البدوي الأحمر

محمد الماغوط

سأدخن همومي وجراحي
كما لو كنت في نزهة على شاطئ البحر.

***

ووراء القضبان أعقد لقصائدي شرائط وجدائل مدرسية بيضاء وأطلقها من النافذة.

***

ثم أتابع وقع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانتي كأنها آثار قلمي.

***

وبعد أن أكتب كل ما يروى لي
أقص دفاتري على شكل زورق وأشرعة وصوار
وألقيها في عباب المجهول
ثم أنصرف الى الصحراء
لأعرف ماذا أفعل بها
أو معها؟
رأسي ممتلئ حتى آخره بالأحلام والأمنيات
ولم يعد فيه مكان لحلم جديد
وإذا ما وجدت فستدفع خلو رجل
كما في الأماكن السياحية والتجارية.

***

لقد قضيت حياتي وأنا أنتظر
حلول الليل
طلوع الفجر
الحب
تغريد الطيور
شروق الشمس
الإبداع
الإلهام
الهبوط
الإقلاع
إلا الذي أحبه أن يعود.
فلا أرى له أية بارقة أمل.

***

أقسى ما في الوجود
أن لا يكون هناك ما تنتظره
أو تتذكره
أو تحلم به!!
كل ما هو وراء الأبواب المغلقة
وتحت السماء الغائمة
الزهور، الطيور، الصخور، الشعوب
هو الى الفناء
ما عدا الشعر والله
ولذلك فإن الله لا يتربع في أعالي السماء
بعيداً عن كل شيء لأسباب دينية
بل عاطفية
ولذلك أعمد الى تمزيق خيامي كبدوي
ورفع ستائري كحضري
بل وأفتح قلبي وصدري
لكل شعراء العالم
حتى الفاشلين منهم.

***

إنني أكره الياقات العالية
والقبعات المحكمة
والأزرار المقفلة
والخناجر المغمدة
وحتى الأصابع المتشابكة
في ضوء القمر
تحت ظلال الزيزفون!!
دائماً أقابل من أحب
ومن أكره
وأنا في أسوء حالاتي.
ساعدني يا إلهي..
خذ بيدي..
بل خذها
وخذ المرفق والساعد والكتف
فعندي أعضاء كثيرة لا لزوم لها!
مختارات من كتابه الأخير "البدوي الأحمر" الصادر حديثاً عن "دار المدى"، دمشق، والذي خصّ به "المستقبل" قبل نزولِه.

- المستقبل- 24 مارس 2006-

*********************************

عن محمد الماغوط الذي عاش عارياً ومات عارياً كالرمح كالإنسان البدائي

مات محمد الماغوط أمس عن إثنين وسبعين عاماً (1934 - 2006). نحن، في بيروت، وفي جريدة "النهار"، بيته هذا، لا نرثيه إنما نكرّمه ونرفع له القبعة ونضعه في المكانة التي يستحقها في حركة الحداثة الأدبية العربية. صحيح ان الوقت ليس وقت التبجيل الإنشائي والكلام الطنّان الرنّان، ولا وقت النقد الأكاديمي البارد كالأضرحة، لكنه وقت الوفاء فحسب. وهذا يدعونا الى أن نفتح الباب على مصاريعه، ليتحدث الشعراء والنقاد عن ريادته الشعرية، وعن خصوصيته التي تميّزه عن أقرانه، وعن "همجيته" الهائلة لكن الأرقّ من وردة، وعن بيروت، المدينة التي جعلت من ذلك كله، ومن غيره، تمرداً هو الأجمل من كل تمرد، وبيتاً هو الأوسع من كل بيت، وشعراً هو الأجمل من كل شعر. وإذ يعود محمد الماغوط الى بيته الأصلي، الغابة، كما شاء أن يقول في إحدى قصائده، فمن أفضل منه متحدثاً عن هذه المغادرة الأبدية، كما في مقطع من إحدى قصائده: "والموت المعلّق على خاصرة الجواد/ يلج صدري كنظرة الفتاة المراهقة/ كأنين الهواء القارس". وها هنا شهادات.

*******

محمد الماغوط يعود الى الغابة

جمانة حداد
(لبنان)

جمانة حدادأمس توفي شاعر كبير يدعى محمد الماغوط (1934 - 2006). نقطة على السطر. شاعر من طراز البدائيين الفطريين الذين يجيء شعرهم معهم مثلما يجيء المطر مع الغيم، ومنه.

لا علوم، لا مدارس، لا جامعات، ولا حتى اجتهاد، سوى اجتهاد الألم حين لا يعود في وسع الوجدان أن يتحمل صرخاته فتخرج هذه منه على طريقة الحمم، ومثلما يُطرَد الجنين من الرحم، ملطخاً بدم الخروج وبلعنة الولادات.


هذا الآتي من السلمية، ذهب الى دمشق عاصمة بلاده، وحطّ في بيروت عاصمة شعره، ليحزن في ضوء القمر ويقول:

الفرح ليس مهنتي.

شاعرُ غريزة وموهبة وفطرة، هو محمد الماغوط. وشاعرُ حياة.

وعندما تكتب هذه الحياةُ شعرَها فهي تكتبه بالأظافر، وبالنثر الفجّ المباشر الذي يقول كل شيء، فإذا كل شيء هو الشعر.

والشعر متوحش، أرعن، وقح، فظ، ماجن، نزق، عدواني، ولكنه مجنّح، وحقيقي.

وعلى صورة هذه الحياة نفسها، شعر الماغوط. وعلى طريقة السيول التي عندما تتجرأ على السدود، كل السدود، ولا تستطيع هذه سوى أن تنحني أمامها، فإنها تجتاح الأراضي وما عليها، وتغمر الكائنات، بشراً وطبيعة، وتصادر السهول والجبال والأودية وممتلكات الخيال، لتنادي بسلطانها على اللغة والكلمات.

شاعرٌ جمع شعره من سيره المتسكع تحت النجوم، وفي الأزقة، أزقة هذه الأمة، ولملمه من فجوات روحه المتشققة كأرض أصابتها الزلازل.

لم يكن شاعراً منارة، ولا شاعراً تاريخياً. كان فقط شاعراً كبيراً، ومن لحم ودم، وبكل خلجات جسمه وروحه الملعونين. وهذه منحة كانت موهوبة لقلة نادرة، ولم تتوافر لكثيرين من مجايليه، والملتحقين، واللاحقين.

أكثر الشعر فيه، هذا النثر الذي يقول الأشياء العادية، الأشياء اليومية، أشياء كل شيء، من السياسة، الى الحب، الى الوطن، الى الجنس، الى العربدة، الى الكحول والسكارة، الى التسكع، الى الجوع والفقر والتشرد الى الأحلام المتكسرة والأوجاع الميؤوس من شفائها. فكانت هذه الأشياء تنقلب بين كلماته، بسحر ساحر، وتصير هي الشعر.

وكم أحبّ لبنان، وكم وكم أحبّ بيروت. وكم استطاع أن يحقق شعريته فيهما، وخصوصاً في هذه العاصمة التي جعلته في قلبها، وواحداً من كبار أهلها وشعرائها، بين صفحات "شعر"، و"خميسها"، وجنباً الى جنب مع حزمة رفاقه الرواد.

قال محمد الماغوط عن لبنان المحترق إنه يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء، وإنهم إذا صرعوه "سأطلق الرصاص على حنجرتي". وقال عن نفسه إنه جاء متأخراً الى هذا العالم كزائر غريب بعد منتصف الليل، ولا شيء يربطه بهذه الأرض سوى الحذاء.

أذكر أني اتصلت به منذ مدّة، كي اطلب منه يوماً في حياته. مراراً اتصلت، وكان يتمنّع: "إنني مريض ومتعب"، كان يقول. وكنتُ اعاود الاتصال، حتى وافق أخيراً. لكنّ الجلاد الأخير انقض عليه قبل أن يعطى لنا أن نحظى بيومه ذاك. وشاء القدر أن نستضيفه يوم موته.

هذا الذي ولد عارياً، وشبّ عارياً كالرمح، كالإنسان البدائي، على قوله، ها هو يخرج عارياً من بيته ليعود الى الغابة.

وإذا من بطاقة هوية لهذا الشاعر "الجلف" فهي هذه البطاقة فحسب: "عيناي زرقاوان من كثرة ما نظرتُ الى السماء وبكيت".

و"النهار" التي أحبته، وصفحتها الثقافية، تنحنيان لغيابه، وتتذكرانه.

ونقطة على السطر.

النهار- 4 ابريل 2006

الحرفة الدمشقية جاءت بالقمر وغزلته في بيروت

شوقي أبي شقرا

يمكن أن يكون أشبه بتلك الحمامة المنفلتة من القيد وغير المطوقة إلاّ بعلامتها، وحاملة النقيضين، فهي ذات الحربة في المنقار، مرةً أولى، وذات الغصن والسلام والمسالمة والسماح، مرةً ثانية.
وبالحمامة الثانية الأليفة التي تطوف بنا هادئةً والتي تسمع الصوت والتي ترتفع وحدها وتمضي مستقيمة الجناحين الى القفص المحتمل والذي يوجز الحرية والاستقلال، والى السؤال التالي أو النغم الذي تختاره من كومة الحيرة والتردد، والى النقطة المزدحمة بالرفاق، والى فضاء يرحب بالقادرين على الإنجاب من القفر وعلى الفتوحات. ويمكن أن يكون أيضاً أشبه بالصقر من جراء عينيه والتحديق الى الزرقة السماوية والى تحولات التراب والوضع البشري، وتنفتحان على مطاردة النفيس والثمين وتنغلقان عليهما وترقصان حتى القبض على الأطياف النحيفة الى سائر المجردات.
إنه محمد الماغوط جاء وحطّ. جاء الى بيروت الثقافة ومطهر التوق ولهيب العطاء، في ذلك الأمس الغابر والسعيد والمزهر الذي كاد ان يتحدى الربيع، جاء الى مجلة "شعر" ليطير في السرب وزاد الى السموّ سموّاً، جاء إلينا وطوّقناه بالأذرع الممدودة، باللوز والسكّر، بالورق المنهمر من جفوننا، من مكتباتنا ومن كل أخضر فينا، وكل خريف نهواه، وبأباريق الحبّ والعنفوان، وسقانا وسقيناه، وكل ذلك تمثال من الأمجاد، حتى ولو انصرفنا وحداناً كل الى عرينه، الى وكره، الى ديوانه، في ما بعد، أي عندما افترقنا والواحد منا يحصي التبر والثرى، أو الغار والأكاليل كما تقضي الضرورة، ويقضي الحساب الأخير والضحكة الأخيرة. وكان يوسف الخال حاضراً ومهيأ، وكان أدونيس المفعم الزاد والذي قدم الى بيروت من وطنه القريب، وكان فؤاد رفقه القادم بنداءاته أيضاً، وكان شوقي أبي شقرا والقريحة المسهبة، وأنسي الحاج وعذاباته، وخالدة سعيد بدلوها الفائض وحملها الفكر، ونذير عظمة موجوداً في الحلبة والآتي مسرعاً، وكان الآخرون جميعهم، في ذلك المدى الخصب يحطّون ثم يروحون، يزورون ثم يرجعون الى مدارهم وبهم الحسرة على الفراق وفرسان الطاولة المستديرة في أفدح الجهد، ونرقب أيّ شعلة أيّ موهبة من هنا ومن هناك، الى أن كان بيننا شاعرٌ كأنه من الغربة ومن أدغال كثيفة، فاستوعبناه واحتويناه، وردّ علينا بالمثل، وعلونا على الدرجات الى رأس الحكمة ومخافة الله.
إذن هوذا محمد الماغوط الذي أظن أن نذير عظمة كان الدليل السبّاق عليه، ومحمد هو الذي نزل في مساحة تلك العصبة، وسرعان ما انسجم مع مناخها، وفي جيوبه قصائد وفي يديه معول العفوية، ومنجل النخوة والحصاد واللغة المثقلة بالعجب، وفي عينيه تكراراً الثاقبتين المرفرفتين خيال يذوي وخيال يحيا ويهزّ الجمود بهما وينظر الى الأفق وبه إلحاح، ولو هو في جغرافية ضيقة وليست ضيقة، وفي مجلس كان على ضيقه وليس ضيقاً يغلي ويفور على حدوده، وطموحه افتراضاً يتجاوز الحواجز من أي نوع، وتموج أزهار وجدانه، ومن تلك الرحابة الكافية في البدء انطلقنا في الرحلات والأسفار.
وهو الصديق الذي اكتملت صداقته بيننا، وهو الأخ الذي ترافقنا وإياه على طريق الكتابة المنقذة من الانحطاط ونحت الشكل ليكون شكلاً أبهى وأقرب الى الهدف الذي وضعناه على المنصة، شمعة وهّاجة ولا تخبو نارها فذلك تاجها وذلك قدرها. وكان الماغوط آنئذ في بهجة من العمر والحماسة الشديدة ولو طفراناً ولا يملك حجراً ليسند رأسه، ولا فلوس فوق العادة، فوق المعدل مثلنا، ولا يطيق من متاعه سوى سيكارته وسوى القلم وسوى الكأس ليشطح شطحات كبيرة وغارقة في التهكم وفي الإحاطة بما حواليه، بألفاظ مشرقية شرقية وتشابيه تتوالى منظراً ينطح منظراً، وبتصاوير كأنها من الحرف الدمشقية وبيان يعزف الغرائب كما يعزف الكائنات ويزرع الجملة في بستانها وينثرها على حقل من الوحشية الناعمة، وإذا هي تخرمشنا، ويقع منها العطر على قارورة العطر.
وقلت ذات يوم، وقال يوسف الخال، ليت محمد يكتب في جريدة "الزمان" حيث كنت انضممت، وكان رفيق المعلوف يديرها، وهي للنقيب روبير أبيلا وللأخوين جوزف وعارج سعادة، وأقبل محمد الماغوط ليكون في باحتنا تلك، وكان يجلس في زاوية مهضومة من المبنى في بيروت، مطلع الستينات القديمة، وأنا الى طاولتي حيث الانفتاح ودسامة العمل، وتارةً نضحك وتارةً نجتهد، وكانت الرفقة واللقاء على المعاني وعلى الأخبار، وهو منذ تلك الآونة لا يهدأ ويعطي النكهة تلو النكهة، ويصوغ تعليقاً سياسياً على الأحداث، على الوقائع وعلى ما يجري، وكان كأنه في حلة ناعمة من تدجين ذاته المندفعة والقابلة للهبوب في أيّ لحظة وأيّ دقيقة.
ولم ينقطع المطر الإبداعي في الحقبة التي حكمناها وكانت إمارة ملأناها بالنجاوى. ولم ينقطع محمد الماغوط فهو في صدد الابتكار طوال الوقت، وحين يرجع الى سوريا ولم يفارقها تواصل الدفق لديه، الدفق المسرحي والأدبي، صفات أضافها الى جدوله والى دارة الشعر وقباب النقد وذرّ الحقائق ساطعة، ولبثت مشرقطة تلك النظرة القاسية منه وتلك المخالب يشحذها ضد الخطأ حيثما كان وكيفما كان. وهنا من بيروت، غير المتلعثمة والتي تستفيق على الوله والصحو وعلى نمط آخر من سطور الرسالة والمهام أوجه اليها التحية الأبدية، والى عائلته والى ذكرى زوجته الراحلة قبله الشاعرة والصديقة سنية. وأكاد أصافحه في نهاية النهايات من مسافة ليست مغرقة في التنائي، وأرجو ان يتلقى مني قبلةً وكأنه نضر دائماً على وجنتيه وشهادتي هذه، وعسى لا خسوف أبداً في قمره الذي لفّه بحزنه القاتم في ميعة الإطلالة وموجة الصبا، ومنح الكوكب اللذيذ في ديوانه ولأول هالة من الأنس والرحمة، ومن الشوق الى السكون والصمت السرمدي والمسرف في الثراء والتحية الناصعة كذلك ولا تلبث ملتهبة، لنصوصه العابقة بالاصلاح الملهم والهدير الساطع في شأن القضية العربية وانبعاثها الأكيد، وفي شحذ الشعوب خاصة وضربه وجلده الجمود القاتل وكشفه الحق الذي يبهر حتى العميان ونشاطه الذي يزرعه نقداً ليهدم الشر الكثيف وترتقي الأمة الى العلياء وتحيد عن خط القهقرى والبقاء في الهامش الذي لا يليق بها، مؤمناً وواثقاً بالانتصار.
وأوجه اليه محبتي، له ولعائلته، صنو محبته لي وحفظه عمق العلاقة والوفاء لما قمنا به ولا نزال نفعل.
ولا ننكفىء يا صاحبي ولا نرتخي، ولا نأسف طبعاً على التعب الذي لم ينفرط كالمسبحة وجنينا منه تراثاً استطعناه وصار تراثاً حقاً وأنت منه. وأنت في الشعر العربي الحديث وفي النثر أصدق عبارة وأوفر تجربة إذ وصلت الى الذهن العربي الشامل، وفي عجلة بلغت مرتبة النجاح والتجاوب بكمال وأبهة مع مسرحك وجذبت الجماهير وأيقظت أحلام التغيير.
وكان جسدك يهوذا الذي استباحك.

