ممدوح عدوان عن الشاعر الانفجاري

بمناسبة صدور مختارات شعرية للشاعر السوري الكبير محمد الماغوط ضمن العدد الأخير من "كتاب الى جريدة" أقامت مؤسسة تشرين السورية حفل تكريم للشاعر بحضور وزير الإعلام عدنان عمران. "الأهرام العربي" تنشر نص الشهادة التي ألقاها الشاعر ممدوح عدوان بهذه المناسبة.
حين أردت أن أكتب هذه الكلمة لتقديم محمد الماغوط لم أحتج الى إعادة قراءته. اكتشفت أنه موجود في ضميري الذي أخاف منه، تسربت كلمات له كانت مروعة من وجداني فذكرتني بحقي الذي منحني إياه منذ طفولتي في الاعتراف بالخوف والذل والكبت.
يم يظهر محمد الماغوط صوتاً في المشهد الشعري العربي في الخمسينيات، بل انفجر فيه قنبلة فراغية، ومنذ أصواته الأولى كان شاعراً فاجراً ومنفجراً.
هذا الرجل الذي لم يهتم بوزن ولا قافية ولا آداب ولا شعائر سياسية، رأى نفسه مشرداً وجائعاً وخائفاً فعرف ببداهة الإنسان الأول أن العالم متآمر عليه، ولذلك فإن مؤامرة أخرى في هذه الدنيا الخادعة لم تكن تصلح لإلهائه عن مجابهة تلك المؤامرة الكونية.
ولأنه لا يخجل من دموعه ومن هزائمه ومن الاعتراف بإذلال العالم له، فقد علمنا أن الاعتراف بهذا الذل هو النصر الوحيد الذي بقي لأناس مثلنا في عالم مثل هذا العالم.
ولذلك لم أحس يوماً أنني أقرأ الماغوط، بل كنت أشعر دائماً أنه يعلمني آداب الانفجار الوقح الذي لا يقيم اعتباراً لشيء. وكلما كنت أقرأ الماغوط كنت أحس أن هذا الرجل يتغلغل الى أعماق روحي ليجبرني على الاعتراف بالوضاعة التي أوصلني إليها هذا العالم الذي أعيش فيه.
هو ذا شخص وحيد في الدنيا يعلن أنه يحشو مسدسه بالدموع. وينتهي الى أن يأكل النساء بالملاعق، ولا يرى فرصة للعنان إلا أن يضع ملاءة على شارة مرور ليناديها: يا أمي، ويأمر الغيوم بالانصراف لأن أرصفة الوطن لم تعد لائقة حتى بالوحول.
وفيما نحن نرى التبجج بالقوة الكاذبة، هو ذا شخص يعلمنا أن نحب ضعفنا وأمام الانتصارات الإعلامية الخلبية، يعلمنا أن نعتز بهزائمنا، وأما المراحل الوهمية يعلمنا أننا في حاجة الى البكاء، وأمام الانتماءات الضيقة يعلمنا أننا نملك الحق في أن نطالب أوطاننا بأن تعيد لنا الأغاني والدروع وكل فاصلة في أناشيد حبنا لهذه الأوطان قبل أن تطردنا من جحيمها.
ذات يوم كتب صديقي الشاعر علي كنعان: "سيكفي جبهة التاريخ من أمجادنا أن هُزمنا"، وأقول اليوم باعتزاز: سيكفي "حماسة" العرب الشعرية المعاصرة أن تحتويى على تلك الهزائم الوجدانية التي اعترف بها محمد الماغوط والتي تبدأ من هزائم الجبهات الى عزائم الروح، ومن خسارة الأرض الى خسارة الكرامة، ومن الفجيعة بالحكام الى الفجيعة بالأهل، ومن الحاجة الى اللقمة الى الحاجة للدفء، ومن الحاجة اليتيمة للأم الى الحاجة الشيقة للمرأة التي نتفرز بين نهديها كالصئبان. لقد هجا محمد الماغوط وطنه وهو يمزق ملابسه كأية أرملة، أو أن ثاكلة مفجوعة وأعلن عن رغبته في خيانة وطنه. ولكنني كنت أفهم المجاز الذي يشويه غضبه على ناره الهادئة، ولم أصدق يوماً إلا وصفه للرجل المائل الذي يقصد به نفسه، والذي يتشرد متأبطاً كتبه ووطنه.
محمد الماغوط لا يُقدم في أمسية تكريمية، ولا يقدم بكتابه المطبوع، بل يحق لمن يتورط في الإعلان عن ظهور شعره أن يطلق صفارة الإنذار، فها هنا غارة شعرية على ضمائرنا وعلى كل ما تعودناه من كذب ومكابرة وادعاء، إنني لا أقدم لكم شاعراً بل أطلق بينكم قنبلة انتُزع صمام أمانها.
إذا قرأ محمد الماغوط شعراً، أو إذا تورطتم باقتناء ديوان له، فانزلوا الى الملاجئ الأخلاقية التي تعودتموها، البسوا الكمامات الواقية من الصدق الجارح وتسلحوا بالمكيفات الإعلامية التي تعودتم على تهدئتها وتخديرها.
ولكنني أقول لكم إنها لن تنفعكم، ما من ملجأ يحميكم من هذا الاعتراف الشعري الجامع بأوبئتكم، طالما أنكم قد تورطتم بسماعه أو قراءته.
وأرجو أن أحذركم الى أنكم قد ترونه الآن رجلاً ضعيفاً يستند عكاز، هذا ليس رجلاً تقدم به العمر، بل هو رجل تقادمت فيه الهموم والأحزان والفجائع وتخمرت في أعماقه الدموع الحبيسة، وتعتقت في روحه الآهات التي لم يسمعها أحد.
وأحذركم أيضاً أن القنبلة التي يبدو غلافها صدئاً هي انفجاراته بالمقدار الذي كانت عليه دائماً.
وهو أيضاً تلك المرأة التي أهملناها قليلاً، ويكفي أن نفتح آذاننا وضمائرنا ليتساقط عنها الغبار ونرى أنفسنا فيها على حقيقتها.
لقد استطاع محمد الماغوط أن يحرجنا ويجرحنا بشعره لأنه ظل قادراً على الاحتفاظ بالطفل المقهور الذي كأنه، طفل لا يندهش من الجمال ويفرح به فقط، بل يشمئز من القبح ويبكي من الظلم.
لقد صرخ منذ البداية: ألا ترون كم هو العالم فظيع وعفن ونتن كم هو غير لائق بمعيشة البشر؟ كم يثير من القهر والغضب والبكاء؟
احتقان كهذا لا يعرف كيف يقلم أظافره ليليق بأجواء الشرف العربي، ولا كيف يلبس الياقة والقفاز ليصلح لصالونات الأناقة الثقافية، فانفلت في الأجواء الأدبية حافياً مشعثاً رثاً كما لو أنه ما يزال يلعب في وحل الحارة، ولم يهتم لملابسه المتسخة وقدميه الموحلتين، لم يهتم من نفور أبناء الصالونات أو الداعين أو استتباب الأمن في استعراضات الأناقة الفعلية والبروتوكوليا: ببساطة قال لهم: لم أجلب الوحل من بيت أبي، ولم أتسخ في حضن أمي، ولم يكن البكاء هوايتي، ولا الجوع رياضة أمارسها.
عالمكم وسخ وموحل ولعين وموحش، ولست معنياً بتنظيف نفسي أو حتى أسناني لكي أساعدكم على التهرب من مسؤولياتكم عن وسخ عالمكم.
معاناة اليتم والغربة والجوع والتشرد والكبت، وحب الوطن والنساء والحرية والتسكع والتدخين والشراء، والمجاهرة بالرأي في الكتابة وتعرية العالم الذي يحيط به كل صباح. . هذه هي حدود ملكوت محمد الماغوط وهي حدود عذاباته ذاتها.
لم يكتب من قارءته أو تأملاته بل كتب من زعيق بطنه الخاوية وارتجاف أعصابه الخائفة.
وهكذا راح يكتب دون أن يهتم بتسمية ما يكتبه، حتى أنه ذات يوم خاف من أن يكون الذين يسمون كتابته شعراً يقصدون السخرية منه والضحك عليه، فشتمهم في مجلة أدبية رائجة، ولكنه استمر ------ أظافره المتسخة على الحيطان ويكتب بهذه الأظافر، فيثير الصرير والغبار لترتجف منه العظام وترمد العيون.
وليصبح واحداً من أهم الشعراء العرب، شعر؟ فليكن، يقول الماغوط، ابحثوا أنتم إذاً عن قوانين لما أكتب ولا تطبقوا على قوانين كتابتكم.
إن صدور مجموعته الكاملة، أو صدور هذه المختارات في "كتاب في جريدة" حدث مهيب، وإرهاق سادي إذ من سيطيق أن يغامر بقراءة عذابات عمر الماغوط كلها دفعة واحدة؟ كم تستغرق منك قراءة المجموعة ؟ يوماً؟ شهراً؟ سنة؟ تصور أنك ستتحمل في مدة قصيرة كهذه عذابات رجل كان يتألم عن أمة كاملة وطوال جيل كامل، وقد ظلت روحه تئن تحت هذه العذابات طوال هذا العمر المرير. . حتى نخخت قلبه وجسده.
ونحن إذ نختار أن نقرأ شعره فإننا نجيء الى مخبر التحليل بأنفسنا، والشاعر المخبري المحلل سيقدم لنا تقريره ليقول لنا إننا مصابون بفقدان المناعة الأخلاقية والوجدانية والسياسية والوطنية، وإننا مصابون بالشلل الوطني وبسرطان الجبن والتخلي والتخاذل.
اقرأ دفعة واحدة إذا رغبت، ولكن احذر القرحة . . والرقابة فهذا من الشعر النادر الذي يحمل قارئه مسؤولية القراءة بمقدار ما حملها كاتبها حين كتب.
ولكن الماغوط، ولأنه مؤدب بآداب الشعر المتصعلك العظيم المقهور الرجيم المضمخ بالنزيف، سيوهمنا أنه لا يتكلم إلا عن نفسه وعن آلامه.
ولكن دققوا قليلاً، وستكتشفون أنه يحكي عنا جميعاً. . .

عن الأهرام العربي- الأحد 1 كانون الأول 2002

********

كهرباء محمد الماغوط تسري في الشعر الجديد

محمد علي شمس الدين
(لبنان)

المختارات التي صدرت أخيراً للشاعر محمد الماغوط ضمن إطار (كتاب في جريدة) أعادت فتح السجال حول شاعر (حزن في ضوء القمر) وحول قصيدة النثر التي كتبها على طريقته الخاصة‚ وفي الوقت نفسه صدرت في دمشق مختارات مما كتب عن الماغوط عربياً‚ ماذا عن محمد الماغوط وقصيدته الرائدة؟ لم يبدأ محمد الماغوط بنشر قصائده في مجلة شعر‚ إلا ابتداءً من السنة الثانية لصدورها في يناير 1958‚ في العدد الخامس‚ فهو نشر في هذا العدد قصيدته (حزن في ضوء القمر)‚ وفيها يظهر‚ وللمرة الأولى في تاريخ الشعر العربي القديم والحديث معاً‚ وكأنه قائد مركب متشرّد في تيّار وحشي‚ في مغامرة غير مسبوقة في الكتابة‚ يدخلها الماغوط بلا اعتداد نظري أو تنظيري‚ وبسلاح وحيد هو نصّه العاري‚ يقول الماغوط في تلك القصيدة: إني ألمح آثار أقدامٍ على قلبي‚ ويقول في قصيدة (الخطوات الذهبية): آه كم أودّ أن أكون عبداً حقيقيّاً/ بلا حُبّ ولا مال ولا وطن‚ وفي العدد الثاني من العام الثاني لمجلة (شعر) (ربيع 1958) ينشر الماغوط قصيدته (القتل) وفيها يقول: ‚‚‚ ضع قدمك الحجريّة على قلبي يا سيدي/ الجريمة تضرب باب القفص/ والخوف يصدح كالكروان‚ نجد أنفسنا في نصوص الماغوط أمام كهرباء تهزّ الكيان بكامله وهي جديدة‚ كاسرة (وإن مكسورة)‚ غير طالعة من مناطق ثقافية أو قراءات سابقة‚ بل منبثقة مثل نبع مفاجئ في دَغَل‚‚‚ وتحمل في أحشائها موسيقاها البكر العظيمة‚ لذلك لا يمكن أن يكون تجاهها سؤال: أين الوزن والقافية؟ لم يستطع أحد أن يطرح على الماغوط أسئلة حول شعريّة نصوصه‚ فهي قصائد بقوتها الداخلية‚ كما أنّ قراءتها لا تذكرنا بنصوص أخرى مشابهة في الشعر الغربي (الفرنسي أو الأميركي/ الإنجليزي) أو في الشعر العربي ‚‚‚ ولا ريب في إنها تكوّنت في سويداء صاحبها من تجربة حياتيّة قاسية‚ مباشرة‚ وفي أماكن ما قبل اللغة‚ قائمة في رعونة التجربة‚ ومتكوّنة في الدم والطمث والوحل ذاته للحياة‚ فانبثقت من هناك كما تنبثق زهرة من الوحل أو الصخر‚ والحليب من دم وطمث الحيوان‚ من هنا أسّس الماغوط لقصيدة النثر العربية‚ ولم يكن يرغب في ذلك نظرياً وثقافيّاً‚‚‚ إذ على نصوصه ستنبني بعد ذلك النظرية‚ كان هو شاعراً بكراً ابن تجربة حياتية بكر‚ هذا مجده‚ نعم: ضَعْ قدمك الحجريّة على قلبي يا سيّدي/ الجريمة تضرب باب القفص/ والخوف يصدح كالكروان‚ وفي البحث عن الغرفة السوداء (السرية) التي تكوّنت فيها نصوص الماغوط‚ نفترض أنه لا بدّ من أن يكون هذا الجميل‚ الطفل‚ قد انجرح في جماله وفي أصل براءته‚‚‚ لا بُدّ من أن تكون إهانة رعناء قد ضربت قلبه بوحشية‚‚‚ إذْ ما الذي يدفع إنسانا للقول: ضع قدمك الحجريّة على قلبي يا سيّدي‚‚‚ سوى العنف الأرعن؟ وحين تضرب الجريمة باب القفص فهي وحش يضرب قفص طائر‚ ثم حين يصدح الخوف كالكروان‚ فأي رعب يشلّ الكائن? أيسدّ أذنيه أم روحه؟ افترضنا ذلك قبل أن يسلمنا الماغوط بعض مفاتيح تجربته‚ على قلّة ما يتكلم به أو يبوح‚‚‚ على قلّة ما يشرح‚ نعرف أنه تعرّض وهو في أوّل صحوة الشباب‚ للسجن‚ حدث ذلك في العام 1955ولم يكن مؤهّلاً حينذاك‚ نفسياً أو جسديّاً لما تعرّض له من هوان وذلّ‚ يقول: (بدلاً من أن أرى السماء‚ رأيت الحذاء‚ حذاء عبدالحميد السرّاج (رئيس المباحث)‚‚‚ نعم رأيت مستقبلي على نعل الشرطي‚ والآن حين أتذكر حفلات التعذيب وأنا في التاسعة عشرة من عمري أتساءل: ما هي تهمتي بالضبط؟ولم أجد إجابة شافية عن هذا السؤال‚ كنت وقتها مجرّد فلاح بسيط لا يعرف من العالم إلاّ حدود قريته فقط كمعرفة الرضيع للحياة ‚‚‚ ولعلّ من فضائل عبدالحميد السرّاج عليّ أنني تعلمت أشياء كثيرة في السجن‚ تعلمت كيف أقول (آه) وذقت طعم العذاب‚ والمثير أنني أنا الذي لم أكمل تعليمي‚ تعلمت كثيراً من السجن والسوط الذي بيد السجّان‚ السجن والسوط كانا معلمي الأوّل‚‚‚ وجامعة العذاب الأبديّة التي تخرّجت منها إنسانا معذّباً‚ خائفاً إلى الأبد) (من حوار معه أجراه خليل صويلح)‚ يضيف الماغوط في الحوار نفسه‚ أنه فرّ من (سجن المزّة) الى بيروت‚ حيث التقى رفاقه في مجلّة (شعر)‚ ويضيف أيضاً كلمتين عن الكتابة (كتبتُ لأنجو)‚ قَدَمُ الشرطي هي التي شكلّت لدى الماغوط سبب هذا الصراخ الوحشي لأشعاره في أروقة الأزمنة العربيّة الحديثة والمعاصرة‚ مثلما شكّلت حزوزُ الحبال على ظهر مكسيم غوركي سبب رواياته‚ ثمة جروح في قلب الإنسان لا تندمل‚ وهي التي تصنع الثورات‚ قصائد الماغوط ثورة مندلعة بلا توقّف‚ ولكنْ نسأل أين؟ سيكون من اللافت أنّ قصائد الماغوط التي طلعت باكراً كالدبابير من وكر سياسي‚ لم تؤثّر في السياسة‚ بل أثّرت في الكتابة‚‚‚ في روح الكتابة التي عاصرته والتي أتت من بعده‚‚‚ فهو الذي طلع من سجن المزّة عام 1955‚ وجاء الى بيروت‚ لم يعد للسجن المادي ثانية‚ ولكنه دخل في سجن آخر أصعب وأمرّ‚ هو سجن الحال العربي‚ وهو سجن رحب استطاع ان يهضم في الماغوط كل أعطابه‚ وأن يصغي بأذن صمّاء‚ لحشرجة روحه وهو يكتب (سأخون وطني)‚‚‚ بل لعلّ الماغوط دَخَل في سجن وجودي أكبر من السجن السياسي‚‚‚ دخل في العزلة المطلقة‚ أخلد للصمت‚ واللاأحد‚ وأدرك أنه‚ كسوداوي تعس‚ عاجز عن إدراك الفرح‚‚‚ رجل ظلمات هو ومصلوب بلا أم تبكي عليه‚‚‚ ويعيش في البرد والوحل وبين المقابر‚ متشرّد في الروح والقدمين‚‚‚ محمد الماغوط رامبو على أنتونان آرتو‚ عربي‚ شريد طويل على امتداد الأنهار العربيّة‚ وصراخٌ في جميع الدهاليز والأقبية السوداء والسجون‚ دمغة أبدية في قاع الهزائم وصرخة (وامعتصماه) على امتداد التاريخ العربي بلا ضفاف لها‚‚‚ بلا أمل‚ أفرك يديّ أحياناً وأقول هو موجود‚ وُجد من يعرّي الجيفة ويكشف الستار عن القبور المغلّفة بالديباج‚ وأشبّهه أحياناً بتماثيل سامي محمّد: بأيدٍ تتمزّق وهي تفتح أبواب السجون‚ أو ترفع صخوراً فوقها صخور‚‚‚ وربما ظهر لي أحياناً متجسداً في الصرخة لمونخ‚ على صورة رجل خائف ضعيف بفم مفتوح على مصراعيه‚ جالس الى خطي حديد‚ يمرّ عليهما قطار جامح‚ نعم إنّ محمد الماغوط هو هو الصرخة‚ وتتبعتُ الصرخة من أوّلها‚ من أصلها‚ وسألت نفسي: ألهذا الحدّ‚ استطاعت قدم شرطي في سجن أن توقظ هذا المجد الهائل؟ الماغوط يعتقد انه بلا مجد ولا أوسمة‚‚‚ متسكع أبدي على الأرصفة‚‚‚ آخر الجالسين في المقاعد‚‚‚ حسناً هذا هو مجد اللامجد لدى الماغوط‚ وتبعته من أولى قصائده حتى مجاميعه حتى صمته وانطوائه في العدم المطلق‚ تبعته كما تبع هنري ميلر آرتور رمبو‚ خطوة خطوة‚ شممت رائحة حريق الكلمات فتبعتها‚ كان ذلك في صيف وخريف 1958 في مجلة (شعر)‚‚‚ يتدمّر الماغوط ويدمّر الشعر وخزاً بالذنب أمام لبنان الذي يحترق:
سئمتك أيها الشعر/
أيها الجيفة الخالدة/
لبنان يحترق/
يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء/
وأنا أبحث عن فتاة سمينة أحتكّ بها في حافلة/
عن رجل بدويّ الملامح أصرعه في مكانٍ ما
‚‚‚‚ عندما أفكّر‚‚‚ ببلادٍ خرساء/
تأكل وتضاجع من أذنيها/
أستطيع أن أضحك حتى يسيل الدم من شفتيّ‚‚‚ أيها العرب/
يا جبالاً من الطحين واللذّة/
يا حقول الرصاص الأعمى/
تريدون قصيدة عن فلسطين/
عن القمح والدماء‚‚؟

وكان ذلك في ربيع 1959 في (الرجل الميت) حيث يكتمل تشرّد المتشرّد بأدواته:

(أيها الجسور المحطمة في قلبي/
أيتها الوحول الصافية كعيون الأطفال/
كنا ثلاثة نخترق المدينة كالسرطان/
نجلس بين الحقول/
ونسعل أمام البواخر/
لا وطن لنا ولا أجراس‚‚‚‚

وكان ذلك في شتاء 1960‚ في (سماء الحبر الجرداء (حيث يخبّ الماغوط كحصان تحت المطر‚ وثلاثة رماحٍ في قلبه‚ وتبعته في غيبته وعودته وتقلّب أحواله‚ نادراً ما كان يظهر لي الماغوط كقمر مكتمل في سماء زرقاء‚ لم يكن مكتملاً ولا واضحاً‚ كان دائماً معصوب الجبين ملطّخ الوجه بغيوم داكنة‚ يغيب ويعود‚ ولكنه دائماً يزفر‚ يئن كحصان مريض‚ وحين افتقدته في خريف 1968 في مجلّة (شعر)‚ وجدت ألن غنسبرغ‚ ينفث في وجه أميركا كلماته ويقول:
أميركا/
أعطيتك كل شيء/
والآن أنا لا شيء/
أميركا/
دولاران وسبعة وعشرون سنتاً يناير 1956/‚‚‚
أميركا: اذهبي فضاجعي نفسك بقنبلتِكِ الذريّة‚‚‚
أميركا: لماذا مكتباتك مملوءة بالدمع‚‚‚/
أميركا إنني قصير النظر ومختلّ عقلياً على أية حال.

عن جريدة ( الحياة ) اللندنية

*****

حوار

محمد الماغوط
شاعر يتألم كالماء حول السفينة

حوار أجراه : أكرم قطريب
وشاكر الأنباري
وعادل محمود

صدرت أعمال الماغوط عن "دار المدى" في دمشق، من دون أن تلقى اهتماماً عميقاً، واسعاً في الصحافة الثقافية، تمجيد قراءة شاعر يتمتع بخاصيته اللغوية. منذ ذلك الحين، يحاول كثرة من أصدقائنا الشعراء والصحافيين "أسر" هذا النسر البدوي. فبعد مقابلة صحافية في الأمس القريب، استطاع زميلنا محمد علي الأتاسي أن يسرق "من الماغوط جولة هي عبارة على أسئلة، بل خلاصة أكثر من ( 11 9 العثمعي) الشعراء، دمشق، بيروت، السجون، الحرية وهلم جرآ. وكان زهونا الشعري.

أكرم قطريب وشاكر الأنباري وعادل محمود (!كون خيه) أكثر منها قراءة نقدية لشعرية الماغوط وتجربته، مضافة الى صور نادرة أمدنا بها الصديق محي الدين نصرة، فضلا عن نحاول أن نكون ملفا، بقدر ما نذكر أنفسنا، أصدقاءنا، قراءنا بشاعر يدمن الجوع، الأوجاع، يتألم كالماء حول السفينة.

"ملحق النهار"

أنا لا أكره أحدا، لا أحب أحداً لم أكره، لم أحب في حياتي سوى الشعراء.
ليس هناك في الكراهية أنواع، كما ليس في الشر أنواع. ليس هناك أسهل من الاحتيال على. عندما ا يبكي أحدهم أمامي، أصدقه فورا... أنا لا أجدد في صداقاتي او في عداواتي. الأعداء يأتون بأنفسهم، بشكل عفوي. أصدقائي منذ أيام السجن لا يزالون أصدقائي. اشعر بحنين الى أصدقائي القدامى في بيروت. أنا لا أكره أدونيس. ان أدونيس مجلة "شعر" ليس أدونيس اليوم.، ( رغم ان أدونيس هو من قدمني لمجلة

"شعر"، لكنه لم يكن يدرك من يقدم. أدونيس يريد من حوله مريدين لا أندادا. خالدة سعيد كانت أهم امرأة في سوريا، في النضال، في الكتابة، لكنه غطى عليها. كانت يجب أن تكون أهم من ناقدة: روائية او مسرحية أنا أحب أنسي، لا أفصل في علاقتي مع الشعراء بين الإنسان و شعره. أنسي قريب من الذي يكتبه، وهو يشبه شعره. لم أره مند سنوات. زمن بعيد. مشتاق إليه. أجمل مقابلة لي، أجراها أنسي، نشرها في "الملحق". كنا في دمشق برفقة فيروز، تمشينا في الطريق، لم يسجل شيء!، كتبها من ذاكرته. لم أعد للعيش في بيروت بعد إلغاء أمر إبعادي عنها في بداية السبعينات، بقيت في الشام. هنا أشعر نفسي أقوى، لأنني أكتب، أنتقد من داخل بلدي أحن الى الشام التي عرفتها، لا الى شام السلطة. كتبت مرة: كل ما أريده من مدينتي الحديثة، هو أرصفتها القديمة. أغلق مقهى أبوشفيق في مدخل دمشق. لم تعد قدماي تسمحان لي بالمشي الطويل. أحن آ الى المشي كما أحن الى مقهى أبو شفيق. ثلاثون سنة من عمري، أنا أمشي كل صباح الى هذا المقهى، أكتب فيه. الشام تحب دائما الغريب.

نعم أشعر بنفسي غريباً في الشام. الشام لا تحب أحدا. كتبت عن المرة: المدينة التي أعطيتها صدري أربعين عاما، لا أجرؤ أن أعطيها ظهري ثانية واحدة. حتى في السلمية أشعر بنفسي غريبا، فالناس تبدلت أكثر من تبدل الأمكنة. كل القضايا الكبرى انتصرت عليها، وهزمتني القضايا الصغرى كتسديد فاتورة الكهرباء. علاقتي بالشام قضية كبرى.، أنا أثبت وجودي. الشام مثل البنت التي أحببتها في صغري ورأيتها بعد خمسين عاما. أصبحت مرعبة. فجري كان في لبنان، غروبي في دمشق.

أحن كثيرا الى بيروت الخمسينات، بيروت- صور السياسيين في كل مكان، ليست بيروت التي أعرفها. بيروت السابقة لن تعود قطعا. دورها انتهى، لأنه كان مؤثرا على إسرائيل وهذا ممنوع.

رجلاي تؤلمانني جدا، لم اعد قادرا على المشي. وأنا أحب بيروت لأمشي في شوارعها لا لأركب التاكسي. ا حدود بيروت التي أعرفها هي شارع الحمراء شارع بلس والروشة. مركز المدينة الحالي: أنا أكره المال ورأس المال. في الحمراء كان هناك مقهى واحد على الزاوية أسمه النغرسكو، نجلس فيه أنا، ليلى بعلبكي، و دائما كان هناك عتمة. شارع الحمراء كان بالنسبة لي أجمل من الشانزليزيه، لكنه الآن صار مثل شارع الشانزليزيه: كله عرب. كانت أجمل السهرات في بيروت تلك السهرة التي جمعتنا بفيروز، الرحابنة ويوسف الخال، نازك الملائكة، وكان يومها، أنا صديق للرحابنة وفيروز. في بداية الستينات أجبرت على مغادرة بيروت، وبقيت عشر سنين مبعدا. كانت فترة مرة في حياتي، لليوم أرى بيروت في منامي. أحلم أنني دائما بعيد عن مكان إقامتي. لكن لا اعرف ما هو مكان إقامتي: بيروت... الشام. أرى أحياء وأرى نفسي بعيدا عن بيتي، ضائعا، أحاول أن أصل إليه، لا أستطيع. بعيد. بضائع ومستنقعات وأنهر وسلالم وقطط وكلاب وشرطة، وأنا حفيان. دائما حفيان. بيروت لم تنتزع الشام من قلبي. ان جيلي غير جيلك، أنت من جيل الشعارات، صعب عليك أن تفهم. أكره جو الأدباء، المثقفين،، أكره جلساتهم ، نقاشاتهم،، أحاول دائما أن أبقى بعيدا عنهم. أيام مجلة "شعر" كنت أكثر الموجودين صمتا، لم أوقع في عمري، لن أوقع أي بيان، او عريضة. عندي رأي أكتبه باسمي الصريح.

غالبا ما يكون موقعو هذه البيانات، ثلاثة أرباعهم ملغومون، الربع الباقي مرشح في مرحلة الاختبار. في داخلي رقيب ذاتي، لكن أصبح عندي حرفة وأستطيع ان أتحايل عليه. الجمال يقتل الرقيب. أنت قوي، لا أستطيع عليك، أحاول كرسام الكاريكاتور أن أجد لك عقب أخيل. صحيح ان مسرحياتي أضحكت السلطة، لكن هذا لا يعني شيءاً ما دام المعيار هو شعبيتها لدى الناس كافة. حتى الجلاد عندما يجلد، يرتاع قليلا، يقرفص، يدخن سيكارة. حاولت ان اعمل بعد ذلك في المسرح مع الجيل الجديد، لكنهم سرقوني، سرقوا ثيابي، سرقوا الغلة. مستحيل ان اكتب زاوية دون ذكر الحرية او السجون. إما لماذا لا أذكر أسماء السجون والسجناء، فلأنه ممنوع ان تذكر. يجب ان تعمم، هذه خبرة. أنا أحيانا لا أجرؤ على ذكر اسم الشام. أنا مسكون بالذعر، أي شيء يخيفني. الصديق يخيفني، الجار يخيفني، فاتورة الكهرباء تخيفني. أين سأذهب، كيف سأدفعها. أنا محمد الماغوط أينما كنت، في الشام، في بيروت، في الحمراء، في أبو رمانة، في الشانزليزيه، في السجن، في المرحاض. أنا أنا محمد الماغوط. أنا الوحيد الذي لم يتغير، لا يتقولب. كبرت وصرت على أبواب السبعين: مرض، غم، حياة، وأنا أنا.
إذا كان هناك بعض الناس التي لا تزال تكن لي الاحترام، فلأنني لم أبدل من موقف الى آخر، من اليمين الى اليسار، من الشرق الى الغرب. نعم تكفلت الدولة علاجي عندما مرضت. لم اشعر بالحرج، أحسست أنه لا يزال هناك خير في البلد. أنا اسم أدبي، هم يهتمون بالأسماء الأدبية. أنا لا أباع ولا أشترى، منذ الخمسينات الجميع يعرف ذلك بدءا من اصفر ضابط مخابرات. أنا أتنازل عن مليون شيء، لكن لا أتنازل عن قلمي. لا مال، لا سلطة، لا امرأة تعوضني عن الكلمة. كلما تقدم الانسان في العمر تصير المسؤولية اكبر في الحفاظ على المكانة التي وصل اليها. الصعود صعب، لكن السقوط، لا أسهل، خير مثال هو دريد لحام.
عندي حنين الى فكرة القومية السورية، هي أصفى فكرة على الإطلاق، من اجل ذلك قتلوا أنطون سعادة هذا القتل المبكر. الانتماءات لا تشغلني،، ما في بطاقتي لا يعني
بالنسبة لي شيئآ، على عكس ما في دفاتري. لست فخورا بكوني عربيا، ولا حتى بكوني سوريا. أنا لست لمنطقة، سخرت من البترول مليون مرة. اليوم هو زمنهم، مرحلتهم. إنهم يمسكون الوطن العربي من رقبته، من معدته، يمنعون عنه الحراك. إننا نعيش في مرحلة انحطاط، الآن هو العصر الذهبي لما سيأتي بعد. كتاباتي في "الوسط" مزحة سوداء، قاتمة بشكل مرعب، سخريتي تقطر مرارة. أنا في طبعي لست سياسيا، عندي هموم اكبر من السياسة. عرضوا علي العمل في "الوسط" قلت لهم سأكتب. لو لم يكن عندي شيء لأقوله ما كنت كتبت. أنا لا أكتب من اجل الفلوس. كنت أريد أن أضع عنوانا لكتابي الجديد: "شرق عدن، غرب الله"، لكن الصحف رفضت نشر العنوان، فوضعت عنوان "سياف الزهور". كلما سافرت الى اوروبا، اذهب وأنا عم أشتم، أعود، أنا عم أشتم. لا أطيق أن أبقى هناك، فالتدخين ممنوع في كل مكان، في الطائرة، في المقهى، في الفراش. في سجن المزة كنت أدخن بسهولة، حرية اكبر من اوروبا. أكره أميركا بشدة. في حرب البلقان وقفت الى جانب يوغوسلافيا،، صادف وجودي في فيينا خلال تلك الفترة ورأيت مظاهرات بالأحمر و بالأزرق،، بالاخضر في كل مكان. أردت أن أتظاهر ضد أميركا، رفعت عكازي ملوحا، دخلت إحدى المظاهرات، فاستوقفني بعض الأصدقاء، قالوا لي: وين رايح، هذه مظاهرة تأييد لأميركا.
لا أخرج في مظاهرات في بلدي، لان كل شيئ هنا مرتب. أنا أكره الترتيب، حتى الرجل الأنيق أكرهه. وطني هو دفتري، وأنا أتظاهر في دفتري فقط. إذا صار في بلادنا مظاهرات غير مرتبة، يومها

سنحن لتلك المرتبة. الناس فارغة،، ليس هناك من شيء. الرأسمال يحرك العالم. أنه زمن أميركا، زمن قضي فيه على كل شيء جميل. زرت روسيا، أحببت شعبها. شعب سوداوي يحب الشرب. لكن أين هو ذلك الزمن الذي كنت تجد فيه في كل أنحاء روسيا عند الساعة السادسة صباحا الخبز والبيض والحليب؟ أين طغاة ذلك الزمن، أين ستالين من طغاة اليوم، ب!دلتهم؟ ا
الذي فتحني على الحياة وصنع مني شاعرا هو سجن المزة. عندما دخلته أحسست ان شيئا في أعماقي تحطم، الى اليوم لا أزال أحاول أن أرممه. كنت أريد الدراسة في الكلية الزراعية، لكن بعد السجن أدركت ان اتجاه حياتي تغير. أمضيت فيه 9 شهور في العام 1955. 3 شهور في العام 1961. أنا وأدونيس دشن فينا عصر الإرهاب كنا في زنزانتين منفصلتين، كنت أراه من بعيد. ألفت بعض المسرحيات في السجن، مثلتها بمشاركة بعض المسجونين. لم أكن قابضا الحزب القومي السوري، ولم أصمد من اجله، ولكن لان طبعي عنيد. كنت أول من يبكي ويصرخ أثناء التحقيق. أنا إنسان مذعور لا أخاف السجن فقط، ولكن أشمئز منه وأحتقره.

أريد أن ألغي المسافة بين هذه التصنيفات: النثر، الشعر، المقالة. كلها عندي نصوص. إذا قلت عني لست بشاعر، لن أزعل، لن تهتز بي شعرة. الموسيقى في أشعاري موجودة ضمن النص. علاقة الكلمات بعضها ببعض في النص مثل علاقة الأخ بأخته، هما نائمان على فراشى واحد، أي حركة منه او منها لها تفسير. علاقة الكلمات بعضها ببعض كالحب الحرام، في القصيدة يجب أن لا يكون هناك أي إشارة خاطئة من هذا النوع.، هذه هي الموسيقى. كل كلمة في اللغة العربية هي كلمة شعرية، حتى الجيفة، حتى البراز، المهم ان تعرف كيف تضعها في النص. المهم ان أكون صادقا، أن يكون ما أكتبه جميلا. كل قطعة أكتبها، أبيضها عشرات المرات قبل النشر مدققا في كل حرف. أحيانا أبقى يومين اسأل نفسي أيهما أفضل وأقوى وأصح في هذه الجملة.
أحب واو العطف، لكني أحب كاف التشبيه أكثر، خصوصا في المقالة. منذ أيام بيروت جعلت من صور كاف التشبيه مرآوية على عكس المتعارف عليه: كامرأتين دافئتين كليلة طويلة على صدر أنثى أنت ياوطني. عدم معرفتي باللغات الأجنبية أراحني من الثقافة.
تعرفت على سنية لأول مرة عند أدونيس، خالدة في بيروت. هي الحب الوحيد. نقيض الارهاب، نقيض الكراهية. عاشت معي الفترة الصعبة.، أحملها في داخلي دائما. عاطفتي شموس، هي ليست مطواعة. كل ما أكتبه فيه شييء من السلمية، فيه شييء من الشام، فيه شييء من بيروت، فيه شييء من سنية. سنية أكبر من مدينة، إنها كون. بعد موتها صار حبها يشبه حب السلمية، ثمرة عشر سنين، لا تراها لكنك تظل تتذكرها. يستحيل أن يمضي يوم دون أن أذكر السلمية أو أذكر بيروت.
سنية شاعرة كبيرة لم تأخذ حقها. أنا أذيتها، اسمي طغى عليها، وهذا الذي لا يزال يؤلمني جدا. بعد موتها قررت أن لا أتزوج ثانية. فهى قدمت لي أجمل ابنتين في العالم: شام وسلافة. أن الحب لم يكن ابدآ مشكلة بالنسبة لي، الحرية هي هاجسي الأوحد. كل النساء من بعدها نجوم تمر وتنطفىء، هي وحدها السماء. كانت حياتنا جميلة، لكننا كنا دائما على خلاف. لم نتفق مرة على رأي. نسهر الى الصباح، نبقى مختلفين. جلست بقربها، هي على فراش الموت أقتلى قدميها المثقوبتين من كثرة الابر، فقالت لي عبارة لن أنساها: أنت أنبل إنسان في العالم. لا أحب الغيبيات. تسألني إذا كنت سأراها بعد الموت، كيف هذا وأنا في حياتنا المشتركة لم أكن أراها كما يجب.

لم أزر قبرها في مقبرة "الست زينب" إلا مرة واحدة. خالدة سعيد قالت للبنات عندما سألوها لماذا لا نذهب لزيارة قبر ماما: ماما فيكم، أنتم لجه ماما. أنا عاطفي جدا. كلمة، احدة في حوار، أغنية جميله قد تبكيني. لكن عشرين جنازة لا تحرك في شيئآ. أشعر أن جسدي في غروب. أكره الشيخوخة، أكره جسدي. إنه حقير، تافه. عندي الكثير لأعطيه لكن جسدي لا يلبيني، أما العقل فصاف. لم يعد هناك من علاقة حميمية بين جسدي و عقلي. لم أراع جسدي، كل ما يمكن أن يمارسه الشاب شط من سكر، جنس، عربدة مارسته باكرا، بغزارة، ها هو جسدي ينتقم مني رويدا رويدا. يدي التي أكتب بها القصائد، قد يمر شهران دون أن أتنبه لاستطالة أظافرها، أو لورم فيها. الويسكي كالشاعر، لا هوية له ولا وطن. زجاجة الويسكي حبيبتي. أدخن منذ كان عمري سبع سنوات. كنت أدخن في البداية أعقاب السكائر الملقاة على الطرق. السيكارة قاتلة بالنسبة لي بسبب مرض نقص التروية، لكنني لا أستطيع مفارقتها. استيقظ في الليل من اجل أن أدخن سيكارة.
أتعاطف مع الشيعة لان عندهم اجتهادا في الدين. أحب الله، أخاف منه، لكنني لا أحب أن أتكلم في الغيبيات. أخاف الموت أحيانا، أو بالأحرى أخاف ما يسبق الموت... المرض، أن لا أستطيع!المشي او الجلوس. لم اذهب الى السلمية منذ 13 عاما. قد أعود إذا مرضت كثيرا، تعبت. مكان الدفن، شكليات الموت لا تعني لى شيئآ، كذلك هي شكليات الحياة. كتبت على قبر سنية "هنا ترقد الشاعرة سنية صالح آخر طفلة في العالم"، لأميز قبرها عن الآخرين. وكيف سنميز قبرك، شاعرنا الكبير، ! محمد الماغوط؟
شخوا عليه.@

*****

حوار

محمد الماغوط : الالفه اكبر من الصداقة والحب

حاورته في دمشق : عبلة الرويني

* ماذا تشرب في الصباح؟

الماغوط: أحب ان أشرب. لكن عندما مررت بتجربة الإدمان ووصلت الى حافة الموت كان لابد لي أن آكل، وان أضع الأكل في (البراد).

* من يصنع لك الطعام؟

الماغوط: آكل عندما يأتي الأصدقاء بالطعام

* تعاني الوحدة؟

الماغوط: ابدأ. أذهب إليها.. كم تمنيت ان لا يعرفني احد، وان لا اعرف احدا. لكن بعد زواج بناتي ومرضي صرت أخشي.. لا أخشي الموت ولكن أخاف مقدماته. العجز والمرض

* ومن أين تعيش حياتك؟

الماغوط: من راتبي بمديرية الثقافة وكتاباتي في(الوسط)

(مد يده ممسكا بالعدد الأخير من مجلة "الوسط")، وراح يقرأ بصوت مرتفع مقاله الاخير فيها..

أفتح جهاز التسجيل فينتفض مرة أخرى..

أقول: لماذا تفعل ذلك. أريد فقط ان احتفظ بصوتك يهدأ قليلا من حيث أعجبه التقدير
الذي يستحقه.

* يعجبك صوتك؟

الماغوط: أنا بدوي، جبلي أغني في اوركسترا الصحراء ويعجبني صوتي.

* ونحن ايضا.

* كيف تقرأ الآن؟

الماغوط: الآن لا اقرأ.. أوعلى الأقل اقرأ بصعوبة. أمامي كتاب منذ اكثر من 10 أيام، أفتحه كل يوم ولا اقرأ شيئا.

في فترة من الفترات قرأت كثيرا، خصوصا في السجن، كان زكريا وسنيه (يقصد زكريا
تامر وسنيه صالح) .. كانوا دائما يأتون إليٌ بكتب كثيرة. قرأت في احدى الحبسات 25 ألف صفحة ...الآن لا اقرأ لأني كسول وملول.

* أيضا لا تقرأ شعرك في الندوات العامة؟

: طوال عمري لا اقرأ شعري في ندوات أو أمسيات عامة. يمكن حدث هذا مرة أو مرتين على الاكثر.. ويحدث بسرعة شديدة لأني أريد ان أخلص وأنتهي.

* ضيق حتى في شعرك؟

: ليس لدي خلق لأبحث عن (قافيه (و (بيت). يمكن كتبت قصيدتي من باب ضيق
الخلق.. لأني ضقت) بالوزن)) والعمود) (والقافية).

* مزاجك سوداوي؟

دائما.. أنا صاحب مزاج سوداوي لأني من مدينة هدمت 100 مرة..

)السلمية) معقل القرامطة حتى المتنبي.

* أظن ان تجربة السجن أيضا تركت بصماتها بوضوح؟

: فكرة السجن أكثر من مرعبة...

اتحدي أي إنسان، يدخل السجن ولو يوما واحدا. وينساه نحن جيل دشا فينا الإرهاب
السياسي.

* كم مرة سجنت؟

كثيرا.. في المرة الأولي أيام مقتل عدنان المالكي واتهام القوميين السوريين
.
* تكوينك يتناقض وفكرة الانضمام للأحزاب. فكيف كانت تجربتك الحزبية؟

: تجربة مضحكة.. كان عمري 13 عاما.. وبرد ومطر في (السلمية(، قالوا ان هناك أحزابا جديدة قادمة الى البلدة.. سألت ما هي المواصفات؟ قالوا حزب (البعث) بعيد عن بيتنا وليس لديه صوبا (مدفأة ) بينما الحزب القومي السوري كان قريبا ويمتلك (صوبا).

* بسبب صوبا

: هذا ما حدث

* تكتب بشجاعة.. تشعر ان اسمك يحميك؟

: أبدا تلك طبيعتي. فأنا لا أعرف الكذب ولا أخشى شيئا. ثم ان عندي نوعا من الخيال وخبرة 50 عاما تجعلني اكتب ما أريد.

* تعرف لمن تكتب.. أقصد تعرف جمهورك؟

: عندما اكتب الغي ذاكرتي نهائيا.. مش مشغول بيمين أو شمال. لكن غالبية جمهوري من الطلاب والموظفين والطبقة الكادحة.

)علق ممدوح عدوان ضاحكا يعني شيوعي مش قومي سوري).

* كيف تعرفت علي نفسك شاعرا؟

: لم أتعرف لكن من استمع الى شعري قال: لابد ان ينشر.. نشرت واناعم يورطوني بقولهم شاعر..

أول من التفت الى شعري كان نزار قباني وزكريا تامر وسعيد الجزائري في مجلة (النقاد).

* بالخمسينات؟

نعم.. كنت مجندا ولابس ) شورت( عندما رأيت نزار قباني أول مرة.. قال لي: 'اللي بتعملوه شيء حلو'

* هذا أسعدك؟

: جدا.. لكن أكثر من أثر في كان) سليمان عواد( شاعر مات بالسبعينات.

* وزكريا تامر.. هناك ارتباط عميق بينكما..

قاطعني: بدأنا بالخمسينات 56، 57 أيام كان المعلمون في الساحة الثقافية علي الجندي، وشوقي بغدادي وسعيد حورانيه. لكنهم كانوا جميعا محشوين بالايدولوجيا.
واحد منهم قال لي: (من هذا الفلاح القادم من أعماق الريف ليعطيني دروسا في الشعر (.. وكان التعليق مليئا بالسخرية وليس بالاعتراف.

* **

علي غلاف الصفحة الأخيرة من رواية زكريا تامر (النمور في اليوم العاشر ( الصادرة 1978 كتب محمد الماغوط:

(بدأ زكريا تامر حدادا شرسا في معمل وعندما انطلق من حي (البحصه) في دمشق بلفافته وسعاله المعهودين ليصبح كاتبا، لم يتخل عن مهنته الأصلية، بل بقي حدادا وشرسا ولكن في وطن من الفخار.. لم يترك فيه شيئا قائما إلا وحطمه، ولم يقف في وجهه شيئ سوي القبور والسجون لأنها بحماية جيده.
عندما يأتي القارئ الى نهاية هذا الكتاب العجيب يشعر انه محاصر كالقلم في مبراة، وانه عار من كل شيء في أقسي صقيع عرفه القدر ولا يملك شيئا سوي راحتيه يستر بها وسطه وهو في وقفته الطله والمخجلة تلك على رصيف المئة مليون أو أشيه، لا ينقصه إلا إطار في قاعة محاضرات وبحاثه في علم بقاء الأنواع يشير إليه بطرف عصاه أمام طلابه ويقول: قد كنا ندرس يا أولادي من قبل كيف يتطور المخلوق البشري في مناطق كثيرة الى إنسان، وألان سندس كيف يتطور المخلوق البشري في هذه المنطقة من إنسان الى قرد ، وأهله وحكامه يتفرجون عليه من النافذة وهم يضحكون(

* منذ البداية ماذا كان مشروعك.. بماذا كنت تحلم؟

: لم يكن لدي مشروع ثقافي. لم يكن لدي نظرية ولا حلم أريد تحقيقه.. لم احلم يوما ان أكون مثل شوقي أو حافظ إبراهيم..

أنا فقط أخربط. ولا أسمي ما اكتبه

* البعض رأي أن قصيدة النثر ذات مرجعيه غربية فرنسية تحديدا.. بينما البعض الآخر
يبحث عن امتداداتها في التراث..؟

: لا تسأليني نظريات

لا أريد أسئلة وإجابات. انا لست مثقفا وشهاداتي متوسطة زراعية.. ولا أعرف لغات وبهذا اعتبر ان الله رحمني من كل هذا العبء.

* **

في مقدمة الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط كتبت سنيه صالح:

'أن موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي، وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر'

* **

* في مقدمة ديوان (لن) كتب أنسي الحاج بيانه النظري لقصيدة النثر..أين كان بيانك ؟

: انسي كان واضحا في مشروعه

أنا كل ما كان يشغلني دائما هو (البراد( والأكل.. بينما كل من حولي يتكلمون عن(ازرا باوند) (والشعر) (والنظرية)..
التنظير عمره ما كان يهمني ولا الكلام.
أنسي أيضا كان قليل الكلام في اجتماعات (مجلة شعر) كنا أكثر الناس صمتا.. كنا تلاميذ أمام الأساتذة الكبار يوسف الخال وأدونيس.

* ولا يزالون أساتذة؟

: لا

لكن يوسف الخال مختلف عن أدونيس . إنسان، غني داخليا. فكر وعلم وثقافة مرة كنت اعلمه 'التسكع' وهو الأرستقراطي 'اللورد' قلت له حل عن السيارة، إذا كنت شاعرا فلابد ان تتسكع.
قرأ لي قصيدة في بيروت فطلب من أدونيس ان يتعرف عليٌ أو طلب مني قصيدة..
قلت له: بكره وكتبت له في نفس الليلة) الحزن في ضوء القمر(.

* يا سلام!

: أعطاني 75 ليره وقال لي لا تفعل أي شيء إلا الشعر..

وكتب عني:

(كلنا كنا نحلم بالشعر لكن الوحيد الذي جاء إلينا كآلهة اليونان هو الماغوط(

* لديك حساسية مفرطة في استخدام اللغة..

بالفعل عندي حساسية بتجاور الالفاظ جنبا الى جنب في إيقاع معين. في ذاكرتي جرس ( يرن) لو كان هناك خطأ لكن طوال عمري مشكلتي ليس فيما أريد ان اكتبه ولكن في كيف اكتبه.

* الصورة هي العنصر الأقوي بقصيدتك؟

: لان) المكسح) قوته في يديه والأعمي قوته في سمعه. كانت قوتي هي الصورة
. لأني لست مثقفا.

لجأت الى (الصورة) الى الشيء البصري وليس إلي الشيء الفكري لاني أفتقد الثقافة..
يمكن لو درست وتثقفت كنت اكتب مثل أدونيس.

* تعجبك قصيدة أدونيس؟

: لا أحب القصيدة الفكرية. لو عندي فكرة اكتبها في مقال.
أدونيس يكتب أفكارا، كل شعره فكر. وهو منذ البداية يعرف الى أين يذهب وكيف يسير.. منظم، مرتب.
شعره القديم أحبه لأنه كان فيه معاناة إما شعره الحالي فلا افهمه
تدخل ممدوح عدوان ليسأله: أدونيس يراك رومانسيا.
شو ما أحلاها!!

* شباب الشعراء حتى المستندين فيهم على قصيدتك يرونك الآن تقليديا..
حداثتك شكلية بينما بنية القصيدة، اللغة، الموسيقىى، العاطفة، الصورة.. جميعها تنتمي الى القصيدة التقليدية.. هذا رأي البعض منهم؟!

: هذا لا يغضبني

وأنا لا أريد إغضابك.. فقط دفعك للكلام ؟

وأنا لا أريد أسئلة !

* عندما تظهر أجيال جديدة من الشعراء هل تشعر بالزمن؟

: الزمن لا أفكر فيه على الإطلاق إلا بعد زواج بناتي ومرضي

* اقصد علي المستوى الثقافي؟

يجوز ان هناك شعراء جددا. لكني لا اعرفهم لأني لم أعد أقرأ.

* تضيق لو سألناك عن سنيه صالح؟

: لا لكني لا اعرف ان أتكلم عمن أحبهم. يمكن من اكرههم أستطيع.
أحيانا أرى نفسي بري. لكن الشخص إذا كان (جباناً ( ربما استوعبه، وإذا كان (كاذبا) أو (لئيما) أو (بخيلا) ايضا استوعبه واحتمله لكن إذا لم أعد احترمه لا أتعامل معه على الإطلاق.

* في حياتكما هل كنتما متفقين؟

: في حياتي لم اتفق معها علn رأي أبدا.. لكن هناك نوع من الالفه اكبر من الصداقة والحب.
نحن من عالمين مختلفين تماما.. عالمها رومانسي حالم روحاني، صوفي، صادق.بينما كل شيء عندي الوحل والأرصفة والشوارع والبول والسواد والقسوة.
كان سعيد عقل يغضب من رائحة البول في القصيدة قلت له: حتى البول والبراز كلمة شاعرية لكن المهم كيف تستخدمها قال: معك حق.

* كيف تعرفت بسنيه؟

في بيت أدونيس في بيروت..

كنت أتناول (الغداء) عند خالدة سعيد (أخت سنيه) وكنت ناشر قصيدة جديدة أعجبت سنيه التي كانت تراني للمرة الأولي.

* كان ذلك بالستينات؟

: نعم وكنت أشتغل
(بالرأي العام) بعد ذلك أرسلت خالدة أختها سنية حتى أقدم أوراقها الى الجامعة بدمشق وتوسطت غادة السمان حيث كان يعمل أبوها بالجامعة.. وسارت العلاقة وتزوجنا.

* شعريا كيف تراها؟

قوة مهوله..
لو قرأت ديوانها (ذكر الورد) نجد شاعرة كبيرة.. بل هي اكبر شاعرة عربية . لا نازك ولا غادة السمان ولا أي واحدة علي الإطلاق.

* ولماذا لم تحقق شهرة؟
أقصد لم يتم تقييمها نقديا بما يليق بمكانتها؟

: يمكن اسمي طغي عليها!

كان رأيها جوهريا.. فإذا كتبت شيئا وترددت أمامه ولو لحظة. كنت أمزقه أو أعيد كتابته من جديد. أيضا كانت الوحيدة التي كان أدونيس يخشى رأيها.

* أخرى تحبها. سعاد حسني..

التي فجرت يوما لك أزمة عندما نشر ت إحدى الصحف على لسانك أنه لا يوجد في مصر سوى سعاد حسني
كنت أتكلم تحديدا عن السينما.. لكن الجرائد تفعل ما تريد

* تعاني الآن هي ايضا من الاكتئاب. وحيدة في لندن؟

شيء مؤسف.. هي التي منحتنا كل الفرح
كنا في القاهرة أيام فيلم (التقرير( دعانا يوسف إدريس فجاءت جلستي الى جوار سعاد حسني. يومها قال لي حسين فهمي أني أحسدك لقد مثلت معها أجمل الأفلام ورغم ذلك لم تجلس بجانبي.

بعدها كنت معزوما عند شريهان ورأيت سعاد في نفس اليوم ودعتني الى سهرة فاعتذرت لارتباطي بالموعد السابق قال لي صديق: حد في الدنيا تدعوه سعاد حسني ويروح لشرهان.

* فعلا عنده حق

* **

في الثامنة صباحاً رحت أفتش عن الماغوط في مقهى الشام بوسط المدينة أعتاد منذ زمان ان يتناول قهوته ويقرأ جرائد الصباح كل يوم من الثامنة الى التاسعة قبل ان يبدأ رواد المقهى (خاصة المثقفين منهم) في الحضور وإزعاجه.

* صباح الخير يا أستاذ محمد

استيقظت مبكرا لأبدأ صباحي بك.
صباح الخير. اجلسي
أرجو إلا يكون في كلامي أية اساءة الى سعاد حسني. لأني أحبها

* ومن الذي لا يحبها. اطمئن

* مبروك كتابك الجديد..

لكن لماذا غيرت عنوانه من) شرق عدن غرب الله) الى (سياف الزهور)؟

: أنا لم أغير شيئا لكن ماحدا كان يقدر ينشر العنوان الأول

* تقبل تدخل الرقيب في شعرك؟

: عنوان الكتاب ممكن. هذا حق الناشر لكن القصيدة لا.

.................
صدور كتاب الماغوط حدث مهيب.. ومن قبل كان صدور الأعمال الكاملة حدثا أكثر مهابة وإرهاقا.. يكتب ممدوح عدوان:
"ان صدور مجموعته الكاملة حدث مهيب، وإرهاق سادي إذ من سيطيق ان يغامر بقراءة عذابات الماغوط دفعة واحدة؟!
كم تستغرق منك قراءة. المجموعة الكاملة؟ يوما؟ شهرا؟ سنة؟ تصور انك ستتحمل في مدة قصيرة كهذه عذابات رجل كان يتألم عن أمه كاملة.. وقد ظلت روحه تئن تحت هذه العذابات طوال خمسين عاما حتى نخخت قلبه وجسده..
اقرأ دفعة واحدة ان رغبتي، ولكن احذر القرحة .. والرقابة'.

*********

الماغوط ملك الحزن والسخرية

تهامة الجندي
(دمشق)

«محمد الماغوط ملك الحزن والسخرية» هو عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور عدنان حافظ الجابر مؤخرا في المركز الثقافي العربي بدمشق، والمحاضر فلسطيني الأصل من مواليد الخليل عام 1952، قضى سنوات طويلة في سجون العدو الإسرائيلي قبل خروجه وانتقاله إلى بلغاريا حيث حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الفلسفية من جامعة صوفيا أوائل التسعينات، عمل في عدد من الصحف وله كتابان «ملحمة القيد والحرية» و«سوسيولوجيا الثورة الفلسطينية» وفي محاضرته هذه تناول تعبيرات الحزن والسخرية في نصوص الماغوط.
انطلق الدكتور عدنان من مقولة الكاتب تينس وليمز: أرني شخصا لم يعرف الحزن، وأنا أبرهن أنه ضحل وسطحي للتدليل على مدى الدفء الإنساني والحساسية العالية التي تتمتع بها نصوص الماغوط التي تفيض بأحزانها كقوله مثلا :بدون النظر / إلى ساعة الحائط /أو مفكرة الجيب / أعرف موعد صراخي، وذكر أن إحساس الماغوط المكثف بالحزن علمه السخرية وخلق لديه مناخات تراجيكوميدية استطاعت أن تمزج الدموع بالابتسام وهذه السمة تميز غالبية نتاجه الإبداعي الذي طاول كل الأجناس الأدبية، فمن يقف أمام الماغوط يقف أمام سخرية فجائعية بعد ذلك تناول المحاضر سمات أخرى متجزرة في نصوص الماغوط هي : التشرد، الغربة، الذعر والعزلة وإن كان قد غير الأخيرة من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض.
وأشار في معرض حديثه عن لغة الماغوط بأنها لغة حادة وفجة لا تبحث عن مسوغات لها، وكأن الكلام أصبح وسيلته الوحيدة لمواجهة هذا العالم كقوله في كتابه الأخير: أيها السوط المجرم، ماذا فعلت بأمتي.
واختتم المحاضر محاضرته بالتأكيد على أن هذا الشاعر الكبير الذي أحبه وآمن بشعره الكثيرون لم يأخذ حقه من النقد والاهتمام وكأن مقولته في حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ «ما من موهبة تمر بلا عقاب» تنطبق عليه أولا، وأشار إلى أنه عقاب التخلف الذي ينتج القمع والإهمال.

المصدر: البيان الثقافي الأحد
15 يوليو 2001 -العدد79

***

حوار

محمد الماغوط : ما يبقى في ذاكرتي هو عويل الريح ووحشة الريف

جريدة (الوطن)
(السعودية)

بدأ محمد الماغوط كتابة الشعر في الستينيات حيث أصدر في بيروت مجموعته الشعرية الأولى (حزن في ضوء القمر)، وفي عام 1964 جاءت مجموعته الثانية التي حملت عنوان (غرفة بملايين الجدران)، أما ديوانه الثالث (الفرح ليس مهنتي) فقد نشر عام 1970.‏ ومن مجموعاته الثلاثة تلك تم اختيار 29 قصيدة ترجمت الى اللغة النرويجية في التسعينيات وصدرت بكتاب حمل أيضا عنوان (الفرح ليس مهنتي) عن دار بانتاكرويل للنشر في العاصمة أوسلو بترجمة وليد الكبيسي ، وقدمها الناشر الكساندر الكرين بقوله: حدث ثقافي متميز تفخر الدار بتقديمه للمشهد الشعري النرويجي ، فالماغوط شاعر متميز ومدرسة تجديدية تحتضن إنسانية الانسان العربي وتعبر بواسطة الشعر عن صراع امة أهلكها الظلم الغربي وغياب العدل والماغوط شاعر في ذاته يستحق شعره ان يترجم بهذا المستوى الفاخر فهو يفرض نفسه ويسحر بصوره الجميلة.‏
وعلى الصعيد المسرحي كتب الماغوط العديد من المسرحيات الهامة: العصفور الأحدب - المهرج والمسرحيات التي قام بإخراجها وتأدية الدور الأساسي فيها الفنان دريد لحام وذلك في فترة السبعينيات والثمانينيات: ضيعة تشرين - غربة - كأسك ياوطن - شقائق النعمان وفي أوائل التسعينيات حصلت قطيعة بينه وبين دريد لحام.‏
وبعد غياب طويل عاد الى المسرح بخارج السرب التي أخرجها الفنان جهاد سعد.
في عام 1987اصدر كتابه (سأخون وطني.. هذيان في الرعب والحرية) عن دار الريس في لندن
على هامش حفل التكريم الذي أقيم للشاعر الكبير في مكتبة الأسد بدمشق التقيناه وكان هذا الحوار عن الذكريات والتأثيرات.. وعن الحزن العميق.. والألم الكبير.. لم نستطع ان نطرح كل ما في جعبتنا من أسئلة، ولكن ما تمكنا من الحصول عليه من إجابات جدير بأن يقرأ .

* يرى البعض في شعر محمد الماغوط تأثرا كبيرا بالتيارات العالمية المعاصرة ، وتحديدا المدرسة الرمزية الرومانسية التي كان يمثلها بودلير . ما قولك ؟

لا أستطيع وليس من حقي الاعتراف بأنني تأثرت بودلير أو أي شاعر أجنبي آخر ، ربما كنت في بداياتي قد أعجبت ببعض القصائد المترجمة أو ببعض المناهج الأدبية الغربية ولكن لم تكن هذه الأسماء تعني لي شيئا ، فضلا عن إنني كنت وما أزال لا أتقن أية لغة أجنبية ، والترجمات العربية كانت نادرة في ذلك الوقت ، وحتى لو كانت متوافرة فلم أكن املك النقود الكافية لشراء الكتب والإطلاع عليها ، كنت اقرأ واطلع بالصدفة ، وموقفي من هذا الشعر أو هذه النماذج كان كمن يكون في سوق المدينة ويرجع في ذاكرته الكثير من الأشياء التي رآها وهي غريبة عليه ، أصوات السيارات وأصوات الباعة .. الحوانيت، البضائع المنتشرة، ولكن عندما كنت أعود الى بيتي الريفي المتواضع لم يكن أمامي أو في ذاكرتي على الإطلاق سوى عويل الريح ووحشة الريف الممتد أمام ناظري، فلا ادري بالتالي من أين جاء هذا التأثر ببودلير أو غيره.

* في صوت الماغوط فرادة وخصوصية لها وقعها المتميز في حياتنا الثقافية ، فمن أين أتت هذه الفرادة برأيك ؟

بصراحة أنا اعجز عن تفسير أو تبرير هذه الآراء ، ولا أستطيع ان ارفض رأي هؤلاء النقاد أو ان أوافقه ولكني اعتقد أنني لست أكثرهم موهبة أو شاعرية ، كما يقول البعض ، ولكن قد أكون أكثرهم صدقا وشجاعة في قول ما أقول ، لقد كنت طوال حياتي اكتب لنفسي ولا اكتب لجمهور أو لقارئ أو لجريدة أو لناقد أو طلبا للشهرة ، وحتى الآن الكتابة بالنسبة لي عزاء شخصي وتعويض عن كل ما افتقده آبائي وأجدادي ، وما افتقدته أمتي على مر العصور .
وناحية أخرى قد لا يعرفها الكثيرون عني وهي خجلي وارتباكي أمام التحية والمصافحة، فكيف أمام النقاد والكتاب، هذا الشعور بالحيطة والخجل والارتباك هو صفة الشاعر المسحوق غير المعترف به، وفي البدايات جعلني هذا اتخذ نمطا معينا وسلوكا وحشيا من العالم، وربما هذا أو ذاك هو ما خلص اليه النقاد بالتفرد عند محمد الماغوط.

* هذا سيشدنا الى زاوية اخرى في شعرك بدأت معها والتصقت بك وهي الحزن ، فأول ديوان لك كان (الحزن في ضوء القمر) حتى انك لقبت بشاعر الذكريات الحزينة ، فمن أين يستمد هذا الحزن رصيده ؟

في الحقيقة لا اعرف كيف تجذر الحزن في شعري ، وكل ما اذكره أنني منذ كتبت أول جملة كان كل من يطلع عليها أو يراها يرى فيها بذور حزن عميق ، ولم أكن في الواقع اكتب من هذا المنطلق فالأدب الساخر لا ينبغي ان يكون حزينا أو جادا ، يجب ان يكون هازلا ، المهم أنني لا اعرف كما لا يمكن لأي إنسان ان يعرف متى بدأ الحزن عند البشرية ، ولكني أدرك تماما ان الحزن يولد مع الانسان العربي ، ويظلم علقا في عنقه ، كما يعلق القفص في عنق العصفور ، وعليه ان يغرد ويحلم ويطير ويقفز ، وهذا القفص في عنقه دائما ، بعضهم يملؤه زهورا .. وبعضهم الآخر يملؤه دموعا، وأنا من الفرع الذي يملأ هذا القفص بدموعه، ولا يمكن لأي بهرجة خارجية أو أي تيار أو أي تصرفات ثانوية ان تشغلني عن ان في عنقي قفصا. من صنعه ؟! أنا لم اصنعه.. صنعه التاريخ.. صنعه الطغاة.. صنعه الفقر.

* ألا يعتقد الشاعر الماغوط بضرورة إضافة رؤية مستقبلية فرحة نوعا ما الى هذا الحزن.. ؟

لا اعتقد ان حزني حزن أعمى ، بل ان حزني حزن مبصر ، في حين ان رؤيا الآخرين هي رؤى العميان ، الرؤى الخضراء ، هي الرؤى العمياء ، والرؤية السوداء التي اتهم بها هي رؤى مبصرة ، بدليل ان ما كتبته في الخمسينيات من القرن الماضي يقرأ الآن وكأنه مكتوب في هذه اللحظة ، واذكر على سبيل المثال أنني كنت في خصام مع الشاعر الراحل نزار قباني لأسباب أدبية بالطبع ، واستمر هذا الخصام لمدة عشر سنوات ، جاء الى بعدها وتصافحنا وتعاتبنا ، وقال لي أنت أصدقنا واصدق شعرا ء جيلنا ، حلمي الآن ان اكتب بالرؤى وبالنفس البريء البعيد النظر الذي كنت تكتب به في الخمسينيات ، فان حزنك وتفاؤلك اصيليان ، وكان تفاؤلنا وانبهارنا بالعالم خادعين ، وقرأ لي قصائد لا أظنه نشرها تنضح دموعا وبكاء .
إذا كان شعري حزينا فربما كان طابع التاريخ الذي نعيشه هو الحزن، لا احد يولد حزينا أو متفائلا، أو كريما، أو بخيلا، كل هذه الصفات تتكون في بيئة الإنسان، وقد رأى البعض في الرحلة التي بدأنا الكتابة بها تبشر بالخير، في حين أني رأيت إنها تبشر بالحزن، وبالتشاؤم وبالنكسات وبالهزائم .

* ما الذي يثير الماغوط حتى يكتب .. الحزن الخاص.. أم الحزن العام، أم تأثيرات أخرى ؟

الكتابة أو الشعر كما أتصورهما أو كما أمارسهما ليستا ردود أفعال آنية وليستا رغبات أو أمنيات من خلال النافذة أو من وراء المكتب ، الشعر بالنسبة لي هو حاجة داخلية مثل التنفس ، وقد لا تثيرني حرب ضروس ولا تحرك بي ساكنا أو تدفعني لكتابة كلمة ، وبالمقابل فان سماع أغنية من النافذة ، أو سعال إنسان ما في آخر الليل ، قد يفجر بي ما لم تفجره الحروب الدامية ، وقد أصبح من المؤكد ان لكل إنسان منا مخزون من الأمراض التي لم تكتشف في الطفولة وإنما اكتشفت وظهرت أعراضها فيما بعد مشكلتي إنني كنت اشعر دائما بهذه الأعراض ، وافضحها بينما كان الآخرون يرون الظاهر ، البسمة الصفراء ، والثياب الزاهية ، كنت أرى أعمق وابعد من هذا الديكور الخارجي ، فالحزن ليس صفة ، الحزن هو حياتنا ، وأتحدى ان يتجرأ احد الآن ويقول إننا سعداء كتابا كنا أم قراء .. ما يثيرني هو الألم.. الم الانسان، وهموم الإنسانية جمعاء .

* يرى بعض النقاد ان هناك تطورا ملحوظا في كتاباتك السياسية أو المسرحية أو النقدية في حين لم يلاحظ هذا التطور في شعرك ؟!

للإجابة عن هذا السؤال أريد ان أشبه الشاعر بمذيع نشرة الأخبار ، فالشعر هو موجز الأخبار في حين ان المسرح والصحافة هي النشرة الاختبارية بالتفصيل ، فالشعر لا يستوعب التفاصيل الدقيقة الجانبية ، وأنا كشاعر أرى في الغابة الورقة الصفراء ، ولا أرى كل الأشجار الخضراء... لأنني اعلم جيدا طالما توجد ورقة صفراء سوف يأتي يوم تصفر فيه جميع الأوراق الخضر ، فالشعر عندما يتطرق الى التفاصيل يصبح شيئا آخر ، إما المسرح فهو يهتم بالغابة والأشجار ، وأسباب اصفرار الأوراق والتسميد وغيرها.

* تنطلق في كتاباتك النقدية من الجزئيات دون الالتفاف الى الوضع العام ؟

يقول المثل على قدر بساطي الشعري أمد قدمي ، وأنا ليس عندي طروحات أو تصورات مشابهة للتصورات العامة والمعروفة للانطلاق من المحلية الى العالمية ، ما افهمه انه ما من إنسان على وجه الكرة الأرضية بمعزل عن أي إنسان أخر ولكني أؤمن تماما ان لكل شعب ولكل وطن ولكل جيل خصائص مميزة ، إما بالنسبة للجزئيات والأشياء الكبيرة ، أقول بصراحة إنني ضد تناول الأدب للقضايا الكبيرة ، فغالبا ما تتق زم هذه القضايا عندما نتناولها على المسرح أو نقرأها ، أنا انطلق من هذه الجزئيات الصغيرة ، من الحياة اليومية البسيطة المهملة المداسة بالأقدام ، لأصل من خلالها الى القضايا والأزمات الكبرى ، واعتقد ان اختصارنا وإهمالنا الأدبي والثقافي للجزئيات الصغيرة هو الذي افقدنا القضايا الكبيرة .

* الذي يقرأ شعرك يلاحظ عدم وجود تزويق لفظي وعدم الوقوع بالسردية التي وقع فيها بعض شعراء النثر أو شعراء التفعيلة ؟

أنا كاتب اعشق اللغة العربية ومهووس بها و وكما يوجد أناس لديهم وسواس من النظافة أو البرد أو من الحر ، فانا موسوس أيضا ، ووسواسي هو إتقان التعبير ، الشعر والفن والبطولة والوطنية كل هذه القيم هي تعبير عن شيء ما فكلما كان هذا التعبير جديدا أو مبتكرا كلما كانت الكلمة الشعرية أكثر وضوحا وأكثر خلودا ، فالتعبير حالة عجيبة ، وحتى البطل إذا لم يعرف كيف يعبر عن بطولته فقد يتهم بأنه جبانا وانه يرتكب حماقات الجبان ، وقد يكون الانسان كريما جدا ولكن فشله بالتعبير عن كرمه قد يؤدي به الى ما هو أسوأ من البخل ، فالتعامل مع الكلمة هو جوهر الإبداع الشعري وهناك قول لسعيد تقي الدين ينطبق على الشاعر وعلى غيره يقول : يأتيك إنسان فيروي لك قصة صغيرة حدثت معه فعلا فيجعلك تنام ، ويأتي إنسان آخر ويروي لك القصة نفسها بحذافيرها فيجعلك متيقظا ومتحفزا ومستعدا لسماعها أكثر من مرة وهذا هو جوهر الأدب .

* يرى البعض ان تأثير القصيدة الشعرية قد ولى وان الشعر قد أخلى مواقعه للأجناس الأدبية الأخرى مثل الرواية .ما قول الشاعر الماغوط ؟

لا اعتقد ان هذا العصر هو عصر هزيمة الشعر ، فالشعر لا ينتهي إلا إذا انتهى الحزن في العالم ، وانتهى التوق الى الحرية ، وانتهت الطفولة وبهجة الولادة... عندها فقط يمكن ان نقول ان عصر الشعر قد انتهى .

جريدة الوطن - السعودية

********

من يسرق حرائقنا الطويلة

حسين عبد الكريم

كقامة الكلام ؟!
أي راقصة من النوع الرديء، تردّ عليها » هزات« خصرها أو اي هزات أرضية مردودا عيشيا ومالياً، يوازي مردود عشرين كاتبا، يصرفون مجمل أعصابهم ووقتهم، ونفسهم احتراقا بنار الكتابة..
وأي مطرب » موديل « مطرب وأي مطربة » ماركة« مزعجة يرد عليهما غناؤهما المطرب مالاً وافراً، قياساً لأفضل أنواع الكتابة وأميز الكتاب..
لماذا الحروف نهدر عمرها مجاناً، والآخرون لا يهدرون إلا أذواقنا، ويتقاضون مقابل فعلتهم السيئة هذه الأموال والمكافآت..
محمد الماغوط واحد من أكبر أثرياء العالم بالأحزان وأظنه فقيرا الى » حفنة« فرح واحدة غير ملوّثة، بدخان الزيف و»هباب« الكذبات المحترقة، احتراقا سيئا.. وقد عبر عن فقره هذا بعنوان مجموعته الشعرية الأولى:
(الفرح ليس مهنتي) وعبر ثرائه بالأسف والألم وحرائق الكتابة والأحزان ب: » حزن في ضوء القمر« وفي كلّ يومياته وتجربته ورحلته ظل محمد الماغوط واحدا من كبار أثرياء الدنيا بحزنه وكوابيسه.

ألا يحق له أن نحترم ثروته الضخمة هذه ؟!

الفنان المخرج، صاحب التجربة الإخراجية الجميلة » هيثم حقي« بالتعاون مع أحد
الكتاب يقوم بإخراج عمل تلفزيوني بعنوان »حزن في ضوء القمر« أليس حريا بمبدع كـ » هيثم حقي« وقد جرب الاحتراق بنار الهموم الإبداعية ان يحرص على حرائق زميل كبير ومبدع الى حد الكآبة التي لا تنام... محمد الماغوط ؟!
هذا المبحر في محيط أحزانه وكوابيسه منذ خمسين عاما تقريبا ألا ينبغي علينا جميعا ان نقدم كل التحية وكل مقابل يجلعه قويا على العيش والبقاء مع طيور عمره النارية؟!
لاشيء في عمر محمد الماغوط إلا الأرصدة الضخمة من المخاوف الإبداعية والمفارقات والحزن والحرائق هل يحق لأحد ان يسرق حرائقه الطويلة دون كلمة حب طويلة ودون مردود، ام على المبدعين الكبار ان يحترقوا دائما بنيران هواجسهم الجهنمية والآخرون يقبلون على هذه الحرائق على أساس إنها» مشاع «يمكن الاستفادة منها دون أي مقابل..
لأي راقصة أو ممثلة مبتدئة جدا أو ممثل في طور الأماني الفنية أو مطرب مكرب يجيد الصراخ من مختلف الدرجات..لهؤلاء جميعا ان نحترمهم وأن يعيشوا ويتقاضوا على » تفاهاتهم « المقابل الكبير والمردود الزائد.. وواحد مثل محمد الماغوط وأمثاله من المبدعين الذين يحترقون ألف احتراق واحتراق، حتى يقدموا كتابات عالية.. تؤخذ حرائقهم هونا من غير مقابل ؟!؟!

www.thawra.com/althakafi/alth01.htm

**********

شهادة

تامر و الماغوط: صهيل تحت سقف الحياة

تنفتح تجربة كل من الشاعر محمد الماغوط، والقاص زكريا تامر على فضاء واحد، تتداخل فيه الأصوات، والضمائر وقيم الوعي الفكري والجمالي، واللغة، والعلاقة الدرامية المتوترة مع العالم حتى يبدو الحديث عن تجربة أحدهما استدعاء لتجربة الآخر، مما يجعل كلاً منهما ضمير الآخر وفضاءه، ومرآة وجهه، وان كان الماغوط ينتمي الى حقل الشعر وزكريا الى حقل القصة،
فقد أدخل الماغوط السرد الى بنية القصيدة النثرية، التي انشغلت بأحزان الذات الجريحة المحاصرة والمحرومة التي تنوء بقسوة ضياعها وخوفها وأوجاعها، في حين جاء زكريا الى القصة من أبواب الشعر العريضة محققا تحولاً كبيراً في لغة القصة، وأساليبها الفنية والتعبيرية، والرؤية الى الواقع والإنسان في مرحلة كان الاتجاه الواقعي الصارم يفرض سلطته على الإنتاج الأدبي.
وبذلك شكل الاثنان ثنائية إبداعية جديدة، تمردت على أشكال الكتابة المستقرة، وفتحت أمام الإبداع الأصيل فضاءات واسعة كما أدخلت الى الأدب روحاً جديدة، سنجد آثارها الكبيرة، بعد سنوات عديدة، حاضرة في إبداع الجيل الجديد بامتياز.
تتقاطع التجربتان أولاً في فضاء الحرية، والتمرد على سلطة المنجز الأدبي السائد، والمرجعيات الخارجية التي تحكم حركته، فقد قابل تمرد زكريا على الاتجاه الواقعي، تمرد الماغوط على قصيدتي لتفعيلة والكلاسيكية، عبر انحيازه الى قصيدة النثر، بكثافتها الحسية وعفويتها، وبذلك تتأس التجربتان على عنصري الافتراق عن السائد، والتأسيس لاتجاهات إبداعية جديدة، تعكس حساسية أدبية مختلفة.
لقد جاء هذا التأسيس لقيم الإبداع والتجديد انطلاقاً من الإخلاص للتجربة، وللوعي الجديد، الفكري والفني الذي عبرت عنه بصدق، يرفض تزييف الواقع واغتيال الذات الإنسانية المأزومة، لصالح مقولات تصادر حرية الإبداع وتحوله الى أداة لخدمة رؤيتها وأهدافها، وبذلك أكدت التجربتان حق الذات في التعبير عن هواجسها وخوفها، وضياعها وحرمانها، باعتبار هذه الذات هي منطق وغاية أي مشروع إنساني فكري وإبداعي، وباعتبار انه لا يمكن اغتيال الحرية باسم التبشير بحرية مزعومة،
وهذا ما جعل ضمير المتكلم هو المهمين على خطاب الماغوط الشعري، وكذلك على نتاج زكريا القصصي الأول بالإضافة الى وطأة الشعور بالغربة والمرارة والهزيمة في واقع لا يمنح أبناءه سوى الخوف والخيبة والحزن والصراخ بملء القلب الوحيد والعاري.
إن هذا التحول في مضمونه ودلالاته الفكرية والإبداعية عبَّر عن وعي حقيقي بالحرية كضرورة وشرط وجود وكقيمة أساسية في الحياة مما جعل تجربتهما تمثلان إدانة لواقع لا يهبهما سوى الاختناق والخيبات والبؤس والأسى، الأمر الذي جعل تمردها يمثل الرفض للخضوع لاشتراطات الواقع، وسلطته التي تجعلهما يعيشان في «غرف بملايين الجدران» محاصرين باخفاقاتهما وحرمانهما، وغربتهما الطويلة، وبقوانين الأدب العرفية.
تحت سقف الحياة الواطئ
عاش الأديبان تجربة قاسية، وكانا أشبه بحصانين يصهلان بعذاب موجع تحت سقف الحياة الواطئ، أو في الغرف التي سقفها اوطئ كما يعبر بطل إحدى قصص مجموعة تامر الأولى عن ذلك، وكما يتقاطع معه عنوان ديوان الماغوط الثاني «غرفة بملايين الجدران» وإذا كان تامر يستخدم في أغلب قصص «صهيل الجواد الأبيض» ضمير المتكلم في السرد، فإن الماغوط هو الآخر يستخدم الضمير نفسه في خطابه الشعري، ولذلك فإن شخصيات هذه القصص تندغم في شخصية واحدة،
وان تعددت أشكال تجليها ووقائع تجربتها التي، تظل تعبر عن مناخ واحد، وحالات متماثلة على مستوى تجربتها الاجتماعية والنفسية والوجدانية، وعجزها عن اختراق المكان الخارجي، وإقامة علاقة تواصل حميمة معه ومع الآخرين، الأمر الذي يجعل هذه الشخصيات، تنكفىء في عزلتها على عالمها الداخلي، وأحلامها وكوابيسها التي تحاصرها.
ويشترك الماغوط مع هذه الشخصيات في تعبيره الموجع عن شعوره بالغربة والعزلة والحرمان والضياع، مما يجعل المعجم الشعري عنده يتداخل مع المعجم الأدبي في قصص تامر نظراً لتشابه التجربة وتقاطع الرؤية، واللغة الشعرية في الخطابين.
ان هذا الشعور بالإخفاق والرعب والحرمان والجوع العاطفي والجسدي هو الذي يجعل أبطال تامر المتحدين في صوت واحد، يتقاطعون مع صوت الماغوط في تعبيرهم عن النقمة والسخط والرغبة في الانتقام والثأر من المدينة التي لا تستجيب لحاجاتهم وأحلامهم ورغباتهم، وتغدو الطبيعة، أو الريف هي العالم الأكثر جمالاً وصفاء بالنسبة لهم.
وهكذا فإن بطل قصة «الرجل الزنجي» من مجموعة صهيل الجواد الأبيض يعبر عن هذه النقمة، والعدائية السافرة تجاه المدينة التي (لا تعطي أولادها سوى الجوع والتشرد والكآبة، أنا عدو المدينة المجهول) ص 11.
ويصف الماغوط هذه العلاقة بالصورة نفسها فيقول: كنا ثلاثة/ نخترق المدينة كالسرطان..
نبحث عن جريمة وامرأة تحت نور النجوم. ص 58 ان هذه الرؤية الرومانسية الى الريف، التي يقابلها موقف الإدانة والسخط على المدينة، يقابله في قصص وقصائد الماغوط وتامر تعلق كبير بالمدينة، وارتباط عميق بها، إذ تكتفي شخصيات تامر بالفوضى والتسكع في شوارع المدينة، وعلى أرصفتها، والعزلة والبطالة، وهو ما نجده في قصائد الماغوط الذي يجعل من ذلك قوة تعينه على الرفض، وتحديد خياراته في الحياة: ما من قوة في العالم/ ترغمني على محبة ما لا أحب.
وكراهية ما لا أكره/ مادام هناك تبغ وثقاب وشوارع. ص 234.
ويعلن بطل قصة تامر الأولى في مجموعة صهيل الجواد الأبيض «أنا رجل فقير بلا عمل، لا أضحك، لا أبكي، أحب الخمر والغناء والأزقة الضيقة وأحب الشعر والخبز الأبيض والنهود الفتية والمطر» ص 10.
ويقول الماغوط في قصيدة من ديوانه «حزن في ضوء القمر» معبراً عن نفس التجربة والرغبات.
أنا فقير وظمآن/ أنا إنسان تبغ وشوارع...
فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى وحرية التلصص من شقوق الأبواب ص 45.
ان قصص تامر تستعير من الشعر لغته ومجازه واستعارته وصوره وهذه الكثافة الوجدانية، والعلاقة الدرامية المتوترة مع العالم، والرؤية الحزينة إليه، في حين تستعير قصائد الماغوط سردية القصص ودرامية المشهد للتعبير عن قسوة الحياة، والذات الجريحة في عالم لا يأبه لأحزانها ومقرها وأوجاعها،
ولذلك ترمز المرأة في كلتا التجربتين الى بشاعة وبؤس العلاقات الإنسانية التي تحكم مجتمع المدينة وعلاقاته الاجتماعية القائمة على بشاعة الاستغلال والظلم ويكاد اسم المرأة ـ البغي الذي يرثي الماغوط حالها، ويسميها «ماري» التي تبيع جسدها من اجل ان تأكل، يصبح نفس الاسم في قصة لتامر «قالت المرأة: «اسمي ماريا.. أترقص»؟» ص 30، بل تتوحد الحالة والمصير فـ «لحم حبيبتي الأبيض كان في الليل يؤكل على مناضد من حديد بارد» ص 10.
وإذا كان الماغوط يستنجد في رسالة شعرية عاجلة بأبيه لكي يأتيه بقطعة قرميد من سقف بيته، وبذكريات طفولته لكي يستعيد الشعور بالألفة والجمال والبساطة في غربة المدينة الغريبة، أو يتوقف الى السفر والرحيل إلى أرصفة المدن الغربية حيث الحرية والتسكع والأمان، فإن أبطال مجموعة تامر الأولى يعبرون عن الحنين نفسه والرغبة، والبحث عن الخلاص، إما من خلال الهرب من المدينة الى الطبيعة لاستعادة تلك العلاقة الحميمية الامومية، وتهديم المعامل وتحويل المدينة الى قرية خضراء ممتدة الى ما لانهاية، أو من خلال الرغبة في السفر، والتنقل الدائم بين المدن البعيدة «البحر وحلم الرحيل والسفر، آه لا شيء في العالم أجمل من البحر والسفر والتنقل الدائم» ص 35.
ان الماغوط الذي يرتطم بقاع المدينة، هو الوجه الآخر لبطل قصة «القبو» عندما تامر، والذي يشعر أن «العالم يجثم فوقي، إني سأظل حتى النهاية في قعر المدينة» ص 29، ولذلك يواجهان هذا العالم بالغضب والتمرد والإدانة تارة، وبالإعلان عن العجز والهزيمة والضياع تارة أخرى.
خارج التأطير.. داخل الحياة انحاز تامر والماغوط الى الإبداع، والإخلاص إلى التجربة والذات في تعبيرها عن نفسها، وتوقها الكبير الى الحرية والخير والجمال في عالم ملوث وحياة غير عادلة، وقد شكلت تجربتا الأديبين فاصلتين مع السياق الإبداعي الذي كانت تحكمه سلطة الإيديولوجية ورؤيتها الخارجية التي تجعل الأدب أداة للتعبير عنها، لهذا ظلت هاتان التجربتان خارج أي تصنيف مدرسي، فالإبداع الأصيل المؤسس لذاته يكسر حدود التأطير، ويرسم الفضاء الخاص به، والمعبر عن هويته الجديدة.
ان الإبداع الحقيقي هو الإبداع الذي يكسر إيقاع السياق الأدبي ويحقق انعطافه مبكرة فيه، وهذا ما جعل النقد الواقعي يستقبل هاتين التجربتين بالاتهام، والإدانة، لأنهما خرجتا على جوقة المنشدين وشكلتا صوتي نشاز فيها لكن ما ان سيمر عقد من الزمن تنضج فيه التجربة، وتتسع آفاق الرؤية حتى تغدو تجربتا تامر والماغوط المحرضتين على التجديد والإبداع بالنسبة لتجارب الجيل الجديد.
من هنا فإن قراءة هاتين التجربتين لا تتحقق، بمعزل عن دراسة القيمة الإبداعية والجمالية التي اشتركتا فيها على مستوى الوعي الفكري والجمالي، والتي منحتهما خصوصية التجربة والوعي والصدق مع الذات في تمثلها لشرطها الاجتماعي والإنساني، والتعبير عن مضمون هذه التجربة بكل القسوة والمرارة والشعور بالخذلان والرعب.
لقد ظل زكريا تامر وفياً لشعرية السرد واللغة حتى مجموعته المعروفة «النمور في اليوم العاشر» لكنه فيما بعد انعطف أكثر نحو بناء عالمه الحكائي، وتوظيف الشخصية والمكان والصراع في القصة للتعبير عن الفكرة التي يريد، مما أدى الى تراجع كبير للغة الشعرية، وان لم نقل الى غيابها تقريباً في أعماله الثلاث الأخيرة في حين ان محمد الماغوط، تحول الى المسرح فترة من الزمن ولم يكتب سوى قصائد قليلة، مقابل كتابته الساخرة في المجلات العربية، وهو ما أدى الى خسارة شاعر هام الماغوط.
بقي ان نشير في النهاية، الى تلك الروح الساخرة، والاشتغال على عنصر المفارقة في التجربتين، إذ شكلت هذه السمة ملمحاً واضحاً عندهما، ويمكن اعتبارها اقرب الى «الكوميديا السوداء» والتهكم اللاذع، الذي يعبر عن رغبة في فضح الواقع وتعريته، وإدانة قيمه، وبذلك كانت التجربتان تذهبان في اتجاه واحد نحو فضاء الحرية والإبداع بصوت عار تكتمل فيه أغنية الحياة الجريحة، وعذابات الروح الوحيدة في مواجهة دنس الحياة وسارقي فرحها.

المصدر: البيان الثقافي
الأحد10 محرم 1423هـ
24مارس 2002 -العدد 115

***********

تركيب المتخيل

(محمد الماغوط في حزن في ضوء القمر)

http://www.husamwahab.com

عبدالقادر الغزالي
(المغرب)

للمتخيل الشعري وضعية استثنائية في كتابة وقراءة النص الإبداعي لاعتبارات عدة تتصدرها المكانة الجوهرية التي يحتلها "الخيال" بوصفه دالا أكبر في بناء الخطاب الشعري الحداثي. ومن ثم ندرك بجلاء، سر عناية الفلاسفة المسلمين بهذه الطاقة الخلاقة، مما جعلهم يرفعونها الى مرتبة المبدأ الأول الذي تتحقق بواسطته ماهية ما هو شعري، وبطاقة الهوية التي تثبت الانتماء الى هذا الجنس الفاتن المنافس للموجود والوجود، وذلك بخلقه أشكالformes - sens (1) تندغم فيها تجربة الكتابة بالتجربة اليومية.
ولعل ذلك هو السبب الذي جعل تعريف الشعر يقترن بالخيال الشاعر بين العرب القداس الذين أفادوا من الفلاسفة أمثال حازم القرطاجني الذي يبرز د. جابر عصفور مكانته النقدية البارزة ودوره الرائد، كما يتضح ذلك في الفقرة التالية "لقد أفاد حازم من الفلاسفة كل الإفادة وأستطاع أن يتجاوز خطي أقرانه وأسلافه من النقاد ويصل الى ما لم يصلوا إليه ويعالج مشاكل لها ثقلها وأهميتها في تاريخ النظرية الشعرية" (2).
ويحسن أن نشير الى أنه، رغم التحول الذي حصل في البيئة الثقافية القديمة، وذلك بتبني مبدأ الخيال، ووقف العملية الإبداعية على اشراقاته، وكشوفاته، فإن استمرار التصورات الأرسطية في تأطير ماهيته وتفاعلاته في النص، قد حد من حريته وقلص من أقاليمه وفتوحاته، وذلك بالاحتكام الى المنطق في قبول عوالمه وعيش فصولة أو طرح بنائه ووصله باللامعقول والمعمى والمبهم. وتفضي بنا هذه النقطة الى إحدى المنارات البيضاء في الثقافة العربية القديمة
أرسى قواعدها، وأعلى صرحها المتصوفة المسلمون الذين طرقوا الأبواب الموصدة وولجوا عالم الغيب والشهادة وغزوا اللحظة المبدئية، وذلك باتخاذ الخيال طاقة خلاقة بها تكتشف التحولات الدائمة في الوجود، وتتوارد المتجليات على القلب والخاطر. ولنتأمل تعريف ابن عربي: "...فالخيال لا موجود ولا معدوم ولا معلوم ولا مجهول ولا منفي ولا مثبت كما يدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه ويعلم قطعا أنه ما أدرك صـورته بوجـه" (3).
ووفق هذا التصور نتبين ماهية الخيال البنائية سواء في العملية الإبداعية أو في تعيين أشكال تلقى ما يعرضه من صور ومشاهد في النوم أو اليقظة، وما طبيعة وقدر المسافة التي يجب أن يتخذها الرائي عندما يبلغ مقام التجليات. ولذلك يردف ابن عربي: "ومن الناس من يدرك هذا المتخيل بعين الحس ومن الناس من يدركه بعين الخيال وأعني في حال اليقظة" (4)، ويحسن أن نشير الى ضرورة التنبه الى خصوصية الاشتغال النظري واستراتيجية البحث في الخيال والمتخيل عند المتصوفة وعند أبن عربي الذي خصه هنري كوربان Henri Corbin ودراسات قيمة وعن استراتيجية في مبحث الخيال. يقول: "ولا شك أن انشغال ابن عربي الأول كان هو عقد صلات رؤيوية بين المقدرة التخييلية من جهة، وبين الإلهام الإلهي من جهة ثانية.." (5).
فرضيات القراءة:
إن اعتبار النص الشعري في كليته والانفتاح على الكون التخييلي الذي يؤسسه يفرض علينا اختيارا منهجيا يتمثل في مراعاة سياق توارد الصور والرموز التي تشكل النسق النصي، لكي يتجنب التفسير الآلي وذلك بعكس الدلالة المتحققة للصورة في المستوى الانطروبولوجي أو النفسي على الطبيعة التنظيمية الخاصة التي تدرج بها (الصورة) في البناء الدائم التجدد، علما بأن ما يمكن أن يدرج في إطار "المعرفة الخلفية" سيكون بمثابة إضاءات تفتح أمامنا أفاق المصاحبة.
ومن هذه الزاوية، نقترح في هذه القراءة الاستفادة من شعرية المتخيل التي يدافع عنها جان بورغوص Jean Burgus إن أول قرنية تواجهنا هي فرضية التركيب أي التأليف الحر واللانهائي للأنساق التخييلية. ومن هذا المنطلق يتم التنبيه الى أن القراءة لا ينبغي أن تكتفي بملاحقة الراهن، بل يجب أن تخترقا الى الممكن والمحتمل: "ومن ثم فإن عزو المعنى الماورائي، الذي يحدد أيضا ماهية الشعري، هو الذي يمكن أن يسمح بشعرية المتخيل" (6).
ومن ثم فإن إبراز الحدود بين الوظيفة الأسطورية والكتابة الشعرية، هي أولى المسائل التي يتصدى لها وفق خاصيتي: التكرير والتوليد. إذ أن الأسطورة وهي تقدم إجابات عن تساؤلات مركزية تصاحب الإنسان تعيد إنتاج وصياغة الحالات والأوضاع الى مالا نهاية، بينما تصهر الكتابة العناصر المعطاة لخلق أنساق جديدة وارتياد عوالم مجهولة، ومن ثم: "يميل الخطاب الأسطوري الى تكرير أوضاع بدئية الى مالا نهاية... في حين تدشن الكتابة وضعية لم تعش ولم يعبر عنها من قبل كما تنفتح على احتمالات جديدة" (7).
وهذا المبدأ العام هو الذي ينبغي أن يوجه الانشغال بطرائق تجميع الصورة والكوكبات الرمزية Les cons te llations symboiques التي تنتظم في إطارها لتحديد شكل تركيب المتخيل في الكتابة المقروءة. ولقد اقترح جان بورغوص Jean Buegus ثلاثة أشكال هي:

  1. كتابة الثورة: التي يصفها بأنها "كتابة الفضاء الممتلئ في الحاضر" (8)، وتستند الى ملء الفضاء الذي يعني في وجه من وجوهه السيطرة على الزمن، وتوقيفه في لحظة مثبتة ولهذه الغاية يتم تشغيل علاقة التعارض.
  2. كتابة الرفض: التي تسعي الى أبعاد الزمن والالتجاء الى مكان حميمي، وفي هذا الشكل الكتابي تهيمن ترسيمات التقريب والتقليص والانثناء، كما: "تقتضي هذه الكتابة رؤية أكثر تجريدية وذاتية خالصة، إنها أساسا رؤية حسية للعالم والأشياء أي رؤية متزنة حسب تصور باشلار" (9).
  3. كتابة التمويه: التي توهم "بقبول السيرورة الكرونولوجية الحتمية" (10)، ومحاكاة الحياة اليومية، ثم لا تلبث أن تفجر تناقضاتها ولذلك: "كثيرا ما يشبه العالم المتخيل الذي تفتحه عالمنا المعتاد، ثم لا نلبث حتى نكتشف فجأة، بأن العبور من المتجول الى الزمني قد تحقق، وبأن الدرامي قد أخذ معناه" (11).

بهذه الفرضيات المركزة نقترح الاقتراب من الكون التخييلي الذي تؤسسه القصائد الشعرية المكونة للديوان الشعري، موضوع القراءة "حزن في ضوء القمر" للشاعر الغاضب محمد الماغوط.
البعد والأبعاد
يفجؤنا العنوان بصيغته التناقضية ذات الصفة الازدواجية إذ يتمظهر التعارض الأول في الشق الثاني: في ضوء القمر، شبه الجملة المزدوجة: جار + مجرور= مضاف + مضاف إليه. بما يحمله من قلب طبيعي للخاصية الزمنية: الليل والنهار، وملحقاتهما: نور - ضياء - (ظلام - عتمة) حيث أصبح الليل حاملا للنور، واتشح النهار بالسواد. الأمر الذي يفضي بنا الى التعارض الثاني المتمثل في الشق الأول: المركب الأسمى حزن، إذا ما اعتبرنا هذه العاطفة الشعورية تعتيم الذات لحظة انخطافية تبعث على الدهشة والمناجاة مما ينجم عنه رج للعلاقة بين المثير والاستجابة بلغة السلوكيين. ومن هنا يبرز تقابل بين حالة افتراضية، تكون اللحظة الطبيعية حافزها ومبررها لها ارتباط بعالم داخلي تؤثثه أحاسيس الرقة والسمو والصفاء والبهجة والفرح كما تنفتح على عالم خارجي تستحضره انخطافات العشق والمفاجأة وحالة سلبية واهنة تتقلص وتنكفئ فيها الذات، مما يفتح احتمالات الفقد والحرمان وينبئ بصلابة العوائق.
إن لترسيمة الفقد والغياب أهمية خاصة في بناء الأنساق التخييلية ومد الأطراف بماء الحياة، حولها تتكوكب ثيمات التشرد والضياع والشوق والحنين. ولعل أول مظهر للفقد يواجهنا، هو غياب المعشوقة التي تبعث الخصب وتغمر الكون بهجة وصفاء. وإذا كان البعد /الأبعاد حاصلا، والحب مستحكما مس العاشق بالوله والخبل، واستحالة اللقاء لا مراء فيها، فإن استدعاء التحولات لا مناص منه بها يهدم جدار البين وكفى مسافة الفصل. لذلك تسافر الذات في شكل "قصيدة غرام" حضور اقتضته الأجواء الرومانسية والدرامية التي يلقي العنوان بظلالها. غير أن هذا الانفتاح المرحلي، لا يلبث أن يستدعي تعارضا تجسده الجملة الاسمية المعطوفة، أو طعنة خنجر. ولعل جذوة الحرقة المتقدة في الفؤاد هي التي تفسر هذا التعارض، حرقة اقتضاها الاتحاد في البعد بواسطة اللقاء الرمزي تهيىء الكتابة مراسميه وطقوسه. وتفيد فيه من علاقة المحتوي والمحتوى ومن ترسيمة التنافذ والتداخل:
أيها الربيع المقبل من عينيها
أيها الكناري المسافر في ضوء القمر
خذني إليها (12)
من العين يقبل الربيع وفق تشخيص فصلي لا يفتأ أن يستدعي احتواء مناظر يتمثل في "الكناري المسافر". والعمليتان الاحتوائيتان تنسجان صيغتين تركيبيتين متناظرتين: (أيها الربيع.. خذني إليها) (أيها الكناري (...) خذني إليها) كما تتقوى الرابطة التنظيمية من خلال الصفتين المتقابلتين:
(أيها الربيع المقبل.. / أيها الكناري المسافر)
وفي الإقبال والسفر دلالة على التحول والحركة (الأبدية) وهنا يحضر الجسد الايروتيكي بجلاله وشبقيته ونقائه وطهره مما يتيح التسمية:
(حبيبتي ليلى... دمشق يا عربة السبايا..) عندئذ تفتح واجهة للصراع بين الذات والزمن. صراع يندحر فيه كل أمل في الانعتاق من السلطة القاهرة، فتتعالى أصوات البكاء والخيبة والانتكاس. وترفع رايات اليأس والعدمية لتلقي الذوات في فضاء مظلم أشبه بالهوة السحيقة التي لا قرار لها.
- عشرون عاما ونحن ندق أبوابك الصلدة (ص 16)
- ونحن نعدو كالخيول الوحشية على صفحات التاريخ (ص 17)
ويمكن أن نستنتج، في هذا المقام، بأن الترسيمة الموجهة لانتظام الصور هي: النقيضة التي واجهتنا صورة من صورها في عنوان القصيدة: حزن في ضوء القمر، المختار لتسمية الديوان الشعري، كما تواجهنا صيغ أخرى لقسماتها تتكوكب حول الجسد الأنثوي بفتنته وبشاعته،
وتبادله العلاقات التفاعلية وفق مبدأ التماهي مع البلاد - دمشق - الوطن. وفي هذا الكون التخييلي يتقابل عالمان متعارضان: عالم مضيء يقوم على أساس الامتداد وملء الفضاء تؤسسه تيمات البعث والخصب، التي يكون للعين في سلطانها مرتبة السيادة وطاقة الخلق، إنها عين الآلهة المخلصة والجذوة المتقدة التي ينبعث من إنسانها النور والضياء. كما يكون للغم والقدمين في شريعتها طاقة التهيج وإثارة الغرائز الجنسية بما أنهما مصدران للنشوة والانتشاء. أما العالم الثاني فيقوم على أساس التقليص والانحسار تتعالى فيه أصوات النواح والمرض، عالم مظلم تنسحب فيه الذوات وتنكفئ، ليلقي بها في ردهات الصمت والبكاء والخوف مكتفية من خلل الثقوب بالتفرج على المشهد الجنائزي الذي تعيش أطواره وفصوله، وتكتوي بنيرانه العاتية، ولننصت الى صوت الكتابة وذبذبته حين يلهج هذه المأساة مشددا على التعارض:

(1- أيها الربيع المقبل من عينها
2- في عينيك تنوح عاصفة من النجوم)
(1- ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين)
(2- ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر)

وفي هذه اللحظة، لا نملك إلا الاستسلام والانقياد سريا لغواية قصيدة تأسيسية في الشعر العربي المعاصر هي قصيدة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، أنشودة المطر، غير أننا نترك لذة اللقاء والوصل مفتوحة.
ومن هذه الزاوية، ندرك أيضا سر المراوحة بين النظام الانثنائي:reqine de repli:

فأنا متشرد وجريح
- إنني شبح
- إنني مريض
- إنني ألمح أثار قلبي
- وأنا راقد في غرفتي
- فأنا على علاقة قديمة بالحزن والعبودية. *

وتتجمع في هذا النظام الكوكبات الرمزية les conslellations symboliques القائمة على أساس التناظر - التاريخ الرابض على الشفة.. الاجتثاث من الجذور.
- الحب القاتل - البطل المنهزم - الرايات المنكسة..
ويحسن أن نشير الى أن التناظر بين الصور المعتمة إحدى ضرورات هذا النسق التخييلي، به تحقق وحدة الكائن، وألم الكينونة.
ويقابل هذا النظام، نظام مناقض تمديدي توسيعي فيه يبعث البطل من الرماد كما تبعث العنقاء فيحيى جذوة الحياة مستعيرا من الطبيعة طاقة الخلق المتجدد.
- وأنا أسير كالرعد الأشقر في الزحام (ص19)
- أملا في السيطرة على الفضاء والزمن
- أنت لي
- هذا الحنين لي يا حقودة ! (ص 17)
فاتحا بؤرة إشعاع ينبعث منها أضوء ومراهنا عي زمن أبدي يمحى فيه الى من الكرونولجي، وتجد فيه الذات مكانا حميميا وملجأ رحيما من عنف المحسوس وجبروته.
وفي مجامل الطريق، ووحشة السفر تعي "الذات" خيبتها وخذلان العالم لها. كذلك تستعيد ذكريات الطفولة، وتستحضر أحلامها السعيدة، مستلقية في أحضان الأم التي جف عودها وتوارت فتنتها لذلك تمني بالخيبة مجددا لأن الاحتماء تم بالهباء.
مقامات الكتابة
إن مشهد العذاب والشهادة الذي تعيش فصوله كل ذات مبدعة أصيلة تصل في هذا المقام درجة قصوى، فيه تعي الذوات تفاهتها وخستها فترفع نداء مقاومة الزمن لإلغاء جبروته وقهره ومن ثم تعبر لحظة تأملية تتغيا ملء الفضاء: العيون - الطفلة السحابة - هذه العناصر التي تشترك في بعث الحياة والخصب. إذ تتعاضد الطاقة الرؤيوية والبراءة الطفولية لتجديد مواسم الخصب والبهجة. غير أن ثبات المشهد الوحشي ينبئ بأن الزمن مازال جاثما حاملا أعلام الفجيعة والانكسار والهزيمة:
- إن ملايين السنين الدموية
تقف ذليلة أمام الحانات (ص 23)
وفي هذا الكون المظلم تحتمي الذات بالحلم، به تجرب اختراق الانفلاق. وعندئذ يتحول الحزن من طاقة شعورية تدميرية توهن الذات وتشل حركتها، (بما أنه خلاصة لرعب الزمن واقتياده الكائن الى الجحيم)، الى مادة تطهيرية، بها يخاض الصراع ضد الزمن لترويضه والسيطرة عليه.
- فالتراب حزين، والألم يومض كالنسر (ص 24).
ومن ثم نشهد محاولات مستمرة للاختراق والنفاذ الى الباطن، واستسلاما لغواية الكتابة وآلامها، وخضوعا لطقوسها، ودهشة أمام تقريبها السحري بين الحاضر والغائب، الظاهر والخفي، الداخل والخارج، الصاعد والنازل، الكائن والممكن، الواقع والمحتمل..
غير أن انحسار الرؤيا وقتامة الأفق، لا تثبت سوى مشهد الاندحار والتقلب في ردهات الجحيم فيها يمحى بهاء الكتابة ويجف ماؤها فتتلاشى الذات وحيدة وهي تراقب احتراقها وتشهد مد ما يقوضها ويشتتها مجسدا في التشابه والتماثل. لذلك تدوي نبرات الضعف والعجز:
- ولكنني حزينا لأن قصائدي غدت متشابهة
- وذات لحن جريح لا يتبدل (ص 17)
ومع تنامي حاجة الذات الى الانفتاح على المختلف والمتعدد، تتضاعف حدة الغضب والنقمة على الطبيعة: (الحقول) والكينونة (البشرية) لأنها تنشد السمو والتحليق في الآفاق اللامحدودة.
وهنا تستحضر شكلا من أشكال التوجيه الخارجي المجسد في الحب القاتل والعشق المدمر الذي أفنى الجسد في الوطن.
- وطني.. أيها الحرس المعلق في فمي (ص 48)
على الرغم من القهر والحرمان. وما أبشع أن يموت البشير جوعا وتتوارى النبوءة سرابا. وذلك هو المال الذي انتهت إليه الذات ساحبة وراءها أذيال الهزيمة والاندحار لتعترف علانية بالعجز:
- لكنني لا أستطيع (ص 49)
- لا أستطيع الكتابة، ودمشق الشهية
تضطلع في دفتري كفخذين عاريين (ص 49).
وفي هذه العتمة المدمرة، لا تملك الذات الانسحاب والهرب الى ملجأ حميمي، نشدانا لصفاء وسمو خالص تتعمد فيه بمياه الأبدية.
ويمكن أن نلاحظ في هذا النسق التخييلي، تقابل ترسيمتين منظمتين، ترسيمة الانثناء وترسيمة التوسيع والتمديد. لذلك نواجه انحسارا وانغلاقا تجسده تيمات الفقد والفراغ والألم والكآبة عبر استحضار نضالات المامي التي آلت إلى السقوط، وتعذر العبور بعد تحطم الجسور والحرمان من اللقاء نتيجة النفي والتشريد. وتلك هي علة الحرقة التي يذكيها الشوق والحنين الباعث على بسط سلطان الخيال وقدراته الإبداعية على التوسيع والتمديد، وهنا تحضر الرمزية الأنشوية كشكل من أشكال الانفتاح وتصعيد البشاعة الى ذروتها:
- ما من أمة في التاريخ
لها هذه العجيزة الضاحكة
والعيون المليئة بالأجراس (ص 62)
وفي هذا الأفق التخييلي تتقلص القارات: أوروبا، آسيا. لتتماهى مع العشيقة والأم، والساقطة. ومن ثم نلمح هذا التوق الى محو الواقع، وتصعيد الأوضاع الصدامية، والتأرجح بين العواطف المتناقضة، إذ تجتاح عواطف اللاجدوى والعبثية الذات، في الوقت الذي تبتهج فيه بنشوة الخلق وإعادة التشكيل.
فتوحات الهجرة والسفر
تتعالى من الأعماق أصوات تحث على الرحيل والسفر الذي لم تتحدد معالمه:
- سأرحل عنها بعيدا.. بعيدا (ص 33).
رحيل يخلص الذات من العناصر والأشياء، ويحصنها من الزمن ومهاويه وهبائه. وإذا كان قرار السفر لا راد له، فإن الغضب والنقمة التي تحملها الذات للعالم شديدة دفعتها الى حمل معول الهدم كي تتحرر من كل السلطات القاهرة بما فيها السلطة الأبوية باعتبارها علة "شر الكينونة".
وبما أن وحشة السفر، وغربة المسافر تقتضي الزاد والعدة، فإن كوكبة من الصور تنتظم حول عوالم الطفولة السعيدة. إن الهوة التي ألقيت الذات في مهاويها، ترسخ سيادة الظلمة والعتمة وهيمنة السكون. فالأشياء فيها حزينة، والزمن ذو وجه بشع لا يتبدل، والمدنية غارقة في المرض. إن المياه راكدة، والعفن والوحل يني الجوانب:
... حياتي، سواد وعبودية وانتظار (ص 35).
لذلك تحاول الذات جاهدة الاختراق والنفاذ الى كون مغاير يفزر المسافر مجامله، ويطأ أراضيه البكر.
ومما يرسخ التعارض والسلب، هو أن الملاذ الحميمي الذي تلوذ إليه الذات الغاضبة من عنف الزمن، قد أضحى مهددا، لأن المعشوقة (ليلى) قد هجرته بعد أن كانت تملؤه بؤر إشعاع ونور. ولهذا الفقد تتمزق الأوصال بين لحظتين: لحظة ماضية اكتوت الذات فيها بحرقة الهجر والفراق. ولحظة مستقبلية تحاصر الذات فيها هواجس الخوف والقلق.
- وأنا أرقب البهجة الحبيبة
تغادر أشعاري الى الأبد (ص 37)
عندئذ تنتصب القامة شامخة لتبسط همينتها على الكون وتوقف الزمن. غير أن القدر القاهر يفلق كل ثقب يتسلل منه بصيص صفاء، حيث ينفذ المصير المشؤوم المرعب الى الأعماق والدواخل، مكثفا هيستيريا القلق والخوف، فتوثق الأجساد في مهاوي سحيقة:
- قبورنا معتمة على الرابية (ص: 51)
لأن تجربة الموت، في هذا المقام، سلبية تفني الى الجحيم كما تتبين إيحاءاتها الرمزية الدالة للحصان الجهنمي:
- والموت المعلق في خاصرة الجواد
يلج صدري كنظرة الفتاة المراهقة
كأنين الهواء القارس (ص 52).
ويتسع مشهد الفقد، وفق تمديد متدرج من الإنسان الى الطبيعة: (فقد الأب - سعال الغابات - الأنين التائه بين الصخور - القطيع الميت)، وبما أن الذات تروع خوض غمار مغامرة انبعاثية جديدة، تحول تجربة الموت الى معبر الى حياة أنقى وأطهر، فإن مناجاة مصادر البعث والحياة في الطبيعة: الجبال - الأنهار، تغدو أشد إلحاحا. ويمكن أن نقول، بأن الكون الجديد الذي تفضي إليه تجربة الانفتاح من خلال الفناء، تحيل جسد الذات مصدر إشعاع وبوتقة نور، في موكبها توصل الأشياء والكائنات بما يناقضها ليسفر التركيب عن تطهير وتخليص من القوى الشريرة:
... أسير تحامين جريحتين
والفرح ينبض في مفاصلي
إني أسير على قلب أمة (ص 56).
لقد أصبح العالم المحسوس، بعنفه ورعبه ومشاهده البشعة: (الحياة الكريهة - نواح الأشجار -الجيوش الصفراء) دما يسري في الضلوع، هو مبعث الكآبة المتأصلة والإحساس الرهيب بفداحة الفقد وفي حضرة الغياب والتلاشي، تستسلم الذات لغواية السفر والرحيل لأنها اختارت المرافئ والسفينة، مسكنا وبيتا رمزيا، يكون الموت فيه معبرا لحياة أبدية ترتاد فيها غياهب المجهول، وأنوار الكشف والتجدد، من غير أن تنفصل عن الراهن بصخبه وفورانه. وقد يكون ذلك هو السبب الذي وجه حركة الأفعال: سأبكي... سأرنو... سأرتجف... مشهد مسرحي تحدد فيه حركة الممثل (المندحر) على الركع بدقة فائقة.
إغراء الجنس ولا نهاية التحولات
ترنو الذات الى الآخر: النساء، الطفل، رغبة واشتهاء، فتتوق الى احتضانه بحرارة احتماء من هول الفقد والوحشة، وألم الغربة وليس استحضار ذكريات الطفولة وأحلامها الباذخة، سوى شكلها من أشكال الانسحاب والاحتماء:
فأنا مازلت وحيدا وقاسيا
أنا غريب يا أمي
وفي نشوة العشق تتنامى التحولات، وتتمدد الذات لتشمل الكون، متماهية مع عناصر الطبيعة: الحصاة - تجويف من الوحل الأملس - وردة - صفصافة ومع العناصر الصادرة عن الإنسان:
أغنية طويلة...
ليعقد اللقاء بين الأرض والسماء:
أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة
(ص 26)
غير أن اللقاء لا يلبث أن يستعيد الصفاء الأرضي الذي يقابل الجحيم الراهن ليتشابك المتخيل والمعاش - إن هذا التفاعل هو الذي يوجه طبيعة تحول العناصر ويؤسس فضاءات الأكوان التخييلية التي تسبح في فلك الدمار والخراب، مما يعمق جروح الفقد، ويدفع الى استعادة تفاصيل المعاناة: الجوع - التشرد - الكآبة - الحزن..
ومن هذه الفجوة نخلص الى أن الشاعر يواجه الزمن بالزمن مصعدا الحرقة والمعاناة والبشاعة لكي يكتشف الجوهر الأسمى للإنسان باعتباره البؤرة التي تمد العالم المحيط والبعيد بأشعة النور والضياء، لأن السيرورة التخييلية تأخذ نقطة بدئها من الجسد الأنثوي في مظهره المزدوج: الإيروتيكي والأمومي حيث تختلط النشوة الجنسية والعاطفة الأمومية والتوق الطفولي. إن ملامح: البغي - ماري - الأم، تتحدد بالعلاقة مع بيع الجسد، واستباحة المفاتن، مآل بئيس يثير العواطف المتناقضة: الحب - الكره - الامتناع - الاشتهاء. ثم لا نلبث أن نواجه، وفي حركة التحولات تمديدا وتوسيعا للجسد ليشمل قارة وفق ترسيمة التكبير.
كنت أرى قارة من الصخرة
تشهق بالألم والحرير
والأذرع الهائجة في الشوارع (ص: 29).
ومن خلال التوسيع، تستعيد الذات تفاصيل المأساة السرمدية لأن الخوف والقلق من الزمن، لا عمر له، ومشاهد البشاعة قد تغير أقنعتها، لكنها تبقى هي هي. وما استحضار السيرة المشؤومة، وعرضها أمام الأنظار في مشاهد خليعة، وتغيير أوضاعها: أعلى - أسفل - أمام - خلف.. سوى أنموذج لجسد الزمن البشع. ومن بؤس الذات أنه لباس لها يكبح جماحها ويعوق حركتها. إن الوحول المتراكمة، توقد في الكيان شهب الغضب والنقمة، وتلطخ الكائن والأشياء بالدم، بقع قانية هي عبارة عن منافذ قاتمة تعرض العالم – المصغر، الذي هو الملجأ الحميمي من عنف المحسوس، للسقوط. وفي الوقت ذاته، ترسخ الوصل والفصل بين المحسوس والمتخيل، وبين الحادث والمحتمل:
في البساتين المرحلة.. كنت أنظم الشعر يا ليلى
(ص 49)
وإذا كان البرزخ الذي يصل الغائب بالحاضر قد محى والمعشوقة التي، يذوب من بينها العاشق قطرة قطرة متمادية في تمنعها، فلأن الانغماس في اليومي بصخبه وفورانه، هو شكل من أشكال تفجير السخط، وإزاحة الأقنعة التي تتوارى خلفها الكائنات والأشياء بخستها ولؤمها.
لقد غمرت الظلمة المكان - البيت الحميمي - وأطلقت قوى الشر من مواطنها، فألحقت الدمار والخراب، لذلك غدا قفرا هجرته العصافير، وساده الصمت الرهيب الأشبه بصمت القبور. وهنا تغدو الكتابة شهادة واستشهادا (بتعبير الناقد والشاعر الراحل عبدالله راجع)
أنا طائر من الريف
الكلمة عندي أوزة بيضاء
والأغنية بستان من الفستق الأخضر (ص 68).
ويحسن أن نشير الى أن للنهد والعين حضورا مكثفا، فهما البؤرتان اللتان تستقطبان العوالم اليهما: القارات - الوطن - المدينة - دمشق. والعضوان المضيئان في الجسد، اللذان يذكيان جذوة الاشتهاء والانتشاء، ويبعثان الأحاسيس والمشاعر المتناقضة: السعادة، الغضب –الفتور -الاشتهاء - الظلم - الأنصاف، اليهما يلوذ المشرد المحترق ليحتمي من البشاعة، وفيهما يستحضر الذكريات الهاربة: القرية - الحقول – السرير - ومنهما يتطلع الى السفر العلائي بعد أن بلغ السخط والغضب منتهاه. عندئذ يعاد بعث صورة الإنسان الكامل، الذي يسع الأرض والسماء، يتسامى الى حد التماهي بالنجوم، وينغرس في الأرض ليفجر الينابيع، ويصل الأسفل بالأعلى والأحط بالأسمى والمتعفن بالأنقى والأصفى:
نصفه نجوم
ونصفه الآخر بقايا وأشجار عارية
ذلك الشار المنكفيء على نفسه كخيط من الوحل
(ص: 40)
إنها قدرة سحرية على التماهي والتحول، ترتقي من خلالها الذات مدارج السمو والرفعة فتتحد بالعناصر: المطر - العيون - رائحة الغابات - هدير الأقدام العارية... غير أن لحظات الصفاء هاته لن تدوم لأن المأساة سرمدية، ونشوة الاكتشاف والمغامرة المتصلة:

المصدر: مجلة نزوى

 

أقرأ أيضاً: