضرها وما نقله إليه التلفزيون واستطاع الاطلاع عليه من الفرق المسرحية الزائرة لدمشق.
خرج عدوان بعد ذلك من دمشق لكنه كره الغربة والهجرة ولم يتقبلها، وفضّل التعايش مع هامش الحرية المتاح له التعامل معه بما يستطيع، فلم يهرب او يبتعد، بل بقي مقيماً حانقاً وساخطاً، وكأنما الكتابة عنده كانت المتنفّس والتعويض الذي يحتاجه. فقد كان الرجل غزيراً، سيّال القلم، فمن المسرحيات كتب "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" و"هملت يستيقظ باكراً" و"حال الدنيا والخدامة" و"كيف تركت السيف".
ومن دواوينه "تلويحة الأيدي المتعبة" و"لا بد من التفاصيل" و"للخوف كل زمان" و"أمي تطارد قاتلها". وقد صدرت "أعماله الشعرية الكاملة" ـ التي أصبحت ناقصة بسبب إصداراته التي لم تتوقف ـ عام 1986 عن "دار العودة في بيروت". وبرحيل ممدوح عدوان الذي كان الممثل والمخرج اللبناني المعروف رفيق علي أحمد قد وضع له "زواريب" على المسرح منذ عدة سنوات، وشاءت الصدف أن تعرض منذ أيام فقط ولمرة ثانية في بيروت، يكون الرجل قد أغمض عينيه لكن زواريبه والطرق العريضة التي شقّها وآهاته وحكاياه والحكواتية الذين عشقهم، قد أمن لهم موقعاً في حيواتنا الشقية.

الشرق الأوسط- 22- 12- 2004

***

ممدوح عدوان ينهض عن مائدة العمر....

طلال سلمان
(لبنان)

(إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع ‏
تركنا فوقها منسف أحلام.. ‏
نحن أكملنا مدار العمر فرساناً، وقد متنا شباباً(! ‏

... ولقد نهض ممدوح عدوان عن مائدة العمر فارساً، وترك فوقها إضافة إلى منسف الأحلام إنتاجاً غزيراً ومميزاً، من الشعر إلى المسرح والرواية، إلى الترجمات المختارة من روائع الأدب العالمي. ‏
مع أول الليل اتصل محمد ملص ليقول لي إن ممدوح عدوان الذي يصارع منذ ثلاث سنوات أو يزيد مرض السرطان، متعب جداً، وإن اتصال بعض الأصدقاء به قد ينعشه. واتصلت بالكاتب الذي احترف القتال ضد الخطأ، والذي ظل يطلق ضحكته المجلجلة حتى وهو (يذوب).. ولعلي كنت آخر من اتصل بهذا الذي لم يعرف كلمة الضجر، والذي ظلت عنده دائماً ضائقة في الوقت لأنه قادر ويريد أن ينتج أكثر، قلت ما رغبت في أن يسمعه، وقال ما استطاع أن يتلفظ به من كلمات مهشّمة بالإعياء. وبعد ساعتين لا أكثر أبلغت أنه قد نهض عن مائدة العمر.. فارساً! ‏
لم يترك هذا المبدع الذي هبط على دمشق من مصياف يواكبه (موّال ديرماما) فناً من فنون الكتابة إلا وأعطى فيه فأضاف، ولم يترك مقهى من مقاهي المدينة التي سحرته إلا وعارك فيه بعض أصدقاء العمر منعاً للتمادي في خطأ شائع، أو تعبيراً عن الضيق بالحال السياسية السائدة.. ولقد (تركوني أتكلم حين وجدوا صوتي من رأسي). ‏
لقد (أقبل الزمن المستحيل)، وها قد رحل ممدوح عدوان تاركاً لنا (الظل الأخضر)، ولسوف نودعه ب(تلويحة الأيادي المتعبة)، ولن نسأله كيف ترك السيف ونحن نستجوبه في (محاكمة الرجل الذي لم يحارب)، لأنه قد أمضى عمره يحارب ضد الخطأ والخوف والتخويف والشعار الجميل الذي يرفعه حامله للتضليل... ‏
لقد قاتلت كثيراً حتى أعياك القتال: (من التصدي لشرطي السير إلى التصدي لأميركا، مما جعلك متعباً لزوجتك وأولادك وللدولة ولإسرائيل وأميركا)، كما قلت يا ممدوح في آخر مقابلة لك نشرتها (السفير) يوم الجمعة الماضي. ‏
ولقد عشت كما تحب ان تعيش: تعارك وتضحك وتكتب، تسافر وتسكر وتكتب، تمثل وتعلّم التمثيل وتكتب، تقرأ للخالدين شعراء وكتاباً في المسرح والرواية فتترجم وتكتب، تمرض فتواجه المرض بسن قلمك وتعطي بعض أجمل ما تكتب، وترفض (حيونة الإنسان) فتكتب حتى الصراخ، قبل أن تلعلع ضحكتك وكأنك تضحك من افتراضك انك بهذه المقاومة ستنجح في منع هذا التحقير للإنسان. ‏
كثير علينا ان نخسر بعد سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وممدوح عدوان..

***

كان أكثر ما هزّك، يا ممدوح، حدثين: هزيمة 5 حزيران وموت أمك... ‏
... والهزيمة مفتوحة بعد، وإن كنا ما زلنا نحاول المقاومة بما تبقى في قلوبنا من إيمان، وفي أيدينا من سلاح. ‏
ولعلك لم تسمع بآخر الأخبار التي توحي بأن الحرب المفتوحة على هذه الأمة تدخل الآن المرحلة الأقسى والأشمل. ‏
فلقد أعلنت الإدارة الأميركية تلفزيون (المنار)، الناطق باسم المقاومة الوطنية الإسلامية، مؤسسة إرهابية، ومنعتها، وأعلنت الحظر على كل عامل فيها أو متعامل معها أو مستمع إليها. صارت مشاهدة محطة فضائية دعماً للإرهاب، يا ممدوح! ‏
وحتى لا ننسى الميدان الآخر للحرب، فلا بد من أن نبلغك أن الرئيس الأميركي جورج بوش قال لصحيفة (يديعوت احرونوت) الإسرائيلية إن (سوريا بلد ضعيف جداً، ولذلك لا يمكن الاعتماد عليها، ويتحتم على الأسد الآن الانتظار. السلام بين إسرائيل وفلسطين أولاً، ومن ثم سنرى ما سنفعله مع سوريا). ‏
ولك أن تتصور يا ممدوح، كيف سيتحول هذا الكلام في لبنان إلى تسعير للحرب المفتوحة أصلاً، والتي جعلها قرار مجلس الأمن 1559 حرباً دولية ضد لبنان وسوريا معاً، في ظل أوضاع مهترئة في لبنان تكاد تجعل خسارتها حتمية. ‏
كل هذا بينما فلسطين (تذوب) حتى لا تكاد تُرى! ‏
لقد(أقبل الزمن المستحيل (يا ممدوح.. فكيف تهرب أيها المقاتل المحترف من المواجهة الأخيرة؟! ‏

السفبر
الاثنين 20/12/2004

* * *

(نسيت صورتي في المرآة)

* إلى ممدوح عدوان

موسى حوامدة
(الأردن)


قل لي يا ممدوح كيف رأيت الموت ؟؟هل لونه أبيض كما قال أخوك محمود؟هل لديه قاعة استقبال وبساط أحمر؟هل لديه ملائكة يعزفون نشيد الخلاص من عناء الأمس ورداءة العالم؟
هل لديه جوقةُ موسيقى؟ صبايا ترقص للغريب القادم من تلويحة أمٍ راضيةٍ مَرضية هانئة هادئة ساكنة في شرشف الطمأنينة ؟
قل لي يا صديقي؟ هل أستقبلك الأحباء الشرفاء هناك ؟هل قامت لك ضمائر حية ؟وهل رأيت البسطاء المساكين المظلومين في حفل استقبالك الأبيض؟؟
ُقلْ لي يا أخي هل يُستقبل الشعراء هناك كما يليق بالقصائد والموسيقى ؟هل جثم العروض بين يديك ؟؟هل ناخت لك جمال الخليل ؟؟ هل كان المعري هناك يحشد رهط الشعراء كما جمعهم في رسالته وهل تبدى وجه دانتي اليغيري ضاحكا على الموت ؟
هل احتفى بك الأنقياء هناك كما يليق ؟؟ وهل وجدت حكمة الحياة ملقاة جانب القبر ؟
تَنقلتَ يا صديقي من الأصفر السرطاني إلى الأبيض، عشت شاعرا حقيقيا ومت دون أن تسقط من يدك القصيدة ؟بقيت طودا شامخا في وجه الامحاء والإقصاء والرداءة ،بقيت سيفا حادا ومِديةً تقطع الشر، جِنا لا يقبل القيود ،كنت والغا في الحياة أكثر من صقر يطارد فريسته لم تُسلم لها العنان ولم تعرف الراحة، راوغتها بشتى الطرق؛ دخلتها من باب الشعر و الأدب والدراما والكتابة والصورة ؛هززت مسرحها وخشبها وفصولها كما ينبغي بمايسترو عريق واثق، واجهتها بالسرد والقص والرواية، وكِلتَ، لأعدائك، ما يمسح كرامتهم، ويمرغ وجوههم في الخسة ، دخلتها من زوايا شتى ، وعشتها حيوات متعددة، كنت فلسطينيا مطرودا من وطنه، وسوريا عاشقا ،لبنانيا حرا ومصريا أصيلا وعراقيا معطاء ! وخليجيا شهما متسامحا، عبقريا كنتَ عروبيا صميميا وإنسانيا اكبر من اللغات والكلمات والصفات..
كنت أبسط من فراشة وأعمق من محيط وعقيدة مجيدة ،
كنت متصوفا ،عذريا ،حسيا ،ليبيراليا يساريا ثائرا حرا ،شاهدا وشهيدا ...
كنت حصانَ ريح جامح ،صخرة صلدة ، بينما ضحكتك تمزق صمت الخوف والرتابة.
كنت أكبر من المرض والموت والفناء ...
أَفنيتَ الزمانَ قبل أن يفنيك ،حاربتَ المرض قبل أن يفتك بجسدك ، ولقنت النذالة والجبن دروسا في المغامرة، والقلم ظل يَمينَك، والكأس شمالك، والحب ديدنَك ومعدنك وسِر حياتك وكتابتك وبوحك.

***

قل لي يا ممدوح هل رأيت الموت سعيدا يصيده الثمين؟ وهل شاهدت ابتسامته طافحة وضحكته مجلجلة ،أم رأيته خَجِلا من اصطحاب أجمل الشعراء والأصدقاء، مطأطئ الرأس من وجهك المشرق وابتسامتك الساخرة الساحرة ؟؟

قلت ضاحكاً: انك أخبث من السرطان والمرض والموت، وصَدَقتَ حين قلت، فقد عشتَه كما عشتَ حياتَك بكبرياء وعطاء مجيدين، وحملت الموت معك، كما يحمل الذئب دم فريسته، حملته حتى أرديته قتيلا بين جنبات الطين، وقلت له لم تكن أقوى مني لأنني مَنْ حملك ولستَ من حملني، أتيت بك لأقتلك ثانية، وأعيد حياتك من جديد ،لأنك حين قتلتني نسيت صورتي في المرآة، نسيت كتبي وأصدقائي وجسدي هناك، أما ما تحمله الآن بين يديك فليس سوى هيكل وهمي، أما أنا الحقيقي، فقد خاتلتك وبقيتُ في نسغ الشجر،في ضحكة الأطفال، في ماء الشعر وغناء الحصادين، في رعشة السكارى، وعذوبة المتصوفين، في عضلات الحق وفي مرح الصعاليك!
يقيتُ هناك في نشوة مولانا جلال الدين الرومي،وفي عبقرية هرمان هسه وشعرية أوكتافيو باث، بقيت في وشم أمي وخمرة العشاق ، بقيت هناك في طريق الشام ، في عيون القدس وبيروت، في فضاء عمان والقاهرة، بقيت قطرات في غيوم ستظل تمطر وجباه تشم هواء العزة.
بقيتُ هناك فوق رمل الكلام وعسل الميجنا وخضرة الغابات وسحر الكلمات، بقيت في أروقة المكتبات والجامعات وفوق المسارح والمنصات وعند شفاه العشاق وتعاويذ الأمهات وآهات المعذبين !

قل يا صديقي، وأنت تطوي الموت كطي السجل، وتسخر منه كما سخرت من الحياة ،هل وسعك هذا الموت ؟؟هل وجدته ملائما لنبي مثلك ؟

***

ممدوح عدوان كما يراه أصدقاؤه وزملاؤه من كتاب وفنانين

كان أكثر من واحد .. كان عشرة وربما مئة

غَرَف من الحياة غَرْفهُ من الكتابة حتى الرمق الأخير

بيروت ـ يقظان التقي
دمشق ـ سالار اوسي
عمان ـ الناصرة ـ موسى برهومة

ممدوح عدوان ممدوح عدوان الذي رحل أول من أمس عن عمر يناهز الستين، كان من أكثر المثقفين العرب تنوعاً في كتاباته: من المسرح الى الشعر الى الترجمة، الى التلفزيون، الى البحث.
كان ذا همة لا تكل ولا تمل. ولذا عزر نتاجه وتوزع. وفي رحيله، فقده القارئ والمشاهد والباحث والخشبة المسرحية، وأصدقاؤه (وحتى خصومه). فهو كان حالة ضاجة بالحياة. وبالبحث. وبالمواقف الملتزمة القضايا العربية السياسية والاجتماعية والثقافية.
ممدوح عدوان من مواليد عام 1941، وله 17 مجموعة شعرية و26 مسرحية و16 مسلسلاً وروايتان إضافة الى ترجماته المهمة من اللغات العالمية.
مجموعة من الكتاب والفنانين العرب يتكلمون عن هذه الحالة الاستثنائية التي اسمها ممدوح عدوان.

ياسين رفاعية (روائي):
العنكبوت

هذا المرض اللعين يخطفهم الواحد تلو الآخر هذا "العنكبوت" الشرس، الغليظ القلب يلتقط فريسته ولا يتركها إلا بعد ان ـ في النهاية ـ يقضي عليها.
قاوم ممدوح عدوان بما وسعه من شجاعة وصبر وصمود. وكان يعرف انه لن ينجو. وكنا نتمنى له أكثر من الأيام أو الشهور.. وله سنة واحدة حتى ينجز ما كان يريد ان ينجزه. ومع ذلك خلال أربعين عاماً أعطى الكثير الكثير. لم يكن يتوقف عن كتابة الشعر، كتابة المسرح، كتابة الرواية. لم يتوقف عن الترجمة والمحاضرات والأمسيات الشعرية. كان ممدوح عدوان أكثر من ممدوح واحد. كان عشرة، ربما كان مئة وكان يغرف من الحياة ما وسعه الى ذلك سبيلاً كان يحب الحياة ويقابلها بضحكته المجلجلة وبسخريته اللاذعة وكان ممدوح في السياسة محبطاً الى آخر ما يمكن لإنسان ان يشعر. زاملته خمس سنوات في جريدة "الثورة" في دمشق، قبل حرب حزيران، وبعدها، كان متمرداً ويوم أعلنوا وقف إطلاق النار مع تلك الهزيمة الرهيبة، ضرب جبينه في الطاولة وراح يبكي كالأطفال، كأنه فقد أمه أو أباه.. أو فلذة من كبده، ويومذاك شتم العرب والأمة العربية. لكنه لم ييأس، ظل يتأمل ان لا بد ان ينهض طائر الرعد من غفوته.. ولما جاءت حرب تشرين عام 73 شعر بالاعتزاز. وقال: طالما نستطيع ان نحارب، يعني أننا ذات يوم سننتصر... وانتهج ممدوح عدوان منذ ذلك الوقت أسلوباً في المقاومة في الكتابة. فهذه هي حيلته الوحيدة، وظل يكتب ويتأمل.. ولم يفقد أمله بأمته ولما وقع في "فخ" العنكبوت، ووجد نفسه ضحية هذا المرض. واجهه بشجاعة نادرة. لم يستسلم. لم ييأس بل ومن خلال هذا الصمود انصرف الى الكتابة نحو عشر أو خمس عشرة ساعة في اليوم. كان يقول لدي مشاريع كثيرة وعليّ انجازها. ولكن العنكبوت الوحش لم يمهله.. والتف عليه. وأضعف مقاومته، حتى إذا خارت قواه. أغمض عينيه عن حياة كان يريدها أطول. وعن أصدقاء كان يريد ان يسهر معهم كل يوم وعن وطن تركه في أقسى ظروفه.
وكنا، نحن الرفاق، نتمنى لو نعطيه من أعمارها. لو كان هذا ممكناً. لأننا كنا نعرف ان ممدوح عدوان بحاجة الى عمر أطول. ولكن، كما يحصل في كل مرة، لدى سعد الله ونوس، وهاني الراهب، وسعيد حورانية من قبل.. وبقية العمالقة: لا أحد يستطيع ان يتوقف في وجه الموت، خصوصاً عندما يتجسد في هذا المرض الخبيث الذي اسمه السرطان.
وداعاً يا أخي ممدوح. وداعاً أيها الفارس النبيل وليرحمك الله.

عصام العبدالله (شاعر):
حارس الذكاء النبيل

لم أكن أظن ان كأسه تفرغ. لم أكن أظن ان ضحكته تموت. لم أكن أظن ان قلم وحبره وأوراقه ستصير سكوناً كأنها ثياب للماضي وللرجل الذي لم يهدأ يوماً إلا ليقفز من جديد. وكانت بيروت تمسح على تعبه وتداوي جسده المنهك وكنا ننتظره ليأتي للعلاج وليأتي للشعر وللأصدقاء يلتفون حوله ويرفعون نخبه ويخبئون ضحكته في صدورهم ليسمعوها فيما بعد.
لم أصدق ولم يصدق هو أن المرض قادر عليه. الشجاع كأنه المتهور والكريم كأنه أُهلك والموهوب كأنه حارس الذكاء النبيل.
المجتهد والصبور المنصرف الى الكتابة كأنها طقسه الوحيد كأنه يقطر من أصابعه أو يسيل.
كنا نودعه بسرعة لأنه سيعود. موحش كرسيه الفارغ موحشة كأسه الفارغة وموحشة تلك الصفحات البيضاء التي تنتظر عبثاً بريق حبره الرائع.

محمد علي شمس الدين (شاعر):
هجاء الموت

لم يكن إعلان موت ممدوح عدوان إعلاناً مفاجئاً فأنا أعلم انه من ثلاث سنوات حتى اليوم وهو يعاني صراع الجسد مع السرطان لكن سرطان الجسد بالنسبة لممدوح لم يكن بقادر على أن يتحول الى سرطان للروح.
كان ممدوح أقوى من السرطان. شعره الجميل، مفارقات هذا الشعر شخصه العذب، مفارقات هذا الشخص، بديهيته الحاضرة، قدرته على الارتجال، ضحكته الذي تسبقه باستمرار.
احسب الآن ان ضحكة ممدوح الطويلة العذبة سبقته الى القبر. أحسب الآن ان ممدوح يمازح الملكين.
أحسب ممدوح الآن واقفاً بين الموتى على منصة عالية، يرتجل قصيدة في هجاء الموت.

زاهي وهبي (شاعر):
لم يجفّ حبره

الساحر الساخر والشاعر في النص وفي الحياة كتابة وسلوكاً وابتسامات، المتوهج المقبل على الحياة لا يردعه مرض ولا يحول بينه وبينها ألم أو جحود ونكران.
وحيداً إلا من زوجة وأبناء وقلة من أصدقاء صارع المرض العضال بالهجوم عليه، لم ينكفئ، لم ينزوِ لم تخفت ضحكته، لم يجف حبره، بل بقي مشاكساً مشاغباً حتى الرمق الأخير يسهر ويضحك ويبكي ويشرب ويدخن ويقهر الموت بمزيد من الحياة.
كنا نتحلق حوله في أيامه الأخيرة كالعذارى اللواتي يتحلقن حول عروس تستعد لرمي باقتها ودائماً كانت باقته موقفاً نقدياً لاذعاً أو نكتة ساخرة تنتزع الضحكة من جوف القلب أو قصيدة منتصرة على الموت.
الى ممدوح عدوان باقة من الحب والروح والاشتياق.

يحيى جابر (شاعر):
صوت جريء

ممدوح عدوان كان متعدد المواهب في المسرح والشعر والنقد والترجمة تماماً مثل واحد يحب الحياة بشغف.
شخص تعرفه من ضحكته. كان فظاً وشرساً أحياناً كما كان يحيّر أحياناً كموال ومعارض في آن.
أحيانا نحبه وأحيانا تتحاشاه ويحيرك في مواقف معينة. لكن لا يمكن إلا ان تفتقده وتفتقد جلساته وتفتقد وجعه الخاص الذي كان يخفيه أكثر مما كان يبوح أو يوحي به في المعنى السياسي والثقافي ونتيجة تردد وتأرجح ما في مواقف سياسية معينة.
ممدوح عدوان رجل مثقف كان يقف على ارض صلبة بمواقفه وقصيدته ومسرحه الواقعي. قد تختلف معه في نظرته لبعض القضايا. لكنه كان صوتاً جريئاً ومحترماً.
شخص تقدره كثيراً وتكنّ له كبير الإعجاب.
أتمنى له الكثير من الرحمة.

ماري الياس (باحثة مسرحية):
مسرحه لم يأخذ حقه

معرفتي المباشرة بممدوح عدوان، تعود لسنوات طويلة مضت. مذ كان أستاذي في المعهد العالي للفنون المسرحية.
ممدوح عدوان كان شخصاً استثنائياً في علاقته بالحياة وحبه لها. درّسنا الكتابة المسرحية، ولم يشعرنا يوماً بأنه خارج سعينا للمعرفة، بل كان يسعى معنا، بكل روح الزمالة، والصداقة وخارج الإطار الأكاديمي التقليدي.
لا يسعني هنا الحديث عن قيمته الأدبية والإبداعية العالية، وعن أهميته كشاعر وكمترجم، وقدرته العالية على الابتكار، لكني اعتقد انه لا بد من القول بأن مسرح ممدوح عدوان لم يأخذ حقه.
برحيل ممدوح عدوان، فقدنا أحد أهم دعامات الثقافة العربية الراهنة، وكخطوة تقديرية أتمنى أن تعاد دراسة مسرحه من جديد وبشكل كامل يليق بالإرث الذي تركه لنا صديقنا واستأذنا الراحل عدوان.

شوقي بغدادي (شاعر):
الشخص العجيب

ما شعرت به ليلة أمس، كانت صدمة بالمعنى الحقيقي والعميق لهذه الكلمة، حين بلغت هاتفياً أن ممدوح رحل عنا.
كلنا سوف نموت، وممدوح كان يموت أمامنا.
لكن هذا الشخص العجيب، كان يوحي لنا دائماً بقدرته على التماسك، والاستخفاف بالموت، والقدرة على الضحك والإضحاك، والتدفق في الحديث انه سيعيش طويلاً. ولكن ها هو الموت يحضر فينا مرة اخرى. أن غياب ممدوح، ليس خسارة شخصية، أو لنقل خسارة أدبية وفكرية، بل خسارة وطنية. بمعنى انه كان يملئ الشارع الثقافي بكل ما يساعد على تقدم الوطن والثقة بالإنسان. بقدر ما هي خسارة فنية إبداعية، إذ كان الوحيد بيننا الذي كان يوظف كل دقيقة من حياته للإبداع والحركة والتواصل في شكل إعجازي يصعب على الآخرين مجاراته فيه. موت ممدوح، يعلن (بالنسبة لي على الأقل) أن صمتاً جنائزياً من نوع خاص سوف يحل بالشارع الثقافي، سواء اختلفت مع ممدوح أم توافقت معه، فلا بد من أن تعترف أنه كان أكثرنا حياة، وقدرة على إشعال النيران والأضواء والصخب والإدهاش في كل ما يقوم به. وهكذا أتحسس الآن قلبي، وأتحسس وجداني ومشاعري، فأجد أن الموت، هذه المرة، صار قريباً جداً مني.

محمد جمال باروت (ناقد وباحث):
طريقة حياة

كانت الكتابة لدى ممدوح على الدوام، طريقة حياة أكثر منها طريقة تعبير، ولهذا كتب ممدوح في أجناس ثقافية وكتابية متعددة وشديدة، التنوع. غير انه يوحدها خط عميق هو خط الروح الشعرية التي تميزت لديه بطبيعتها الاستفزازية التي تنفر من الألفة وتبحث عن مواقع الاصطدام والشجار في العالم.
أدخل ممدوح في الكتابة كل فعالياته الفكرية والسياسية والاجتماعية والنفسية الخاصة، ويبدو لي انه من ذلك الجيل الذي ارتفعت لديه الكتابة الشعرية بمعناها الواسع الى قضية وجود.
كان ممدوح في الفضاء الحديث، ولكنه استفز (طنين الحداثة) بقدر ما استفزه هذا الطنين، وجرّه الى مناقشات سجالية حادة تتعلق بطبيعة الشعر ووظيفته وأدواته.
فهم عدوان للقصيدة كان بسيطاً وخالياً من التعقيد، ولكن هذا الفهم كان في حينه (النصف الثاني من الستينات)، حيث أخذ يبرز كواحد من أبرز أسماء جيل المنعطف الثاني في الشعر السوري.
عاد ممدوح الى الرمز التاريخي أكثر مما عاد الى الرمز الأسطوري، وكان الرمز التاريخي لديه يعني إضاءة تجربته الحياتية نفسها والتي لا يمكن فصلها عن تجربته الإبداعية، وكان ممدوح بذلك واحداً في كثير، وكثيراً في واحد.
لم يبق شيء إلا وكتب فيه: سينما، غناء، شعر، مسرح، فكر سياسي، رواية، نظرية الشعر والأدب، ترجمة، قضايا المرأة، والديمقراطية... الخ.
كان في ذلك يرى الشعر فعالية إبداعية، بمعنى فعالية الوجود والحضور في استقرار العالم.

لقمان ديركي (شاعر):
تعدّدي

لم يكن ممدوح عدوان شاعراً وحسب، إنما استطاع بتعددية شخصيته الفنية والإبداعية أن يتحول الى ظاهرة ثقافية كبرى. وتمتاز هذه الظاهرة (ممدوح عدوان) بقوة التلقي تماماً بنفس حجم قوة التصدير لديه. فهو المثقف الشاعر الذي لا يفوته نتاج شاب في بداية حياته الإبداعية.
ممدوح كان حاضراً بقوة في الحياة الثقافية السورية والعربية، كمبدع ومتلقي معاً. وهذا ما يندر أن نجده لدى المثقف العربي. بالإضافة لكل ذلك فقد كسب ممدوح عدوان احترام الجميع بعد أن خفّت حدة الغوغائية في السنوات الأخيرة.
هذه الغوغائية التي كان أبطالها يوزعون التهم يميناً شمالاً، على كل من يختلف معهم في الرأي أو الفكر. وكعادته كان ممدوح عدوان، بسبب شجاعته، المتهم الأول، في هذه البلاد الواسعة.
فالشيوعيون اتهموه بالبعثية، والبعثيون اتهموه بالشيوعية، والمعارضون اتهموه بالموالاة للسلطة، والسلطة اتهمته بالمعارض، لكن ممدوح عدوان بقي هو هو، فرداً حراً من كل أمراض الثقافة العربية، وبالتالي فلا ضير أن يكون "متهماً".
ترك ممدوح عدوان كتباً كثيرة في مختلف الأجناس الأدبية، ولكنه بقي صامداً في أواخر حياته دون أن يصب بداء الخرف الثقافي الذي يعاني منه بعض مبدعينا العجائز الآن. لقد استطاع ممدوح عدوان أن يرحل شاباً، وترك لنا كلمة ستبقى ملتصقة به دائماً، انها الشرف.

بسام كوسا (ممثل):
حقيقي

أضاف للمكتبة العربية مختلف الأجناس الأدبية (رواية، مسرح، سينما، شعر، ترجمة، مقالة أدبية...) ويكاد لا يخلو منزل مثقف عربي من وجود جزء من نتاج ممدوح الأدبي والإبداعي.
وهذه، بحد ذاتها، حالة نادرة ومتميزة.
هذه النتاجات الكبيرة التي قدمها لنا ممدوح عدوان كان لها مبرر يخصه، لقد كان يعمل على أربعة أشخاص، وكان يملك طاقة وقدرة استثنائيتين للعمل والكتابة اليومية. وكان يندهش عندما يسمع أحدنا يعاني من الضجر، وفي رأيه أن 24 ساعة في اليوم، مدة غير كافية ليقوم خلالها الانسان بكل ما يريد القيام به.
طبيعته (الجهادية) هذه واندفاعه المستمر نحو الكتابة كطقس يومي، أفرز في النهاية هذا الكم الكبير من الكتب التي تركها لنا.
ربما الأهم من ذلك، هو ممدوح، الانسان، الذي كان يمتلك كماً من الكرم الروحي والإنساني وكماً من الصدق والصراحة.
لقد كان شخصاً حقيقياً ومباشراً في تعاطيه مع الأشياء، ممدوح لم يستطع أن يكره في حياته، فإما أن يحب أو يعتب، وهذه دلالة راقية وخاصة.
الخسارة مشتركة بيننا جميعاً، لقد كان جزءاً حميماً في حياتنا. سيظل في ذاكرتنا ذلك المتمرد القادر على إنتاج الجديد وتقديم الجديد، وربما هذا هو الأمر الوحيد الذي يعزينا ويعوض فينا خسارتنا.

غسان مسعود (مخرج وممثل مسرحي):
انفتاح

تناول شخصية مثل ممدوح عدوان، يبدو لي، وبعيداً عن الحالة العاطفية الآن، سيكون الأمر شائكاً وليس سهلاً لأسباب عدة: لأن وجوده في الحياة الثقافية السورية كان وسيبقى لفترة طويلة حالة فريدة واستثنائية لجهة الفعالية التي تميّز بها حضوره، فكيف يمكننا أن نحكي عن الشعر السوري خلال أربعين عاماً دون أن يكون ممدوح عدوان حاضراً بقوة؟ كيف يمكننا أن نختلف أو نتفق في المسرح السوري دون أن يكون عدوان أحد أبرز وجوه الاتفاق والاختلاف؟
وذات الشيء يمكنه ان يسحب على الدراما التلفزيونية، الكتابة الصحافية، الترجمة. إذاً، نحن أمام شخصية موشورية وقلّما نقع على شخصية ثقافية موشورية التكوين.
الامتياز الأكبر لممدوح عدوان انه كان دائماً ممدوح عدوان، كان هو نفسه، خاض معاركه الإبداعية بشرف وبجرأة قلّ نظيرهما دون حماية تقليدية من حزب أو دولة أو تيار، بمعنى انه لم يضع نفسه في عباءة أحد ليأخذ منها حصانة، لقد كانت حصانته الدائمة صوته. والأهم من هذا، في رأيي، انه لم يجرب أن يذهب من موقعه الإبداعي في كل هذه الأشكال الإبداعية الى مفهوم الوصاية الثقافية والإبداعية التي (في تقديري) أساءت وتسيء الى الحياة الثقافية في سوريا، وللكلام هنا معانٍ كثيرة لا ندخل في تفاصيلها الآن.
اعتقد ببساطة ان ممدوح عدوان كان وسيبقى أقوى من أن يهزمه مرض أو موت. أراه منتصراً لأنه كما نعرف جميعاً لم يقعده المرض ساعة واحدة وكان فاعلاً حتى لحظة موته، وهذه مأثرة تستحق التأمل.
أحب أن أشير أخيراً، الى أن هذا الرجل أراد بوعيه المتقدم أن يبقى جيلاً واحداً مبتعداً بنفسه عن قصد عمّا يسمى خطاً (صراع الأجيال) فكان بحق شاباً وفتى لا يشيخ، ما أعنيه هنا، انفتاحه الساحر على كل التجارب التي قد يتفق أو لا يتفق معها، لكنه تعوّد أن يحترم خصوصية الآخر، مشروع الآخر، وعي الآخر في تناول قضية ما، وفي شكل التعبير الذي يرتئيه (مسرحاً، شعراً، صحافة كتابة مسرحية... الخ) وهذا سر قربه الدائم من الشباب وتجارب الشباب.
هو واحد من القلة الكبار الذين يمضون، ومع الأسف الشديد، راياتهم تمضي معهم.

نبيل المالح (سينمائي سوري):
صخرة بأساس البيت

يا بن الفقر والجوع وليالي البكي
ما حد ع دربك همّ متلك شال
يا حامل هموم الدني وما بتشتكي
ورجليك أمكن من صخور جبال
كنت بالشريان نقطة
بالزيتون كنت الزيت
كنت نقطة عرق ع جباه تعبانين
شلناك مونة للشتي
صخرة بأساس البيت
شلناك قصة تنحكي لزغار نعسانين

(كتب ممدوح هذا النص كأغنية من أغاني فيلم (الفهد) عام 1969.)

ترى هل أجرؤ على أن أصف ممدوح بأقل من هذا الكلام التي كتبه هو ليصف بطلاً في فيلم بينما هو الأكثر انطباقاً على وصف ممدوح نفسه.

سميح القاسم (شاعر):
اتسم دائماً بالتمرّد والعصيان

يبدو لي أنني في (رَبذتي) هذه محكوم عليّ بتلقي الصواعق المتتالية برحيل أصدقائي وأحبائي وأشقائي.
يوجعني أن أستذكر قول أخينا الشاعر القديم (قد كنت أوثر أن تقول رثائيا) إنما أجد عزاءً في الآية الكريمة (ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا) وكنت أفضّل أن أنتظر بشيء من الهدوء، إنما يبقى الإيمان صارما بحتمية الموت، هذا الحق الصعب والمرير.
ولا أستطيع أن أتحدث عن ممدوح عدوان بموضوعية المشاهد المراقب النقدي والعلمي والشعري، فقد كان ممدوح أخا وصديقا ورفيق درب في الشعر وفي الحياة.
لم يكن مجرد شاعر، بل كان ظاهرة ثقافية، وحالة إنسانية متميزة كما يعلم كل من عرفه وقاسمه شيئا من الزمن والتجربة.
ممدوح اتسم دائما بالتمرّد والعصيان، وأعتقد أنه ساهم في المجال الشعري في تعميق شرعية قصيدة التفعيلة، فالجيل الذي ينتمي إليه كان جيلا مفصليا في الشعر العربي المعاصر، وكان من شأنه أن يقيم الدليل على شرعية هذه القصيدة.
وإلى جانب إبداعه الشعري كان لممدوح دور كبير في المسرح والتلفزيون والسينما والثقافة العامة، فهو من الندرة الثقافية التي لم تكتفِ بالطاقة الإبداعية الذاتية، بل عمد بمثابرة وبمسؤولية إلى تثقيف الذات بالتراكم المعرفي والانهماك الحقيقي في الحياة الثقافية والسياسية والفكرية.
سعدتُ بزيارته في منزله في دمشق الشام، وهناك اكتشفتُ أثر الحميمية الأسرية في عمله الشعري والثقافي، وارتحتُ كثيرا إلى العنفوان في تكوينه، واستنكافه عن لعب دور المثقف القِن.
لم يكن ممدوح من المثقفين الأقنان المنشغلين بذواتهم والمنهمكين بإنجازات أيبقورية. من هنا يجوز القول إن رحيله يؤلمني على المستويين الشخصي والعام، ومن خلال(المستقبل) أود أن أنقل تعازيّ وتعازي شركائي في (الربذة) هنا إلى أسرته وأشقائنا المبدعين في القطر العربي السوري وفي الوطن العربي كله.
ويقينا أن اللقاءات والمهرجانات الشعرية والثقافية ستفتقد هذا الألق وهذا المناخ الجميل الذي طالما أسهم ممدوح عدوان في خلقه.
هناك طرائف كثيرة بيني وبين ممدوح، ولا أريد أن أقول (الراحل) لأن من الصعب عليّ استيعابُ هذه الصيغة.
لا أريد أن أسمّيَ هذا الزمن زمنَ الفقدان، لكنّ زمني الخاص هو كما يبدو، وبمشيئة الله، زمنُ فقدان قاس وموجع، ولم يبقَ لي إلا أن أتمنى الرحمة الإلهية لنا جميعا، وممدوح واحد منا كان وما يزال وسيبقى، وإنّا لننتظر، وما بدّلنا تبديلا.

إبراهيم نصر الله (شاعر):
كان ضد "حيونة الإنسان"

المرة الأولى التي التقيت فيها ممدوح عدوان كانت قبل خمسة وعشرين عاما تماما، كان ذلك اللقاء في دمشق، أهداني يومها ديوانه (أمي تطارد قاتلتها) وكانت القصيدة الأولى فيه عنوانها الجنازة، وفي المرة الأخيرة التي قابلته فيها كانت في عمان، حيث قرأ مجموعة كبيرة من قصائده التي تتحدث عن الموت، إلى ذلك الحد الذي دفع زوجته لأن تطلب منه قليلا من القصائد عن الحياة.
لكن الحقيقة تقول: إن ممدوح عدوان عاش حياته يحتفي بالحياة لا بالموت، وحتى في قصائده الأخيرة التي بدت كما لو أنها كلمة وداعه الطويلة وهو يدرك أن الموت يقترب كل يوم أكثر فأكثر، كان تعلقه بالحياة وبكرامة الأحياء شيئا يفوق الوصف. فقد أدرك ممدوح عدوان دائما أن الشعر الحقيقي لا يكتبه شاعر يقبل بأن يحني جبينه، ولذلك كان كل ما كتبه هو (لا) كبيرة ضد سحق البشر وطحنهم، كان ضد (حيونة الإنسان)، التي جرى العمل عليها طويلا في هذا الوطن العربي الممتد بين ماءين وأكثر من صحراء.
ولذلك كان يرى دائما "أن الشعر هو (لا).. هو ذلك الشيء الإيجابي العظيم. هو ما يؤكد لنا أننا نبكي لأننا لم نتعود الذل، بعد، ولم نقبله، إنه يذكرنا أننا بشر". ولعل قصيدته الشهيرة عن دونكيشوت جزءا أصيلا من هذا العناد، وهو يشير في نهايتها على لسان بطلها أنه لم يقطع وعدا بالنصر في واقع مهزوم، ولكنه يقطع وعدا بألا تتوقف الحرب ضد كل أشكال الظلم.
ولعلي أقول له الآن ما قاله في قصيدته (الجنازة) وهو يرثي العروس القتيلة:

إنها متعبة
فلتوقفوا هذا الصراخ
أنا أطبقتُ لها الجفنينِ
واكبتُ انطفاء السحر والبسمةِ
راقبتُ اندلاع الصمتِ فيها
ستغني.. أمهلوها

وإذا ما كان من كلام آخر فسأقول، لعل أجمل وصية هي تلك التي كانت عنوانا لواحد من دواوينه، وهو يرى إلى مرحلة تتساقط ورموز تتهاوى، وأعني بها تلك الدعوة للعصيان والحذر والتعالي على المكتسبات، صغيرة كانت أم كبيرة، أعني عنوان مجموعته الشعرية (يألفونك فانفر).

نادر عمران (مسرحي):
قاوم الموت بجسارة

أنا جدّ حزين على غياب الأديب والمسرحي الكبير ممدوح عدوان الذي ألهم المسرحيين العرب وأضاء أرواحهم بالأعمال الصادمة والرؤى الجارحة.
ظل ممدوح عصيا على التدجين، وقاوم الموت بجسارة، وتهكمَ على الموت، وانتصر عليه بالكتابة والتشبع من الحياة والنهل من ينابيعها الموّارة بالدهشة والتجدد.
كان ممدوح رمزا ثقافيا بإبداعه الإنساني ومشاركته في حركة الحرية والعدالة والتنوير، وستبقى أعماله نبراسا لنا ونحن نواصل مسيرته، ونستأنف غضبه الساطع النبيل.

سوسن دروزة (مخرجة مسرحية):
دافئ وصادق وحميم ونزق

أتيحت لي فرصة أن أتعامل مع مسرح ممدوح عدوان من خلال مسرحية "الزبال" التي أخرجها في العام 1994 حاتم السيد وأعدّها ومثلها ناصر عمر، فيما توليتُ السينوغرافيا والشريط الصوتي المرافق للعرض الذي حصد حينها جميع جوائز مهرجان المسرح الأردني للمحترفين.
عالم ممدوح زاخر بالحياة بكل تشكلاتها وخصوصا البيئة التي ظلت ملمحا أساسيا في أعمال هذا الكاتب التفوق.
وأمكنني الدخول في عوالمه من خلال هذه المسرحية التي حضرها ممدوح شخصيا، ومنحنا الموافقة على أن نطوف بها في عروض مختلفة في عمّان ورام الله والقدس.
كان يوم حضوره العرض الافتتاحي للمسرحية غاضبا بسبب تأخيره على الحدود الأردنية السورية، فكال على رؤوسنا شظايا احتقاناته، وكانت شتائمه لاذعة وصادمة حتى إنها طاولتنا، ولم نغضب حينها، لأن ممدوح بعد لحظة تحوّل إلى شخص آخر دافئ وصادق وحميم ونزق، ولعل الصفة الأخيرة هي ما جعلته عذب المعشر نقي السريرة.

التشييع اليوم

يشيّع ممدوح عدوان اليوم، في موكب ينطلق في التاسعة صباحاً من دمشق الى مسقط رأسه دير ماما، قرب مدينة حماة، حيث سيوارى الثرى.
وقد نعت وزارتا الثقافة والإعلام الشاعر الراحل الذي "كان معلماً لمن أراد التتلمذ في المسرح وفي الرواية والصحافة والمقالة السياسية وفي فن الحياة".

المستقبل
الثلاثاء 21 كانون الأول 2004

* * *

ممدوح عدوان: ربما تركوني أتكلم حينما وجدوا أن صوتي من رأسي

راشد عيسى
(سوريا)

ممدوح عدوان
ممدوح عدوان

لا يكف ممدوح عدوان عن العودة إلى ينبوعه الأول، ضيعته. ليس في ما يكتب وحسب، بل في ضحكته المجلجلة دائماً، وفي تعاليه على المرض والألم، وولعه بالحكي. لا يعرف أن يتكلم إلا وهو ينفجر، يروي الحكاية للمرة الألف وهو ينفعل ويضحك بطزاجة المرة الأولى.

"القصص كالخمر، تتعتق حين تروى، جرار القصص روايتها" يقول روائي. وممدوح، في كلامه، يختبر ما سيكتب، وما كتب، كأنما يختبر شغفه بالحياة. لم ينل منه المرض، والدليل سجائره التي لم تنطفئ لحظة (مع تعديل طفيف من السجائر الوطنية المديدة إلى الأجنبية)، ونكاته التي تملأ المكان بالصخب، وآراؤه الحادة التي تصر على النظر إلى نصف الكأس الفارغ، مع تنويه بالنصف الآخر، الفارغ أيضاً، على ما يقول في ديوانه الأخير. ومع كل هذا الفراغ لا يعرف عدوان الوحشة، بمعناها المألوف، ويستغرب كيف يضجر الناس: "لا أعرف كلمة الضجر، دائماً عندي ضائقة وقتية، والمرء لديه كتب لم يقرأها، ومشاريع لم يكتبها، وأفلام لم يرها، وكؤوس لم يشربها، ونساء لم يلحق بهن، وجلسات وأصحاب".

كما لو أنها أثينا معاصرة ضيعة ممدوح عدوان. هناك حيث التاريخ (تاريخ صدر الإسلام وبدايات الخلافة الأموية) عالق على أطراف الألسنة كالتبغ العربي، وحيث الناس يتباهون ويتبارون بحفظ الشعر، وتوليف العتابا والسير الشعبية، من الزير سالم إلى حكايات السفر برلك الموجعة. لم تمت ضيعة ممدوح، ظلت في صدره وحكاياه. وربما لن يكتب لها أن تموت ما دام قوّال "دير ماما" و"قيرون" مثابراً على العودة إلى ينابيعها، وإلى ما تمليه تلك الينابيع. ليس عبثاً الحديث عن ضيعة ممدوح عدوان، فلا شك في أن منها انبثقت اختياراته، من مسرحيته الأولى "المخاض" (1967) التي تروي سيرة المتمرد الشعبي أبو علي شاهين عبر مادة مأخوذة من الأغاني والقصائد الشعبية، إلى سيرة الجوع التي كتبها في عدة أعمال مسرحية منها "السفر برلك، أيام الجوع"، إلى روايته "أعدائي".

يبدو ممدوح عدوان، حتى وهو في عزّ مرضه، كواحدة من صلوات كازانتزاكي (كأنما عرّبها خصيصاً ليشبهها) والتي تقول: "أنا قوس بين يديك، فشدّني كثيراً يا إلهي، من سيهتم لتحطّمي". لينادي هو من جديد، مخاطباً موته باستعلاء: "لقد أمسكت بالصنارة/ اسحبني من الماء/ وطوح بي إلى الرمضاء". لكن قلبه يقول شيئاً آخر:

* "إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع/ تركنا فوقها منسف أحلام../ نحن أكملنا مدار العمر فرساناً/ وقد متنا شبابا".
هل هناك صور مستعادة من الذاكرة تحت وطأة المرض؟

أبداً. منذ بدأت العلاج إلى اليوم لم أشعر بأنني مريض، والدليل أنني ما زلت أعمل وقدمت في فترة المرض أربعة كتب. لم أتوقف عن شيء. وبالعكس؛ فإن المرض يدفعني لأن ألملم أشياء مبعثرة هنا وهناك لأجمعها في كتب.
بعض معاركك الأدبية يتردد صداه إلى الآن. غير أنك في السنوات الأخيرة صرت بعيداً عن ذلك، أكثر هدوءاً. كيف تنظر اليوم إلى تلك المعارك؟ هل كانت نوعاً من نزق الشباب؟ هل يهدئ العمر من ذلك؟

لا شك في أن للعمر دوراً. ولكنني كنت أخوض معاركي الأدبية لأنني لا أقدر على السكوت. كنت دائماً أرى أشياء لا يمكن السكوت عنها، وكنت أتصدى لها، بدءاً من التصدي إلى شرطي السير، إلى التصدي لأميركا. ثمة ما لا يسكت عنه، وهو ما كان يدفعني لأخوض معارك أحياناً. كان غيري يقول بما تلزمه تلك المعارك، أو بماذا تفيده؟ ولم تكن مسألة فائدة. هناك أوهام. الناس يقنعون أنفسهم بأوهام نصف الكأس الملآن، أما أنا، برؤيتي الشعرية والثقافية، فأرى الكأس كلها فارغة. هذا دفعني لأكون غير إيجابي مع الحياة، أعني مع المسؤولين، مع الأصدقاء وسواهم. ثم إن هناك ما لا يسكت عنه. حينما أسمع تعليقاً سخيفاً لا بد أن أقول إنه تعليق سخيف. المسألة أنك لا تستطيع أن تسكت، تريد أن تدافع عن نفسك وعن وجودك وعن الحياة التي تريد أن تعيشها. هذا ما جعلني متعِباً لزوجتي وأولادي وللدولة ولإسرائيل وأميركا. ربما اختلفت نوعية تلك المعارك الآن، لأنني أتفرغ لأشياء أراها أكثر جدوى، ترجمت الإلياذة مثلاً، والآن أترجم الأوديسة، وترجمت من قبل كازانتزاكي وغيره.

* ما الذي تتذكره الآن، من كل هذه المسافة، من تلك المعارك؟ أشقاها وأجملها؟

ليس هناك أشقى أو أجمل. كنت أخوض المعارك التي أراها ضرورية، وكانت تبدو ضرورية نتيجة الوسخ الذي حولي، ما كان يملأني برغبة في التنظيف، بقول الرأي، بالمماحكة. وهذا ما ولّد لي عداوات أو صداقات، احتراماً، أو احتقاراً. حياة. لكنها لم تكن حياة مسالمة، وهذا ما جعل الأعداء أكثر من الأصدقاء.

* بعد هذا العمر، هل بقي الأعداء أعداءً والأصدقاء أصدقاء؟

معظمهم ظلّوا كما كانوا، هناك أناس يزورونني فقط من قبيل المجاملة.
نعرف على الأقل واحدة من هذه العلاقات التي تغيرت، علاقتك بالماغوط.
الماغوط كان بالنسبة لي دائماً ثقيلاً، لا يحتمل، ثم بالتدريج، بعد احتكاكي به وزياراتي له إثر مرضه، صار أكثر إنسانية؛ يتصل ويسأل عني حتى قبل أن أمرض، ما ولّد علاقة خاصة جداً في ما بيننا، كما جعله يبادر ويكتب لي قصيدة، وضعتها في مقدمة الديوان الأخير "حياة متناثرة". الماغوط من القلائل الذين تجددوا في حياتي. ولكن أصدقاء آخرين كثراً خسرتهم إثر المرض. هناك أصدقاء كانوا، وبالتعبير الشعبي، "ما بيتكنّسوا" من البيت، الآن أراهم كل ستة أشهر. قلت مرة في برنامج تلفزيوني إن اتحاد الكتّاب العرب يبعد عن بيتي أقل من كلم واحد، وبعد سنتين من علاجي لم يأتني حتى هاتف من اتحاد الكتّاب. بعدها زارني علي عقلة عرسان، جاءني بباقة ورد، شرب فنجان قهوة، وذاك وجه الضيف. كانت هناك أيضاً علاقات شخصية وخسرتها، لا أبحث عنها، ولكنني أفتقدها.

* أنت الشاعر، الكاتب والصحافي المشاكس، ومعروف بهذه الصراحة التي تتحدث عنها الآن، مع ذلك نجوت من أن تسجن، او تلاحق، ولم تنف نفسك خارجاً، كما فعل زكريا تامر مثلاً. كيف استطعت، في حقل ألغام العمل الصحافي والثقافي في سوريا، أن تنجو بجلدك؟

هناك ظروف ساعدتني. لم أكن أتدخل بأشياء لا تعنيني، وهناك أشياء تعنيني ولكن بقدر، كنت أعلق عليها تعليقات عابرة، لكن حينما تطرح مسائل جدية لا أستطيع أن لا أتكلم، وأنا من يوم اللقاء مع الجبهة إلى اليوم، دائماً صوتي عال وأحكي. ويبدو لي أن الأمن متفهم أنني لست منظماً، وهذا أكثر ما يضايقهم، وخاصة في فترة "الإخوان المسلمين" و"المكتب السياسي" وغيرهم. ربما تركوني أتكلم حينما وجدوا أن صوتي من رأسي.

* ولكنك في الحقيقة تعرضت لمشاكل؟

مشاكل بسيطة، ولا تقاس بالنسبة لمشاكل غيري ممن اضطر ليهاجر، أو من سجن. منعت من السفر، حجز جواز سفري عدة مرات، منعت من الكتابة. في وقت ما نقلني أحمد اسكندر (وزير إعلام سابق) إلى قسم الترجمة في وزارة الإعلام حيث بقيت ثماني سنوات لا أكتب كلمة في الصحافة السورية. لكني لم أكن هيّناً، كنت أمنع من الكتابة في الصحف السورية، فألجأ إلى الصحف اللبنانية أو الفلسطينية أو المصرية. غاب صوت من الداخل وظل صوتي في الخارج. وتبين في النهاية أن الصوت في الخارج مسموع أكثر من صوت الداخل.

* تقول إنك كنت خارج موجة الريفيين الذين كانوا ينظرون إلى دمشق كمبغى، أو جاؤوا لينتقموا من المدينة ربما، ما الذي جعل نظرتك مختلفة لدمشق؟

حينما جئت من الضيعة، لم أجئ متعالياً عليها، ولا خائفاً منها، جئت وعندي مركب نقص تجاه دمشق. كنت أرى أن علينا أن نتطور ونطوّر المدينة، لا أن نعمل على ترييفها، كان هدفي كيف نصبح مدنيين أكثر. هذا ساعدني منذ البداية. أول ما جئنا في الستينيات كان لأحمد عبد المعطي حجازي ديوان "مدينة بلا قلب" وهو يحكي عن المدينة بما ينطبق على دمشق ومدن عربية غيرها؛ أن المدينة بلا قلب ولا علاقات ولا حيوية. قرأت الديوان وأعجبني، حتى إنني قلدته في البداية. بعد ذلك اكتشفت أن القضية ليست هنا، فنحن، أبناء الريف، وأبناء دمشق، وأبناء العالم الثالث كله، ننتمي إلى ريف، وبالتالي نحن خارج صراع الريف والمدينة، وليس لنا مكان في هذا الصراع، والأفضل أن نراهن على شيء مستقبلي، هو تطوير المدينة، وهذا ما أشتغله أنا؛ كيف يمكن أن نكتب أفضل، بحس حضاري وبأخلاقية أعلى، غير الأخلاقية الدينية، كيف تكون علاقاتنا إنسانية أكثر. وهذا ما جعلني أحياناً بعلاقاتي غير مفهوم. يعني مثلاً إذا كتبت عني كتابة لم تعجبني لا أزاعلك، فهذا رأيك، ولكن علينا أن نلتقي ذات يوم، فإما أن تطوّر وجهة نظرك، أو أكون أنا قد تطورت، أو يتطور كلانا، ونصبح بشراً مختلفين عما كنا عليه في الأول.

* هل يمكن القول إن دمشق، بين مختلف المدن، هي مدينتك؟

في 10 حزيران 1967 كنت مقيماً في حي الميدان بدمشق. كانت الحرب، وكان الجيش السوري ينسحب، وأنا ممسك ببارودتي في موقعي (كنا في الجيش الشعبي). شعرت بأعماقي بأنني قادر على أن أموت هنا، في هذا المكان، وهذه ليست مزايدة، حتى إنني لم أكتبها. أن تكون في موقع لا يجوز أن تتخلى عنه إلا إذا مت. زاد من هذا الإحساس الغامض، إحساسك بأن الوطن كله يهزم. الهجرة شيء مريع. تقول لنفسك وأنت ترى إلى المهاجرين والنازحين: أين هي رابطتهم مع الأرض؟ هؤلاء يأتون من أوروبا إلينا، ونحن نترك قرانا ونمشي. الجولان فرغ عن بكرة أبيه ولم يبق سوى أربع قرى. دمشق صارت أمي، ودائماً أقول إن أبرز حدثين مرّا في حياتي وأثرا بي كثيراً هما الخامس من حزيران وموت أمي.

* ماذا عن أمكنتك الأثيرة في دمشق؟

أنا عشت ولداً شقياً. منذ جئت إلى دمشق كنا نقعد في الخمارات وفي المقاهي. أنا للأسف لم ألعب القمار، وما تبقى لم يبق شيء لم أفعله في دمشق. هذا جعلني ابن دمشق حقيقة. هناك خمارات مثل خمارة أبو ناصيف التي هدمت، إلى الفريدي التي أغلقت مؤخراً. هناك أماكن أثيرة على قلبي، أتذكرها حتى الآن. وحتى الآن أحكي عن قصص تلك الأمكنة، وعن طرائف الزبائن أو طرائف أصحاب المحلات. كان الكل فقراء، وكنت ابن هذه الأحياء الفقيرة والعلاقات البسيطة. لديّ أصدقاء حتى الآن من أيام تلك الخمارات. أنا ما زلت أشرب ولكن لم أعد أذهب إلى الخمارات.

* بخصوص ديوانك الأخير "حياة متناثرة"، معروف أنك قضيت حياتك لم تكتب قصيدة النثر. لماذا الآن؟ في هذا الوقت المتأخر جداً؟

متأخر وغير متأخر في الوقت نفسه. كنت بين حين وآخر أكتب أشياء يصعب أن تكون موزونة، أتركها جانباً، وهذا منذ حوالى 25 سنة. في الفترة الأخيرة، وبعد أن تجمعت كمية من تلك الكتابات قلت لماذا لا أطبعها، فخرج هذا الديوان إلى النور. هناك لعبة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر؛ كلاهما شعر وكلاهما يحمل رؤية. في قصيدة النثر تستطيع أن تكون مرتاحاً وتأخذ مداك، وفي الوقت نفسه فإن قصيدة التفعيلة تسحبك نحو الفصاحة أكثر. ظللت أكتب قصيدة التفعيلة (قدمت 17 ديواناً)، لكن تراكم عندي ديوانا قصائد نثرية جمعت منها قسماً وطالعته في ديوان، قلت لأغامر هذه المغامرة وأرَ رد فعل الناس عليها.

* لم تحجم عن قصيدة النثر نتيجة موقف، لم تكن ضد؟

لا. فأنا طوال عمري أحب الماغوط وأحب شعره، ولو أننا لم نكن "أصحاباً" في البداية. لكن كنت أحبه، وأحب قراءة ما يكتب. كنت أشتري مجلات قد تكون غالية الثمن بسبب مقطع فيها للماغوط. وهذا دليل على أنني أحب شعره، وأحب تناوله للأشياء ورؤيته لها.

تحولت عن المسرح الشعري مبكراً، بسبب تفهمك لتغيّر دور المسرح، الذي انتقل من المسموع إلى المرئي. ولكن ما تخليت عنه في المسرح بقي في الشعر.
الشعر شعر والمسرح مسرح. أرى في هذه الأيام، أعني القرن الفائت كله، أن لا مجال للخلط بين الاثنين. لدى قراءتي للشعر المترجم، والمسرح المكتوب شعراً، كنت أشعر دائماً بأن هناك ازدواجية: إما موقف شعري يُعبّر عنه بالشعر، وبالتالي يكون الحوار المسرحي فيه ميتاً تماماً. أو العكس؛ يكون الموقف الدرامي عالياً جداً والشعر ميتاً. من هنا توقفت نهائياً عن المسرح الشعري. أحياناً أتيح لواحد من الكورس أن يقول بيتين من الشعر أو ثلاثة لا أكثر، كما عملت في "هاملت يستيقظ متأخرا".
نقصد أن عنصر السماع الذي استنكرته في المسرح، كان موجوداً بشكل أساسي في الشعر.
وفي المسرح موجود. السماع موجود في المسرح ولكنه لم يعد سماعاً شعرياً، وهذه قصة طويلة كتبت عنها مطولاً. الشعر كي يصل يحتاج إلى منبر خاص، هذا المنبر الخاص كان ممتزجاً مع منبر المسرح سابقاً. كان هناك التباس بين الشاعر والممثل وبطل المسرحية. مع الأيام انفرزت هذه المسألة، نتيجة تقدم العلوم. لم يعد ممكناً أن يكون المرء ممثلاً وشاعراً. مثلاً التمثيل كان خطابياً، الآن لم يعد خطابة، صار معايشة. تغيرت مفاهيم الشعر، ومفاهيم المسرح. تغيرت المعايير، وتدريجاً حدث الانفصال، هناك مسرح وهناك شعر. أنا ميال إلى أن لا أعود إلى كتابة الشعر المسرحي أبداً.

* حين تتحدث عن آبائك الشعريين تتحدث عن الضيعة التي عشت فيها، تتذكر والدك، وهو المقصود بعنوان ديوانك "وعليك تتكئ الحياة"، وخالك، وآخرين. هل من آباء شعريين خارج الضيعة؟

طبعاً. الثقافة كلها آباء شعريون، حينما تقرأ تتتلمذ على أيديهم من دون أن تدري. يعجبك بيت شعر هنا، أو شاعر هناك، أو نمط من التعبير ليس بالضرورة أن تقلده، ولكن يلفت نظرك، وهذا أمر إيجابي بذاته، بمعنى كيف تكون معجباً بنمط دون أن تقلده. وقد بذلت جهدي لأكون كذلك. لهذا هناك كثير من القصائد لي لا تعجب كثيرين من الناس، ولكنني أعرف أن هذه القصائد ابنة يومها ومرحلتها. ولذلك تظل لها قيمتها الخاصة.

* هل يمكن القول إنك أب شعري لأحد؟

لا. وليس عندي إحساس بالأبوة الشعرية نحو أحد أبداً. أنا أكتب كما أحب أن أقرأ. حين أكتب مادة أراجعها وأنا أسأل نفسي إذا كنت سأسر لو قرأتها في الجريدة لأحد غيري. إذا سررت بها أتبناها، وإذا لم يكن فإنني أتلفها أو أحاول إصلاحها.

أكره الكوميديا

بين مختلف أبناء جيلك من كتاب المسرح تميزت بأنك لم تكن صاحب بيان مسرحي، وإذا تتبعنا مسرحياتك لن نلاحظ ناظماً أو شكلاً يجمع بينها، كما لدى آخرين، كسعد الله ونوس مثلاً.
أنا، ببساطة، ليس عندي مشروع. أكتب المادة حين تأتي على بالي، أكتبها قصيدة نثر، رواية، مقالاً، أكتب ما يعنّ على بالي، ومع الأيام أغربل. لكن لم يكن عندي أبداً مشروع. من نوع تلك التي ترمي إلى إنقاذ المسرح العربي!
كان لافتاً أيضاً، وأنت من الأشخاص المولعين بالنكتة والضحك، أنك لم تكتب مسرحيات كوميدية.

لديّ أعمال فيها لمسات كوميدية، ولكنها ليست كوميديا. أنا أكره الكوميديا وأحسها بسيطة وتافهة ومسطحة، في المسرح والتلفزيون على السواء.

* تقصد ما نراه اليوم من أعمال كوميدية، أم الكوميديا كنوع مسرحي؟

الكوميديا كنوع لا نستطيع إلغاءها. لكن ما نشاهده منها، منذ منتصف القرن الفائت، كله مبتذل. وعلينا أن نعود إلى الوراء، إلى حد موليير، لنجد شيئاً له طعم. أما ما تبقى فكله فارغ.

* ألا ترى أحداً من الكوميديين العرب؟ هناك أسماء شغلت الدنيا؟

هذا كله تجاري. الماغوط اشتغل قليلاً بالكوميديا لكن للأسف قلّص من شاعريته لصالح الكوميديا. وساعده دريد لحام طبعاً. لكن أنا لم أر أبداً كاتباً كوميدياً، علي سالم جرب قليلاً في البداية. ليس هناك تيار أو مدرسة تدفعك للقول إن هناك كوميديا، أو مسرحية كوميدية.

* مؤخراً جرى تكريمك في مهرجان دمشق المسرحي، ولكن مع مفارقة أنه لم يقدم عرض واحد عن مسرحياتك!

ربما لأن المهرجان كله كان مرتجلاً، ولم يكن هناك تهيئة حقيقية، حتى الأعمال التي قدمت كانت مرتجلة. لم أتابع عروض المهرجان، ولكن بلغني أنه مخيّب.

* كنت تستعيد رغبتك القديمة، بأن تكون ممثلاً ومخرجاً، في يوميات التمرين على نصوصك في طريقها إلى خشبة المسرح. كيف أفادك ذلك؟

عندي إحساس بأن لا أحد يتقن عملي غيري. فدائماً، أثناء العمل على أحد نصوصي، كنت أتابع العمل منذ أول جلسة قراءة إلى آخر يوم في العرض. أوجّه ملاحظات، والممثلون كانوا يأخذون بها. متابعتي ليوميات البروفة والعرض ولّدت تجربة جديدة بالنسبة لي، بحيث صرت أعرف كيف أقيّم ما يجري على الخشبة وفي الصالة كما ردود أفعال الصحف. يساعدني ذلك على التقييم وعلى معرفة أين أخطائي، فأتجنبها إما في نسخة جديدة من النص، أو في عمل آخر سأكتبه.
التجربة الحية في المسرح أفادتني كثيراً.

جوقة بأصوات متنافرة

* كيف ترى الحركة الثقافية في سوريا اليوم؟

الوضع في سوريا كما هو في الدول العربية الأخرى، بحالة جمود وركود، هناك حركة باهتة لا تقدم شيئاً. ولذلك نعود إلى دفاترنا العتيقة.

* ألا ترى علامات معينة في الأجيال الثقافية الجديدة؟

بين حين وآخر تجد اسماً أو اثنين في كل بلد، ولكن لا يشكلون تياراً حقيقياً يفتح طريقاً أو يستقطب أصواتاً أخرى. صوت واحد لا يشكل تياراً. حينما كنا في الجامعة، كنت أنا وفايز خضور وعلي كنعان وكمال أبو ديب وفواز عيد وغيرهم، وعلى تنافر أصواتنا كنا جوقة واحدة.

* هل نعود إلى التفسير المعتاد حول فترة المد القومي الذي أنتج نهوضاً ثقافياً، وغيابه الذي أخذنا إلى الانحطاط؟

هذا أحد الأسباب، ولكنه ليس سبباً كافياً. ترى الناس يتلمسون طريقهم، دون أن يعثر أحدهم على طريقه الخاص. ومن يجرب كتابة قصيدة فسيكتب أخرى مختلفة بعدها، بمعنى أن ليس هناك تيار في الشعر ولا في المسرح. هناك موت مسرحي وموت شعري بمختلف النواحي. ليس هناك نقطة استقطاب لمبدعين يشكلون تياراً ولو متقارباً، وليس بالضرورة أن يكون متجانساً. كلٌّ صوته لوحده، الأصوات متنائرة، وليس هناك صوت ثقيل. المثقفون الحقيقيون فاعليتهم وتأثيرهم محدود، لأنهم ليسوا جزءاً من تيار. وبالمناسبة، ولكي لا نظلم حزب البعث، رغم أنه ارتكب أخطاء كثيرة، فإن الشيوعيين ارتكبوا أخطاءً أيضاً، لقد أساؤوا كثيراً للحياة والقيم الثقافية. كان هناك جلادون في الساحة. لحسن الحظ أن سعيد حورانية لم يحكم، لكان علق المشانق للناس في المرجة. ومثله كثر، سعيد مراد وغيره. من هو مثلاً محمد خالد رمضان؟ وما قيمته الثقافية؟ وهل يستأهل أن تحجز له مركزاً ثقافياً تملأه له بالجمهور، فيما هو يخطئ بالإملاء؟ القوميون السوريون كذلك أيضاً. هناك طائفية سياسية ضمن الأحزاب. نحن فعلنا ما نستطيعه، ولكن برأيي ما نستطيعه كان قليلاً. من أين تأتي بالحركة الثقافية الناشطة وهذه هي حال المجتمع، السلطة، الثقافة، والتربية؟

* هل تشعر بأن هامش الحرية للكاتب أكثر اتساعاً من قبل؟

من لا يمنح نفسه الحرية، لا أحد يمنحه إياها. كل ما كتبته في حياتي كتبته ولديّ إحساس بالحرية، رغم غيابها من حولي.

* ضيعتك التي تتحدث عنها كثيراً، والتي أنتجتك واحداً من قوّالي دير ماما، هل ما زالت موجودة؟

موجودة، ولكن الحياة المعاصرة، أغاني الإذاعة والتلفزيون، طغت على كل شيء. اليوم تذهب لتحضر عرساً فتسمع أغاني التلفزيون، لم تعد تسمع الأغاني التي كنت تسمعها صغيراً، نكهة القرية ذهبت، ولم يبق هناك قرية في الأساس، كله اسمنت وتلفزيون وموضة. الرحابنة تحدثوا عن القرية الجبلية، تحدثوا عنها ليودعوها، لا ليتغزلوا بها. أين تشاهد الآن امرأة تلبس فستاناً وتضع "شكلة" على زنارها؟ وصرت تضحك إذا عثرت على رجل بشاربين معتنى بهما.

* لماذا خوضك لتجربة الرواية؟ وهل خدمتك تجربة العمل الصحافي في الكتابة الروائية؟ وهل لديك مشروع آخر بعد رواية "أعدائي"؟

ليس لديّ مشروع روائي آخر. أنا كتبت روايتين "الأبتر" عام 1969 و"أعدائي" العام 2000. هناك وقت طويل بينهما. بخصوص عملي الصحافي، كنت أكتب دائماً ما أحب أن أقرأ، والقصص التي كتبتها، وحتى المسرحيات، كنت أعرف أن أحكيها أيضاً لا أن أكتبها فقط، وأحياناً أثناء الحكي أضيف وأسرد مطولاً تفاصيل أراها في الرواية زائدة. العمل الصحافي أفادني بهذه الناحية كثيراً. كما أفادني في آلية البحث عن قصة. نحن في قرانا لدينا حكواتيون، يتقنون فن الحكي؛ أذهب إلى الضيعة كل سنة أو سنتين مرة، لألتقي بنفس العجائز الذين يرددون لي القصص نفسها، وأضحك نفس الضحك، وهم يضحكون أيضاً كأنهم يسمعونها لأول مرة. التربية والنشأة الأولى، ترسبات الضيعة، معاشرتي للناس، كل ذلك تجمعت ليشكل عملي.

* هذا الحب للحكواتي أهو ما ولّد عندك حباً للمنبر، ومن جهة لممارستك التدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي تصر عليه رغم مرضك؟

ربما. أنا أدخل إلى الصف ما بيدي ورقة أو دفتر. أكون قد هيأت موضوعاً وأحكي به، والموضوع يولد موضوعاً. عندي رغبة لأكتب تجربتي بالتدريس، ماذا قدم لي؟ لقد أساء لي وخدمني بنفس الوقت.

أساء لي بمعنى أنني صرت أقل كتابة أو إنتاجاً للمسرح، لكنه خدمني بأن أعرف أن أنتقي الكلام الذي يصل للبسيط الذي لا يحمل سوى شهادة البكالوريا، وأجبره على التفكير والتساؤل، أشجعه على الكتابة والتخلص من جبنه إذا كان جباناً إزاء الكتابة.

* يبدو أن الالتباس قديم في هويتك، إذ يقدمك كثيرون على أنك كاتب فلسطيني.
فاسم عدوان في كنيتك يعود إلى واحدة من قصص البدو التي تعود إلى قبيلة "العدوان" التي تسكن شمال الأردن وفلسطين؟

الريف الذي نشأت فيه جبليّ ومتاخم للبادية، كثير من قيمه بدوية، حكايات العجائز وتساليهم هي قصص عن أمراء البدو، فروسيتهم وكرمهم وكل مناقبهم. كانت أسماء مثل عدوان أو شمّر متداولة كثيراً هناك، ومنها قصة "الأمير نمر العدوان ووضحة ست النسوان"، وبالمناسبة أمي اسمها وضحة، وجدي لأبي اسمه عدوان تيمناً بالحكاية.

الالتباس في هويتي قديم، ربما نشأ إثر عملي في الصحف الفلسطينية. كانت رسائل كثيرة تأتيني بصفتي فلسطينياً. إجمالاً الشباب الفلسطينيون الذين احتككت بهم كانوا جيدين معي وكنت جيداً معهم. بعضهم كان يحس بالجميل بأن شخصاً سورياً كان متحمساً أكثر منهم أو بمثل تحمسهم، فصار التعامل معي كفلسطيني، بالإضافة إلى الالتباس في الاسم بين ممدوح عدوان وكمال عدوان (القائد الفلسطيني الذي اغتيل في السبعينيات).

السفير

* * *

تحولات المجتمع في مونودراما ممدوح عدوان

ناصر ونوس

يعتبر ممدوح عدوان أول من كتب المونودراما في سوريا, وأول نص كتبه من هذا النوع كان بعنوان (حال الدنيا) وتبعه بـ (القيامة) ثم (الزبال), وذلك في النصف الثاني من الثمانينيات.
وهي نصوص يعالج فيها الكاتب جملة من القضايا الاجتماعية الراهنة, مثل الفقر والفساد. وكان الممثل زيناتي قدسية قد قام تباعا بإخراج وتمثيل هذه النصوص الثلاثة. هنا سنكتفي بالحديث عن الزبال كنموذج لهذا النوع من المسرح.
تتناول مونودراما الزبال حياة الزبال (أبو عدنان) في علاقاته مع مهنته ومع أهالي الحارة التي يعمل بها. انه الشخصية المحورية في النص, رجل بائس في الستين من عمره, يعمل في هذه الحارة منذ ثلاثين عاما, سبق وان طرد منها لعام واحد ثم عاد إليها, وهو يعرف أسرارها من خلال زبالتها, يعيش في صراع دائم مع ابنته وكنته, وهو صراع أجيال في جوهره, فهو يرفض سلوكهما وطريقة عيشهما وعلاقتهما مع الآخرين ومع بعضهما البعض داخل البيت.
وأبو عدنان يكشف لنا واقع أهالي الحارة بكل أبعاده. فأبو فهيم مثلا كان يعمل مناديا في كراج سرفيس المزة ثم صار مناديا في كراج بيروت, وهنا بدأ يعمل بالتهريب مما جعل أوضاعه المعيشية تتحسن.
لكن لديه ولد مصاب بالربو. أما (ام عبدالرحيم) فهي مصابة بالروماتيزم نتيجة برودة المنزل الذي تعيش فيه, وهي تتظاهر بالغنى رغم فقرها. وهناك (ام حامد) امرأة لا وراءها ولا قدامها كما يقول عنها أبو عدنان, تنزل إلى سوق الخضار فتجمع الخضروات المهترئة التي يرميها الباعة وتحضرها إلى البيت وتخرج منها بطيخة. أما الفتاة لميس فهي تعيش مع والدتها في الحارة, في احد الأيام يكتشف أبو عدنان في زبالتها علبة حبوب منع الحمل مما يصيبه بصدمة يعبر عنها بالقول: (واحدة غير متزوجة لماذا تستخدم حبوب منع الحمل؟) ولميس فتاة شابة تريد ان تعيش مثل غيرها من الفتيات, لذلك لا تجد حلا, وهي الفتاة الفقيرة.
إلا في الخروج مع الشباب الذين ينفقون عليها, وهذا ما يثير غضب أهالي الحارة ومنهم صاحب الفرن الذي يقول لها عندما يجدها برفقة شاب جديد: (أرى انك غيرت الموضة؟) لكن لميس لها إجابتها ومنطقها الذي تدافع به عن نفسها, حيث تجيبه: (لماذا لم تتأثر الحارة ولم تسمع عندما كنت أجوع مع أمي ونقضي الشتاء دون تدفئة؟) عندها يتطاير الشرر من عيني الفران منذراً بالشر فتباغته بالقول: (قبل ان تتورط وتطول لسانك اعرف من هذا الذي معي, فهو يستطيع ان يخرب بيتك) ومن يومها لم يستطع احد ان يقول للميس: (ما أحلى الكحل بعينك).
في الحارة أيضا يعيش الشاب عصمت, وهو نموذج للشاب المثقف, يعمل في الصحافة, يعي ويدرك واقعه بدقة, لكنه عاجز عن القيام بأي دور في تغيير هذا الواقع, لذلك لا يجد وسيلة أمامه سوى تعاطي الكحول ومحاولة فضح الواقع القائم سواء بالكلام أو عبر الكتابة في الجرائد, هنا وهناك.
وهذا ما يؤدي به إلى السجن, ويجعل أبا عدنان يقول عنه: (أخونا يظنها جرائد أبيه, يريد ان يكتب فيها القصص التي يسمعها في الحارة) فدخول الأستاذ عصمت السجن هو برأي هذا الرجل البسيط (الزبال) نتيجة غباء هذا الأستاذ وغلطه, يقول له: (اسكت, أصلا أنت لا تعرف رأسك من رجليك لما حبسوك, أنت الغلطان وليس أنا, هذا هو الدليل, حبسوك ولم يحبسوني) ومنطق الزبال هذا يصل غاية السذاجة عندما يقول: (الحكومة لا تحبس إلا الغلطان).
ان هذا الزبال يعرف أسرار الحارة كلها ويكشف لنا بعضا منها: فأهالي الحارة يسكرون جميعا رغم فقرهم وصلواتهم, يستأجرون الخضار والفواكه من دكان عبدالجليل ويذهبون إلى خمارة أبي ناصيف في الصالحية (وهي مكان حقيقي), يضعونها أمامهم ويتصببون عليها دون ان يلمسوها, لدرجة ان احدهم تناول في إحدى الجلسات جرعة كبيرة من العرق وحاول بعدها ان يتناول حبة مشمش, فزجره زميله قائلا: (ما بنا؟ سكرنا يا أبو محمد؟).
هناك مجموعة أخرى من الأفراد هم أصدقاء الزبال مثل أبو عبدالله وأبو إسماعيل. فأبو عبدالله يقضي الليل باحثا في الزبالة عن لقمة يأكلها, بعد ان أخذ أولاده كل أمواله ورزقه, وهو رغم ذلك لا يشكوهم للقضاء, ولا يطلب المساعدة من الناس, فهو, كما يقول عنه الزبال: (رأس مرفوعة وكرامة محفوظة), انه الصديق الحميم لأبي عدنان.
ورغم ذلك يتنافسان ويتخاصمان على اخذ زبالة الحارة لكنهما يتقاسمان الهموم: (اليوم جئت إليك لأنني لم استطع النوم.. كنت أريد ان احكي لك عن وجعي, لم يعد في هذه الدنيا غيرك). أما أبو إسماعيل فهو حارس ليلي, يعرف ان مهنته في الحراسة لم يعد لها معنى, يقول عن نفسه: (نحن فزاعات منسية في كروم منسية), ذلك لأن الحراس الحقيقيين صاروا في السيارات وهم بالآلاف. يحل الخلافات التي تنشب بين أبي عدنان وأبي عبدالله. يقول عنه الزبال: (رجل معدل, لم أر في حياتي من هو أكثر منه حبا للناس واهتماما بهم). يشرب باستمرار في محاولة منه للتخلص من همومه أو نسيانها. لديه إحساس بأنه لم يعد له وجود حتى في منزله.
إذا كان الزبال كشخصية محورية يكشف لنا واقع أهالي الحارة, فإن الزبال كنص مسرحي يرصد لنا التحولات التي شهدها مجتمعنا في العقدين الأخيرين, وهذه التحولات يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
تفكيك العلاقات الأسرية, وهي العلاقات التي كانت إحدى سمات المجتمع الإقطاعي, مما يدل على تحول هذا المجتمع إلى نمط آخر (برجوازي, برجوازي صغير, ولا أقول رأسمالي). ومثل هذا التفكك الأسري علاقة أبي عبدالله بأولاده الذين اخذوا أمواله ورزقه وتركوه وحيدا يبحث عن طعامه في الزبالة.
التبعية للمجتمعات الرأسمالية, وهذا ما نراه في كلام الأستاذ عصمت الموجه لأبي عدنان, عندما يقول له: (البلدان التي مثل بلدنا صارت مزبلة العالم الراقي. هناك لم يعد يتلفون شيئا, حيوانات مريضة, معلبات انتهى أوانها, أدوية لم تنجح صناعتها, حليب فاسد, كله يرسلونه إلينا, وتجارنا يبيعوننا إياه ونأكله).
ظهور وصعود فئات اجتماعية على حساب أخرى, وقد رافق هذا الظهور والصعود تغير القيم والمعايير الاجتماعية وظهور قيم ومعايير جديدة, وحكاية خروف ام شاهر التي يتحدث عنها أبو عدنان مثال واضح على ذلك. تفشي البطالة في المجتمع, فمهنة الزبالة أصبح يتقدم إليها خريجو الجامعات لأنهم لا يجدون مكانا للعمل في اختصاصاتهم.
أخيرا من ميزات هذا النص انه يساهم في إنتاج مجموعة من الأسئلة حول الواقع الراهن ومن ضمنه المسرح القائم, منها: لماذا هذا الإصرار على تقديم الواقع حصراً من خلال هذا النوع المسرحي الجديد الذي يسمى مونودراما؟ يقول المؤلف: (نعم نحن نزداد عزلة وتباعدا, عالمنا الشخصي يتقلص, ولهذا راح كل منا يتطلع مع نفسه. ان في الانحسار نحو الممثل الواحد تعبيرا عن انحسار الفعالية الجماعية في الفن والحياة. لكننا كمتلقين نقدم إجابتنا التي تتخذ شكل السؤال التالي: هل الأمر يتعلق بتضييق حرية التعبير يوما بعد يوم؟ هذه الحرية التي هي الشرط الأول والأساس لظهور واستمرار المسرح كفن جمعي وجماعي.

جريدة البيان - 10 مارس 2001

****

عليك تتكىء الحياة شغف باحتمالات المعاني

عبدالحفيظ الشمري

للشاعر ممدوح عدوان تجربة شعرية طويلة توجها بإصدار جديد وسمه بعنوان (عليك تتكىء الحياة) هيأ من خلاله القارىء لان يكون طرفا في معادلة البحث عن جمالية المفردة واحتمالات المعاني ولتصبح القصائد شرفة يطل منها القارىء والمتذوق على غابة الشعر المكتظة بشجر الأسى ولواعج التعب.
يقع ديوان الشاعر عدوان في نحو 166 صفحة من القطع المتوسط ويحوي العديد من القصائد استهلها بقصيدة (في حضرة من أخشى) وختمها بقصيدة حملت اسم الديوان (عليك تتكىء الحياة) ليأتي الخطاب الإنساني في هذا النص مدويا، وصارخا يلامس واقع الألم الذي يعيشه بطل القصيدة والمتمثل في (الأب) الذي تحولت به الحياة إلى ما يشبه الصورة المفرغة من مضامينها السائدة ليصبح الصوت هو الحالة التي لم تختل بعد.
الديوان نسيج إنساني موحد يشرح الواقع ويفصل المعاناة في صوت يتوجه العناء والبحث عن مخرج مناسب يضفي على التجربة بعدا فنيا يحمل السياق إلى مساره الحقيقي ويزاوج بين خيارات كثيرة أولها رثاء الإنسان لعالمه وآجرها رثاؤه لذاته.

****

مقالات :

الإرث الصعب

ممدوح عدوان

بمعزل عن الصحافة والسياسة والأيديولوجيا نستطيع أن نتساءل‏:‏ ما الذي ورثناه عن الأنظمة التي اتفق علي تسميتها بالأنظمة الشمولية؟
هذه الأنظمة كان لديها اجتهاد ـ أو وهم ـ أنها تبني الاشتراكية‏.‏ ولكي تحقق ذلك كان لابد لها من تغييرات أساسية في بنية المجتمع وتركيب مؤسساته‏.‏ ولما كانت هذه التغييرات جديدة علي المجتمع‏,‏ كان لابد شيء من القسوة لمقاومة التشويش الذي تسببت فيه الحرب الباردة‏,‏ وما نجم عنها من حرب إعلامية بين المعسكرين‏.‏
وكانت المجتمعات الاشتراكية تقبل تلك المساومة‏:‏ شيء من التنظيم الجديد مقابل التنازل عن شيء من الحرية‏.‏ فنال القمع حرية الصحافة والتنظيمات والعمل والتفكير والكتابة والكلام‏.‏ ولم يتحقق التنظيم الجديد الذي وعدوا أنفسهم به‏.‏
وإذا كان الأمر قد احتاج إلي نصف قرن لاكتشاف أن المساومة كانت لصالح الحكومات وعلي حساب الشعوب في تلك البلدان‏,‏ وأن الناس قد قبلوا بالتضحية بحرياتهم لقاء ذلك الرهان علي المستقبل‏,‏ فإن بلدان العالم الثالث التي تعرضت لانقلابات عسكرية تحت اسم الثورات‏,‏ وتحت شعارات إضافية مثل تحرير الأرض أو الاقتصاد‏,‏ قد بدأت حياتها السياسية من حيث انتهت إليه تجارب البلدان ذات الأنظمة الشمولية‏.‏
بدأت بالقمع ودون وجود أية فرصة للتحقق مما سيناله المجتمع من جراء تنازلاته‏.‏
ونستطيع التوقف عند ظاهرة بسيطة متعلقة بنوع أعمالنا‏.‏
فالأنظمة الشمولية القزمة ورثت فكرة التنظيمات النقابية‏(‏ وبينها منظمات الكتاب والصحفيين والفنانين‏).‏ وكان من الطبيعي أن يتواكب ذلك مع بروز فكرة الرقابة وإلغاء المبادرات الذاتية وتمت السيطرة علي الأوضاع من خلال وزارة الإعلام‏.‏
ومع تفاقم السيطرة والانصياع لضرورات المرحلة تم إلغاء كل ما له علاقة بحرية الرأي والتعبير وتحولت النقابات إلي قوة قمعية في يد السلطة أكثر مما هي أداة تنظيم شعبية‏.‏
وصارت الحكومة تتدخل في تشكيل مجالس النقابات مثلما تتدخل في تنظيم أية قوة أمنية لديها‏.‏
ومع وجود فكرة الحزب الحاكم صارت النقابات فرعا من فروع الأمن الفكري والثقافي تخضع في نشاطاتها كلها لما تراه تنظيمات الحزب والظروف الأمنية‏.‏ وفي الوقت ذاته ظلت هذه النقابات توحي بأنها البديل الفعلي عن أي تحرك جماهيري عفوي أو منظم فلدي السلطة شعار مخادع‏:‏ ماذا يريدون؟ المجتمع كله منظمات ويستطيع أيا كان ممارسة حريته ومبادراته من خلال هذه التنظيمات القائمة‏.‏ فهناك منظمات للفلاحين والطلاب والشباب والفنانين والصحفيين والكتاب وما إلي ذلك‏.‏
وبلغ الأمر بقيادات الظل أن صارت ترسم السياسة اليومية لهذه المنظمات‏.‏ وصار الموعودون في المراكز القيادية فيها واثقين أكثر من الضباط المقبلين علي الترفيعات‏.‏
ولقد حدث لأحدهم حادث طريف في هذا المجال‏,‏ إذ تطاول مدير إحدى المؤسسات علي بعض موظفيه‏.‏ فلجأ ببساطة إلي مجلس النقابة لينقل شكواه‏, ‏ لكنه فوجئ بأن المجلس التنفيذي للنقابة مؤلف من المدراء ا, ‏املين للمؤسسات المعنية‏, ‏ وحين نوقش الأمر هناك خرج الجميع بأن هذه ظاهرة شغب يجب القضاء عليها فضوعفت العقوبة علي العاملين‏.‏
وحين أبلغوا بالقرار احتجوا بأنه من غير اللائق أو المنطقي أن يكون المكتب التنفيذي مشكلا بهذه الطريقة, ‏‏ فإذا كان رب العمل هو ممثل العاملين في النقابة فإلي من يلجأ الموظف المظلوم إذن؟
وهذا ما زاد المجلس يقينية بأن هذا الشغب قابل للاستفحال ولذلك حولوا المشتكين إلي عبرة إذ وضعوا الشرطة العسكرية علي مداخل أمكنة العمل لتمنع هؤلاء المشاغبين من التحرك‏.‏

الأهرام العربي- 21 يونيو 2003

لم ألتق بأمل دنقل.. لأنني أحمله معي !

ممدوح عدوان

أمل في معهد الأورام علي
يساره لويس عوض وخلفه
محمد بدوي وجابر عصفور

قليلون هم الأشخاص الذين يحضرون في غيابهم مثلما كانوا حاضرين في حياتهم
وأمل دنقل واحد من هؤلاء القلائل.
فهو في غيابه أكثر حضورا مما كان عليه وهو بين الأحياء، لأن غيابه يدل علي الحجم الذي كان يملأه ولم نكن نعرف. فللحياة عاديتها التي تنسحب علي الآخرين فتجعلهم يبدون عاديين مثلما تتطلب منهم الحياة. ولكن غيابهم عن المكان يدل علي المكانة التي كانت لهم في القلوب والضمائر.
جمعتني به مصادفة حين أرسلت الى القاهرة مراسلا إلي مدن القناة أيام حرب الاستنزاف المصرية نهايات عام 1967، وكنت أذهب وأعود بين القاهرة ومدن القناة، 'وفي ريش 'كان لقاؤنا الأول. وأين غير ذلك؟
وكان قد كتب قصيدتيه: 'البكاء بين يدي زرقاء اليمامة' 'وكلمات سبارتاكوس الأخيرة'.. ولم توافق عليهما الرقابة المصرية آنذاك، فكان يحمل بروفتيهما معه ليقرأهما علي الجميع وفي كل مكان، فأخذتهما منه لنشرهما في الصحافة السورية.
ولأننا تصاحبنا دون ترتيب اوبروتوكولات كانت علاقتنا علاقة شابين متمردين لا وسيلة لهما للتعبير عن رغبتهما في نسف العالم إلا بالشعر، وشاعرية أمل واضحة لا يرقي إليها الشك.
كنا شابينفي مطلع شبابهما، وكانت النساء والشراب والشعر والأقاويل مادتنا اليومية، لقد تآلفنا ألفة وحشين في غابة.. جمعتهما غريزة البقاء واستشعار الخراب القادم.
وبعد سنوات من زيارتي تلك للقاهرة كتبت قصيدة شديدة الحدة ضد المخابرات والقمع بعنوان 'لابد من التفاصيل' ولم أجد من يستحق أن أهديها له إلا أمل دنقل، فنشرتها في الآداب البيروتية مهداة إلي أمل دنقل بلا مناسبة.. ويومها لم يعلق علي القصيدة إلا بقوله:
ابن ال.. يريد أن يسجنني. أبلغوه أنني سأهديه قصيدة مطلعها، أسد علي وفي الحروب نعامة. ولكنه والحمد لله. لم يفعل.

ولم نلتق بعدها حتى مطلع الثمانينات حين جاء الى بيروت ليشارك في مهرجان الشقيف أي أننا التقينا بعد خمسة عشر عاما. ولكن لقاءنا كان غريبا.
كان المرض قد بدأ يفتك بجسمه النحيل، وكان يحمل معه زجاجة الماء أينما ذهب.
التقينا في بهو الفندق الذي ينزل فيه الشعراء.. وبعد السلام جلسنا نتحادث وكأنا لم نفترق الا مساء الأمس.. النكات والمناقشات وقراءة الشعر والتعليق على النساء واغتياب من نعرف.. الخ.
وبعد المهرجان في بيروت استضافت منظمة التحرير خمسة شعراء هم محمود درويش وأمل دنقل وسعدي يوسف وأحمد دحبور وأنا لإحياء أمسية شعرية في دمشق.
وفي دمشق قضينا بضعة أيام، تعرف خلالها ببعض أصدقائي، وسهرنا عدة سهرات لا تنسي
ولكنه كان يستقبل في دمشق، وعلى جميع الأصعدة (السياسية والاجتماعية والثقافية) علي انه المصري الحقيقي ممثل ضمير مصر والناطق باسمها.
وبعد ذلك لم نلتق أبدا.
وحين وصلني نبأ موته شعرت أن جملا ينخ في قلبي.
وأشعر ان أمل قد غاب عنا، ولكنه أوكل إلينا، أو الى بالتحديد. مهمة متابعة طريقه ومسيرته، ولهذا حين سمعت بقصة سليمان الخاطر شعرت أن موته كان ناقصا لأن أمل كان سيرثيه بطريقته لو كان موجودا. وهذا ما جعلني أكتب قصيدتي، 'زفة شعبية لسليمان الخاطر.. نيابة عن مغني مصر الأصيل أمل دنقل'.
ومازلت حتى الآن أشعر، كلما ذهبت الى القاهرة، إنني سألتقي بأمل فيها. ولما كان هذا مستحيلا كنت أعزي نفسي ان هذا الشاعر يعيش معي في أزقة القاهرة وحواريها وصالات فنادقها.
ولكنني في كل مرة أصل فيها إلي المطار مغادرا القاهرة أشعر أنني قد نسيت شيئا مهما لم أفعله.. إني أغادر مصر دون أن ألتقي بأمل.
وهنا لا أجد عزاء حقيقيا إلا بالإصرار علي أنني لم ألتق به لأنني أحمله معي.


أخبار الأدب- الأحد 18 مايو 2003

***

حكم البابا (ونوستالجيا الطفولة)

ممدوح عدوان

نوستالجيا الطفولة مرض يبدأ فيروسه بالنمو في الأربعينات.. وكلما تقدمت الشيخوخة تقدم معها الحنان والشوق إلى هذه الطفولة الضائعة المنسية.
هذه أول مرة أقرأ فيها نوستالجيا من هذا النوع لشاب لم يبلغ الثلاثين بعد. أهي الشيخوخة المبكرة؟ أم التسارع في تهدم العالم والرغبة في الإمساك بما تبقى ولو في ذاكرة شعرية؟
حكم البابا يقدم تفاصيل البيت المفقود بنوافذه وحنانه وعتبته ووروده وشجيراته. يدفعك مرغماً إلى تذكر دفء طفولتك يوم كنت آمناً في ظل آخرين قبل أن تصل إلى عراء مسؤوليتك عن أمنك أو أمن غيرك.
في هذه الكتابة شحنة هائلة من الشعر.. تشملك حتى النعاس وتهزك حتى العصف.
"سيرة العائلة" سيرة كل بيت وتفاصيلها تفاصيل حياة كل أسرة يمكن أن يحمل الطفل منها ذكرياته التي تصبح سعيدة عند تذكرها ومهما كانت قاسية في حينها.
أعتقد أن قصيدة نزيه أبو عفش "القلعة" هي التي فتحت أمام حكم البابا هذا المجال. لكن ذكاء البابا جعله يبني عالمه الخاص غير متأثر بأحد ،لكنه في النثر الذي يكتبه في المقدمة والخاتمة يقع في ظل كازانتزاكي وهو مرغم.
مرة أخرى تفرض الخصوصية الذاتية نفسها مفتاحاً لعالم الشعر الواسع ولو أن حكم البابا اعتنى بقواعد اللغة (التي يتعثر بها في أكثر من مكان) لأغنى التجربة أكثر..
ولكن لا بأس.
ها هو ذا من ظل "يتزعرن" حتى كتب شعراً.

مجلة"الحرية"

****

المدى مُنشِّطاً ثقافياً

ممدوح عدوان

منذ عقود لم ير الجو الثقافي السوري نشاطاً نوعياً. فباستثناء بعض الندوات التي صارت تقام على هامش معرض دمشق للكتاب لا نكاد نرى أي تحرك قادر على اجتذاب الناس وإثارة اهتمامهم.

ولكن..
منذ سنوات تحرك الجو الثقافي السوري تحركاً نوعياً حين استطاع الدكتور (المرحوم) حامد خليل، بالتعاون مع الدكتور صادق العظم والدكتور أحمد برقاوي، بشكل خاص، أن يحول الأسبوع الثقافي السنوي لقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق من نشاط كلية إلى نشاط ثقافي على المستوى القطري والعربي.
واستطاع هذا الأسبوع أن يتحول إلى مهرجان سنوي حقيقي من خلال قدرته على اجتذاب جمهور كبير يتزاحم لحضور ندواته، ويقصده بعضهم من المحافظات البعيدة.
ولم يكن ليحقق ذلك إلا بفضل أمرين جوهريين:
الأول: هو دعوته مجموعة من الأسماء ذات الوزن الثقيل في ميدان الفكر العربي من كافة الأقطار العربية، ومن المقيمين خارج بلدانهم العربية.

والثاني: هو جدية الموضوعات التي كانت الندوات تناقشها، واقتراب هذه الموضوعات من الراهن بين ما يشغل عقل المواطن العربي وأعصابه.
ولم يدم هذا المهرجان طويلاً. فقد نقل الدكتور حامد خليل من عمادة كلية الآداب (وعين في مكان آخر لم يستطع أن ينشط فيه كثيراً بسبب المرض الذي تعرض له، والذي انتهى إلى وفاته)، وأحيل الدكتور صادق العظم (رئيس قسم الفلسفة آنذاك) إلى التقاعد.
وبالطريقة التي انطلق بها هذا النشاط خمد بشكل فجائي، وصار يقتصر على نشاطات محلية لا تتجاوز اهتماماته وتأثيره أسوار الجامعة، وربما حدود قسم الفلسفة في كلية الآداب ونسبة ضئيلة من طلابه، حتى نسيه الناس نهائياً.

وعاد الجو الثقافي إلى خموده.
إلى أن جاء الأسبوع الثقافي لدار المدى. وهذه دورته الثالثة.
لقد استطاع هذا الأسبوع أن يعيد إلى الجو الثقافي حيويته المفقودة، وأن يحرض الآلاف من الشبان على ارتياد نشاطاته لحضور الندوات المثيرة والتفاعل مع المثقفين الفاعلين والمؤثرين الذين استقطبهم لندواته ونشاطاته المتنوعة.
وسرعان ما تمكن هذا الوريث للأسبوع الثقافي لكلية الفلسفة من التفوق على مورثه في أكثر من ميدان، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: كانت الموضوعات التي أثارها وفجر النقاشات حولها أوسع مدى وأكثر تنوعاً. لم يقف أسبوع المدى عند موضوع واحد (فكري أو سياسي) يكون هو شعاره. بل نوّع في الموضوعات، وتجول بين الثقافة الأدبية والفكرية والسياسية والفنية.
ثانياً: احتل الأدب مكاناً بارزاً في أسبوع المدى، وهو الأمر الذي غاب عن أسبوع كلية الفلسفة.
ثالثاً: ربما بسبب كون الأسبوع بإشراف دار نشر، يحمل اسمها، وبسبب أن هذه الدار تتولى توزيع مطبوعات عربية لدور نشر أخرى، كان لمعرض الكتاب الموازي للأسبوع أهميته الاستثنائية، خاصة أن المعرض قد هدف إلى تقديم تنزيلات حقيقية (وليست تنزيلات وهمية كما يحدث في معارض الكتب الأخرى) على أسعار الكتب. وهذه التنزيلات ليست على منشورات الدار وحدها، بل على كافة الكتب المشاركة أياً كانت دار النشر التي تصدرها. وبعد شعار الثقافة للجميع، الذي كان شعاراً للتطبيق فور إطلاقه، وصلت التنزيلات في الأسبوع الثقافي الأخير إلى حدود غير متوقعه، وبحيث يتمكن الشاب من شراء الكتاب بسعر علبة تبغه أحياناً.
ثالثاً: الاهتمام بالفنون الأخرى. فبالإضافة إلى ما سبق كانت هناك أمسيات فنية موسيقية وغنائية لنجوم الصف الأول في الفن الجاد والرصين الملتزم.
رابعاً: مشاركة نجوم من عالم الفن والسينما والتلفزيون في ندوات خاصة كانت لها جاذبيتها لجمهور كبير من الشبان.
خامساً: الأمسيات الشعرية لعدد محدود ومختار من شعراء الصف الأول العرب والمعروفين. (كانت أمسية هذا العام مخصصة للشاعر محمود درويش. وقد تم تأجيلها بسبب الأحداث المتفجرة في فلسطين. كما دعي الشاعر عبد الرحمن الأبنودي إلى أمسية خاصة اعتذر عنها في اللحظة الأخيرة لظروف قاهرة. وكانت أمسية العام الماضي لمظفر النواب.
سادساً: تكريم أسماء لها باعها الطويل في الإبداع والثقافة. وكان التكريم لهذا العام لعلي الجندي، وتكريم خاص لمحمد الماغوط من خلال معرض رسم استوحى الفنانون لوحاتهم المشاركة فيه من قصائد الشاعر.
لهذا كله لا نكتفي بالقول إن "المدى" دار نشر نشطة. بل إنها مشروع ثقافي جدي. وهي تقوم بدور ثقافي تنشيطي نحن في أمس الحاجة إليه.

*****

عن أعماله :

أعــدائـــي

ممدوح عدوان تحكي الرواية أحداث وتفاصيل فترة الحكم العثماني لحظة انهياره. وكذلك أصداء التحول الخطير على أبواب الحرب العالمية الأولى. والأبطال هم جمال باشا وعشيقته اليهودية سارة وحولهما رجال أجلاف وجواسيس وضباط مغامرون وجنود هائمون على وجوههم يسعون إلى دفع العرب الذين يعيشون مرارة نوستالجيا الماضي، إلى خارج أرضهم وتاريخهم وعصرهم

*****

من أعماله - 2

هوميروس / الإلياذة
ترجمة وتعليق: ممدوح عدوان
المجمع الثقافي 2002

من أعظم الملاحم الإنسانية التي ألفها هوميروس جامعاً فيها بأسلوب شعري عادات وتقاليد العصر الذي عاش فيه وطبائع الناس وسلوكهم وأساليب حياتهم مصوراً أبرز أبطال زمانه الملحميين الذين طبعوا تاريخ الإنسانية بأساطيرهم القتالية وفروسيتهم وقد ردد الشعراء الجوالين والفلاسفة هذه الملحمة لمدة مئتي سنة بعد وفاة هوميروس حتى عمل على تدوينها وقد ترجمت إلى أغلب لغات العالم وتتوفر في المكتبة العربية ترجمة عن اليونانية مباشرة، إلا أن أهمية الترجمة الحالية كونها تجمع مزايا ترجمات عدة وسد الثغرات والنواقص وتوثق أسماء الأعلام والأماكن التي وردت في النص الأصلي وذلك بأسلوب أدبي رصين يجمع بين جمالية اللغة ومنطق العقل مما يجعلها إضافة هامة لما تضمنه مكتبتنا من أمهات الكتب في التراث الإنساني.

 

 

*****

من أعماله :

تهويد المعرفة

نجم الدين سمان

يستطيع ممدوح عدوان ان يجعل أي شيء بين يديه.. كتابا! ففي كتابه الجديد "تهويد المعرفة" ثمة.. هامشان فحسب، يشير في أولاهما إلى كون كتابه هذا، مقدمة لترجمة قام بها لكتاب الباحث "كيت وايتلام: تلفيق ـ إسرائيل ـ بهمزة على السطر ـ التوراتية" لكن خلافات بين دار قدمس التي حصلت على حقوق الترجمة من المؤلف ذاته وبين سلسلة عالم المعرفة الكويتية التي نشرت ترجمة الكتاب، جعلت دار قدمس تستكتب المؤلف ذاته لكتابة مقدمة لترجمتها العربية، هكذا.. صارت مقدمة المترجم ممدوح عدوانا.. كتابا!. في الهامش الثاني والأخير، ينوه عدوان حول كتابة مفردة "إسرائيل".. هكذا: اسرءيل، بهمزة على السطر، تمييزا لها عن التسمية الحالية للكيان الصهيوني، باقتراح من الباحث د. زياد منى.. وإذن، فأينما وردت كلمة: إسرءيل، هذه.. فهي تعني. إسرائيل القديمة.. الأسطورية، التي لفقها اليهود أوهاما، لم تفلح كل التنقيبات الأثرية في فلسطين أن تثبت واحدة منها، ثم كان اكتشاف مكتبة أشور ـ بانيبال عام 1839، في ثلاثين ألف رقيم فخاري باللغة الآكادية، وترجمة ملحمة جلجامش وفيها: اللوح الحادي عشر من قصة الطوفان المكتوبة في نهايات الألف الثالثة قبل الميلاد، ليفجر أول قنبلة في دوائر الدراسات الأكاديمية التوراتية ـ اللاهوتية والاستشراقية، إذ ظهر ان ثمة مصدرا آخر، وأكثر قدما من التوراة ذاتها، التي نجح اليهود في جعلها مصدرا للتاريخ القديم كله.. في المؤسسات الأكاديمية الغربية.
يصف إدوارد سعيد مؤلف كتاب: تلفيق إسرائيل التوراتية، بالشجاعة، وهي نادرة في العالم الغربي، حيث استطاع اليهود استعمار العقل الغربي واستيطانه قبل في فلسطين، ويواجههم كيت وايتلام في كتابه بالأدوات الأكاديمية ذاتها، وبالحقائق والبراهين.
ولكي ينجو ممدوح عدوان في كتابه هذا.. من وطأة الكتاب الأصلي، يتوسع قليلا في سبيل تحويل مقدمة ترجمته إلى كتاب، مستعينا بمقالات وأبحاث، منتقلا من فكرة إلى أخرى: الإنجيل بحسب العبرانيين، صورة اليهودي في الأدب الإنجليزي، الاختراق اليهودي للكنيسة الغربية، البيورتانيون البريطانيون ومن ثم.. البيورتانيون الأميركيون، التنوير الأوروبي والاستشراق ودور اليهود فيه، سرقة العبقريات، تعميد يهوذا، الهولوكوست ومعاداة السامية.. على هيئة تلخيصات لاهثة متلاحقة في أقل من مئة صفحة من قطع دفاتر الجيب، بحيث بدا كتابه هذا مقالة موسعة، أو.. كراسا، على أهمية ما فيه من معلومات عامة.. في حين تزداد الإصدارات الغربية وترجماتها إلى العربية في هذا المجال، ومنها: كتاب: اليهودي العالمي لهنري فورد الصادر في بيروت، وكتب بنيامين فرانكلستين، وكتاب: عودة اليهود في الفكر البروتستانتي الإنجليزي لمؤلفه: ميرفيرته، والصادرة ترجمته في دمشق.
بالإضافة إلى كتب يؤلفها باحثون عرب، بينهم كتاب: تاريخ أورشليم أحدث كتب الباحث فراس السواح، والذي يوالي تفنيد التلفيق التوراتي للتاريخ القديم في كتبه المتوالية، وثمة كتب عبدالوهاب المسيري، وأحدثها: الجماعات الوظيفية اليهودية، الصادر لتوه عن دار الشروق بالقاهرة، ومثله في دمشق: الاستشراق والعنصرية الصهيونية لسمير صالح، مع سيل من المقالات والأبحاث في الصحافة العربية وفي المجلات المتخصصة.
لا تقتصر صحوة السؤال هذه.. على باحثين في الغرب، بينهم يهود.. كفرانكلستين وتشومسكي، وبينهم صحفيون مثل الفرنسي دانيال ميرميه، والذي خصص برنامجه الإذاعي في إذاعة فرانس إنتير، ما بين 18 ـ 22 يونيو الماضي، لمسألة النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ما عرضه لحملة قادتها المؤسسات اليهودية، والتهمة جاهزة بالطبع: بث أقوال وتصريحات ذات طابع لاسامي!.. بما يقوده إلى المحاكمة، وهناك قال ميرميه بدهشة: إنها مجرد قصيدة، كتبتها صبية فلسطينية في العاشرة من عمرها من مخيم رفح للاجئين تقول فيها: إنهم يقتلون آباءنا، يعتقلون أخوتنا، يذلون أمهاتنا، يلوثون سماءنا، يسممون مياهنا. ولم تكن هذه الطفلة تعرف أنه في المعتقد الشعبي الأوروبي في القرون الوسطى الأوروبية، اتهم اليهود غالبا.. بتسميم الآبار!
قامت قيامة اليهود في فرنسا والعالم.. لمجرد قصيدة!
مع ذلك تستمر صحوة السؤال هذه، حيال خديعة تهويد المعرفة والتاريخ، وحتى في الكيان الصهيوني ذاته، فثمة.. تيار أكاديمي يسمى: المؤرخون الإسرائيليون الجدد، أو.. مدرسة ما بعد الصهيونية، الذين يعيدون النظر في تاريخ تشكل دولة إسرائيل، وفي تاريخ الحركة الصهيونية ذاته، ومنهم: جفرسون شافير في دراسة: علم الاجتماع النقدي وتصفية الواقع الاستعماري الصهيوني، وإيلان بابيه أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، والذي طردته الجامعة لمساندته أطروحة طالب دراسات عليا، اسمه: تيري كانز ـ المطرود من الجامعة أيضا ـ حول مذبحة الطنطورة عام 1948، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق هذه القرية الفلسطينية.
ثمة.. غير إيلان بابيه هذا، من مدرسة ما بعد الصهيونية، يتعرضون في إسرائيل ذاتها، لملاحقات مكارثية محمومة، من مثل: بني موريس، الذي أنجز دراسة حول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ما بين 1949 ـ 1974، ثم ارتد عن كل دراسته واعتذر!.
لكن تيار الدراسات هذه.. يتوالى، ومنها دراسة توم سغيف: الإسرائيليون الأوائل والمليون السابع، ودراسة ديفيد غروسمان: الهواء الأصفر، وسميحا فلابان في دراسته: مولد إسرائيل ـ أسطورة ووقائع، ودراسة اي شلايم: صدام حول نهر الأردن، وأنيتا شابيرا في دراستها: سيف الحماقة ـ الصهيونية والقوة.
وعلى الرغم من ان هؤلاء المؤرخين الجدد في إسرائيل، لا ينطلقون من مفاهيم تقويض الدولة الصهيونية، وإنما.. من تصحيحها فقط، وإزالة ما علق بها من دم وأوحال، لتكون ـ حسب تعبيرهم ـ أكثر قدرة على مواجهة تحدياتها المستقبلية، فإن هذه المجموعة تعرضت لهجوم مضاد، فقط.. لأن دراساتهم قدمت بعض الرؤى المغايرة للتيارات الرسمية ـ الدينية الصهيونية، ومنها: ان إقامة إسرائيل تتضمن ظلما لشعب آخر هو الفلسطينيون، وأن الموقف الإسرائيلي من السلام مع العرب يهدف إلى إطالة أمد الصراع بهدف تحقيق مزيد من المكاسب، وهي سياسة ممتدة من بن جوريون إلى شارون.
وكشف هؤلاء عن حقيقة إسرائيل.. كدولة عنصرية يهودية، على الرغم من ادعاءاتها المتوالية عن واحة الديمقراطية في صحراء الديكتاتوريات العربية، حيث رصدوا في دراساتهم مسلسل التنازلات التي قدمتها حكومات إسرائيل المتوالية: يمينية ويسارية، للتيارات الدينية المتطرفة، مما حول إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية.. بامتياز!
ولقد أثارت مثل هذه الآراء والدراسات والكتب، داخل إسرائيل وخارجها حفيظة المؤسسات اليهودية في العالم، بل.. واستنفارها الشرس، إلى درجة ان مسرحية "معاداة السامية" التي تبدو اليوم في ذروتها، سوف تجعل الاحتجاجات الصامتة علنية، ومسيرات احتجاج.. كما قد جرى في أوساط أوروبية كثيرة بعد مجزرة جنين، وكتبا تتوالى وحملات تضامن مهما بدت محدودة التأثير، وذلك أيضا.. بغيابنا عربا.. عنها، وعن مساندتها ودعمها ومشاركتنا الفاعلة.
بالعودة إلى ممدوح عدوان في "تهويد المعرفة" يشير كيت وايتلام في كتابه: تلفيق اسرءيل التوراتية، إلى مسألة ذات أهمية بالغة.. يقول وايتلام: حصر الفلسطينيون والعرب صراعهم الثقافي مع الصهيونية في حلبة الصراع السياسي، بينما كانت الصهيونية تلتهم التاريخ كله.. لصالحها.
كيف نجح اليهود، من حيث فشلنا نحن، وفشل آخرون؟!
وهل يكفي التصريح عن حقوقنا المشروعة، ونحن خارج الإعلام، خارج الثقافة والفن العالمي، خارج العلم وثورة الاتصالات.. نكتفي بالمسيرات الكلامية الغاضبة!
كنت أود لو ان عدوانا.. قد مر ـ ولو سريعا ـ على لحظة مفصلية في التاريخ العالمي.. هي لحظة سقوط غرناطة، من حيث هي لحظة صراع شرق بغرب، كان اليهود.. متواجدين فيها أيضا، وقد كانوا ينعمون في الحقبة الاندلسية بكل أشكال التعايش والمواطنة، ثم عانوا من محاكم التفتيش، كما عانى العرب الذين بقوا في الأندلس منها. وهكذا.. فان سقوط غرناطة.. كانت في الجانب العربي حصيلة ممالك الطوائف التي لازلنا نعيشها في راهننا، وفي الجانب الأوروبي بداية اكتشاف قارة جديدة ونهضة جديدة ستعيد تشكيل العالم كما تراه، أما اليهود فقد استطاعوا اختراق كل أشكال المؤسسات المدنية والدينية في الغرب، وكانوا متواجدين في اليسار حتى أقصاه وفي اليمين حتى أقصاه وفي الوسط بكل تدرجاته، وفي أولى الحركات العمالية كما في أولى المؤسسات المصرفية والرأسمالية الصناعية، واتسمت علاقة الجماعات اليهودية بالمجتمع الغربي ـ كما يقول عبدالوهاب المسيري ـ بأنها علاقة نفعية تعاقدية جعلتهم أكثر الجماعات حركية داخل التشكيل الحضاري الغربي، ولازالوا كذلك حتى اليوم، ففي محاكمة الصحفي الفرنسي دانيال ميرميه كانوا متواجدين بكثافة.. في غياب أي حضور عربي!. ولم نفعل شيئا حيال محاكمة غارودي، والأب بيار، وآخرين. بل أننا. تغاضينا حتى عن سلاح المقاطعة العربية، وها هي.. قد هدأت حملة مقاطعة البضائع الأميركية!
من جانب آخر.. فإن إقامة معرض للصناعات التقليدية العربية، أكثر مخاطبة للرأي العام العالمي وأكثر فاعلية، وكذلك معرض متجول للآثار، أو للفنون التشكيلية، مسرحية عربية متميزة فنيا أكثر جدوى من كل البيانات، فيلم سينمائي ينقل صوتنا إلى الآخر بحرفية ومعرفة راقية، توحيد المنظمات العربية في المهجر أكثر جدوى من قمة عربية رسمية، وكذا الارتقاء بلغتنا من الخطابة والبلاغة إلى لغة العقل والسؤال والفعل الملموس.
ثمة.. شيء جوهري في العقل الجمعي العربي، وفي الذاكرة الجمعية العربية، يمكن استنهاضه، وهو أننا من بين قلة من شعوب العالم الأكثر تعايشا مع الآخر وانفتاحا على الحضارات.
ومن المفيد ان نقرأ كتاب كيت وايتلام، وغيره.. ليس من أجل التضامن مع كليشيه المؤامرة اليهودية التي تحكم العالم، أو.. نكتفي بردود الأفعال، وإنما.. لمعرفة ان صراعنا الحضاري الوجودي مع الصهيونية لا ينحصر في فلسطين وحدها، وإنما.. هو صراع حضاري عالمي، نحن احد أطرافه فحسب، وقد ندفع أكثر من غيرنا أثمانا مضاعفة من قوتنا اليومي ومستقبل أطفالنا، وهو صراع مع ضعفنا وتخلفنا العلمي.. وحتى مع أنماط حياتنا اليومية التي بدأت تخترقها العولمة.
ربما سيكون ـ ولو بعد عقود ـ ان نستطيع عربا تخليص اليهود أنفسهم من تلفيقهم التوراتي، لأننا عقلا واحداً وتاريخياً لم نكن في يوم من هواة تقويض الأديان، بل.. إن الأديان الرئيسية نشأت بين ظهرانينا، وخرجت من رحمنا الحضاري إلى الناس أمماً وشعوبا يعتنقها من يشاء.
وفي تواريخنا العربية أمثلة لا يمكن تلفيقها عن تعايش الديانات والشعوب والحضارات، وليس من شأننا.. تعريب المعرفة، أو.. عوربة العالم ردا على تهويده، وإنما المساهمة الحضارية في بنائه وارتقائه وخلاصه من كل وهم أو.. تلفيق، من غير ان نرى اليوم في التحالف القائم بين اليهودية العالمية والإدارة الاميركية.. تحالفا أزليا، قائلين مع منظمة "كيهلا نيويورك" أكبر المنظمات اليهودية في العالم: "ان المصالح الأميركية شيء، والمصالح اليهودية شيء آخر".
ثم نضيف: أن المصالح الأميركية شيء، والرأي العام الأميركي والعالمي شيء آخر، من غير ان نراهن على أحد.. سوى على أفعالنا.
أخيرا.. كأني استطعت تفادي تلخيص التلخيص في "تهويد المعرفة"!

تأليف: ممدوح عدوان
الناشر: دار جنين ـ بيروت 2002
الصفحات: 110 صفحات من القطع الصغير

***

جديد الشاعر السوري ممدوح عدوان
كتاب تهويد المعرفة

صدر حديثا كتاب جديد للأديب والشاعر السوري المعروف ممدوح عدوان حمل عنوان (تهويد المعرفة), يتناول الكاتب في دراسته تلك الأساليب والممارسات والمحاولات الصهيونية في إضفاء طابع اليهودية على كل مناحي المعرفة والثقافة والفنون والتراث والتاريخ في العالم.
يشير المؤلف في مقدمة كتابه إلى أنه في الوقت الذي كان المشروع الصهيوني يتبلور حركة سياسية ثم استعمارية ثم استيطانية كان هناك مشروع يهودي صهيوني، ومتصهين غير يهودي بالضرورة يجتاح العقل الأوروبي الذي يستعمر العالم مادياً وثقافياً وفكرياً، وحين سيطروا على العقل.
ويرى المؤلف أن اليهود قد سعوا ببراعة للتغلب على الكراهية المترسبة عن دور أجدادهم في قتل المسيح، وقد نجحوا أخيرا في استصدار (فتوى) بتبرئتهم من دم المسيح من البابا نفسه وصار من يذكر هذا الأمر يصنف فوراً على أنه معادٍ للسامية.
ثم بدأت الحملة المضادة لتتوصل إلى أن المسيح نفسه يهودي، ولكن هذا لم يتم بسهولة، هناك تراكم من عمليات سرقة المسيح من أصله ونبوته لإحالته إلى اليهودية، وقد تم ذلك في ميادين متعددة..
يشير المؤلف إلى أنه منذ القرن الثامن عشر بدأت صورة اليهودي الكريه تتراجع من الأدب الغربي، وتحتل محلها بالتدريج صورة اليهودي الإنساني (الجار والمعين) وبعد يهودي مالطا عند مارلو، وشايلوك عند شكسبير والأدبيات الكثيرة الأخرى التي تندد باليهود وجشعهم واستغلالهم بدأ طرح شخصية اليهودي الطيب في رواية (هارنغتون) لماريا إدجورث، فمقابل باباس (عند مارلو وهو أيضا اسم اللص الذي كان مصلوباً إلى جانب المسيح) الذي يرفض إقراض الدولة لمواجهة الغزو التركي) وشايلوك (عند شكسبير) الذي يطالب باللحم الآدمي مقابل دينه، هناك مونتيزو اليهودي الذي ينقذ هارلنغتون الإنكليزي من أزمته المالية، لقد قالت تلك الكاتبة في روايتها بشكل غير مباشر إن اليهود بشر عاديون وفيهم أثرياء طيبون يمكن أن يحلوا المشكلات الاقتصادية في بريطانيا وأوروبا وحتى عند تشوسر تعود حاكم المدينة ان يقترض الأموال منهم، ومن الملاحظ أن هذه الصيغة متكررة، اليهودي معه المال دائماًَ، وكما يقول مونتسيكو في (رسائل فارسية): (فلتعلم أنه حيث يوجد المال فهناك اليهودي) والآخرون يقترضون منه، تارة يرفض (يهودي مالطا) وتارة يقبل بشروط قاسية على المدين (تاجر البندقية، ولكن في (ضمان التاجر).
بين القصص التي جمعها بيفرلي بويد في (معجزات العذراء مريم المكتوبة بالإنكليزية العصور الوسطى). هناك اليهودي الذي يقترض ثم ينكر الدين.
ثم جاءت جورج إليوت (في (الغجرية الأسبانية) لتقول: (إسرائيل) بين الأمم بمنزلة القلب من الجسد هكذا يكتب شاعرنا يهوذا) وفي 1876م كتبت: (إننا نحن الذين نشأنا على المسيحية مدينون لليهود بشكل خاص أنهم، أي المسيحيين، لا يعرفون أن المسيح كان يهودياً).
يتساءل المؤلف: ما الذي يضع هذه المرأة الرائدة في خدمة القضية اليهودية وبحيث يصبح (يهوذا شاعرنا؟).
ويجيب على تساؤله بقوله: إن قضية اليهود كانت قد صارت جزءاً من قضايا التحرر في الفكر الغربي، وفي الوقت ذاته كان اليهود يقدمون وجهاً ثقافياً ودينياً في خدمة المجتمع الغربي، فصارت العودة إلى العبرية تحمل معنى دينياً، يتضمن العودة إلى الجذور المسيحية التي أوحى أنها كانت يهودية أو مكتوبة بالعبرية على الأقل فصدرت أول طبعة عبرية للكتاب المقدّس في إيطاليا عام 1488م، ثم طبعة التلمود عام 1508م في البندقية، وبين 1492 و1755 بدأت تصدر ترجمات بالعبرية للاهوتيين وفلاسفة ومؤرخين وشعراء أوروبيين غير يهود.
ويشير المؤلف إلى أن المصطلحات والتعابير التوراتية كانت قد دخلت منذ زمن طويل إلى لغة الكنيسة، ففي القرن الرابع عشر استخدمت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تعبير (الأسر البابلي) لوصف الإقامة في أفينون بين 1309 و 1377، وهي استعارة لـ (الأسر البابلي) الذي حدث لليهود في القرن السادس قبل الميلاد، على يد نبوخذ نصر الذي رحّل اليهود إلى بابل.
وتجدر الإشارة إلي أنه بعد تمكن اليهود من مواقعهم الأكاديمية، وبعد إشباع الموسوعات بالمعلومات المرتبة لخدمة الهدف اليهودي، بدأت عملية مزدوجة في المراجعات التاريخية وكان هناك لهذه المراجعات التاريخية ثلاثة أغراض لا يخطئها أي قارئ ممحص.
الأول: هو غسل التاريخ اليهودي من كل شائنة، فأي حدث قام اليهود فيه بدور غير محمود تتم إعادة النظر فيه؛ إما لنفي دور اليهود فيه، وإما لتبرير هذا الدور.
والثاني: الذي يواكب الأول هو عملية (سرقة العبقريات)، فكل عبقرية تأتي في التاريخ يتم اختراع نسب يهودي لها.
والثالث: (احتكار المآسي) وقد تم ذلك من خلال إعادة النظر بمآسي الشعوب الأخرى لطمسها أو تبريرها أو إنكارها نهائياً، للإبقاء على مأساة اليهود على أنها المأساة الإنسانية الوحيدة، وهي تشتمل على المأساة اليهودية المعاصرة (الهولوكوست) والمأساة التاريخية (التيه والسبي).. وفي نهاية كتابه يقول المؤلف: لقد هيمنوا على التاريخ ليسكنوا الواقع الذي استولوا عليه في حضن ذلك التاريخ ويرضعوه حليبه، إنهم يؤلبون العالم ضدنا ويحشدونه معهم، هذا إذا اضطروا إلى الاعتراف بأننا موجودون، ونحن كنا دائماً نتجاهل العالم، معتقدين أن إيماننا بحقنا يكفي لإنجازه، وأننا استطعنا الاستغناء عن العالم، وفي كثير من الحالات يتوقف ردّ فعلنا عند الامتعاض المستسلم: (إنهم يسيطرون على الإعلام) ولكنهم كانوا في الواقع يصنعون عقل العالم المعاصر، ولم تكن هذه العملية متوقفة على الإعلام الموجه إلي عامة الناس، بل هي ممتدة في الأكاديميات والدراسات التاريخية وتصنيع المؤسسات العلمية وتغذية الإنترنت بالمعلومات (سنكتشف الآن حجم الخسائر الحقيقية التي تعرضنا لها).
وبصيغة هي أقرب ما تكون إلى الحزن والمرارة المتحسرة لفقدان الوقت والجهد الفعال والحركة المنتجة، يقول المؤلف: نحن لم نخسر الأرض والوطن والبيوت والمزارع فقط، بل خسرنا التاريخ ومنابع المعرفة أيضا.

جريدة الوطن القطرية



عن أعماله :

*****

قراءة في كتاب:
التعذيب تاريخ من الوحشية والتكنولوجيا المتقدمة

بيرنهاردت ج.هروود

ترجمة:
ممدوح عدوان

(هل يتطور الإنسان حقاً نحو مستوى حضاري أسمى؟ أم أننا اليوم متوحشون مثلما كنا في فجر التاريخ...
إن الوقائع مرعبة. ولكن ما من وصف مهما بلغت دقته وحيويته، يستطيع أن يصف الحقيقة التي لم تقل).
في صفحة (الإهداء) نقرأ:
(إلى ضحايا التعذيب الذين لا تحصى أعدادهم في العالم، أمس واليوم وغداً)
وفي الكلمة (تمهيد) نقرأ:
(في كتاب كهذا، صغير نسبياً، يستحيل إيراد كل جانب من جوانب الموضوع، لقد كُتبت مئات المجلدات عن ألمانيا النازية وحدها، ولكي تكتمل قائمة المراجع المتعلقة بالتعذيب لا بد أن يكون حجمها موسوعياً.
وأكثر من ذلك فإنه حتى في الوقت الذي نكتب فيه هذه الكلمات هناك دم جديد يسفك في مكان ما في العالم، وهناك مهانات جديدة يوقعها بشر على رؤوس بشر آخرين، ولا يحتاج المرء إلى ذكر التجويع المنظم... تلك المأساة التي يجب أن تكتب عنها كتب كاملة، ولكن ليست هناك أهمية لأي تمييز بين من هم الجلادون ومن هم الضحايا، فالعنف يطغي على التفاصيل كلها..
إننا نقرأ عن إرهابي الفيتكونغ الذين قطعوا الرؤوس وانتزعوا الأحشاء وقاموا بعمليات إخصاء وقطعوا الأوصال لضحاياهم... ولكن انتظر، لا تسترخي باعتداد وتفترض أن الأشرار كلهم في الجانب الآخر فنحن الطيبون، نسجل بعض النقاط الخاصة بنا. إن عشرات من القرى قد أحرقت عن بكرة أبيها وأعداداً لا تحصى من الفيتناميين الجنوبيين الأبرياء قد صفهم جنودنا على الجدران ثم أطلقوا عليهم النار لأن القرى كانت (مشتبهة) بإيواء العدو، والجنود الذين قاموا بإطلاق النار هم أبناء الأمريكيين أنفسهم الذين كرهوا الجنود الألمانيين لأنهم، قبل ما يزيد عن عشرين سنة ارتكبوا أعمالاً مشابهة.
وبعد ذلك في 29 تشرين الثاني من عام 1968م حكم على سبعة عناصر سابقين من الإس إس في محكمة بألمانيا الغربية في دار مستادات بخمسة عشر عاماً لكل منهم لمشاركتهم في قتل ثمانين غجرياً.. وروسياً.
ماذا عن أولئك الناجين الذين تشوّه معظمهم طيلة ما تبقى من حياتهم، أولئك الذين هبوا واقفين في قاعة المحكمة وصرخوا يطلبون الانتقام؟ ماذا نقول لهم؟ بل إن ما هو أكثر أهمية: ماذا نقول لأنفسنا؟
هل هناك أمل بأن يتغير الإنسان؟
بحقل (التعذيب في العصور القديمة) نقرأ:
(يجد الإنسان العادي، حسن النية، نفسه مضطراً لإثبات نبل البشر أو على الأقل تفوق البشر على المخلوقات الأخرى) وكلما هيمن هذا الدافع... عن فضائل الإنسان تم اختبار أمثلة ساطعة. وتنتقى هذه الأمثلة دائماً من مراتب أشباه القديسيين الذين تجعلهم شجاعتهم وضبطهم لأنفسهم وفضيلتهم الشاملة يكادون يكونون أكثر طيبة من أن يكونوا حقيقيين..
ما من أحد يستطيع أن يحدد بثقة مطلقة، متى مورس التعذيب لأول مرة. بالنسبة للاستخدام الرسمي لا ذكر للتعذيب في القانون البابلي... غير أننا نعرف أن البابليين... يعدمون المجرمين بالرجم أو بالنشر إلى نصفين أو بالحرق. وكانت لدى الآشوريين والمصرين تدابير تشريعية لاستخدام التعذيب مثلما كان الأمر عند الفرس والإغريق والقرطاجيين والرومان.
كان الإغريق يعتبرون التعذيب وسيلة لانتزاع الحقيقة، وقد دعاه أرسطو (نوعاً من الإكراه قد تمت ممارسته) أما بحقل (التعذيب حول العالم) نقرأ:
(إن إحدى الشائعات الرائجة في العالم العربي هي أن (الشرقيين) عملياً أشرس الشعوب على وجه الأرض وبالتالي فإنهم الأكثر خبرة في فن التعذيب، والحقيقة أن الشرقيين معذبون ذو خبرة ولكن ليس صحيحاً أنهم، بأي شكل من الأشكال، أكثر قسوة من الغربيين، الفارق كامن في حقيقة أنه في الشرق هناك اعتراف أكثر أمانة بالقسوة الغريزية التي تعتمل في قلوب البشر كلهم).
وبحقل (التعذيب وسيلة لتحقيق الهدف) نقرأ:
(لقرون خلت والفلاسفة وعلماء النفس يبحثون عن إجابة عن السؤال المحير حول السبب الذي يجعل الإنسان بكلمات جان بول سارتر أكثر... فحشاً وضراوةً وجبناً).
وعلى الرغم من هذا البحث المغرق في قدمه عن مفتاح حقيقة (وحشية الإنسان تجاه الإنسان) فقد كان هناك كمية هائلة من الأعذار... أن التعذيب بين القدماء يعتبر وسيلة لانتزاع المعلومات، وهذا بالطبع، كان وما يزال المبرر شيوعاً لاستخدام التعذيب... فالذين يرغبون في أن يكونوا شهداء نادراً ما يعترفون أن يكشفوا عن أي شيء بالإكراه، وعلى العكس من ذلك كان آخرون قد عرف عنهم أنهم يعترفون بأية جريمة ويقدمن أي معلومات عندما يخضعون للتعذيب.
وكذلك ففي حقل (التعذيب كعقوبة) نقرأ:
(عملياً كان هناك دائماً خط دقيق غير واضح بين التعذيب والعقاب..
ولكما توغلنا في الزمن نجد أن الانتقام هو القوام الأساسي للعقوبة.
ومن التعذيب الانتقامي.. يثبت مرة أخرى أن القسوة تولد القسوة.
ومع حقل (أصول التعذيب في الأدب) نقرأ:
(في كل عام تظهر كمية هائلة من القصص التي تعالج ولو جزئياً، الوحشية الجسدية.. واحد الأدلة على ذلك يبدو في عدد المبيعات الهائل لما يسمى مدرسة الكتابة البوليسية الواقعية... وكل من يستطيع القراءة هذه الأيام صار على صلة بكلمتي السادية والمازوشية).
وهناك حقول مثل: (التعذيب الذاتي والطوعي) و(المضمون الجنسي للتعذيب) و(التعذيب والجريمة) و(التعذيب العسكري والبحري وبدايات التوجه ضد التعذيب الحكومي) و(التعذيب في القرن العشرين) ونقرأ فيه:
(لم تكن كافة صنوف التعذيب التي مورست على الضحايا المتألمة حتى عام (1899) أكثر من تجارب (بروفات) على الفظائع بالجملة وعلى القتل الجماعي الذي قدر له أن يكون آفة القرن العشرين.
حين بزغت شهر الأول من كانون الثاني عام (1900) لم تفكر جماهير كبيرة أكثر من لحظة تفكير سطحي في المستقبل..
سيكون من الطيش فعلاً أن نحاول تقديم تغطية شاملة لفظائع القرن العشرين في كتاب واحد...
إن معظمنا من مواليد القرن العشرين. ولقد رأى الكثيرون منا أموراً يتمنون أن ينسوها.

الكتاب: تاريخ التعذيب
المؤلف: بيرنهاردت ج.هروود
المترجم: ممدوح عدوان
الناشر: دار الجندي للنشر والتوزيع (دمشق - سورية)
مواصفات الكتاب: الطبعة الثانية 1998م (223) صفحة من القطع الصغير
يحوي على كلمة (الإهداء) (تمهيد) وكلمة و(10) محاور

شبكة النبأ المعلوماتية - الثلاثاء 15/7/2003 -

****

من شعره :

سئمت مناجاة روحي

أغني للهوى القتال أغنية
على طلل يصير ركامْ

أغني كي أنقب في بقايا الصمت
عن أشلاء مجزرة ٍ
يغطيها اخضرار كلامْ

وها إني عثرت الآن
:على شيء سأفعله بلا استئذان
أموت
لكي أفاجئ راحة الموتى
وأحرم قاتلي من متعة التصويب
نحو دريئة القلب
الذي لم يعرف الإذعان
سأحرم ظالمي من جعل عمري
مرتعا لسهام أحقاد
وأرضا أجبرت أن تكتم البركان

أموت
وقد نزفت مخاوفي
لم يبق مني غير جلد فارغ
قد صار كيسا فيه بعض عظام
فصائغ يأسي المقرور فرغني من الأحلام.

****

أتلفت نحوكِ.. أبكي

تقبلين من الفرح المرتجى
تقبلين من الفرح المستحيل
وتأتين كالضوء من عصبي
تطلعين من القلب
ينكشف العمر في عريه
هيكلا من عظام الأماني
وزوبعة من شقاءْ
تكشفين قصوري عن الحب
بعدي عن الله
عجزي عن الحلم والذكريات
تجيئين ملء القلوب العريقة
ملء العيون العتيقة
لم تتركي فسحة للرغائب واللهو
لم تتركي خفقة للّقاءْ
غربتي كشفت وجهها
فرأيتك كل الذي مرمر القلب
لم أتحمل دفاعاًَ عن العشق
أو عن طفولتنا
ورأيتك:
لم يضطهدني الطغاة لرأي
ولم يأت خلفي الغزاة لأرض
ولم تجرح القلب في لوعة هجرة الأصدقاءْ
كنت خلف التوجع والدمع
في الخوف كنت... وكنت الشقاءْ
ولكي أتقرّب منك
لكي أتلمس نبضك
أو أتقرى ابتسامة عينيك
كابدت هذا العناءْ
فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي
ودمعيَ غال
تعلمت كيف استوى الدمع بالدم
أعبد من سفح الدمع والدم كرمى لها
فضح الدمع حقدي
فلا عفو عمن أباحوا دمائي
ولا عفو عمن أباحوا البكاءْ
قلت:قلبيَ يقفز
ينذر بالشر
قلبي تعلق مرتعداً
عند أول هذا السواد
الذي يملأ الأفق
قلت: جبيني على وشك الانكفاء
والعواصف إذ تعتريني تبددني
وأنا أتماسك في ذكرياتك
هدَّأتني
لم تكن غيمة تتجمع سوداء في الغرب
كي ترتمي مطراً
فالغيوم التي اعتدتها أصبحت ناشفة
والرياح استكانت
فلم تأتنا نذر العاصفة
قلت لي:
إنها الطير
في رهبة الأفق سوداء
والناس ترقبها
أقبلت كالشحوب الذي يعتريني
إذا ما ارتعدت على ذكرهم نازفه
ما الذي سوف يأتي؟
ترنحتُ..أمسكتِني
وتوجعتُ..أسكنتِني
واندحرتُ..فأرجعتِني
كانت الطير في رهبة الأفق سوداءَ
جاءت كعتم يفاجىء عند الظهيرةِ
غطت سماءَ المدينة
واصطدم الخلق بالخلق
فالضوء يسودُّ
والقلب يسودُّ
والمدن المستعيذة مشلولة واقفه
وصلت زعقة
وتلاها عويل
تغير نبض السماءْ
ذهل الخلق
وابتدأتْ هجماتُ الطيور
وراحت مناقيرها تنتقي في الزحام
فرائسها الراجفة
خفت ملء عظامي وأوردتي
أقبلت هجرة راودتني
هممت بها
غير أني رأيتك،
قلت: معاذَ هوانا
رجعت أسلِّم عمري
وأخلع خوفي
أواجه نبض نهايتنا
خفت أن تفقديني
وخفت إذا شدني الخوف صوب الأمان
إذا لفني الذعر بين المنافي
بأن لا ألاقيكِ عند المساءْ
حينما شبَّ بين القلوب هروبُُ
تشبثت باسمكِ
أطبقتُ قلبي على نظرتيك
لأجلك أبقى
وتطبق حولي مصيدة الطير
أبقى لديكِ
ولستِ معي
أتمسك بالبرق من ذكرياتك في حلكي
أتعلق بالماء، يندفع السيل
أنشدّ للضوء، يندلع الليل
أنشدّ نحو التراب، يثور العجاج
بلاد تفور
وأخرى تغور
وشمس تغيب وراء الطيور
أطارد خيط شعاع
تسرب ما بين طير وطير
وأغمض عينيّ.

*******

سيرة أدبية

ممدوح عدوان

على غير جرح معتق، يتقلب هذا الشاعر العربي السوري، المولود في عز الحرب عام 1941 في قيرون (مصياف)، ويخرج من العربية الأم ولسان كتاباته إلى الأدب الإنكليزي دارساً ومدرساً فيجول في كل أمصار الثقافة وأصقاع الشعر والصحافة والإعلام والمسرح والتعريب (الترجمة) وعلى غرار كل الحالمين الكبار، الموسوعيين الظامئين إلى الكل، بعد هذا اللاشيء الذي استغفلنا منذ سقوط بغداد سنة 1258 حتى سقوط القدس سنة 1948.
نقل إلى العربية "سد هارتا" لهيرمان هسة، ومذكرات كازنتزاكي 81-1982، وفي الرواية ابتكر واحدة سنة 1970، موسومة بعنوان مفرد "الأبتر".

وأطول من التعريب كانت رحلته في الكتابة للمسرح العربي الناشيء من فراغ النصوص إلى تجاوب النفوس مع المحكي والتمثيل وفي هذا المضمار امتدت رحلة ممدوح عدوان ما بين 1967 "المخاض" و 1971 "زنوبيا تندحر غداً" دون أن ننسى ما بين هذين الموعدين "تلويحة الأيدي المتعبة" و "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" (1970)، و "ليل العبيد" (1977) وأخيراً "هاملت يستيقظ متأخراً" 1979.
إلا أن الشهرة قدمته شاعراً حفياً، متأنقاً بجراحه متألقاً بالهموم القومية والإنسانية التي تراوده ويراودها. عضواً في اتحاد الكتاب العرب منبرياً في مهرجانات الشعر كأنه فارس جديد من فرسان الصولات الشعرية العربية القديمة.
وتبدو محطات المخاض عند ممدوح عدوان ذات منطلق مشترك هو بكل أسف واعتبار، منطلق انكسار 1967، فليس مصادفة إذا أن ينشر في ذلك العام مسرحية "المخاض" ومجموعة شعر "الظل الأخضر"، ثم ينهمر هادراً صاعقاً ثابتاً في استنفاره صابراً في مواقعه بل في متاريس ممانعته ومراهناته على الآتي الأجمل.
سنة 1967، أطلق ممدوح عدوان سهام الشعر والمسرح من جعبة واحدة: "القلب العربي، المنكسر، المقاوم، الممانع والباحث عن ولادة أخرى".
بعد "الظل الأخضر" الذي يمحو بالكلمات الحلوة المحمسة آثار العدوان الإسرائيلي على الأرض والشعب ينطلق ممدوح عدوان متفائلا واثقا من عروبة أو أمة لا تقهر، لا انهزمت آنا بعد آن.
سنة 1974، بعدما أدت الحروب المتتالية 56، 67، 1973، إلى انقلاب في النفسية القتالية العربية، وضع الشاعر مجموعته الثانية "الدماء تدق النوافذ" و "أقبل الزمن المستحيل".
سنة 1977 يذهب إلى بيان شعري رفيع "أمي تطارد قاتلها" و "يألفونك فانفر" ويندر أن نجد شاعراً سواه، ينشر في العام الواحد مجموعتين من الشعر، ومسرحية، وكأنه بحر يفيض بذاته على حبر جمره وعمره.
سنة 1980 يتقدم من العام إلى الخاص، ومن حدود القضايا العربية القومية إلى لب القضية الفلسطينية "لو كنت فلسطينياً" معلنا رغبته في هوية المظلوم وفي الانتماء أو الاستناد لمقاومته المتمادية بالأجساد والأشجار وبالرصاص والحجارة.
ويستحضر في الزمن المستحيل تلك الصور الإمبراطورية القديمة التي تدعي أن "كل الدروب تؤدي إلى روما" ليعلن سنة 1990 "لا دروب إلى روما".
سنة 1999 فاجأنا الشاعر المقاوم ممدوح عدوان بقصيدته الجديدة الأخيرة بعنوان "طيران نحو الجنون" "الصادرة عن شركة رياض نجيب الريس - بيروت".

***

ولد في قرية قيرون (مصياف) عام 1941 تلقى تعليمه في مصياف، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة الإنكليزية، عمل في الصحافة الأدبية، وبث له التلفزيون العربي السوري
عدداً من المسلسلات والسهرات التلفزيونية عضو جمعية الشعر

من مؤلفاته :

  • المخاض- مسرحية شعرية- د1967.7.الظل الأخضر -شعر- دمشق 1967
  • الأبتر -قصة- دمشق 1970
  • تلويحة الأيدي المتعبة -شعر- دمشق 1970
  • محاكمة الرجل الذي لم يحارب
  • مسرحية- بغداد 1970
    الدماء تدق النوافذ -شعر- ب1974.74
  • أقبل الزمن المستحيل -شع1974.
  • أمي تطارد قاتلها -شعر- بيروت 1977
  • يألفونك فانفر - شعر - دمشق 1977
  • ليل العبيد- مسرحية - دمشق 1977
  • هملت يستيفظ متأخراً- مسرحية- دمشق 1977
  • زنوبيا تندحر عداً- مسرحية
  • لو كنت فلسطينياً- شعر
  • مذكرات كازنتزاكي -ترجمة -جزآن- بيروت 1980-1983
  • حكي السرايا والقناع - مسرحيتان- دمشق 1992- اتحاد الكتاب العرب

* * *

سيرة أدبية

ممدوح عدوان

على غير جرح معتق، يتقلب هذا الشاعر العربي السوري، المولود في عز الحرب عام 1941 في قيرون (مصياف)، ويخرج من العربية الأم ولسان كتاباته إلى الأدب الإنكليزي دارساً ومدرساً فيجول في كل أمصار الثقافة وأصقاع الشعر والصحافة والإعلام والمسرح والتعريب (الترجمة) وعلى غرار كل الحالمين الكبار، الموسوعيين الظامئين إلى الكل، بعد هذا اللاشيء الذي استغفلنا منذ سقوط بغداد سنة 1258 حتى سقوط القدس سنة 1948.
نقل إلى العربية "سد هارتا" لهيرمان هسة، ومذكرات كازنتزاكي 81-1982، وفي الرواية ابتكر واحدة سنة 1970، موسومة بعنوان مفرد "الأبتر".

وأطول من التعريب كانت رحلته في الكتابة للمسرح العربي الناشيء من فراغ النصوص إلى تجاوب النفوس مع المحكي والتمثيل وفي هذا المضمار امتدت رحلة ممدوح عدوان ما بين 1967 "المخاض" و 1971 "زنوبيا تندحر غداً" دون أن ننسى ما بين هذين الموعدين "تلويحة الأيدي المتعبة" و "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" (1970)، و "ليل العبيد" (1977) وأخيراً "هاملت يستيقظ متأخراً" 1979.
إلا أن الشهرة قدمته شاعراً حفياً، متأنقاً بجراحه متألقاً بالهموم القومية والإنسانية التي تراوده ويراودها. عضواً في اتحاد الكتاب العرب منبرياً في مهرجانات الشعر كأنه فارس جديد من فرسان الصولات الشعرية العربية القديمة.
وتبدو محطات المخاض عند ممدوح عدوان ذات منطلق مشترك هو بكل أسف واعتبار، منطلق انكسار 1967، فليس مصادفة إذا أن ينشر في ذلك العام مسرحية "المخاض" ومجموعة شعر "الظل الأخضر"، ثم ينهمر هادراً صاعقاً ثابتاً في استنفاره صابراً في مواقعه بل في متاريس ممانعته ومراهناته على الآتي الأجمل.
سنة 1967، أطلق ممدوح عدوان سهام الشعر والمسرح من جعبة واحدة: "القلب العربي، المنكسر، المقاوم، الممانع والباحث عن ولادة أخرى".
بعد "الظل الأخضر" الذي يمحو بالكلمات الحلوة المحمسة آثار العدوان الإسرائيلي على الأرض والشعب ينطلق ممدوح عدوان متفائلا واثقا من عروبة أو أمة لا تقهر، لا انهزمت آنا بعد آن.
سنة 1974، بعدما أدت الحروب المتتالية 56، 67، 1973، إلى انقلاب في النفسية القتالية العربية، وضع الشاعر مجموعته الثانية "الدماء تدق النوافذ" و "أقبل الزمن المستحيل".
سنة 1977 يذهب إلى بيان شعري رفيع "أمي تطارد قاتلها" و "يألفونك فانفر" ويندر أن نجد شاعراً سواه، ينشر في العام الواحد مجموعتين من الشعر، ومسرحية، وكأنه بحر يفيض بذاته على حبر جمره وعمره.
سنة 1980 يتقدم من العام إلى الخاص، ومن حدود القضايا العربية القومية إلى لب القضية الفلسطينية "لو كنت فلسطينياً" معلنا رغبته في هوية المظلوم وفي الانتماء أو الاستناد لمقاومته المتمادية بالأجساد والأشجار وبالرصاص والحجارة.
ويستحضر في الزمن المستحيل تلك الصور الإمبراطورية القديمة التي تدعي أن "كل الدروب تؤدي إلى روما" ليعلن سنة 1990 "لا دروب إلى روما".
سنة 1999 فاجأنا الشاعر المقاوم ممدوح عدوان بقصيدته الجديدة الأخيرة بعنوان "طيران نحو الجنون" "الصادرة عن شركة رياض نجيب الريس - بيروت".

***

ولد في قرية قيرون (مصياف) عام 1941 تلقى تعليمه في مصياف، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة الإنكليزية، عمل في الصحافة الأدبية، وبث له التلفزيون العربي السوري
عدداً من المسلسلات والسهرات التلفزيونية عضو جمعية الشعر

من مؤلفاته :

  • المخاض- مسرحية شعرية- د1967.7.الظل الأخضر -شعر- دمشق 1967
  • الأبتر -قصة- دمشق 1970
  • تلويحة الأيدي المتعبة -شعر- دمشق 1970
  • محاكمة الرجل الذي لم يحارب
  • مسرحية- بغداد 1970
    الدماء تدق النوافذ -شعر- ب1974.74
  • أقبل الزمن المستحيل -شع1974.
  • أمي تطارد قاتلها -شعر- بيروت 1977
  • يألفونك فانفر - شعر - دمشق 1977
  • ليل العبيد- مسرحية - دمشق 1977
  • هملت يستيفظ متأخراً- مسرحية- دمشق 1977
  • زنوبيا تندحر عداً- مسرحية
  • لو كنت فلسطينياً- شعر
  • مذكرات كازنتزاكي -ترجمة -جزآن- بيروت 1980-1983
  • حكي السرايا والقناع - مسرحيتان- دمشق 1992- اتحاد الكتاب العرب

***

كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض

محمود درويش

ممدوح عدوانعلى أربعة أحرف يقوم اسمُك واسمي، لا على خمسة. لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج إليها أثناء السير على الطرق الوعرة.
في عامٍ واحد وُلدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية.
عالياً، عالياً كان كُل شيء... عالياً كالأزرق على جبال الساحل السوري، وكما يتسلق العشب الانتهازي أسوار السلطان، تسلقنا أقواس قُزحٍ، لنكتب بألوانها أسماء ما نحب من الأشياء الصغيرة والكبيرة:
يداً تحلب ثدي الغزالة،
مجداً لزارعي الخسّ في الأحواض، شغف الإسكافي بلمس قدم الأميرة، ومصائد أخرى لجمهور مطرود من المسرح.
لم ننكسر بدويٍ هائل كما يحدث في التراجيديات الكبرى، بل كأشعة شمس على صخور مدَببة لم يُسفك عليها دم من قبل، لكنها أخذت لون النبيذ الفاسد، ولم نصرخ، هناك، لأن لا أحد، هناك، ليسمع: أو يشهد.
دلتني عليك تلك الضوضاء التي أحدثتها نملة بين الخليج والمحيط، حين نجت من المذلة، واعتلت مئذنة لتؤذن في الناس بالأمل،
ودلتك عليّ سخرية مماثلة!
ولما التقينا عرفتك من سُعالك، إذ سبق لي أن حفظته من إيقاع شعرك الأول، يُفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويبعثر رائحة الياسمين.
لم يكن لنا ماضٍ ذهبي على أهبة العودة، كما يدّعي رواد المقهى الخائفون من القبض على قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيد، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المتخم بفراغ المطلق.
لم نبحث إلا عن الحاضر.
ولكننا، من فرط ما أُهنّا، بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع، أثار علينا غضب الملائكة المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض، والباحثين عن الشعر الصافي في جناح بعوضة.
ودُعينا، في غرف التشريح معقمة الهواء والكلام، إلى بتر المفردات كثيرة الاستعمال. وسرعان سرعان ما علاها الصدأ من قلة الاستعمال، وفي أولها: الحياة... ومشتقاتها.
لكننا آثرنا أن نخاصم الملائكة.
ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبةٍ في الضحك معك على عورة بردى المكشوفة كأسرارنا القومية. ولأنه يُذكرني بمدى حاجتي إلى استراحة من الركض آناء النوم، بحثاً عن حلم مسروق، أراه واضحاً وأحاور السارق. ويذكرني اسمك بما أنا فيه من طقطقة كأني حبّة بلوط في موقد الفقير ليلة العيد.
لهذا، اكتب اسمك ولا ألفظه، ففي الكتابة يتموج اسمك على ماء الحضور. وفي الكلام أسمع وحش الغياب يطاردني من حرف إلى حرف، ليفترس الشلو الأخير من قلبي الجائع إلى هجائك المادح.
ممدوح! ماذا فعلت بك وبنا؟ فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض. ولكن، في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر.
لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي، لا أتبين من منا هو الغائب، بل لأن الحياة التي آلفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها، وكم أحببنا فجورها وتقواها... فتركت ثعلباً منا بلا صاحب.
لا جلجامش ولا انكيدو. ولا الخلود هو المبتغى ولا قوة الثور. فنحن الخفيفان الهشان، كواقعنا هذا، لم نطلب أكثر من وقت إضافي لنلعب بالكلمات لعباً غير بريء، هذه المرة، أو لنورث ما لم نقله بعد من لم يقل بعد. ولنجعل من الشعر مزاحاً مستحباً مع العدم. لكن حرف الميم الثاني في اسمك واسمي ظلَّ قطعة غيار لا تنفع.
ممدوح! هذا هو وقت الزفاف الفاحش بين الرعد والصحراء، شرق الشمال، لإنجاب الكمأ إعجازي التكوين. صف لي ولادة الكمأة أصف لك عجزي عن وصف القصيدة، فانظر شرق الشمال!
هي حسرة التعريف، أنين الرمل على الشاطئ حيث يرفع القمر، بأصابعه الفضية، سروال البحر وقت الجزر، ويرش علينا قصيدة حب، إباحية التصوف.
فاغضض من صوتك، لا من بصرك، وانظر. فمنذ ولادة اللغز الكوني، والشعر مختبئ في أشد المواقع انكشافاً. ويظهر جلياً جلياً في اللامرئي من سماء مسقوفة بكفاءة الغيب.
كل الأزهار شريفة حيث تترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمر التي يضعها الجنرالات، ما بين وسامٍ ونجمة، على بزة سوداء أو كحلية... لخداع أرامل الشهداء.
وكل اليمامات نظيفة، حتى لو بالت على شرفاتنا والوسائد، ما عدا اليمامات التي يدربها الغزاة والطغاة معاً، وعلى حدة، على الطيران الرسمي في أعياد ميلادهم، وفي مناسبات وطنية أقل أهمية.
الآن، لا أتذكر شيئاً منك. فالذكرى تلي الحرب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، على هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد... أو نكتبها معاً لشاعر محبط. فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، إلى أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضاً، فينتظر غيرها ويحيا أكثر.
كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض من هذا الألم.
وأنسى الآن، لتبقى معي، أكثر من غلسٍ لم يدركنا ولم ندركه قبل أن تُفرغ آخر كرم عنبٍ مقطر في كأسك التي لا تخلو أبداً إلا لتنكسر، أيها العاصر الماهر!
ليس هذا مجازاً، بل هو أسلوب ليلٍ لا يصلح إلا ضيفاً، وأنت المضيف الباذخ. وإن افتأت عليك، كصديقٍ حامض القلب، عاملته بالحسنى وأرقت عليه حليب الفجر.
لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهة عابثة. ومنذ عادت الجرار إلى حفظ الصدى، كالزيت، خوفاً عليه من آثار الشمس الجانبية.
كم حيَّرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازفٍ يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك أن واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في الكثير، من دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. وأنت أمامك بين يديك. ألا ترى إليك، أم وجدت نفسك أصفى في تعددها، يا صديقي المفرط في التشظي ككوكبٍ يتكون.
فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضاً إلى عناية طبية، والى فصادٍ كلما أُصيب الدم بالتلوث. آه، من التلوث الذي جعل الإيقاع نشازاً، واستبدل حفيف الشجر بموسيقى الحجر، واعتبر الحياة عبئاً على الاستعارة!
لكن هذا لم يهمك. لأن الحياة لا تُوهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتُعاش... وتعاش بكاملها، وتُلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت. أحببتها فأحبتك. وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلى قسطاً من الحياة لا لشيء... إلا لينجبوا قتلى.
يا ابن الحياة الحر، أيها المدافع عن جمال الوردة العفوي، وحرية العشاق في العناق على مرأى من كهان الطهارة اللوطيين! من بعدك سيسخر ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا؟ يأنفون من الانتباه إلى دم مسفوك على طريق المعراج، ويسرفون في التحديق إلى غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة، ولأن الغيم سرمدي الدلالات. لعلهم على حق، ما دامت هزائمنا تستدعي تطوير النقد إلى هذا الحد!
لكن هذا أيضاً لا يهمك، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جنديٍ أمام سنبلة، ونظرت، حزيناً غاضباً، إلى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت إلى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم.
ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا... لماذا؟
ألقى الشاعر محمود درويش هذا النص في أربعين الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، في احتفال أقيم مساء أمس في دمشق، بدعوة من وزارتي الإعلام والثقافة في سورية وعائلة الفقيد. وتحدّث في الاحتفال: الشعراء محمد الماغوط وأحمد عبدالمعطي حجـازي ونزيه أبو عفش وعادل محمود، الناقدة عبلة الرويني، الصحافي طلال سلمان، المفكر صادق جلال العظم ووزير الثقافة السوري محمود السيد.

الحياة
2005/02/1

*****

في ذكري أربعين يوما علي رحيل ممدوح عدوان:
ثمانون كتابا.. ثمانون حكاية وحياة.. وكثير من الصخب الجميل

أنور بدر

ترجّل قبل أربعين يوما عن صهوة القلم، الشاعر ممدوح عدوان، رحل الولد المشاكس في المدرسة، والشاعر المشاكس في القصيدة، رحل الإنسان الُمشاكس في الحياة والسياسة، دون أن يُتم ترجمة الأوديسة التي بدأ بها، بعدما ترجم الإلياذة ، لكنه أصدر مجموعة من قصائده النثرية في ديوان حياة مبعثرة كما وعدنا في آخر لقاء، وكأنه يهزأ بنا أو بقصيدة النثر التي جاءت مطواعة لهذياناته اليومية، فكتب بلغة جميلة تحت عنوان الأحلام الذابلة:
حين أعيد ترتيب بقجتي المفلوشة..
أين سأضع العباءة والطربوش
والتمائم والتاريخ؟
أين أذهب بباقات الأحلام الذابلة؟
والأناشيد المعلقة مع البامياء والثوم؟
ماذا أفعل بهذه الشعارات المعلبة
التي انتهت مدتها؟
وأين أجد ظلي الذي كان يتمدد
بأريحية أمامي علي الرمضاء
وكان يقتفي خطواتي ويتسلل ورائي
ككلب صيد .
بالتأكيد لن يعيد ممدوح بعد الآن ترتيب البقجة، فهو رحل تاركاً لنا التمائم والتاريخ وأحلامه الذابلة والأناشيد المعلقة والشعارات المنتهية الصلاحية... لكنه لأول مرة سيلتقي بظله وسيتحدان.
مفاجئ موت ممدوح عدوان الذي ظلّ يصارع الموت لعامين ونصف العام، دون أن يستسلم له، بل أذكر ابتسامته وهو يؤكد أنا أحيا كما لو لم أكن مريضاً، وأعمل كمن يعيش أبد الدهر ، ومع يقيننا بأن الحياة بشكل أو بآخر هي انتظار للموت، إلا أن حقيقة موت ممدوح عدوان فاجأتنا وفجعتنا بالوقت نفسه، إذ كان ممدوح ما زال ينثر قصائده ويجلجل بضحكته الصاخبة. كان ممدوح عدوان يتلقي التكريم في مهرجان دمشق المسرحي، وبعده في مسقط رأسه مصياف ، حين فاجأنا خبر وفاته مع نهاية العام الماضي. وكأنه خبر نشر كتاب جديد له، أو قصيدة تتربع لأول مرة علي صدر الصفحة الأولي من صحافة تترك دوماً للثقافة زوايا هامشية.

* * *

قال أحد أصدقاء ممدوح بأنه لا يمكن رصد الحياة الثقافية والإبداعية في سورية منذ عقد الستينات حتى الآن، دون أن يكون ممدوح عدوان محطة بارزة فيها. كتب ممدوح عدوان الشعر والقصة والرواية، كتب المسرح والدراما، مارس النقد الأدبي والعمل الصحافي... لكنه يعتبر نفسه شاعراً أولاً وآخراً، وفي كل ما يكتبه تكتشف نفساً شعرياً، مع انه يكتب المقال الصحافي بشروط المقال الصحافي ويكتب المسرح أو الدراما بشروط المسرح أو الدراما، وله أكثر من عشرين مجموعة شعرية. وله أيضا روايتان و ست وعشرون بينها أجمل ما كتب في المونودراما.

وبلغت أعماله الدرامية للتلفزيون، ستة عشر مُسلسلاً.
كما كتب نثراً يُقارب البوح بشعريته، كتب دفاعاً عن الجنون ، وكتب جنون آخر ، كما كتبَ عن دون كيشوت الذي يعيش فينا وصولاً إلي حيونة الإنسان ، كما ترجمَ ممدوح عدوان أكثر من خمسة وعشرين كتاباً من أُمهات الأدب والفكر العالمي. من إلياذة هوميروس إلي الأوديسة التي لم تكتمل، و من تقرير إلي غريكو إلي تلفيق إسرائيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني ، وصولاً إلي روايات هرمان هيسه مع ذئب البوادي و الرحلة إلي الشرق .
كان يعمل بحيوية وجد رغم عقوده الستة التي مضت، ورغم المرض الذي ذهبَ بشعره وبقسم من قواه، إلا أنّه كان يُقاوم المرض والموت بالكتابة. كان فعل الكتابة لديه هو فعل الحياة الوحيد الذي لم يفقد معناه أو دلالته. كما فقدت أشياء كثيرة معناها ودلالتها مع الزمن، وهذا ما عبر عنه في إحدى مقابلاته: كل ما أحن إليه لم يعد موجوداً، وحتى ما هو موجود مثل الأب الذي أخاطبه في ديواني الأخير/وعليك تتكئ الحياة/ أتمني أن يموت وهو محتفظ بكرامته، لأنني لا أريد له أن يُذل، كما هو حاصل معنا، فنحن نخشى أن يمضي الحال بنا نحو الأسوأ .

* * *

كان يُمضي عدوان حياته الأخيرة دون أن يعترف بالمرض، لكن الزمن كان له تأثير كبير علي حياته وتفكيره، يقول بهذا الصدد الإنسان قد لا ينتبه في البداية إلي تعلقه بالقرية أو الأم، لكن عندما يتقدم في العمر يكتشف نوعاً من النوستالجيا لاستعادة الطفولة، وهذه الطفولة لا تُستعاد إلا من خلال الأم ومن خلال القرية . لذلك كان ألوفاً لقريته قيرون ، وكان وفياً لأمه بعد مماتها، كتب ديوان شعر رثاءً لها، ودخل مع أوديب في تجربة اغتيال الأب حفاظاً علي كرامته أو لأسباب أخري، لأنّ الأب يتماهى في السلطة كل سلطة وكل الحكومات العربية تتحدث عن الإصلاح، ولكنك لو دققت لوجدت أنه إصلاح ما يُمكن إصلاحه من اجل بقاء السلطة، وليس إصلاحاً لأحوال الناس . هذه السلطة أو الأب لم تزل مرفوضة من قبله وإن لم يملك سلاحاً للرفض غير كلمة لا وهو في ذلك كان كثير الشهادة إن صح القياس، كان مُصراً علي استخدام سلاح الكلمة رغم إيمانه بأنه سلاح غير فعّال.
وبقدر ما يتماهى الأب في السلطة، تتماهى الأم في الوطن، يقول عدوان أهم فاجعتين في حياتي هما موت أمي وهزيمة الخامس من حزيران (يونيو)، بالطبع هناك حوادث أخري في حياتي، لكن هاتين الحادثتين أدتا إلي شرخ حقيقي في حياتي، أو صنعتا انقلاباً في شخصي . وقد عبرّ عن التماهي السابق في ديوانه أمي تطارد قاتلها إذ قال:
ومن كآبتي القديمة
متراجعاً ومصادراً،
من حضن أمي
نحو منفي ضيق كالقبر
منفى خانق كالقبر
ويبدو أخيراً أن المنفي قد أطبق علي أحلامنا أو أجداثنا، منفي بمساحة قبر، وقبر يتسع لأحلام الشاعر أو لكلماته التي ستصدح باستمرار فينا، في دواخلنا صلاة إلي وطن أجمل يتسع لابتسامات البشر.
هنا بضع ردود علي رحيل عدوان وذكراه الباقية:

* * *

مات ممدوح عدوان

حكم البابا

لم يخطر في بالي ولا في يوم من الأيام أن أكون أول من سيسمع خبر موت ممدوح عدوان من الطبيب الذي أعلن وفاته، ولم أتخيل أني سأكتب بيدي نعي ممدوح عدوان الذي سيلصق في الشوارع، ولم أفكر بأن ممدوح عدوان سيموت، فحتى في أيام مرضه كنت أعتقد في داخلي أنه في يوم ما سينتصر ممدوح عدوان علي المرض كما في كل معركة دخلها، ولم أكن أظن أني سأكون آخر من يقبّل الجسد المسجي لممدوح عدوان في غرفة إسعاف في مشفى دمشقي، ولكن ما لم يخطر لي أو أتخيله أو أفكر به أو أظنه حدث كلّه دفعةً واحدة بمصادفة من أسوأ مصادفات حياتي، وللصدفة السيئة عشت كل هذه المستحيلات دفعة واحدة، وخلال مدة بدت لحظات خاطفة وهي كذلك بالفعل.
ومع أن كل ذلك حدث لا أستطيع أن أصدق أني لن أتصل بممدوح عدوان غداً أو بعده لأخبره أني قادم لزيارته، وأستفتيه في أي نوع من الكليسترول (كما كنّا نشفر مسميات الطعام الدسم) يشتهي لأحضره معي، كما فعلت يوم الوفاة، وكانت الروح لا تزال عالقة في جسده، فممدوح عدوان يمثل بالنسبة لي أكثر مما أظن، ولايزال صوته الناري في أذني علي الشريط المسجل في اجتماع أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية الشهير في نهاية السبعينيات مع الكتاب والصحافيين، وهو أول معرفتي به من غير لقاء، والتقيته لأول مرّه في عام 1979 فلم تتغيّر صورة الكاتب المقاتل العنيد، وله فضل عليّ وعلي إدارة حياتي فيما بعد، وبيقين يصل إلى حد التأكيد أقول أن حياتي كانت ستبدو أقل شراسة مما هي عليه الآن، وعنادي كان سيصبح أكثر ليناً لو لم ألتق به أول مرّة في اللاتيرنا ، وثمة قاعدة في الكتابة والحياة علمني إياها ممدوح عدوان وأنا لا أزال أسير عليها، وقد ذكرته بذلك قبل أيام قليلة من وفاته، قال لي وهو يرسم دائرة بيده، هذا هو الهامش المعطي لنا ككتاب، عليك ككاتب أن لاتقف في منتصف الدائرة، لأن هناك من سيضيقها عليك فيما لو فعلت ذلك، مهمتنا ككتّاب أن نقف عند جدارها ونحاول توسيعها، وممدوح عدوان واحد من قلّة من الذين وسّعوا هامش الحرية في سورية، وفي زمن كان فيه الهامش أضيق من شفرة السكين، مرة بالشعر، ومرة بالمقالة، ومرّة بالندوة، وكان يتلقي شتي الاتهامات مرّة ممن يملكون الهامش، فتهمهم جاهزة، وعقابهم حاضر، فمنع من الكتابة، ومنع من السفر، وسحب جواز سفره، ونقل من جريدة الثورة كصحافي لمترجم في وزارة الإعلام، وفرزت سيارة مخابرات لمتابعته، ولكن ممدوح عدوان لم يستسلم، وفي حين كان يكبر كل يوم كان أعداؤه يصغرون يوماً بعد يوم . وكان يتلقي من وجه العملة الآخر تهماً مناقضة تماماً للأولي، فيتهمونه بالعمالة للمخابرات، وكان دليلهم الوحيد أنه شجاع وصاحب لسان طويل، ويقولون لك كيف بإمكانه أن يحكي لو لم يكن كذلك!
كانت مشكلة ممدوح عدوان أنه رجل مختلف بين أشباه، وتعب طويلاً ليقنع الجميع بنفسه وبكتابته، وعندما فرضت موهبته وشغله ومثابرته أنفسهم دخل في صراع غير متكافئ مع عدو من نفس فصيلة أعدائه السابقين إنما هذه المرة هوجم من الداخل لا من الخارج، جاء مرض السرطان ليواجه ممدوح عدوان، ودخلا في مكاسرة بالأيدي، وكنت أراقبه من زيارة لزيارة، تارة يثبّت المرض ويلوي له ذراعه، وتارة يأخذ السرطان ثأره منه، قال لي زياد ابنه قبل أيام أن أباه كان يقول له في بداية المرض، سأعيش، لكنه في الفترة الأخيرة بدأ يتحدث عن الموت، وسمعت من الهام رفيقة عمره كم كان يشعر بالأسى لأن أحداً لم يطلب منه في أيام مرضه أن يكتب زاوية أسبوعية لصحيفة أو مجلة، وكبرياؤه يمنعه من أن يطلب ذلك من أحد، ولربما مات ممدوح عدوان بمرض الإهمال لا بمرض السرطان.
منذ يومين شاهدت صورة قديمة لممدوح عدوان كان فيها في عنفوانه، ساموراي في الكتابة، هي التي انطبعت في ذاكرتي في كل لحظة أتخيله أو أتذكره فيها، ولم تمحها صورة الجسد المتهاوي الذي يستند علي ابنه زياد وهو يصعد منصة حفل الافتتاح في مهرجان دمشق المسرحي الأخير، ولكن اليوم ماالذي أستطيع قوله وأنا أنظر إليه للمرة الأخيرة مسجي في غرفة إسعاف، وأتذكر تاريخاً من حبي له كمعلم وكصديق، وأحقد علي من حاربوه طوال حياته، وسمموا له عيشته، وأفكر كيف كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك برجل أعطي سورية أكثر مما أخذ منها، بينما هم الذين أخذوا منها ولم يعطوها إلا الخراب والفساد، من وزراء الإعلام الذين سدّوا بوجهه الطرق، وبعضهم بقي طوال ثلاثة عشر عاماً هي كل فترة وزارته يطارده ويطارد غيره من المثقفين الشرفاء، إلى كومة المخبرين الذين كتبوا فيه التقارير وباعوه بثمن بخس، إلى المعارضين الذي لوثوا رداءه النظيف، إلي شقيق كل هؤلاء وابن فصيلتهم مرض السرطان.
واليوم نحن أمام حقيقة أكيدة هي أن ممدوح عدوان مات، ولاينفع رثاء ولاندب، ويعزي كلام عن أدبه الخالد يقوله في حفلات التأبين من ساهموا بموته، لكن ربما مايعزّي فعلاً أن نتخيل ممدوح عدوان جالساً مع اكسسوارته الدائمة (السيكارة المشتعلة وكأس العرق وسعاله المستمر) جالساً في مكان ما في الأعلى وهو ينظر إلينا نندبه وهو يتسلّي بمشهدنا الليلة، وكل من عرف ممدوح عدوان سيراوده مثل هذا الخاطر، لأن من عرفه لايصدق حقيقة موته وهي حقيقة بالفعل، فمن الصعب أن نفكر بأن ممدوح عدوان قادر علي الموت بهذه السهولة، وسيمضي وقت طويل لنتأكد بأنه تركنا وفعلها ومات!

***

إلي ممدوح يألفونك فانفر

عباس عباس

كنتَ تتلفت دائماً كمن ضيَّع الجهات، وحين تلمح الدهشة في قسمات من حولك، تردد علي الفور: أنا حلبة يحتلها رجلان لا يكفان عن الصراع !
لعله ملمحٌ شرقُ متوسطي بامتياز، ولربما عكازُ المصابين بدوّار الخيبات المتلاحقة... وما أنت وحدك.
أجل، كنت نهباً لصراطَي الطمأنينة المبتغاة و ما ينبغي أن يُقال. و أجمل القصائد هي التي لم تولد بعد ستبقي كذلك إلي آخر الراحلين، ولكن ثمة دائماً ما يكفي من الغوائل كي تُولد الكلمات و تُبقَّ الحصى!
لكَ أن تُطَمئِن جهتك اليسرى أن ظلك الأخضر ظلَّ أخضر من قيرونك الحزينة إلي مُؤنِس القبور الطالع علي حواف إقامتك الجبرية. لكَ أن تكفكف قشعريرة هذه الزيارة الأخيرة، وتستجير من رمضاء ليل العبيد و السفربرلك بروح أمك التي انتظرت ابنها ... وبكت!!
لكََ ـ وأنت مسجَّي ـ أن ترمينا بسهم من كنانة بديهتك وتصرخ: كفاكم دقائق صمت علي صمتنا المزمن!
ونحن؟
غارقون في البحث عن كلمة تليق بصمتك الأبدي، عن ملمح آخر للحزن يضاهيه مهابة، أو مرثاة.
وحدَه الطفل يبكي
علي شرفة الموت، لا جهة تقتفيه،
ولا السنديان ارتأى لغة غير دمع الغمام؛
لا يد في الفراغ تلوِّح للزغردات التي شَّيعته علي حافة النهرِ إلاَّ الحمام.
ممدوح، أظنك ما عدت ملزماً بالردِّ علي حرية القول التي صارت لنا مادمتَ كففتَ عن غناء العتابا أو ردِّ الحجر أو السلام، وستتركنا الآن لجرأتنا التي لم تعهدها بنا. سنقوِّلك ما لم تقله، وننظم فيك الشعر والنثر والأغنيات، سنقترف الشهادات والمراثي، و نذكر محاسن موتانا حتى تلك التي تأبيت بعضها وأنت بيننا. قصاراك، إذن، أن تجمعنا في لقاءٍ مناسباتي أبكم، فهل هو البُدُّ أن نلتقي علي أسيً ونفترق حين ينبغي التأَسِّي؟!!!
كم من الأكاليل استطالت نحو قامتك الممدَّدة لتناهز الحزن؛ والشهود كثر: تلك الأيِّم التي امتشقتَها طيلة منازلتك للمرض تطالبنا ألاَّ نقضَّ مضجعك بالعويل، والأصدقاء الذين ائتزرتهم ذات ويل ذاهلون كأن علي رؤوسهم الطير، وهاملت، الحالم، يقسم أغلظ الأيمان أنه لم يستيقظ بعدُ، والأيدي المتعبة لا تزال مشرعة، و محاكمة الرجل الذي حارب ما تزال مفتوحة! لكنّ الأمل الوقائي الذي وشيته وريقات قلبك وأودعته أنَّي توجهت لم يكفُّ عن الحضور. تلاميذ ضيعتك يا أبا زياد أخفوا صور الوداع في حقائبهم وانتحلوا ذاكرة الدمع ليناموا دون أن يكتبوا فروضهم المدرسية.
وأنت، كأنت، بعلاماتك الفارقة: دأبك اللاهث خلف الوقت، مزاجك الذي لم تقلِّمه نوائب الدهر، ضحكتك ذات الحاسة السادسة، استرخاؤك المبهر إزاء الفرح، شِعرك الجامح أبداً ـ ما كان أصبرك يا ممدوح علي المرض وما ألهفك علي قصيدة! كنت كــ سارق النار ، تريد إيصالها مهما احتراقك!!
لو سألتَ علامَ يَبكي مشيِّعوك، لتراءت لك كوميديانا السوداء بلا ستائر ودون اكتمال الفصول!
لو سُئلت عن سرِّ ولعك بالبغتات، لفاجأتنا كعادتك: كي لا أصيبكم بها عند موتي!!
أجل لقد تجرّعناها علي مهل، فقط لنكتشف أن المسافة بيننا لا تعدو حفنة من تراب أو رماد هوية نسفُّها علي من كان بين ظهرانينا حياً قبل قليل!
لو سألك ملاك ـ علي سبيل العزاء ـ ألم يقربك الموت من حقيقتك أكثر، أخالك ستجيب دون تردد: مع ذلك، سلاماً للحياة!
ملحق:
صديقك الراحل سعد الله ونوس استدرك نفسه بك ليذكِّرنا أن هذا كلُّه قبر مالك! وأجري انزياحاً طفيفاً علي مرثاة رحيله:
هوي...
وكان رثيثا إلى آخر الوجع الآدميًِّ،
وكان علي غارب الموت يبني المشاهد فصلاً ففصلا.
هوي...
ولم يكمل المشهد المبتغي،
فأسدل مأساته دوننا
ورتل مرثاته فوقنا في مهبِّ الفداحة والفاجعة،
رويدَك غممدوحف، كلُّ المراثي
تقصِّر عن قامة هاجعة.

* * *

ممدوح عدوان توق كبير للحياة وحضور فاعل في حياتنا الثقافية

خيري الذهبي

دُعيت في أوائل الثمانينات لأكون محكماً في احدي مسابقات فرق الرقص أو الدبكة الفلكلورية علي مستوي المحافظات والمدن السورية، وكانت هناك فرقة للدبكة من مصياف تحديداً، وقد صوت لها لما شاهدت من عجائب رقصها.
كانت هنالك شهوة للحياة في ذلك الرقص، لم أجده عند سواها من الفرق الأخرى، كان هنالك توق عجيب... اندفاع يذكرني بشخصية الصديق الراحل ممدوح عدوان، وأنا الآن أتساءل: أتراه تأثير تلك المدينة الجبلية الواقعة علي مفترق الطرق الأساسي في سورية، حيث الحروب ما بين الصليبيين والمسلمين؟ ما بين الطوائف الإسلامية بمكوناتها الكثيرة من اسماعيليين وعلويين؟ تلك المدينة العجيبة التي حينما أزورها ـ وأنا زرتها مرات عديدة ـ تفاجئني أنها جمعت ما بين قساوة الصخر وما بين طراوة الخضرة، ما بين النهارات الغائمة وما بين رطوبة النسمات علي وجوه سكانها، وأتساءل: ما تأثير هذا كله علي ممدوح؟
كان في داخل ممدوح شيء من ذلك المجنون الإغريقي زوربا وليس عبثاً أن ممدوح ترجم عدداً من أعمال نيكوس كازانتزاكي، أتراه وجد نفسه في شخصيات كازانتزاكي؟ وبشكل خاص في ترجمته الرائعة لكتاب تقرير إلى غريكو نحن نعرف أن الغريكو رسام أسباني من أصول يونانية، وكانت رسومه كلها تتميز بشيء عجيب، هو تلك الرغبة العجيبة في الصعود... في التسامي،كانت شخصيات الغريكو شخصيات ممطوطة إلى الأعلى... شخصيات تريد الصعود إلى السماء، أتري أن هذه اللمسة الموجودة لدي الغريكو والتي عبر عنها كازانتزاكي هي ما شدت ممدوح إلى هذا العمل المبهر ـ وهو لا يقل عن باقي أعمال كازانتزاكي الروائية، إن لم يتفوق عليها ـ أتري هل وجد ممدوح نفسه في هذه الشخصية، فأحب أن يزود قراء العربية بهذا الإبهار لدي كازانتزاكي؟ ممدوح كان رجلاً يحب الحياة، وهذه صفة فيه تختلف عن الكثيرين منا، ممن يسمون دودة كتب، فهو لم يكن دودة كتب بهذا المعني، كان محباً للحياة، وكان مقسماً وقته الي نشاطات مختلفة، والشيء الأساسي فيها هو الحياة نفسها، ما بين الطعام والشراب ومجالسة الأصدقاء، والضحك بصخب وبعنف، كان هذا شيئاً ايجابياً فيه، لم أجده لدي الكثيرين، وربما هذه الصفة هي التي ستجعله باقياً في ذاكرتنا، أكثر مما سيبقي الآخرون. هل هذا هو تأثير مصياف؟ هل هذا هو تأثير دير ماما التي خدعنا طويلاً وهو يقول أنه من دير ماما لنكتشف أنه من قيرون...؟ لا اعرف... إلا أنه سيترك ذكري طيبة لدي جميع من عرفه.

***

وأنا حين أذكر ممدوح عدوان أذكر ذلك الجيل من الشباب الذين جاءوا من الريف الي المدينة، جاءوا يحملون طموحات وأحلام بتغيير العالم حسب رؤاهم الفكرية والسياسية، لكن الكثيرين منهم كانوا يحملون فكرة الخوف من المدينة، تلك المدينة التي اصطدموا فيها لأول مرة بالشوارع العريضة، والبنايات الكبيرة، والسيارات الفارهة، بضباط المخابرات والبيروقراطيين الأقوياء، بالنساء المتبرجات... أخافتهم هذه المدينة، فحولوا خوفهم بلعبة نفسية معروفة الي آلية أخري، إذ تصوروا وحولوا وقالوها بعبارات أخري عبر كتاباتهم... حين حولوا المدينة الي امرأة عاهرة تنتظر الفحل الوحيد الذي سيقدم لها ما تنتظره.
رأينا ذلك في كتابات حيدر حيدر، وأحمد عبد المعطي حجازي، والطيب الصالح، وأحمد يوسف داوود، وآخرين كثر كتبوا في هذا الأمر، الذي يفهم باعتباره تبريرا نفسيا ولعبة نفسية من الخائف الذي لا يريد أن يعترف بخوفه، فيحوله الي أداة عدوانية، ويعلن أنا الفحل الذي تنتظره المدينة.
ممدوح عدوان كان من القلائل الذين لم يقعوا في هذه الورطة، فلم يكتب عن المدينة العاهرة، ولا المدينة بلا قلب، ولا المدينة التي تنتظر الفحل الريفي القادم، وكان هذا برأي شيئاً من مزايا ثقافة ممدوح الإنسان.
أيضاً كان هناك تيار من الكتابات تتحدث عن جمال الريف وبراءة الريف ومزايا الريف مقابل فساد المدينة وقذارة المدينة وسوء المدينة وتخريب المدينة. وتصور هذه الكتابات كيف تفسد المدينة ذاك الريفي البريء الداخل إليها. وقد تجلي هذا بشكل واضح لدي أحمد يوسف داوود في روايته حبيبتي يا حب التوت حينما جاء وهو كتلة من الطهارة والبراءة والنظافة فلوثته المدينة لحظة وصوله إليها، أكان هذا صحيحاً؟
سؤال آخر يتبادر الي الذهن؛ أكان هذا التلوث يقابل تلوث الأفكار السياسية التي حملوها عندما تلوثت بالممارسة العملية؟ تلك الأحلام السياسية التي رأيناها جميلة ورائعة، وحدة ... حرية... عدالة اجتماعية...كلها أحلام جميلة كنا مؤمنين بها، ونتمنى أن تتحقق، لكنها تحولت في حقل الممارسة ـ كما رأينا ـ الي هذا الفساد والسوء الذي نعانيه في كل مكان طبقت فيه هذه الأحلام. تري عندما كتب بعض الكتاب ـ ومعظمهم من القادمين من الريف ـ تري أكانوا يعبرون بلا وعيهم عن هذا الفساد في النظرية عندما نزلت الي الممارسة؟
كنت قد قلت أكثر من مرة، وأنا لا أزال أقولها، إذا وسعنا تلك النظرة الي مستوي العالم، واعتبرنا العالم الثالث هو ريف العالم، ونظرنا الي الكتاب الذين قدموا من ريف العالم الي حواضر العالم ومدنه، الي باريس ولندن وموسكو وواشنطن، ورأينا كيف أفزعتهم هذه المدن التي قدموا إليها، فحولوا أنفسهم ـ لا واعين ـ الي هؤلاء الفحول الذين لا يشق لهم غبار، ولنتذكر بطل الطيب الصالح في موسم الهجرة الي الشمال ولنتذكر شكيب الجابري، ولنتذكر عددا كبيرا من الكتاب الذين تحدثوا عن هذا المأزق الذي وقع فيه هذا الريفي، بغض النظر أكان هو الريفي القادم من مصياف الي دمشق أم القادم من دمشق الي باريس.
هذان المأزقان لم يقع فيهما ممدوح، وهذا الأمر يذكر ويشكر له، فهو حين تعامل مع المدينة، تعامل معها كند، وأذكر له عندما قال أن دمشق أمي... وأنا علي استعداد لأن أموت من أجلها. فهذا موقف مهم من كاتب لم ينظر إليها كمدينة معادية، أو مدينة مغزوة، أو مدينة مفتوحة كما فعل البعض من الكتاب، والروائيون منهم تحديداً.
ممدوح كان له مشكلة أساسية هي أنه لم يستطع أن يسن شفرته ليقطع بها القطع المبين، فوسع دائرة أعماله الي عدة حقول، فكتب الشعر والمسرح والنقد، وكتب في الرواية والصحافة والترجمة، لقد وصل الي مرحلة ما قبل الإجادة في كل ما كتب، لكنه لم يستطع أن يكون أجود ما في جيله، فنحن عندما نقارنه بأبناء جيله من الشعراء نجده من الشعراء الجيدين، لكنه ليس الأجود، وحين نقارنه بأبناء جيله من المسرحيين نجده جيداً ولكنه ليس الأجود، وفي الرواية والترجمة وغيرهما كان جيداً ولكنه ليس الأجود.
ولكن علينا أن نقول الحقيقة: وهي أن مجموع ما فعله ممدوح وما كتبه جعله الأجود، وكان هذا حضوراً ـ كان فعلا تاما وليس ناقصا ـ رائعاً لممدوح عدوان في الحياة الثقافية السورية، وربما هناك أسماء كثيرة ستختفي، وهذا من طبيعة الحياة، ولكن ممدوح اعتقد أن اسمه سيستمر طويلاً لكثرة ما علّم في حياتنا الثقافية

* * *

ممدوح عدوان: الحكاية

زياد عدوان

الأب: كنت أول من رآك حياً
الابن: كنت آخر من رآك حياً
لا أستطيع أن أحصي عدد الأشخاص الذين استوقفوني لدي معرفتهم أني ابن ممدوح عدوان، وحالما يسألون عنه تحضر حكاية على الفور جرت بينه وبينهم ليقصوها علي. كان أول ما يحضر ببالهم هو الحكاية التي وقعت عندما تعرفوا إلي بعضهم البعض. فلم يكن ما بقي من لقائهم الأول نقاشاً بل ما بقي كان حكاية. ورغم تفاوت الأشخاص وتعددهم كانت الحكاية هي أعز ما يربطهم بهذا الشخص. أما حكايتي معه فبدايتها ونهايتها.
الأب: كنت أول من رآك حياً!
الابن: كنت آخر من رآك حياً!
ولكم أن تعرفوا كم الحكايات بين هاتين الحياتين. وبصدق لا أعرف ما هي الحكاية الأبرز خلال الثماني والعشرين سنة من حياتنا المتقاطعة يومياً تقريباً وتحولت من حكايات بين أب وابن إلي حكايات بين صديق وصديق وكان ما يمتعه مني هي الحكايات الجديدة التي أرويها له. أذكر الآن مما كان يرويه عن سعادته بأولاده هو الحرف الأول الذي نطقناه والكلمة الأولي التي قلناها، لم يكترث ببزوغ السن الأول، أو اللحظة التي نهضنا بها علي قدمينا وتعلمنا المشي، بل كان وحتى أيام قليلة سابقة يذكر لنا عندما يدور الحديث عن علاقته بنشأتنا الكلمة التي تفوهنا بها، كانت سعادته هناك ربما لأيمان ما يقول أن بوسع ولديه أن يقوموا بشيء ما، لأن الكلمة وإيماننا بها هي التي ستصنع صفاتنا.
لقد شرعوا بالكلام.
لعل المشهد وقتها كان
الأب: كنت أول من سمع كلماتك
الابن: كنت آخر من سمع كلماتك
قدم ممدوح عدوان من بيئة ريفية، وأكثر ما حمله منها في حياته هي الحكايات. كان يروي لي حكايات مما حدث ويعلم أن لكل حكاية هدفها، منها الضحك ومنها الحكايات الشعبية أو العبرة أو الاستمتاع بالمغامرة أوالزجل الذي يقص هذه الحكايات. كان أكثر ما يحبه من أغنية جفلة وهي الأغنية التي خرجت من قرية أخواله دير ماما هو حكاية جفلة وأبيها. وأذكر كم كان حزيناً عندما تحولت الأغنية من حكاية عن أب فقير وابنته إلي أغنية عاطفية. كان ذلك التحريف صدمة بالنسبة إليه ورأيتها بعينيه:
لقد تجاسر الاستهلاك علي حكايات قريتي وأخوالي.
أكثر ما أزعج ممدوح عدوان هو تشويه الحكايات، وكما كان الحال مع أغنية جفلة، كان رد فعله صاخباً عندما يتم تحريف الحكاية التي يؤلفها. وكما باح لي كثيراً أن تشويه أعماله كان سبباً في أزمته القلبية، وإصابته بالأورام. لم أر أبي مصدوماً وغاضباً كما كان حاله بعد أن يشاهد عملاً مسرحياً أو تلفزيونياً محرفاً. ولا زلت أسمع كلماته السابقة عندما قال: إنه سيلوي عنق المخرج الذي يلوي عنق نصه وحكايته.
وبعدها يأتي التفصيل الأبرز حول صخبه. وطبعاً لم ينس أحدهم هذه الصفة المميزة، وكانت تلك الصفة ملازمة لحضوره ومرضه وغيابه.
ومع كل حكاية له أو معه كان ذلك الصخب هو ما يملأ حكاياته، ولا أعرف إن كان يعشق الصخب لأجل الحكاية أم كان يعشق الحكاية كي يبقي صاخباً. هناك عشق لخوض المغامرة، ولعل الشجاعة هي أكثر الأمور المطلوبة كي تتم الحكاية. وهذا ما فعله عندما كان صغيراً، وعبر الجسر تحت المطر كي يكمل حكايته للوصول إلي المدرسة، وعرف حينها كم الشجاعة مطلوبة كي تصنع الحكاية، فتعاقبت الشجاعة والحكايات ومر تحت الرصاص والملاحقات وصعوبة الحياة، ولكنه تمسك بالشجاعة كي تبقي الحكاية موجودة. أنجز ممدوح ما يزيد عن الثمانين كتاباً، ومع هذا العدد الكبير للأعمال الأدبية والتلفزيونية، بقيت جميعها مختلفة بحكاياها. ثمانون كتاباً وثمانون حكاية مختلفة. والعديد من الحكايات في المقالات الصحافية مع زوجته وشرطي السير ومدرائه وأصدقائه ...إلخ. وحكايات من الحياة مع الجميع، وأحد ما سأفتقده الآن هو غياب الحكايات والتشويق التي كان يمكن لهما أن يحدثا بوجوده.
فعلاً لا أستطيع أن أذكر الحكاية التي يمكن لها أن تنفرد بمقال صغير الآن، ولكن ما خطر لي هو حكاية الكلمة التي عاندت كي تخرج رغم الكثيرين ممن وقفوا بوجهها، وهكذا صاغ حكايته التي يمكن لها أن تشمل الحكايات الأخرى كلها. الآن لا يحضر ببالي سوي تفريدات علي الجملتين في الأعلى
الأب : كنت أول من رآك حياً!
الابن: كنت آخر من رآك حياً!
الأب: كنت أول من سمع كلماتك
الابن: كنت آخر من سمع كلماتك
.... إلخ

* * *

الحصان الخشبي سهرة خاصة مع ممدوح عدوان

علي كنعان

ضاقتِ الساعةُ
ساخ الليلُ في حمَّي سكون الأرصفة
حقبة غادرها عشَّاقُها
داخت رفوفُ الانتظار
ودخلنا في خُمارِ الأسئلة...
ليس من عادته أن يُخلفَ الموعدَ
أو ينسي أحبَّاءَ السَّمَر
ربما راح يزورُ الوالدة
ربما طاف به سِربُ ظباءٍ
يعشقُ الشعرَ.. علي بحَّةِ ناي
ربما استوقفه ظلُّ غراب
ربما.. أو ربما.. أو..
حسبنا أناَّ علي مائدة الشاعرِ
لا نرهبُ جلاَّداً
ولا نسمحُ للبازارِ أن يغشي
فضاءَ الكلمة
موكبٌ يختالُ في ملحمةِ الشعرِ
نشيدٌ لا يماري أو يهادن
تتملي شهوةَ الجمرِ
ولا نصغي لبومٍ لطمتنا بالخبر

* * *

رئتاك، يا ممدوح، أم كبدي
حضنت جلالَ السرِّ في نيسان؟
القومُ يحتربون في شبرٍ من الزبدِ
والشعرُ فوق الدرُّ والمرجان
قف يا أخي جنبي وخذ بيدي
غصَّت دروبُ الليلِ بالغيلان
قلبي هوي سقفاً بلا سندِ
وجزائرُ المنفي بلا عنوان
ومواسمُ الأحزانِ في بلدي
بحرٌ بلا قاعٍ ولا شطآن

* * *

كيف أبكيك؟! وما زلت هنا
في شهقةِ الروحِ
وفي دفءِ العناق
لم تغبْ عنَّا ولم ترحلْ
مع الطيرِ المهاجر
ربما آثرت أن تتركنا بضعَ سويعاتٍ
نماري عجزنا، نخبطُ
في حالٍ من البُحرانِ
بينا تستريح
في ظلال الزيزفون
علَّه يثمرُ ألوانا من الطيبِ الشهيّ
تسند الروحَ إلي زيتونةِ الدارِ
يضيء الشعرُ معراجَ المحبِّين
تداري وهجَ شلاَّلٍ من الذكري
وتدعوك إلي سدرتها الزهراء
أنداءُ السكينة
وبلا تلويحةٍ أو همسةٍ لهفي
ولا طيف التفاتة
تفرغُ الكأسَ وتجتازُ الجسور
أنت أدرَي
أن ما يجري ويغلي ويفور
تحتها لم يكُ ماءً
بل دماء

* * *

ديرُ ماما لم تزلْ في البالِ
خبزَ الأم، باقاتٍ من الزعترِ والزوفا
ورمَّانَ الجبال
كيف ينشقُّ جدارَ القلبِ شطرينِ ـ
جحيمين من الأوجاعِ،
شطرٌ غادر الميناءَ في صحبة ممدوح
وشطرٌ يتداعي في خرابِ المرحلة

* * *

كم في حضورك تزهرُ الحفلة
ويموج ليلُ دمشقَ بالحبِّ
لو كان لي من أوَّلِ الرحلَة
أن أفتديك بحبةِ القلبِ
لحمدت ربي شاكراً فضلَه
أن خصَّني بجواره الرحبِ
ستظلُّ فينا حاملَ الشعلَة
وتلوك يوسفَ وحشةُ الجبِّ
روحي هنا مشبوبةُ الغُلَّة
وخطاك فوق مدارجِ الشُّهْبِ

* * *

أين يا ممدوح دربُ الجامعة؟
أين تيسير وهاني وثريَّا؟
أين فيروزُ الشهابيِّ؟
أبو ناصيف، شوَّاخُ الفرات؟
أين نهرُ الجامعة؟
أتَري صفصافَه الحاني علي أوجاعِنا
كان يبكي ليواسينا عن الغُيَّابِ؟
أم يبكي علينا؟

نحن، جيلَ الجسرِ،
فرسانُ الطواحين.. وأحياناً ضحاياها
لم نكن يوماً لنقتاتَ جراحَ الناسِ
أو نرضي بإذلالِ الوطن
والتشفِّي برزاياهُ
كما يفعلُ فرسانُ الرياحِ الموسميَّة

* * *

جيلٌ من الوجعِ الموشَّي بالتحدي والأمل
لم نمتْ بعدُ
وإن كنا تدرَّبنا علي الموتِ الفلسطينيّ
من قبل أريحا وسعارِ الجنرال
أجمِلْ بما (يُروَي عن الخنساء)
ليباركَ القسَّامُ طقسَ الموتِ بالشهادة

هذه أوراقنا...
معروضةٌ للشمسِ والريحِ
وموجِ العابرين
بين أكشاكِ الجرائد
يا هَلاَ.. يا مرحبا
ممدوح يدعوكم إلي مائدة الذكري
(يا بلادي التي علمتني البكاء)
كيف أنساكِ
وأنَّاتُ النواعيرِ وأحزانُ ألوفِ الأمَّهات
تعصرُ القلبَ.. طواحينَ زؤان
في مجاعاتِ سَفَرْ بَرْلِكْ
هنا جيلٌ من الخيبةِ والحرمانِ والقهرِ
وما زال الغراب
يتفلَّي في خرابِ المرحلة
صحفٌ مكشوفةٌ.. أوراقُنا
لا تقبلُ الشطبَ أو التزويرَ
فارفَعْها مرايا كاشفة
في وجوهٍ طمستها الأصبغة
طُفْ بنا
موجاً يغاوي ملكوتَ الكلمة
ولتكنْ سهرتُنا حتى أذانَ القبَّرة
هاتِ حدِّث عن طقوسِ الليلِ
لا ترأفْ بتشريحِ خفافيشِ الكهوف
واستفِضْ في كشفِ أعراضِ السعارِ القَبَلِيّ
وطنٌ يمتدُّ كالتابوتِ بين الماء والماء
بنوكٌ من دماءٍ ..
صفقاتٌ ومزارع
أُبرِمت في خانِ بازارٍ عتيق
اقلبِ الصفحةَ واتركهم لعينٍ لا تنام
ولنواصلْ شجَنَ النجوى بعيداً
بانتظار الخاتمة
أنت تعرفهم (حيةً حيةً، حنشاً حنشاً)
وأنا أعرف أشياء أخري
فلندعْ سهرتنا بيضاء منهم...
تلك أفواجُ ذبابٍ وهوام
قد تصيب المائدة
بسموم المرحلة

* * *

ضاقت الساعةُ.. طال الانتظار
ربما أغفي قليلا في جوارِ المتنبِّي
ربما أعطي شكسبير إشارة
علَّه يترك هَمْلِتْ نائما
ربما أودعَ في الأوراقِ أسرارَ الغياب

القدس العربي
2005/01/31