***

قصيدة بدائية مهداة من الآلهة

الهاتف يرنّ، صوتٌ من الطرف الأخير يعلن النبأ، إنه وفاة الشاعر محمد الماغوط، وفجأةً شريط الصور يستفيق في الذاكرة. تعرّفت الى هذا الشاعر في الخمسينات من القرن الماضي، في "خميس" مجلة "شعر"، فكان مفاجأة لي بشخصيته العبثية، وكان مفاجأة لي بقصيدته النثرية المتجسدة بالصورة البدائية والملتصقة بالحياة حتى التوحّد، ما ساهم في صورة جذرية في تأسيس القصيدة النثرية في التربة العربية وفي تحريرها من القيود الحديدية الخانقة. إن شاعرية الماغوط لا تستند في جوهرها الى خلفية ثقافية، بل الى موهبة مجبولة في طبيعته، كما لو أنها هدية من الآلهة. في رحيل الماغوط تسقط نجمة من سماء الشعر، ولا أحد يعرف متى الأقدار تغني الوجود بشاعر آخر. وأنتَ، يا محمد، يا رفيقي القديم على الدرب الطويلة، كم تمنّيتُ لو كنتُ قريباً منك في اللحظات الأخيرة، أتأمل وجهك، ومعاً نتذكّر أياما لن تعود، ونبكي.
فؤاد رفقة

*******

موهبة نادرة

هنري فريد صعب

منذ أول قصيدة نشرها الماغوط في مجلة "شعر" في أواخر الستينات، أثار الاهتمام. فقد لاحظ الوسط الشعري يومذاك انه أمام صياغة طريفة تختلف عن بقية الطرافات التي كانت تتبارى في التجديد والإبهار. فبينما كان آخرون يمتحون تجاربهم من معين الثقافات على أنواعها وبكل مؤثراتها، منح الماغوط من واقعه المرّ صوَراً حسية مباشرة جذابة ترتكز على التشبيه الذي يلمع على سطح اللغة. وهذا التسطيح الشعري الذي تخلى عن سحر العمق ورؤاه، لو لم يؤتَ موهبة كموهبة الماغوط النادرة، لما استطاع ان يقف الى جانب مواهب "شعر" التي كانت تعتمد على مدّخراتها من مدارس الغرب.
وما زاد في جاذبية الماغوط، ان القراء وجدوا أنفسهم أمام ظاهرة كان النقاش حولها يشتد بين حين وآخر: هل يمكن اعتبار هذا النمط النثري شعرا؟ إن ما يقرأونه مدهش، ولكنه غير موزون. وقد اقتضى هذا المعطى ساعات طويلة من الترويض للأذهان حتى استأهل هذا النمط ان يحظى بحق المواطنية في العالم العربي، وإن تكن لا تزال بعض العقول تتنكّر له، لقِصَرٍ في ذائقتها الأدبية أو آفاقها الثقافية.
وما يجب ان ننبّه اليه - وهذا ما يخطئ به بعض من يتحدّثون عن الماغوط وقصيدة النثر - هو أن ما جاء به الماغوط هو نثر شعري او شعر نثري او شعر منثور، سمّه ما شئت. وهذا لا يُنقص من أهميته. فحتى في العالم ثمة شعراء ناثرون كبار اعتبروا خطأ في عداد شعراء قصيدة النثر، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، سان جون بيرس الذي كان يرفض ان يُدرج اسمه في بابها. وعندنا ايضا قليلة جداً قصائد النثر، حتى عند الرواد. فما كُتب ويكتَب يتجاوز بأشواط شروط قصيدة النثر الضيقة التي لا تقل تضييقا عن قيود الوزن والقافية.
وبعد، فمن أين جاء الماغوط بهذا الأسلوب الطريف؟ سؤال لا بد من طرحه. وأظن لم يطرحه ناقد بحسب علمي. ما دامت الكلمات تبنى على كلمات. الذين عاشوا الستينات، لعلّهم يذكرون مدّ الترجمات للأدب الواقعي الذي كان يسيطر على البلدان الاشتراكية، ومنها البلدان العربية. ومن الشعراء الذي كان لهم الصوت المسموع: بابلو نيرودا، فديريكو غارثيا لوركا وناظم حكمت. هؤلاء الفرسان الثلاثة كان لهم نفوذهم على فريق من المبدعين، وعلى رأسهم الماغوط، في الوقت الذي كان نفوذ اليوت وباوند وسيتويل وسان جون بيرس يطغى على فريق آخر.

********

هنا يرقد آخر الأطفال في العالم

زينب عساف

"شخّوا على قبري" (محمد الماغوط، "ملحق النهار"، 3 آذار 2001)، هكذا ختمتَ الكلام أيها الشاعر، غير آبه لما سيقال، ناسفاً كل الرثاء المقبل.
حسناً، ماذا تريد بعد؟ أيها البدوي الأحمر، أغفر لنا، سنسجن كل الشتائم والكلمات العارية الشوهاء التي تتدافع الآن للحاق بك، وسنسمح فقط للكلمات"المهذّبة" الباردة كتابوت مغلّف بعلم وطنك، بالمرور. ستكرهنا وتكره كلماتنا ومراسمنا، وسنحبّك كما يليق بنبي ملعون حشا مسدسه بالدموع وأطلق النار. أذكرك الآن كما رأيتك للمرة الأولى (أكتشف أنها الأخيرة اليوم) حين كرّمتكَ مؤسسة سلطان العويس الثقافية في دبي، قبل أسابيع قليلة. للحظ مآثره يقولون، وسخفه أقول. لماذا؟ كيف أصف تكريم أكبر المتسكعين العرب؟ درع ووسام فوق قلب لا يزال يحمل "آثار الأقدام"؟ متسكعنا الأكبر ينهي حياته بتكريم؟ يومها قال المثقفون الذين حضروا اللقاء: "يستأهل الماغوط!". ووقفت أنت بقامتك المنحنية وعباءتك السوداء ملوّحاً للكاميرا بيد، ومثبّتاً عكازك كعقب بندقية باليد الأخرى. خلناك جندياً مهزوماً، أو أليفاً ومدجّناً، عندما رأيناك في الفندق وقبعتك الشهيرة منحنية قليلاً، لكنك حرصت على السخرية من مراسم تكريمك كما تسخر الآن من شعائر دفنك. تركت الندوة المخصصة للمكرمين وخرجت أكثر من مرة، تارة للتدخين، وطوراً لالتقاط الصور التذكارية مع المعجبين. ضجِراً كنت ومتبرّماً كعادتك، عرفناك حينها: محمد الماغوط المتشرّد، محمد الماغوط العصي على التكريم وعلى الموت. يؤسفني أن تكون مقالتي الأولى عنك مقالة رثاء. لكني أبتسم إذ أتخيلك الآن رافعاً رجلك من بين أقمشة الكفن البيضاء، ورافعاً إصبعك الوسطى في وجه العالم والمعزين. أيها الشاعر، سنكتب على قبرك ما كتبته على قبر زوجتك الشاعرة سنية صالح: "هنا يرقد محمد الماغوط، آخر الأطفال في هذا العالم".
في أحد اجتماعات مجلة "شعر"، قرأ الشاعر أدونيس بعض القصائد من دون أن يكشف عن اسم الشاعر، فراح المستمعون يتساءلون: "لمن هذا الشعر المترجم؟ لرامبو أم لبودلير؟". بعضهم ظنّها قصائد حديثة غير منشورة لأدونيس، الذي سرعان ما أشار إلى شاب مجهول، أشعث الشعر، قائلاً: "هو الشاعر". لتردّد بيروت من بعده: "هو الشاعر". أما هو فأعلن: "كتبت لأنجو"، مدركاً أنه لن ينجو أبداً.
يقول الماغوط انه أصبح شاعراً حين رأى مستقبله "على نعل شرطي" أثناء تجربته في سجن المزّة وهو بعد في ريعان الشباب. كان ذلك في العام 1955، حين أمضى تسعة أشهر، كانت كافية لتغيير مسار حياته. لن يحلم ابن السلمية (قرب حماه) بمتابعة دراسته في كلية الزراعة بعد ذلك التاريخ، بل سيحزم حقائبه نحو عاصمة الشعر والأدب: بيروت. وعلى الرغم من أن تهمة سياسية هي التي ألقت به في زنزانة، إلا أنه لم يأخذ انتماءه الحزبي على محمل الجد يوماً: "لم أكن قابضاً الحزب القومي (السوري الإجتماعي) ولم أصمد من أجله، بل لأن طبعي عنيد". وإذا كان قد ألّف أولى مسرحياته في السجن، إلا أن أولى قصائده ظهرت في العام 1958 وهو حر، في العدد الخامس من مجلة "شعر".
عُرف عن الماغوط حبّه للعزلة، لذلك ابتعد عن أجواء المثقفين وجلساتهم ومناقشاتهم، ليحافظ على نقائه، وهو"لم يحب أو يكره أحداً في حياته سوى الفقراء". غادر بيروته، التي كانت تمتد بين شارعي الحمراء وبلس والروشة، إثر صدور قرار بإبعاده عنها، وعاد إلى الشام حيث استقرّ حتى نهاية حياته، كمن يعود إلى فتاة أحبّها في صغره ورآها بعد خمسين عاماً فلم يعرفها. قاتل المرض طويلاً، وتمسّك بالتدخين وشرب الخمر، محتقراً جسده الذي لم يعد يطاوعه ومعترفاً بالقطيعة بين هذا الجسد وعقله.
الماغوط ابن الحداثة الشعرية اللبنانية، هو أحد أهم رواد قصيدة النثر العربية، وشاعر التسكع من دون منازع. أحدث ديوانه الأول، "حزن في ضوء القمر" (دار "مجلة شعر"، 1959) انقلاباً حقيقياً في مسيرة القصيدة العربية، ما زلنا نحسّ ارتداداته في إنتاجات الأجيال اللاحقة من الشعراء الشباب. لقد كتب الماغوط ديوانه بجوعه وحرمانه من خلال لغة واضحة "كسهل البقاع"، نافذة "كأنين الهواء القارس"، ومتوهجة كـ"عاصفة من النجوم"، مستحضراً كل حسراته وآلامه التي خوّضت فيها طفولته، وجرع شبابه كأسها، وأمته التي "تشهق بالألم والحرير". لقد أسس الماغوط لقصيدته منذ ديوانه الأول، أو بالأحرى أسس لطريقة جديدة في الكتابة. وتتالت دواوينه: "غرفة بملايين الجدران" (1960)، "الفرح ليس مهنتي" (1970)... صحيح أن شاعرنا لم يجعل من الفرح مهنته، لكنه لم يترك في جسد الكتابة مكاناً لم يطبع عليه بصماته. فقد كتب في المسرح: "العصفور الأحدب"، "المهرج"، "ضيعة تشرين"، "كاسك يا وطن"... وكتب رواية وحيدة هي "الأرجوحة" (1974). إضافة إلى العديد من المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية.
الشاعر الذي سمّى أحد كتبه "سأخون وطني"، سمّى ابنته: شام. خيانته على الورق، بقيت على الورق. لقد هجا الماغوط وطنه من فرط محبته له. رفسه وبكى على ركبتيه. لقد رحل محمد الماغوط الشاعر الذي قال إنه كان في طفولته يأكل التراب. ولكن: هل أخذ الماغوط حقاً حصته من تراب وطنه؟

زينب عساف

********

مات مذعوراً

"أقول للبنانيين: أيها اللبنانيون الطائفيون أو العلمانيون أو الماديون أو الروحانيون... تمسّكوا بـ"شقفة" الحرية، تمسّكوا بكعب حذاء الحرية الباقي لكم، فهو خشبة خلاصنا. تمسّكوا بما بين أيديكم من أطلال الحرية العربية. الحرية تؤخذ ولا تُعطى": هذه هي وصية محمد الماغوط لنا نحن اللبنانيين، كما طلب مني أن أدوّنها له حرفياً في لقائي الأخير معه في أيلول 2004. حينها ذهبت اليه بعد انقطاع دام 12 عاماً، لأجده لا يزال هو نفسه بقلب عصفور وجناحَي نسر؛ مخلوقاً خرافياً ملعوناً، تماماً كما كان يقول هو: "هناك لعنة اسمها الماغوط". في ذاك المساء الدمشقي الناعس، كان يشرب كأساً، هي مزيج من النبيذ والويسكي والجين. كوكتيل حارق من الكحول فيما السجائر لا تنطفىء في فمه. هكذا، كان يمارس شيخوخته، بنظرة ضارية وجسد محطّم. الماغوط، الذي قال لي "ولدت مذعوراً وسأموت مذعوراً"، كان أسير كابوس يلازمه في نومه: "أجد نفسي تائهاً، وقد أضعت عنوان منزلي وأتجول خائفاً أفتش عنه، وغالباً ما يكون المكان هو بيروت... أدور في الشوارع: شرطة ورجال أمن ورجال دين وكلاب يطاردونني، فأستيقظ مذعوراً، منقطع الأنفاس". هذه المرة لن يستيقظ الشاعر. لا رثاء ولا عزاء... كلنا نحو ذاك الكابوس.

يوسف بزي : موت شكلي

كنت أسمّيه الماغوط الكبير. وكانت كلمة ماغوط توحي لي كلمة طاغوت.
كان واحداً من أصحاب اللعنات الثلاث في الشعر السوري، لا بل العربي برمته: نزار قباني، أدونيس، وهو. أصابت لعنته مقلّديه المباشرين في الستينات، فجاؤوا وذهبوا كأنهم لم يجيئوا ولم يذهبوا! ثم حطت على رؤوس شعراء جيل السبعينات الذين لم يجدوا في سوريا جداراً سواه، يسندون اليه ظهورهم. وأيّ جدار!؟ ثم امتد إغواؤه إلى شعراء الثمانينات والتسعينات الذين بدوا كأنهم جميعهم يخرجون من معاطف الذين خرجوا من معطفه.
لا أحد عبر حقل الماغوط ولم يعلق في شراكه أو يتفجر به أحد ألغامه. بالنسبة إليّ، خلت أني قمت بتسديد دينه الباهظ عليَّ في أول مجموعاتي، "آمال شاقة"، فأهديته قسماً كاملاً منها، ثم رحت بعدها أتباهى بأني خرجت منه، بأقل الندوب الممكنة، متعلماً ذلك الدرس أن لا أقع بعده بسواه.
مات الماغوط إذاً، لكني لم أشعر بأن موته مفاجأة أو فاجعة. شعرت كأنه هكذا... موت شكلي، موت ظاهري. حتى اني أشعر الآن بأنه لا يصح أن أقول إنه بموته بقي يحيا بطريقة أخرى.
ماغوطٌ كهذا عندما يموت، يستمر على حاله كأن شيئاً لم يكن، بقوة دفع حياة غزيرة وواسعة وغائرة، ولمدة قد تطول أبداً! إنه أشبه بموت مسرحي، بخروج الممثل من المشهد من خلال شق لا يُرى في الستائر.
خرج الماغوط وهو يعلم أن لا مكان هناك يذهب إليه، فقد قال يوماً في مرثيته لشاعر آخر:
"قبرك البطيء كالسلحفاة
لن يبلغ الجنة أبداً
فالجنة للعدّائين وراكبي الدرّاجات"...

النهار- الثلثاء 4 نيسان 2006

***************

لم يعد هناك ما ينتظره أو يتذكره أو يحلم به
محمد الماغوط يرحل حزينا .. ساخرا.. مشتبكا مع الحياة وأهلها!
سعدية مفرح
'سأدخن همومي وجراحي كما لو كنت في نزهة على شاطئ البحر ووراء القضبان اعقد لقصائدي شرائط وجدائل مدرسية بيضاء وأطلقها من النافذة، ثم أتابع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانتي كأنها آثار قلمي..'.
وفعلا.. فعل محمد الماغوط كل ذلك قبل أن يضع النقطة الأخيرة على السطر الأخير في قصيدته الأخيرة، ويغادرنا ساخرا من كل شيء، عاريا من كل شيء، وغير واثق سوى من قدرة الشعر على اجتراح معجزات لم يعد لها مكان في زمان رمادي لا يحب المعجزات ولا يحترم المؤمنين بها وحتى عبر القصيد وحده.
رحل محمد الماغوط إذا، بعد أن كتب كثيرا من الشعر الذي لا يشبه أي شعر آخر وبعد أن عاش حياة مزدحمة بالمعاني والمواقف والكلمات المفاجئة حتى لمن اخترعها، ربما لأنها كانت دائما تأتي في سياق الدهشة الشعرية القادرة على التجاوز بطاقتها الذاتية بعيدا عن رؤى الآخرين وأفكارهم ونظرياتهم ومجلاتهم التي بشروا بواسطتها بالشعر الجديد.
كان الماغوط الذي رحل مساء أمس الأول وهو مازال في أوائل سبعيناته شاعرا قادرا على تجاوز نفسه الشاعرة في كل كتاب جديد بل في كل قصيدة جديدة، وربما كل كلمة من كلماته التي ينتقيها بعناية وحرفية رغم أنها تبدو عفوية إلى الدرجة التي قد يشك بوجودها في معجم اللغة أولئك المتشككون بكل ما هو خارج هذا المعجم، لكن الماغوط المنشغل بمتابعة وقع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانته كأنها آثار قلمه، لا يعير انتباها لكل ذلك، بل لعلنا لا نبالغ كثيرا إذا قلنا انه ومنذ أن قرر أن يكون شاعرا كان! وبهذا فلم يجد أمامه بدا من أن يضع قلمه محورا لكل شيء، وهدفا لكل شيء وربما سببا لكل شيء أيضا.
في قصائده الكثيرة ومسرحياته الساخرة وسيناريوهاته الموغلة في الحياة، حاول الماغوط أن يرسم ذاته الحزينة في ضوء القمر، مستعيدا في كل كلمة يدونها جزئية من جزئيات الوجع المهيمن على الروح، مستفيدا من قدرته الخرافية على استرجاع لحظات الحياة كلها، بأحداثها المهمة، ودقائقها غير المهمة، وألوانها المتناسقة والمتنافرة وأصواتها الصاخبة والهادئة، ومعانيها الضاربة في غيابات البشرية في تعميد ذلك الرسم بماء الموهبة الخالصة لوجه الشعر والإبداع والحقيقة التي ظل يبحث عنها طويلا عبر إنتاج المزيد من الأسئلة.

لكن شاعر الأسئلة والحزن رحل، وظلت أسئلته الحقيقية دون أجوبة حقيقية، وظل الحزن الكبير عنوانا للشاعر الذي كان يؤمن بأن الفرح ليس مهنته، ولذلك حاول تكريس ذاته للكتابة مهنة وموهبة، بداية ونهاية، قرارا وخيارا، فتوزعت روحه القلقة على كل محطات الكلام شعرا ونثرا، قصيدة ورواية ومسرحية ومسلسلا تلفزيونيا، وفيلما سينمائيا ومقالا وخاطرة وقبل كل شيء وبعد كل شيء حزنا متشظيا بين الأسطر، وسخرية صاخبة اقترحت له أحد أهم عناوينه الإنسانية البارزة باعتباره الشاعر الساخر جدا في جغرافيا عربية لم تعد تحتفي بالشعر، أو تعترف بالسخرية.
'بعد أن اكتب كل ما يروى لي
أقص دفاتري على شكل زورق وأشرعة وصوار
وألقيها في عباب المجهول
ثم انصرف إلى الصحراء
لا عرف ماذا افعل بها
أو معها..'.
لكن الماغوط الذي كتب كل ما روي له، وقص دفاتره على شكل زورق وأشرعة وصوار، ثم ألقاها في عباب المجهول.. لم ينصرف إلى الصحراء بأسئلته اللحوحة، فقد كان الموت واقفا على باب غرفته ذات الجدران الملايين بانتظار رأسه الممتلئ حتى آخره بالأحلام والأمنيات.
فهل مات الماغوط فعلا؟
هل انتهت تلك الرحلة المضنية التي بدأها الشاعر الحزين مشتبكا مع الحياة في كل تضاريسها الزائفة والحقيقية منغمسا في ذهول الحبر، وحرقة الدمع ورهافة الشعر الجميل حيث الحرية هي اختصاصه الوحيد؟
ربما.. لكن ما بقي من الماغوط كثير جدا.. اكثر من دواوينه، ومسرحياته ومسلسلاته، اكثر من مقالاته.. اكثر من كل كلماته.. فقد بقي فيه ما توزع في اقتراحات أجيال من الشعراء تأثروا بحزنه كما تأثروا بقصيدته وانداحوا في بحر أحلامه كما انداحوا في بحر كلماته، وحاولوا التجاوز لأنهم تعلموا منه أن التجاوز فعل أصيل من أفعال الشعر والحياة أيضا.
أقسى ما في الوجود
أن لا يكون هناك ما تنتظره
أو تتذكره
أو تحلم به!!'
ولان الماغوط لم يعد أمامه ما ينتظره أو يتذكره أو يحلم به، وفقا لاشتراطات المرض القاسية، واقتراحات الدواء الأكثر قسوة، فقد رحل مفضلا أن يبحث له في خضم الموت عن مهنة تليق بالشعراء بدلا من الفرح المتأبي والحزن المستكين.
رحل الماغوط أذن بعد أن ساهم في جعل الحياة اكثر خفة وبساطة، وبعد أن ساهم في جعلنا اكثر قدرة على احتمالها، ولكن قبل أن يضع النقطة الأخيرة على السطر الأخير في قصيدته الأخيرة.. الأثيرة!

القبس 5 أبريل 2006

*********************************

أيّها الماغوط .. هل أخذت الملف ؟

علي شبيب ورد
(العراق)

ما الشعراء سوى جوّالي مشاعر إنسانية ، وربابنة رحلات عاطفية ، ورائين تمادوا كثيرا في التطلع خارج المعقول ؟! وما الشعر سوى تجربة حسّية للإكتشاف الأبدي في المجهول ؟ وما جدوى الشعر إذا لم يكن تواصلا جنونيا لخرق ظلمة المألوف ، بقناديل المخيلة ؟ وما معنى الشعر بلا أسئلة مرعبة حد الذهول ؟ وما سر تواصله إلى الآن وغدا ، إن لم يكن مجديا ؟ وإذا كان غير ذلك، لِمَ توقف الأنبياء، وتواصل الشعراء ؟!!!! وهل تتوقف الأسئلة عن كنه وجدوى كتابة وقراءة الشعر ؟ أشك في ذلك لأنه اشتغال وجدانيٌ فلسفيٌ في آن بحثا عن أسرار دائمة الضياع، وعبقة التحريض على الهرولة وراءها وبلا هوادة. وهو تقصٍّ مؤذٍ
في المطلق عن جوهر الحكمة ومعنى الوجود ، وربما أفدح من ذلك .
أبن السلمية .. المدينة ( الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فك قيوده بأسنانه ومات حنينا إليها.. والطفلة التي تعثرت بطرف أوربا....وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين: دميتها في البحر وأصابعها في الصحراء ) حرّض فينا جذوة التلذذ بقراءة شعر التمرد، منذ أن كنا نلتهم ما يفد إلينا من جمرات قصائد النثر الأولى. وحفضنا له كثيرا ، لدهشتنا بغرائبية هكذا شعر ، شعر أبعدنا عن سكونية العمود بصالونات مديحه وأقبية أغراضه السلفية .
عندما قرأنا له، لم نتصوره إلاّ صعلوكا يفترش الأرصفة، ويتسكع في المقاهي، ويسامر البحر ويجوب في شوارع مدينة يحاصرها الرعب والحزن والغبار والأطلال والغربان. وبعد سنين أطل علينا دريد لحام بأعماله المسرحية ، غربة / كاسك ياوطن / شقائق النعمان .
شاعر ومسرحي وناقد سياسي لاذع ، لايمكن ان تنسى أعماله / حزن في ضوء القمر / العصفور الأحدب / سأخون ياوطني / المهرج . ولا يمكن ان ينسى بموته ، لأنه لم يمت جائعا أو سجينا كما توقع هو ، بل مات غنيا بإرثه وحرا في رأيه . ويا لكبريائه وتفرده وعشقه وإخلاصه لفنه ( فليذهب القادة إلى الحروب ، والعشاق إلى الغابات ، والعلماء إلى المختبرات ، أما أنا ، فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق .. لأعود كما كنت ، حاجبا قديما على باب الحزن ، مادامت كل الكتب والدساتير والأديان ، تؤكد أنني لن أموت ، إلاّ جائعا أو سجينا )
هل مات حقا ذلك المتغرب الجوال في صحارى الألم الإنساني ، والمتشكك الواخز ، والمنفلت من ريب أصابع الرقيب ، يقول ما يحلو له ويهذي بما تعرضه عليه مخيلته الجامحة من صور شعرية بلغة بسيطة وفكرة لاذعة ، حتى ولو طالت قداسة القيم ( أحلم بسلّم من الغبار ، من الظهور المحدودبة ، والرّاحات المضغوطة على الرّكب ، لأصعد إلى أعالي السماء ، وأعرف ،
أين تذهب آهاتنا وصلواتنا ؟ .. ) كما أن بساطة لغته الشعرية ، ومرانه الكتابي ، أبعدته عن التقليد الأعمى لقصيدة النثر الأوربية ، ليخلق صورا شعرية غاية في الغرابة والبوح ، معتمدا في ذلك على آليات السرد ( في زمن العطر والغناء والأضواء الخافتة ، كنت أحدّثها عن حداء البدو ، والسفر إلى الصحراء على ظهور الجمال ، ونهداها يصغيان إليّ ، كما يصغي الأطفال الصغار لحديث ممتع حول الموقد ) إن شاعريته المتفردة خلقت من مفردات بيئته المحلية لوحة شعرية بروح متمردة وخيال ثوري ورؤى تنبؤية نقية ، رافعا سلاح الجوع وأنهار الدم والدموع بوجه الجرائم البشرية ، معلنا ثورته إلى كل العالم وكأنه نبي ( أعرف أن حد الرغيف ، سيغدو بصلابة الخنجر ، وأن نهر الجائعين سوف يهدر ذات يوم ، بأشرعته الدامية ، وفرائصه الغبراء ، فأنا نبي لا ينقصني إلاّ اللحية والعكاز والصحراء ، ولكني سأظل شاكي السلاح في (( قادسيّة العجين )) في (( واترلو الحساء )) التي يخوضها العالم ، هكذا خلقني الله ، سفينة وعاصفة ، غابة وحطابا ، زنجيا بمختلف الألوان كالشفق كالربيع ، في دمي رقصة الفالس ، وفي عظامي عويل كربلاء ، وما من قوة في العالم ترغمني على محبة ما لا أحب ، وكراهية ما لا أكره ، ما دام هناك ، تبغ وثقاب وشوارع ) حقا لديه الأداء الشعري ، تجربة متواصلة مع الذات والعالم كشف لنا فيه انه ذلك السهل الممتنع ، وهو يعمد إلى الاشتغال على المفارقة في الصورة الشعرية وببساطة متناهية ( أيها المارة ، اخلوا الشوارع من العذارى ، والنساء المحجّبات ... سأخرج من بيتي عاريا ، وأعود إلى غابتي )
وبقدرة عالية على الإيحاء ، يتقمّص شخوصه شديدي التنوع في آن وفي قصيدة واحدة ، موغلا في مضارب أخيلته ، موحيا إلى قرفه وحنقه من حياته وعبث وجوده ، وبسياق تهكّمي أخّاذ ( أنا أمير ، ها سيفي يتدلّى ، وجوادي يصهل على التلال ، أنا متسول ، ها أنا أشحذ أسناني على الأرصفة ، وألحق المارة من شارع إلى شارع ، أنا بطل .. أين شعبي ؟ أنا خائن .. أين مشنقتي ؟ أنا حذاء .. أين طريقي ؟ ) وما أدهى لعبته الشعرية وهو يمعن في وصف ضياعه وغربته في هذا الكون ، ويزيد في تأكيد تشرده ودوام إقامته في المقهى . إذ يقول
( إنني لست ضائعا فحسب ، حتى لو هويت عن أريكتي في المقهى ، لن أصل إلى سطح الأرض بآلاف السنين ) وفي خطابه الطريف لقبر شاعرنا السياب ، يومئ إلى مدى تعلقه بالسياب وحبه له ، ومدى تأثره الشديد بتجربة وفنه يقول ( يا زميل الحرمان والتسكع ، حزني طويل كشجر الحور ، لأنني لست ممدّدا إلى جوارك .... لا تضع سراجا على قبرك ،
سأهتدي إليه ، كما يهتدي السكير إلى زجاجته ن والرضيع إلى ثديه .. أيها التعس في حياته
وفي موته ، قبرك البطيء كالسلحفاة ، لن يبلغ الجنة أبدا ، الجنة للعدّائين وراكبي الدراجات )
حتى لو هاجمك الدبيب ، وغيّبتك الأرض ، ستبقى فارسا مهرتك المخيلة ولجامك البحر ودليلك المروق ضد العاصفة ، تخلق من الصحراء فردوسا ومن الغيمة مطرا ومن العاصفة نسيما ومن الجنون نبوءة ومن التيه يقينا ومن النسيان ذاكرة ، وتضيف للموتى حبيبا وللأحياء كوكبا وللشعراء قنديلا . شيء واحد عملته بموتك ، أنقصت الغرباء واحدا ، غير أنك رغم هذا وذاك ، كنت للصابرين شاعرا أيوبيا تفرد في تمرده كيانا ومنجزا . كيف لا تكون كذلك وأنت القائل للسجناء والصيادين والفلاحين أبعثوا لي بكل ما عندكم من عويل ورعب وضجر / من شباك فارغة ودوار بحر / من زهور وخرق بالية... إلى عنواني في أي مقهى، في أي شارع في العالم، إنني أعدّ (( ملفا ضخما )) عن العذاب البشري، لأرفعه إلى الله.
غير أننا نسأل، بميتتك هذه، ماذا تفعل لو اكتشفت صدق ما كنت تتوقعه في قولك (( جلّ ما أخشاه )) ونتساءل أيضا: هل أخذت الملف ؟ أم نسيته ؟!!!

********

من سيأخذ عزاء الماغوط

خالد أبو رقية
(المغرب)

-1-

لم ينفطر قلبي, ما أصابني كان أقل بكثير.كنت أفكر فيما أصابك, و أجهد نفسي في تمثل لحظاتك الأخيرة.

هل سقط رأسك فجأة فوق المنضدة فقررت ألاّ ترفعه؟ هل انتثرت عند السقوط أوراق يتيمة و شاعت في المكان موسيقى حزينة, تماما كما يحدث في أي مشهد درامي؟ هل كانت نهايتك مؤثرة بما يكفي ؟
هل كان ملاك الموت بك رحيما؟ هل اختنقت و صرت تبحث عن وجه الله الشفاف و الرقيق؟

هل تبدّى لك طيف سنية يدعوك للرحيل, بينما يداعب ايشاربها هواء خفيف, وفي الخلف كانت تتصاعد أبخرة هلامية ؟

هل سقطت على الأرضية وأنت تخال نفسك ممددا في حقول سلمية؟ وقعت في الحمام ؟ على السلالم ؟ في مشفىً قذر؟ أمام مُدين بنوبة قلبية ؟ على السرير المتهالك من وزنك المتزايد من شدة الفقر؟

أم أن الأمر لم يعد أن يكون موتا هامشيا ,كموت أي كلب ضال في أي مطرح للقمامة ؟

-2-

لم يعد يهم كل ذلك الآن. لم يعد يهم أنك خذلت الجميع:

المُدينون الذين ماطلتهم طول بؤسك, ثم ذهبت و ديونهم في رقبتك. الشعراء الفاشلون الذين كانوا ينتظرون مجاملة لسخفهم تشفع لهم لدى رؤساء التحرير. النقاد الذين لم تكترث يوما بما يكتبون و كنت تنظر إليهم كسقط متاع. أصدقاؤك الذين تجاهلوك دوما لأنك كنت كثير الاستدانة, و الذين سيبدون في كامل أناقتهم يحدثون الجميع عن حميميتك و طرائفك ليخففوا ضغط ربطات العنق؟

الساسة الذين كانوا يرغبون بالبصق و حتى البول عليك بالضبط قبل أن ترحل.

الجوع الذي كنت تغيظه بسمنتك نكاية بقهره, كرسيك, تبغك الرخيص,
خمرتك الرديئة, قلمك, أوراقك, أشياؤك التافهة التي أصررت على الاحتفاظ بها كذكريات ثمينة,

ثيابك القديمة التي لم تفكر بعتقها من ثقلك.
شام و سلامة اللتان ستكونان في موقف حرج.

-3 -

لست قادرا على رثائك لأنك لم تكن يوما صديقي, و لم أقرأ لك إلا قليلا في جرائد قديمة أو كتب معارة. لم أشعر بالحزن كثيرا عليك, كان حزني على نفسي أشد,

ربما لأنني مثلك فقير وعاطل ومدين, وأكره " الشعب, و الحزب, والطائفة, والزعيم, والخطيب, و الصحافي, والشاعر, والمذيع, والسائق, والراكب, والشارع, والنافذة, والعصفور, والزهرة, والسحابة " *.

ربما لأنني سأنتهي مثلك يوما ما ضالا ومعدما, بينما يرتق بدمائي أصدقاء جاحدون و ورثة أدعياء.

ربما أيضا لأنني سألتقيك في نفق ما حيث ستكون متسللا من قبرك, ولاهثا تبحث عن قبر سنية صالح.بينما سأكون شريدا و متعبا أبحث عن قبر نادية سامي.و حيث ستكتشف أن ما يفرقنا أكثر مما يجمعنا, ليس أقل من وزنينا المتباينين, ليس أكثر من سجائرنا الرخيصة و قصائدنا المريرة. ولأنك ستسد علي باب النفق بجثتك الضحلة حيث لن يمكنني تجاهلك .. سأنظر في عينيك الزرقاوتين الرائعتين وأصرخ: "إنني أكرهك يا ماغوط لأنك كنت دوما فزاعة أحلامي, أكرهك لأنك انتهيت كما لم أحب." و سأطل على قلبك البريء و الطفولي كقلب قديس حقيقي و أهمس: " أحبك يا ماغوط لأنك كتبت ما أحببت أن أكتب من مسرح و شعر, أحبك لأن قلبك أشبه بقلب نبي."

سأفسح لك النفق بينما تدمدم :" اللعنة علينا علينا معا, الجميع ينبشون بحثا عن الجنة , بينما كل منا ينبش باتجاه قبر امرأة"

أخيرا سأضمك يا ماغوط وأبثك هذا العتاب: "لماذا لم تكتب وصية قبل أن تموت,لماذا لم تخبرنا بمن سيأخذ عزاءك؟"

كل منا سيكمل طريقه إلى قبره المنشود, و تسقط منه قصائد لن يقرأها أحد.
اللعنة.

*عن قصيدة للماغوط بتصرف

********

بدوي أحمر، ترجَّل أخيراً من كوابيسه ومن جبهات الأدب ومعارك الحداثة

(برحيل الماغوط فقد الشعر العربي أهم بحوره الحديثة)

أنور بدر
(سوريا)

دمشق ـ القدس العربي بحزن شديد ودعت مدينة دمشق شاعرها محمد الماغوط الذي استوطن الحزن والكوابيس، ودعته صباح الأربعاء في الخامس من نيسان (ابريل) الحالي جدثاً استوي علي أفئدة محبيه ومريديه من الشعراء، اذ فارق الحياة قبل يومين، وقرر بذلك أن يعود الي مرقده الأخير في سلمية التي هجرها مراراً وطويلاً.
هجرها يافعاً الي مدرسة الزراعة في خرابو من غوطة دمشق، فلفظته العاصمة لفقره، وعاد الي سلميته التي ارتحل أو رُحل عنها ثانية الي سجن المزة العسكري بدمشق عام 1951، لكنها سرعان ما لفظته بعد خروجه من السجن الي بيروت، ومن ثم أمضي عقدين ونيف في أخرياته أعجزه فيها المرض عن زيارة بلدته، لكنه آب اليها أخيراً... آب اليها ليمضي في هجمته الأخيرة، قصيدة من الشعر مضمخة بالندي والحزن.
ودعته دمشق لأول مرة كما يليق بالعظماء من وداع، ودعته بحضور وزيري الثقافة والاعلام، وبأكاليل من اتحاد الصحفيين واتحاد الكتاب، لكن الحضور الأهم كان لمثقفي سورية وفنانيها الكبار، لجمهور أحب محمد الماغوط وأحب شعره وكل ما كتب، فجاء لوداعه رغم المطر النيساني الذي داهم المدينة دون توقع، فبكت السماء كما بكي الحشد حين أخرج الجثمان الي عربة النقل الصحي التي سارت به الهويني الي بلدته، وقطعت به شوارع دمشق في آخر عبور له فوقها.
وكما ترك الشاعر بلدته... خلّف وراء قضبان السجن الحزب الذي انتمي اليه حين لم يجد مدفأة تقي عظامه برد الشتاء الا في مكتب الحزب السوري القومي الاجتماعي، واستعاض عن الحزب بوريقات صغيرة للف السجائر، دوّن عليها بعضاً مما جاش في وجدانه، دون أن يدرك أنه بهذه الوريقات سيهز دعائم الأدب العربي التي استقرت عبر قرون. وأنه يجترح أفقاً لتطور قصيدة النثر... بل لتطور الحداثة الأدبية.
رحل الشاعر العربي الكبير محمد الماغوط ليفقد الشعر العربي برحيله أهم بحوره الحديثة، هو الذي خرج علي البحور والقوافي كما خرج علي الحزب والسياسة، وكما خرج علي مدارس الحداثة الأدبية، لم يحز الشهادات، ولم يتعلم أكاديمياً، ولم يحفظ بحور الشعر العربي، لكن الحروف كانت طوع يراعه، يغرف من مدادها ليعيد تشكيل الحالات والمشاعر، يغرف من مدادها ليعيد عجن الأشياء والأفكار، يغرف من مدادها لينفخ كالحاوي في مزمار الشعر، فيطوّع الكلمات كما لم يفعل أديب في العربية من قبله وحتي الآن. يقول عنه الشاعر فاروق شوشة: انه مبدع متفرد في الأدب والمسرح، استطاع من خلال كتاباته أن يعتصر خلاياه البدعة وخلايا الوطن بكل الأحزان والآمال والتطلعات والرفض، حالما بعالم جديد تسود فيه المحبة والانسانية .
وفي بيروت تردد آباء الحداثة في مجلة شعر حيال قصيدته القتيل فأدرك أن ما يمور بداخله أوسع من حدود تنظيراتهم، وأن أحلامه أبعد من حدود تمردهم، فخرج عنهم كما خرج عن القبيلة والحزب، وذهب يطلق كلماته مؤسساً لقصيدة النثر في كل ما كتب حتي ملّ من لفظ القصيدة ، فأطلق علي أشعاره الأخيرة تعبير نصوص مجسراً الهوة ما بين النثر والشعر، يقول الشاعر اللبناني جودت فخر الدين عن هذه التجربة لقد حاول الكثيرون أن يجعلوا قصيدة النثر ظاهرة أو تيار أو مدرسة، فحاولوا أن ينصبوا الماغوط أو غيره رائداً/ أو رواداً / في هذا المجال، الا أن الماغوط ظلّ حالة شديدة الفرادة في شعرنا الحديث، ظلّ لحناً شارداً لا تستوعبه جوقات العازفين من دعاة النثر ودعاة الوزن علي السواء .
هذه اللغة وهذا الأسلوب كانا سمة طبعت كل نتاجات الماغوط في النثر والشعر والمسرح والدراما، وشكلت حالة كاريزما استقطبت قارئها، بل صنعته في زمن عزّ فيها القاريء، اذ تفردت في التقاط ما هو انساني ومشترك وحيّ بآن معاً.
هذه المحاولة انطلقت مبكراً في زواياه الصحفية، تلك الزوايا التي اختطت جنساً أدبياً مستقلاً باسم كوابيسه كما يقول الأديب والروائي وليد اخلاصي ففي أعماله الشعرية والمسرحية، بالاضافة الي مقالاته التي شكـــلت جنساً ابداعياً جديداً اذا ما قسناها الي المقالات المنشورة بالعربية، سنجد مدي تفـــــوق هذا الرجل علينا وعلي نفسه .
تلك المقالات التي جاءت معبأة بالهم اليومي وهم الوطن، كانت امتداداً للغة الشعرية الغنية بالمشاعر والحياة والغنية بالقدرة علي الايصال والتواصل، وقد جمع قسماً من هذه المقالات في كتاب سأخون وطني عام 1987، والذي ظلّ حتي عام 2005 الأكثر مبيعاً في جنسه ضمن معرض بيروت الدولي للكتاب.
وربما تكون التجربة المسرحية الأغني والأنضج في تاريخ المسرح السوري، هي تجربته المشتركة مع الفنان دريد لحام في فرقة تشرين التي قدمته كاتباً ناقداً وساخراً، والتي طورت الكوميديا السياسية، حين وصف الانقلابات المتعاقبة في سوريا بأنها مجرد تغيير في الطربوش، دون أي تغيير في المحتوي، وهو الذي أطلق نكتة أن الحمار قد أكل الدستور .
شاهدنا لهما ضيعة تشرين، غربة،كاسك يا وطن ، وحين انفضت شراكته مع دريد لحام أخرج له جهاد سعد مسرحيته خارج السرب ، كما أخرج عن فكرة له العام المنصرم زهير عبد الكريم مسرحية قيام .. جلوس .. سكوت لكنها دخلت في الحالة السياسية حتي ابتعدت عن النص الماغوطي كما أكد الدراماتير محمود عبد الكريم.
وللماغوط تجربة متوازية في السينما، اذ كتب سيناريوهات أفلام دريد لحام الحدود ،التقرير وشقائق النعمان ، كما كتب له سيناريو مسلسل وادي المسك ، وكتب أيضاً سيناريوهات حكايا الليل، وين الغلط، حكايا الليل والنهار وهذا الأخير أخرجه مؤخراً علاء الدين كوكش.
وللماغوط أيضاً رواية يتيمة باسم الأرجوحة كتبها متسلسلة في مجلة الناقد التي أصدرها رياض نجيب الريس، قبل أن تصدر كرواية في كتاب.
أثّرت تجربة السجن في حياة الماغوط وفي ابداعه معاً، اذ سبق وقال في لقاء لنا معه في صحيفة القدس العربي ان حياته التالية وكتاباته لم تكن الا رداً علي هذه التجربة، وصرخة باتجاه الحرية التي حُرم منها، لذلك تميزت كل كتاباته بالحزن والتحدي معاً، بالنقد والقلق، وبالبحث عن علامات الاستفهام المتروكة في حياتنا مديً مفتوحاً باتجاه المستقبل.
كما كان الماغوط جريئاً في اعلان اختلافه عن الآخر، عن الموروث والسائد، كان جريئاً أيضاً في اعلان خيبته، في اعلان يأسه، وفي طرح أسئلته الجارحة حد الصراخ.
ضع منديلك الأبيض علي الرصيف
واجلس الي جانبي تحت ضَوْء المطر الحنون
لأبوح لك بسرّ خطير
اصرف أدلاءك ومرشديك
وألق الي الوحل أو الي النار بكل ما كتبت من حواشي وانطباعات
ان أي فلاّح عجوز
يروي لك في بيتين من العتابا كل تاريخ الشرق
وهو يدرّج لفَّافَته أمام خيمته
أحب التسكع والبطالة ومقاهي الرصيف ولكنني أحب الرصيف أكثر،
أحب الغابات والمروج اللانهائية ولكنني أحب الخريف أكثر،
أحب الشهيق والزفير ورياضة الصباح
ولكنني أحب السعال والدخان أكثر .
ولد الماغوط عام 1934 في مدينة سلمية، ورحل عن عمر يناهز الـ 72 عاماً، تاركاً مملكة من الحزن والخوف تطلّ من ابداعاته المتنوعة، وتضيء من خلال لغته الحيةً والمتميزة في الكتابة العربية.
ومن يعرف الماغوط عن قرب يدرك أنه ينتمي لبيئته البدوية باخلاص، فهو بدوي في سلوكه بدوي في جرأته، بدوي في علاقاته مع السلطة والآخر، وكان بدويا مع زوجته الشاعرة سنية صالح التي رثاها في ديوانه سياف الزهور .لكنه كما عنون ديوانه الأخير بدوي أحمر بدوي أعلن الرفض وناضل من أجل الحرية.من أهم أعماله:

  1. ـ حزن في ضوء القمر ـ شعر مجلة شعر بيروت 1959.
  2. ـ غرفة بملايين الجدران ـ شعر مجلة شعر بيروت 1960.
  3. ـ العصفور الأحدب ـ مسرحية 1966(لم تمثل علي المسرح).
  4. ـ المهرج ـ مسرحية (مثلت علي المسرح) 1974، طُبعت عام 1998 من قبل دار المدي ـ دمشق.
  5. ـ الفرح ليس مهنتي ـ شعر منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1970 .
  6. ـ ضيعة تشرين ـ مسرحية لم تطبع مثلت علي المسرح 1973 ـ 1974 .
  7. ـ شقائق النعمان ـ مسرحية.
  8. ـ الأرجوحة ـ رواية 1974 نشرت عام 1974 ـ 1991 عن دار رياض الريس للنشر .
  9. ـ غربة ـ مسرحية لم تطبع ـ مثلت علي المسرح عام 1976 .
  10. ـ كاسك يا وطن ـ مسرحية لم تطبع ـ مثلت علي المسرح عام 1979 .
  11. ـ خارج السرب ـ مسرحية دار المدي، دمشق 1999 مثلت علي المسرح باخراج الفنان جهاد سعد .
  12. ـ حكايا الليل ـ مسلسل تلفزيوني من انتاج التلفزيون العربي السوري .
  13. ـ وين الغلط ـ مسلسل تلفزيوني من انتاج التلفزيون السوري .
  14. ـ وادي المسك ـ مسلسل تلفزيوني
  15. ـ حكايا الليل ـ مسلسل تلفزيوني
  16. ـ الحدود ـ فيلم سينمائي انتاج المؤسسة العامة للسينما السورية، بطولة الفنان دريد لحام .
  17. ـ التقرير ـ فيلم سينمائي من انتاج المؤسسة العامة للسينما، من بطولة الفنان دريد لحام .
  18. ـ سأخون وطني ـ مجموعة مقالات 1987 ـ أعادت طباعتها دار المدي بدمشق عام 2001 .
  19. ـ مسافر عربي في محطات الفضاء ـ مقالات
  20. ـ سياف الزهور ـ نصوص ـ دار المدي، دمشق 2001.
  21. ـ شرق عدن غرب الله ـ نصوص ـ دار المدي 2004
  22. ـ بدوي أحمر ـ نصوص ـ آخر أعماله

ـ أعماله الكاملة طبعتها دار العودة في لبنان.
ـ أعادت طباعة أعماله دار المدي في دمشق عام 1998 في كتاب واحد بعنوان أعمال محمد الماغوط تضمن: المجموعات الشعرية: حزن في ضوء القمر، غرفة بملايين الجدران، الفرح ليس مهنتي،ومسرحيتي: العصفور الأحدب، والمهرج ورواية الأرجوحة.
تُرجمت دواوينه ومختارات له ونشرت في عواصم عالمية عديدة اضافة علي دراسات نقدية واطروحات جامعية حول شعره مسرحه.
كُرم أديبنا العاشق والمحب للوطن في دمشق 2002 بالتزامن مع صدور كتاب حطاب الأشجار العالية . مختارات من كتابات الماغوط عن السلسلة الشهرية المجانية، كتاب في جريدة ـ اليونسكو 60 .
كما كُرم في مسقط رأسه في مدينة سلمية التي أهدته مهرجانها الشعري السنوي عام 2004، ونال عام 2005 وسام الاستحقاق في سوريا من الدرجة الممتازة بالتوازي مع الشاعر سليمان العيسي ومع الروائي وليد اخلاصي، وجري تكريمه مؤخراً في دبي حيث حصل علي جائزة سلطان العويس الثقافية.

*****

هكذا تكلم أورفيوس : محمد الماغوط

نورالدين محقق
(المغرب)

-1-

نورالدين محققلم يمت محمد الماغوط .الشعراء الحقيقيون يرحلون إلى هناك، لكنهم يتركون أشعارهم تظل خلفهم حيث هي دائما في القمم العليا الكبيرة، كما هي النسور تماما .هكذا كان محمد الماغوط، وهكذا كانت أشعاره ،منذ أول دواوينه إلى آخرها.كان ديوان "حزن في ضوء القمر" لدى صدوره قد شكل فاتحة لقصيدة النثر العربية ،صحبة دواوين أنسي الحاج المدهشة ، وفي مقدمتها ديوان " لن" ذو المقدمة البيانية الشهيرة، كما كانت دواوين محمد الماغوط الأخرى ، تحظى في سماء الشعر العربي بالمكانة الكبرى التي ما كان للشعر الحقيقي أن يتنازل عنها أبدا.أقصد المكانة الأولى بامتياز وبدون منازع. تلك الدواوين التي أعلنت الانزياح عن المعتاد بدءا من عناوينها إلى آخر جملة شعرية فيها.دواوين أعلنت عن ذاتها كما يلي: "غرفة بملايين الجدران"، "الفرح ليس مهنتي"، وأخيرا "البدوي الأحمر". أما المسرحيات التي كتبها ،فتلك حكاية أخرى .مسرحيات جابت ربوع الركوح شرقا وغربا .وكانت تحقق أينما ولت وجهتها النجاح المنتظر، ذلك النجاح الذي يسري في الذات سريان الدم النقي فيها.

-2-

كانت معرفتي بمحمد الماغوط مبكرة جدا ، وأنا أقصد هنا المعرفة القرائية له،فلم يسبق لي أن التقيت بالرجل الإنسان أو رأيته رأي العين حتى،ولا سعيت لذلك أبدا رغم التقائي بشعراء عرب كبار آخرين ،وحرصي على رؤيتهم من بعيد دون الحديث معهم ،ليظل سحر شعرهم عالقا بذهني.كانت معرفتي الأدبية به ،عن طريق قراءتي لديوانه المدهش : " الفرح ليس مهنتي" الذي شدني عنوانه بقوة ،ربما لأنني كنت حزينا في ذلك الوقت لوفاة والدي، وربما لأني كنت حزينا نظرا لتأثري بقصائد خليل جبران وكتاباته الرومانسية الحزينة .المهم أني ما زلت أذكر أنني ،صعدت إلى غرفتي المنفردة في السطح ، وانهمكت في القراءة .كان الفصل شتاء، وكان المطر يتهاطل على الأرض ،كما لو أنه يريد إخصابها دفعة واحدة .كان سطح البيت مليئا بالحمام الذي حرص على الاختباء داخل أقفاصه احتماء بها ، فقد كنت مربيا للحمام من طراز أول .وكان صوت فيروز يأتي هادئا من ثنايا المذياع الصغير الذي اشتراه لي والدي بعد نجاحي في الشهادة الابتدائية و ظل مصاحبا لي بعد ذلك فترة طويلة من الزمن ، وكانت كلمات محمد الماغوط تشدني إلى هناك في الأعالي ،بصفائها وبسخريتها العميقة، وبشاعريتها القوية، التي تتفوق على الشعر نفسه ،لتعلن ما بعده في شكل تحرري جميل …..

-3-

ستتعمق معرفتي بمحمد الماغوط بعد ذلك ، نتيجة اهتمامي بالمسرح ، وبرغبتي في كتاباته وإخراج بعض المسرحيات سواء تلك التي أكتبها أو التي يكتبها غيري وتعجبني .وكان من حسن حظي أن قرأت بعض مسرحياته وفي مقدمتها مسرحية " المهرج " وبعد ذلك مسرحية " العصفور الأحدب" وإعجابي بهما خصوصا بالأولى منهما.فهذه المسرحية، وكما كان سائدا في المسرح العربي وقتذاك، تقوم بعملية استحضار شخصية عبد الرحمان الداخل، صقر قريش، وإعادته إلى الزمن الحالي، والقيام بعملية محاكمته رمزيا، وعن طريقه القيام بمحاكمة الزمن الحالي أيضا في سخرية مزدوجة شديدة العمق.هي لعبة ثنائية قد سادت في المسرح العربي، بمختلف تجلياته الإبداعية ، وامتدت سواء في مشرقه أو مغربه.من هنا فقد سعيت للقيام بإخراج هذه المسرحية ، لكن رغبتي هاته لم تتحقق. وحين كنت ضمن هيئة التنشيط بالمركز التربوي الجهوي بمدينة الجديدة ، اقترح علي بعض أصدقائي الطلبة -الأساتذة آنذاك ، القيام بتشخيص دور صقر قريش، الشخصية الرئيسية في مسرحية محمد الماغوط السالفة الذكر ، أي مسرحية " المهرج "، التي اعتزموا تقديمها في تلك السنة ، ضمن الأنشطة المبرمجة ، وافقت دون تردد. وقد لاقى العرض استحسانا كبيرا، وما زالت صوري وأنا أشخص هذا الدور المسرحي الكبير شاهدة على ذلك.

-4-

وامتد الزمن بعد ذلك ، وذات مساء جميل ،تلقيت دعوة من أحد أصدقائي لمشاهدة مسرحية "المهرج" لمحمد الماغوط ، بالمركب الثقافي لسيدي عثمان .كان العرض رائعا جدا، وكان الإخراج المسرحي قويا وغاية في الإبداعية ، وما زلت أذكر أن الذي أنجزه هو الفنان المسرحي المغربي عبد الله شاكيري ، أحد المخرجين المسرحيين المغاربة المجددين المتميزين .ونظرا للتأثير الفني الايجابي الذي مارسه علي هذا العرض ،فقد كتبت دراسة عنه ،نشرت في بعض كبريات الصحف العربية آنذاك ، ولاقت نجاحا هي الأخرى بدورها ،فقد كانت تتحدث عن محمد الماغوط ومسرحه ،جعلني محط الحديث في بعض مقاهي الدار البيضاء الثقافية ، خصوصا بين أهل المسرح، لفترة غير يسيرة من الوقت.

-5-

هكذا كانت علاقتي بمحمد الماغوط ، هذا الشاعر العربي الكبير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ، بأعماله الشعرية والمسرحية أو التلفزيونية، بل حتى بمقالاته التي كانت ينشرها في الصحف والمجلات ، التي استطاع في لحظة زمنية إبداعية هامة أن يحول فنان مسرحي رائع هو عبد الواحد عوزري البعض منها إلى مسرحية ذائعة الصيت شرقا وغربا هي مسرحية " حكايات بلا حدود".

-6-

وداعا محمد الماغوط …

***

من سيأخذ عزاء الماغوط

خالد أبو رقية
(المغرب)

-1-

لم ينفطر قلبي، ما أصابني كان أقل بكثير.كنت أفكر فيما أصابك، و أجهد نفسي في تمثل لحظاتك الأخيرة.

هل سقط رأسك فجأة فوق المنضدة فقررت ألاّ ترفعه؟ هل انتثرت عند السقوط أوراق يتيمة و شاعت في المكان موسيقى حزينة، تماما كما يحدث في أي مشهد درامي؟ هل كانت نهايتك مؤثرة بما يكفي ؟
هل كان ملاك الموت بك رحيما؟ هل اختنقت و صرت تبحث عن وجه الله الشفاف و الرقيق؟

هل تبدّى لك طيف سنية يدعوك للرحيل، بينما يداعب ايشاربها هواء خفيف، وفي الخلف كانت تتصاعد أبخرة هلامية ؟

هل سقطت على الأرضية وأنت تخال نفسك ممددا في حقول سلمية؟ وقعت في الحمام ؟ على السلالم ؟ في مشفىً قذر؟ أمام مُدين بنوبة قلبية ؟ على السرير المتهالك من وزنك المتزايد من شدة الفقر؟

أم أن الأمر لم يعد أن يكون موتا هامشيا ،كموت أي كلب ضال في أي مطرح للقمامة ؟

-2-

لم يعد يهم كل ذلك الآن. لم يعد يهم أنك خذلت الجميع:
المُدينون الذين ماطلتهم طول بؤسك، ثم ذهبت و ديونهم في رقبتك. الشعراء الفاشلون الذين كانوا ينتظرون مجاملة لسخفهم تشفع لهم لدى رؤساء التحرير. النقاد الذين لم تكترث يوما بما يكتبون و كنت تنظر إليهم كسقط متاع. أصدقاؤك الذين تجاهلوك دوما لأنك كنت كثير الاستدانة، و الذين سيبدون في كامل أناقتهم يحدثون الجميع عن حميميتك و طرائفك ليخففوا ضغط ربطات العنق؟

الساسة الذين كانوا يرغبون بالبصق و حتى البول عليك بالضبط قبل أن ترحل
.
الجوع الذي كنت تغيظه بسمنتك نكاية بقهره، كرسيك، تبغك الرخيص،
خمرتك الرديئة، قلمك، أوراقك، أشياؤك التافهة التي أصررت على الاحتفاظ بها كذكريات ثمينة، ثيابك القديمة التي لم تفكر بعتقها من ثقلك.
شام و سلامة اللتان ستكونان في موقف حرج.

-3 -

لست قادرا على رثائك لأنك لم تكن يوما صديقي، و لم أقرأ لك إلا قليلا في جرائد قديمة أو كتب معارة. لم أشعر بالحزن كثيرا عليك، كان حزني على نفسي أشد،

ربما لأنني مثلك فقير وعاطل ومدين، وأكره " الشعب، و الحزب، والطائفة، والزعيم، والخطيب، و الصحافي، والشاعر، والمذيع، والسائق، والراكب، والشارع، والنافذة، والعصفور، والزهرة، والسحابة " *.

ربما لأنني سأنتهي مثلك يوما ما ضالا ومعدما، بينما يرتق بدمائي أصدقاء جاحدون و ورثة أدعياء.

ربما أيضا لأنني سألتقيك في نفق ما حيث ستكون متسللا من قبرك، ولاهثا تبحث عن قبر سنية صالح.بينما سأكون شريدا و متعبا أبحث عن قبر نادية سامي.و حيث ستكتشف أن ما يفرقنا أكثر مما يجمعنا، ليس أقل من وزنينا المتباينين، ليس أكثر من سجائرنا الرخيصة و قصائدنا المريرة. ولأنك ستسد علي باب النفق بجثتك الضحلة حيث لن يمكنني تجاهلك.. سأنظر في عينيك الزرقاوتين الرائعتين وأصرخ: "إنني أكرهك يا ماغوط لأنك كنت دوما فزاعة أحلامي، أكرهك لأنك انتهيت كما لم أحب." و سأطل على قلبك البريء و الطفولي كقلب قديس حقيقي و أهمس: " أحبك يا ماغوط لأنك كتبت ما أحببت أن أكتب من مسرح و شعر، أحبك لأن قلبك أشبه بقلب نبي."

سأفسح لك النفق بينما تدمدم :" اللعنة علينا علينا معا، الجميع ينبشون بحثا عن الجنة، بينما كل منا ينبش باتجاه قبر امرأة"

أخيرا سأضمك يا ماغوط وأبثك هذا العتاب: "لماذا لم تكتب وصية قبل أن تموت،لماذا لم تخبرنا بمن سيأخذ عزاءك؟"

كل منا سيكمل طريقه إلى قبره المنشود، و تسقط منه قصائد لن يقرأها أحد.
اللعنة.

***

ساخرا..ناثرا.. لازلت ‏بيننا

توفيق الحاج‏

لا أحب المؤبنين وأراهم كصبيان ‏بلهاء لحانوتي محترف وبالتالي لا ‏أرغب في تمسيد تراب القبر ورشه ‏بالماء وخاصة اذا كان لنبي يقطر ‏مرارة وسخرية من الطقوس ‏الفارغة..!!‏

أسألني..هل غادر الماغوط من ‏متردم..‏
وقهوته لا تزال على الأريكة دافئة ‏وسيجارته المشتعلة دوما لم يطفئها ‏الفعل المضارع بعد ببروده القاتل..؟!!‏

هل غادرنا صاحب الفرح ليس ‏مهنتي..والحزن في ضوء القمر جادة ‏قصيدة النثر ورحل مع الراحلين بلا ‏أسف أو أثر..؟!!‏ هل غادرنا الساخط.. الغاضب.. ‏الساخر..الجامح.. المهزوم.. الحاد ‏في كتابه الممنوع "سأخون وطني ‏‏"..؟!!‏

أعترف لك ياماغوط وجسدك لا يزال ‏طريا أني لم أتذوق طعم الهزيمة الا ‏من صحن سخريتك المتبل بمرارة ‏شامية نادرة ولم ابك ضاحكا الا ‏عندما تناثرت كلماتك الضارية على ‏لسان "غوار" ذلك المسكين ‏المخدوع بماضيه وحاضره ومستقبله وأعترف أيضا اني تتلمذت دون إذنك ‏على حضور مفرداتك وجموح أفكارك ‏وقدرتك الفائقة على امتطاء الشعر ‏دون شعر ..!!‏

لم أدر انك تسربت من خلالي لغة ‏ونكهة وذائقة.. الا عندما ابتعدت ‏كثيرا عن غربة وضيعة تشرين ‏وكاسك ياوطن..!!‏ وعندما حاولت أن اشق طريقا ‏صغيرا..متواضعا لي بين أمثالك من ‏الحفاة العمالقة‏

أحسست دائما بانتصارك في على ‏مقامات السرب..وتملق الغربان ‏للسلطان..‏ كنت ولازلت تنهرني عندما أضعف ‏قليلا أمام صحيفة عثمانية أو دار ‏نشر يمتطيها موظف برتبة جاهل..!!‏

تمسكت بك في غضبي ..واستعرت ‏سطوعك عندما عضني الحال العربي ‏وأحرق قصائدي الحالمة عن الثورة ‏والثائرين ‏

ولجأت إليك في شرودي.. متهيئا ‏في حضورك لقصيدة أنثى كلما ‏أيقنت من استقبالها تفر من ‏مخيلتي.. هازئة

عاتب عليك جدا..‏
أيها الماغوط..!!‏
ليس من عادتك أن تفارق صامتا ‏دون ان تلقي على من أحبوك ‏التحية..!! ‏ وليس من عادتك أن تترك سماعة ‏التليفون دون رد حتى ولو أخذك منا ‏السرطان ببطئه السمج الثقيل..!!‏

لم أحب أبدا ان أدس انفي في ‏دفاترك الخاصة..ولكنني أدركت ومنذ ‏عشرين عاما انك تتوق للسفر الأخير فما أوحش العالم الكبير بعد رحيل ‏زهرتك..ورفيقتك سنية

اثنان وسبعون عاما من السلمية ‏الى لندن..‏ رحلة الساخر المسافر..الذي حدثنا ‏فأضحكنا وعرانا فأبكانا..وقدم لنا ‏حديقته من أزهار الشوك والرمان ‏فلم نبارح بعد سورها..‏

اثنان وسبعون عاما تختلط فيها الصور ‏قبيل الإيذان بإنزال الستار على ‏الجسد..طفولة شقية..غواية دمشق ‏لشاب قروي.. قسوة الضيافة في ‏المعتقل..
وقفة مقلوبة على الحدود ‏‏..فضاء بيروت البهي..تقاطعات البرق ‏مع أدونيس ودريد.. معارك الكلام.. ‏وجه شاعرة صبوح.. غربة حتى ‏النهاية للفارس العربي في صحراء ‏لندن

حرّر الشعر من نقصانه

موسى حوامدة
(الأردن)

موسى حوامدةكانت سعادتي لا توصف حينما رأيت محمد الماغوط يصعد بعكازه إلى منصة الاحتفال في دبي ليتسلم جائزة العويس الثقافية لسببين الأول أن الجائزة تذهب متأخرة إلى العنوان الذي يستحقها، وذلك مهم للجائزة نفسها وللحركة الثقافية في العالم العربي بشكل عام، لكنني فرحت لسبب آخر وهو أن الماغوط سيتلقى مئة ألف دولار سينفقها على شرابه الذي لا ينفد وعلى علاجه وأدويته وقد خطر لي ان هذا المبلغ الكبير سيكون كافيا لعدة سنوات ولكن لم يخطر على بالي أنه سيسخر من المال بطريقة جنونية كما بدأ يكتب قصيدة مختلفة في ظل ثقافة كلاسيكية تميل للتحجر أكثر من ميلها للحرية فقد ترك وراءه المال والكتب والجوائز وذهب منفردا كما عاش بعيدا عن احتفاء العرب برموزهم المدهشة بشكل مغلوط او متأخر دائما
حينما سمعت خبر وفاته فرت من عيني دمعة حزن على ضوء القمر، رأيت تلك الغرفة بملايين الوجوه والجدران استعدت شعر الماغوط ومسرحه وقدرته على تفتيق اللغة عن جراحها ودماملها التي يحاول البعض تضميدها وهي متعفنة لتظهر الصورة في أتم عافية بينما الخلايا تتفسخ وتتعفن أكثر، لكن الماغوط كان دائما نافذا من حالة النفاق التي كنا نعيشها وكان قادرا على قلب الصورة الحقيقية ونكء الجراح وهز صخور القناعة وتوضيح المفارقات الساخرة في عالمنا
كان ديمقراطيا في عالم ديكتاتوري
كان حداثيا في ثقافة كلاسيكية
كان تقدميا في مجتمعات رجعية
كان وطنيا في مزايدات الخيانة
كان ثوريا في أوقات الاستسلام
نبويا في حالات الخراب، مسيحيا لا يحب العنف والثأر والتجريم
مبشرا ورائيا ومريبا في كل شئ، وكان خارجيا بينما القطيع يصفق لذبح الغد بدم بارد
لكنه كان في الجوهر أكثر انتماء لثقافته وأمته وبلاده المتناحرة والمتلاطمة والمحتلة
ولم يستسلم رغم تزويق الهزائم وتبرير الخذلان وتكثيف العصي والهراوات وزيادة عدد لزنازين والسجون العربية
لم يتراجع ولم يصمت بينما حفلات الترويج تبيض الفشل وتكرس الكذب والادعاء والخوف،
كان قادرا على تحرير الشعر من نقصانه والكلام من ارتباكه والعقل من حكمة البلاهة والسخف
وفي كل ما كتب من شعر ونثر ومسرح ومقالات ومقابلات لم يكن إلا صوته الخاص وعقيدته الخاصة وضميره الحي والنقي
ولا أحد ينكر أنه نقل القصيدة العربية من تحنيط المشايخ والمدرسين إلى أرصفة الباعة ومساحي الأحذية وبياعي الفول في دمشق وحلب وبيروت وعمان وبقية مدن الضاد.
خرب الماغوط حذر اللغويين وحطم أصنام التزمت وكتب بوحشية ذئب فر من مسغبة الهلاك ولم يحرر القصيدة من حبال التقاليد فقط بل حرر يد المتلقي في تذوق الجبن الفاسد والشعر الكاسد والألاعيب اللفظية السخيفة .

ما زال الجرح الذي أبصره الماغوط ماثلا لنا ولم يكن يعنيه أكثر من كشف طرائق تعذيبنا وذبحنا ووأد أحلامنا وقام بواجبه خير قيام فلم يكن يبتغي لنفسه أكثر مما كان شاعرا مبدعا وساخرا كبيرا في كل ما عاش وكل ما كتب لكل من عرف وأحب او كره لكنه تسامح وسامح وسطعت شاعريته المرهفة بينما ودع الشام وودع تلك الأزقة التي أحبها والعيون التي عشقته

أيها الماغوط..‏
كفى.. قبل ان تغلبني دمعة نافرة ‏‏..فتضحك على وتنهرني كعادتك ‏الدمشقية المحببة.‏ أيها الماغوط..‏ سلاما إليك..ساخرا..ناثرا..لا زلت ‏بيننا

لم يعد هناك ما ينتظره أو يتذكره أو يحلم به

سعدية مفرح
(الكويت)

سعدية مفرح'سأدخن همومي وجراحي كما لو كنت في نزهة على شاطئ البحر ووراء القضبان اعقد لقصائدي شرائط وجدائل مدرسية بيضاء وأطلقها من النافذة، ثم أتابع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانتي كأنها آثار قلمي..'.
وفعلا.. فعل محمد الماغوط كل ذلك قبل أن يضع النقطة الأخيرة على السطر الأخير في قصيدته الأخيرة، ويغادرنا ساخرا من كل شيء، عاريا من كل شيء، وغير واثق سوى من قدرة الشعر على اجتراح معجزات لم يعد لها مكان في زمان رمادي لا يحب المعجزات ولا يحترم المؤمنين بها وحتى عبر القصيد وحده.
رحل محمد الماغوط إذا، بعد أن كتب كثيرا من الشعر الذي لا يشبه أي شعر آخر وبعد أن عاش حياة مزدحمة بالمعاني والمواقف والكلمات المفاجئة حتى لمن اخترعها، ربما لأنها كانت دائما تأتي في سياق الدهشة الشعرية القادرة على التجاوز بطاقتها الذاتية بعيدا عن رؤى الآخرين وأفكارهم ونظرياتهم ومجلاتهم التي بشروا بواسطتها بالشعر الجديد.
كان الماغوط الذي رحل مساء أمس الأول وهو مازال في أوائل سبعيناته شاعرا قادرا على تجاوز نفسه الشاعرة في كل كتاب جديد بل في كل قصيدة جديدة، وربما كل كلمة من كلماته التي ينتقيها بعناية وحرفية رغم أنها تبدو عفوية إلى الدرجة التي قد يشك بوجودها في معجم اللغة أولئك المتشككون بكل ما هو خارج هذا المعجم، لكن الماغوط المنشغل بمتابعة وقع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانته كأنها آثار قلمه، لا يعير انتباها لكل ذلك، بل لعلنا لا نبالغ كثيرا إذا قلنا انه ومنذ أن قرر أن يكون شاعرا كان! وبهذا فلم يجد أمامه بدا من أن يضع قلمه محورا لكل شيء، وهدفا لكل شيء وربما سببا لكل شيء أيضا.
في قصائده الكثيرة ومسرحياته الساخرة وسيناريوهاته الموغلة في الحياة، حاول الماغوط أن يرسم ذاته الحزينة في ضوء القمر، مستعيدا في كل كلمة يدونها جزئية من جزئيات الوجع المهيمن على الروح، مستفيدا من قدرته الخرافية على استرجاع لحظات الحياة كلها، بأحداثها المهمة، ودقائقها غير المهمة، وألوانها المتناسقة والمتنافرة وأصواتها الصاخبة والهادئة، ومعانيها الضاربة في غيابات البشرية في تعميد ذلك الرسم بماء الموهبة الخالصة لوجه الشعر والإبداع والحقيقة التي ظل يبحث عنها طويلا عبر إنتاج المزيد من الأسئلة.

لكن شاعر الأسئلة والحزن رحل، وظلت أسئلته الحقيقية دون أجوبة حقيقية، وظل الحزن الكبير عنوانا للشاعر الذي كان يؤمن بأن الفرح ليس مهنته، ولذلك حاول تكريس ذاته للكتابة مهنة وموهبة، بداية ونهاية، قرارا وخيارا، فتوزعت روحه القلقة على كل محطات الكلام شعرا ونثرا، قصيدة ورواية ومسرحية ومسلسلا تلفزيونيا، وفيلما سينمائيا ومقالا وخاطرة وقبل كل شيء وبعد كل شيء حزنا متشظ بين الأسطر، وسخرية صاخبة اقترحت له أحد أهم عناوينه الإنسانية البارزة باعتباره الشاعر الساخر جدا في جغرافيا عربية لم تعد تحتفي بالشعر، أو تعترف بالسخرية.
'بعد أن اكتب كل ما يروى لي
أقص دفاتري على شكل زورق وأشرعة وصوار
وألقيها في عباب المجهول
ثم انصرف إلى الصحراء
لا عرف ماذا افعل بها
أو معها..'.
لكن الماغوط الذي كتب كل ما روي له، وقص دفاتره على شكل زورق وأشرعة وصوار، ثم ألقاها في عباب المجهول.. لم ينصرف إلى الصحراء بأسئلته اللحوحة، فقد كان الموت واقفا على باب غرفته ذات الجدران الملايين بانتظار رأسه الممتلئ حتى آخره بالأحلام والأمنيات.
فهل مات الماغوط فعلا؟
هل انتهت تلك الرحلة المضنية التي بدأها الشاعر الحزين مشتبكا مع الحياة في كل تضاريسها الزائفة والحقيقية منغمسا في ذهول الحبر، وحرقة الدمع ورهافة الشعر الجميل حيث الحرية هي اختصاصه الوحيد؟
ربما.. لكن ما بقي من الماغوط كثير جدا.. أكثر من دواوينه، ومسرحياته ومسلسلاته، أكثر من مقالاته.. أكثر من كل كلماته.. فقد بقي فيه ما توزع في اقتراحات أجيال من الشعراء تأثروا بحزنه كما تأثروا بقصيدته وانداحوا في بحر أحلامه كما انداحوا في بحر كلماته، وحاولوا التجاوز لأنهم تعلموا منه أن التجاوز فعل أصيل من أفعال الشعر والحياة أيضا.
أقسى ما في الوجود
أن لا يكون هناك ما تنتظره
أو تتذكره
أو تحلم به!!'
ولان الماغوط لم يعد أمامه ما ينتظره أو يتذكره أو يحلم به، وفقا لاشتراطات المرض القاسية، واقتراحات الدواء الأكثر قسوة، فقد رحل مفضلا أن يبحث له في خضم الموت عن مهنة تليق بالشعراء بدلا من الفرح المتأبي والحزن المستكين.
رحل الماغوط أذن بعد أن ساهم في جعل الحياة أكثر خفة وبساطة، وبعد أن ساهم في جعلنا أكثر قدرة على احتمالها، ولكن قبل أن يضع النقطة الأخيرة على السطر الأخير في قصيدته الأخيرة.. الأثيرة!

القبس 5 أبريل 2006

الماغوط على كرسي متحرك

امجد ناصر
(الأردن/ لندن)

امجد ناصرفي ردهة فندق روتانا البستان في دبي رأيت محمد الماغوط على كرسي متحرك يدفعه قريبه الطبيب الذي يرافقه، كظله، مذ أصبح المشي على قدمين ثابتتين على الأرض ذكرى من ماضي الشغب البعيد، فتقدمت منه وسلمت عليه.

قلت له: انا فلان الفلاني.
فقال: أهلا، اهلا، طبعا، طبعا!.
قلت له: كيف الحال؟.

فقال بنبرة ساخرة، والسيجارة الابدية تتدلى من زاوية منحرفة من فمه: كما ترى، وأشار الى الكرسي المتحرك.
فقلت: المهم هذا، وأشرت بالسبابة الى الرأس.
فقال وطيف ابتسامة تحاول ان ترتسم على شفتيه المطبقتين على السيجارة: وهذا خربان ايضا!
ثم كأنني سمعته يسألني: هل انت في لندن؟
فقلت من دون ان أتأكد انه سألني هذا السؤال: ما زلت في لندن.

كانت وجهة الكرسي المتحرك تشير الى ان الرجل يتجه الى المصعد، والطبيب - القريب واقف كظله وراء الكرسي فلكزه الماغوط بيده واخذ الكرسي يتحرك باتجاه المصعد وأنا أقول من دون سبب وربما لمواصلة هذا الحديث العابر الذي انقطع فجأة: أراك لاحقا.

لم أتأكد طبعا، انه عرفني، فنحن لم نلتق من قبل، ولم يجمعنا حيز او مناسبة، ولم أتيقن قط ماذا تعني كلمة: طبعا، التي رددها مرتين عندما قدمت له نفسي. لعلها مجرد رد طبيعي على اللهجة الواثقة التي شددت فيها على المقطعين اللذين يكونان اسمي.

أفلا يصادفنا كتاب وشعراء شبان، او مغمورون، في ندوة او مهرجان ويقدمون لنا أنفسهم ونقول لهم تفاديا للحرج او على سبيل التواضع، نفس الكلمات:
طبعا، طبعا.

طبعا، هنا، لا تعني شيئا، اذ هي مجرد حيلة كلامية للقول اننا نعرف من تكون ونحن، في الواقع، لم نكن قد سمعنا، من قبل، بأسمائهم، فالمرء لا يقدر على الإلمام بكل الأسماء حتى وان كنت تتحرك في الحيز الذي يتحرك فيه، فبعد كل شيء، الشعراء كثر والمنابر اكثر والعتب على النظر!
لم تزعجني مسارعة الماغوط الى لكز مرافقه لدفع كرسيه المتحرك، وفي الواقع لم اشعر بالحرج، فلم أكن ارغب بأكثر من تلك التحية، ولو انني تمنيت ان تطول المحادثة قليلا.
كان يكفي انني رأيت ذلك الشاعر الذي ظلت تراودني صورته وأحزانه المزمنة مذ كنت شابا صغيرا يلوب على أرصفة "الزرقاء" بحثا عن معنى لحياته في الكلمات العصية المراوغة.

كان يكفي ذلك. كان الرجل مريضا فعلا. الحيوية الوحيدة التي بدت عليه هي في مواصلته تدخين السجائر واحدة تلو الأخرى حتى في الأماكن الممنوع فيها التدخين كقاعة المؤتمرات التي عقدت فيها ندوة للفائزين بجوائز سلطان العويس الثقافية الشهر الماضي.

كان الماغوط يدخن بلا رحمة وبلا انقطاع، كأن السيجارة هي حبل السرة الذي يربطه بالعالم، او كأنها اوكسيجينه، فيما الفائزون يتحدثون عن حقولهم التي نالوا تلك الجوائز على أساس تميزهم فيها.

وقد بدا، من وراء نظارته الضخمة التي تشبه مرصدا فلكيا من العصر الحجري، ضجرا من الكلام والمتكلمين، او ضائعا لا يفهم ما يقال خصوصا، عندما راحت مصطلحات الناقد المغربي محمد مفتاح النقدية تتعقد اكثر وأكثر وهو يتحدث عن "الأنا" و"الآخر".. هنا فقدنا الماغوط تماما، او، لعله، فقد طرف الخيط الذي كان ما يزال يربطه بمحيطه "غير سيجارته طبعا" فصار ينظر الى محمد مفتاح من وراء ذلك المرصد الفلكي وهو لا يفهم ما الذي يجري.

صحيح ان الناقد المغربي كان يتحدث لغة عربية سليمة لكن شيئا فيها بدا عصيا على الفهم، انه ذلك النوع من "الاشياء" التي لم يفهمها الماغوط في لغة النقد والنقاد، شعرت للحظة ان الماغوط قد يفسد الأمر على الناقد المغربي، غير ان احتجاجه الوحيد كان باستلال السجائر والإمعان بتدخينها في مكان مكتوب على اكثر من جهة وزاوية فيه بحروف حمر: ممنوع التدخين!

ليست هذه الكلمات في مقام التقييم النقدي للراحل محمد الماغوط فلا الحيز ولا طبيعة المناسبة يفيانه حقه.

انها مجرد استحضار لذلك اللقاء اليتيم الذي جمعني به في ردهة فندق وهو يتوجه بكرسيه المتحرك الى المصعد.

انها ايضا تحية لمن قدم لنا وجهة في الكتابة الشعرية لم تطرق قبلا.
الماغوط شاعر فريد في المدونة الشعرية العربية: نكهة ومعجما وموقفا من العالم وهو شاعر محظوظ ايضا لأنه جاء في زمن كان هناك من يصغي الى الشعر ومن يظن ان الشعر قادر على التغيير، وهو محظوظ ايضا لأنه وجد بين مجموعة تلقفته وقدمته، بوصفه بيانا شعريا جديدا الى ساحة الشعر العربي.

فمن دون مجلة "شعر"، التي التف حولها شعراء خاضوا صراعا فكريا وجماليا لنقل القصيدة من طور الى طور آخر، من الصعب تخيل ان يكون الماغوط هو ما عليه اليوم، بل من الصعب تخيل كيف ستكون، الآن، صورة القصيدة العربية.

هذا الموضوع ينساه الكثيرون وهم يتحدثون عن واقع القصيدة العربية اليوم، بل جاء وقت نسي الماغوط نفسه تلك الحاضنة وأولئك الذين صنعوها، وهذا يعني ان الشاعر الكبير لا يسقط من السماء ب"باراشوت" ولا يصير كبيرا بمحو أثار خطوته الاولى ولا بنفي الذين غذوا نصه.

الشاعر الكبير يصير كبيرا بين كبار.

الرأي
الجمعة 7 نيسان 2006م

* * *

موت في ضوء القمر
وقبر بملايين الجدران

تمام التلاوي
(سوريا)

موت محمد الماغوط لم يكن مفاجئا, فجميعنا كان يعلم سوء حالته الصحية في الآونة الأخيرة, لكنه مع ذلك كان موتا صادما. هذا ما يحصل دائما كلما رحل واحد من الكبار, فما نلبث أن نضجّ من جديد به, وبموته, وبما أبدعه خلال سنيِّ حياته, ونعود لنقرأه من جديد, وندرس أعماله من جديد, ونكرمه من جديد -هذا إن كان قد كرم سابقا- وهذه الحالة الأخيرة النادرة تنطبق بالطبع على الماغوط الذي تم تكريمه من قبل الدولة السورية قبل سنتين أو ثلاث, أي قبيل رحيله بقليل.

قبله رحل ممدوح عدوان وقبله سعد الله ونّوس وقبله نزار قبّاني, ورحل بعده بيوم عبد السلام العجيلي, وغدا أو بعد غد سيرحل علي الجندي وأدونيس وشوقي بغدادي وحنا مينة وفايز خضور وزكريا تامر.. لكي يفارقنا جيل إبداعي كامل ترك أثرا أدبيا هائلا على الأجيال اللاحقة, ولكن لم يكن أبدا في هذه الأجيال اسما بحجم الأسماء السابقة. وأعني بحجم الاسم هنا أي انتشارا وتأثيرا ولا أعني بالضرورة الحجم الإبداعي, فربما وجد اليوم مبدعون حقيقيون لا يقلون عنهم موهبة وإبداعا, ولكنهم غير معروفون لأسباب لا مجال لحصرها الآن وتتعلق بالفوارق في الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية بين الزمنين.

لعلنا نتذكر الآن تلك اللقطة التسجيلية الفريدة لمحمد الماغوط عندما كان يقرأ كتابا بين يديه فتلقى خبر رحيل صديق عمره, قال له المتكلم في شريط الفيديو: ممدوح عدوان مات.. فالتفت إليه وسأل بصوت راجف: ممدوح؟. ممدوح؟. رددها مرتين وعاد ملتفتا إلى الكتاب ليتابع القراءة.. الأكيد هنا طبعا أنه لم يتابع القراءة ولكنه أيضا باعتقادي لم يحزن كثيرا -أو هكذا بدا- لأنه كان يدرك ربما أنه لاحق بصديقه عما قريب.

أقول هنا إن رحيله لم يكن مفاجئا ولكنه كان رحيلا صادما كأي رحيل عظيم. وصحيح أنني لم أبك لحظة سمعت نبأ رحيله -وهذه عادتي حين يصدمني موت من أحبهم- ولكنني في الحقيقة كدت أن أبكي.. فمحمد الماغوط الذي لم ألتق به في حياتي ارتبط اسمه وسيبقى مرتبطا بمسيرتي الشعرية المتواضعة ما حييت. مع العلم أنني كدت أن ألتقي به مرتين, مرة في حفل تأبين ممدوح عدوان, ومرة في حفل تسلمي (جائزة محمد الماغوط للشعر) العام الفائت, وطبعا فقد منعه المرض مرتين من الحضور.

كانت أمنيتي أن ألتقي به فقط لأقول له: إني أحبك مرتين يا سيدي.. لكنه فعلها ورحل مخلفا في نفسي حسرة أخرى تضاف إلى حسرتي القديمة بعدم لقاء نزار قباني. والمفارقة هنا أن هذين الشاعرين الذين لم ألتق بهما كانا هما الأحب على قلبي بأشعارهما, في حين أنني التقيت وعرفت عن قرب أدونيس وعلي الجندي وشوقي بغدادي وفايز خضور, وغيرهم من الشعراء الذين لم أحب أشعارهم بقدر ما أحببت هذين الشاعرين. ولكن على الرغم من هذا فإنني أعتبر نفسي محظوظا بأنني أتيت في جيل عاصر إلى حد ما جيل هؤلاء الكبار والتقى بأكثريتهم.

لقد أحببت محمد الماغوط مرتين, مرة لأنه واحد ممن نشأت في ظلالهم شعريا, ومرة أخرى لأن واحدا من دواويني يحمل جائزة باسمه. ولقد حزنت لرحيله مرتين, مرة لأنه رحل, ومرة لأنني لم أستطع إدراك لقاءه قبل هذا الرحيل.

محمد الماغوط مات, نعم أيها السادة, لقد مات في ضوء قمر أحلامه التي لم تتحقق, فحملها معه إلى قبر بملايين الجدران..

tammamtellawi@hotmail.com


ملف سابق عن الشاعر

يتبع ...>

أقرأ أيضاً: