مائة عام مرت على ميلاد الشاعر الفرنسي رينيه شار (1907 - 1988), وبهذه المناسبة أصدرت دار النشر - غاليمار- رسائل نادرة بينه وبين صديقه الكاتب ألبير كامو في كتاب بعنوان - مراسلات 1946- 1959- بين رينيه شار وألبير كامي- .
الكتاب أطلق عليه النقاد ( لقاء السحاب) في إشارة إلي أنها المرة الأولي التي يجتمع فيها كاتبان بحجم شار وكامو في كتاب واحد. وتطلق باريس أيضا احتفالية تقدم فيها العديد من الانشطة الثقافية والفنية والمعارض أهمها معرض - المكتبة الوطنية والتي تحتفل بصدور كتاب بعنوان - بلاد رينيه شار- الذي كتبته زوجته - ماري كلود شار- وتسرد فيه التفاصيل الحميمة في حياته عبر رسائله وصوره وكتاباته. وتروي زوجته كيف كان الشاعر الفرنسي مناضلا وثائرا ومقاوما طوال حياته. فقد عرف منذ طفولته بمقاومته لقيود الأسرة وبخاصة أمه التي كانت في نظره رمزا لقيود الدين والمجتمع، مما جعله يثور علي كل ماهو مألوف حتي أنه في الستينات والسبعينات كان مدافعا شرسا عن البيئة وضد منشآت الطاقة النووية في الأقاليم.
ولد رينيه شار في 14 يونيو1907 بمدينة - ليل سور لا سورج - بجنوب فرنسا لأب يعمل رجل أعمال. وفي العاشرة من عمره توفي والده مما أثر بالسلب علي حالته النفسية. فأصبح أكثر ميلا للعزلة والاكتئاب. وفي عام 1927, أدي الخدمة العسكرية الإجبارية في وحدة سلاح المدفعية ونشر أولي مجموعته الشعرية -أجراس علي القلب-، وهو الكتاب الوحيد الذي نشر باسمه الأول إميل رينيه شار. وبعدها انضم إلي الحركة السريالية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الأولي وكانت شكلا من أشكال التمرد والاحتجاج علي وحشية هذه الحرب وبعد أن تعرف عليه بول إيلوار في مدينته التي تكاد تكون معزولة أقنعه بالسفر إلي باريس حيث أمكنه من التعرف إلي فرسان هذه الحركة وعلي رأسهم مؤسسها أندريه بريتون. وفي عام 1930, ساهم مع اندريه بريتون وبول إيلوار في تأليف كتاب مشترك بعنوان - أعمال بطيئة -إلا أنه سريعا ما انفصل عن المجموعة بالرغم من تحمسه في البداية لمشروعهم. وفسر سبب الانفصال في رسالة بعثها إلي الشاعر السريالي بنجامان بيريه في العام 1935 قائلا: - السريالية بحاجة إلي التلاشي برشاقة وكياسة من أجل حمايتها من الإذلال الذي سوف تتعرض له عند بلوغها المائة عام. لكن ألستم مؤمنين بالقضاء والقدر؟ هل كانت سلالة ساد ورامبو ولوتريامون بأسرها من فئة المفكرين؟ وأنا أري هذه التسوية المثيرة للشفقة قادمة، فإنني أرفض إقرارها والتصديق عليها. سوف أغادر هذا السيرك-. وفي عام 1940 انضم إلي المقاومة الفرنسية ليس كشخصية أدبية -مقاومة- بل كمقاتل مناضل أثبت كفاءة عالية أهلته لأن يصبح قائدا ميدانيا لجيش المقاومة في جنوب فرنسا.وقبل انضمامه إلي المقاومة، كان قد كتب عن صديق (وربما عن نفسه): - لقد كان مولعا بالانتقاد، مفعما بالارتياب بشأن حياته، مسموما بالرياء. شيئا فشيئا استوطنته الكآبة العقيمة. الآن هو عاشق، ملتزم، قابل لأن يبذل نفسه ويضحي بها. إنه يمضي عاريا، مشحونا بالتحدي-. وكان قد عبر عن هذه التجربة علي شكل يوميات شعرية، التي هي مزيج من التأملات الفلسفية والقصائد النثرية،كتبها في الفترة بين 1941 و 1944، باسمه الحركي المستعار، هيبنوس، إله النوم عند الإغريق،ثم نشرها بعد الحرب (1946) في كتاب حمل عنوان -أوراق هيبنوس-. وفي السنوات التي تلت الحرب، وتحديدا من 1950 إلي 1962، اتسعت شهرة شار كشخصية أدبية مؤثرة، ونال احترام وتقدير العديد من الكتاب والتشكيليين والموسيقيين، وتعاون مع عدد من الفنانين في أعمال مشتركة، في مجالي التشكيل والموسيقي. وكان صديقا حميما للعديد من الرسامين والكتاب مثل: براك، جياكوميتي، بيكاسو، ألبير كامو. وفي 1971 أصدر كتابه -العري الضائع- والذي جمع فيه القصائد التي كتبها منذ 1964. وفي أواخر 1987 أرسل شار كتابه الشعري الأخير إلي الناشر، لكن طباعته لم تجهز إلا بعد أشهر من وفاته.
*****
في آخر حوارته، رينه شار:
الشاعر ليس رجل علاقات عامة
وكانت مجلة -لونوفيل ابستوفر- قد نشرت مؤخرا مقتطفات من كتاب- مراسلات- بين شار وكامو بالإضافة إلي مقتطفات من آخر حواراته، حيث تحدث شار عن لحظة الابداع مؤكدا: (أن الشعر لا يجيء في اللحظة التي يريدها هو. وبالتالي فما عليه إلا انتظار أن تأتي اللحظة الشعرية من تلقاء نفسها. وفي أثناء هذا الانتظار يعيش الشاعر أحيانا لحظات قلق وخوف من أن يكون الشعر قد هجره إلي غير رجعة. ومع ذلك فما عليه إلا ان ينهمك في الحياة وينسي انه شاعر.- فالشاعر علي عكس ما نتوهم لا يعيش حياته كلها شعرا بل يمكن القول بأن اللحظات الشعرية نادرة في حياته-. ففي نظره, الشعر ليس بالكمية وانما بالنوعية فكل أشعار رامبو، وبودلير أو لوتربامون يمكن جمعها في ديوان واحد صغير. ويضيف شار : - الشعر لا يصنع صناعة أو لا يفبرك فبركة كما كان يتوهم بول فاليري. هذا كلام علماء منطق لا كلام شعراء. الشعر يجيء أو لا يجيء. هذا كل شيء وكفي. وأهم شيء هو إلا يغش الشاعر عندما يكتب القصيدة، لأنه إذا ما غش انتهي وافتضح أمره عاجلا أو آجلا تماما مثل جان كوكتو الذي يغش أحيانا وآخرون كثيرون أيضا. أما أنا فلا أغش أبدا. وقد حصل لي ان انتظرت ستة أشهر من أجل أن أجد الكلمة التي أبحث عنها أو من اجل أن اختم قصيدة ما. وهذا ما حصل لي بالفعل عندما تعذبت كثيرا قبل ان اجد خاتمة قصيدة بعنوان: -عطلة الي الريح-. فبعد انتظار طويل ومحاولات يائسة وترقب وعذاب جاءتني العبارة المناسبة في آخر لحظة. وعما إذا كان من الضروري أن يكون الانسان - مجنونا - لكي يصبح شاعرا, أجاب شار ضاحكا : - لا يوجد شعر بدون هذيان أو جنون. ونحن الشعراء نتغذي من هذا الهذيان فيما نحاول ترويضه أو السيطرة عليه. وكل المسألة تكمن هنا: الي أي مدي يمكن للشاعر أن يسيطر علي جنونه الداخلي، علي هذيانه، فاذا ما انتصر الهذيان وصلنا الي حالة هولدرلين، أو نيتشه، أو انطونين آرتو، أو آخرين عديدين في مجال الرسم أو الشعر، أو الموسيقي. وقد يظل هؤلاء قادرين علي بعض الومضات اللامعة المتفجرة من حين الي حين حتي بعد جنونهم، ولكنها ومضات هلعة يسيطر عليها الجنون-.
وكان شار يردد دائما الشاعر ليس رجل حسابات أو علاقات عامة أو مقاولات ومساومات. فهو لم يعرف كيف ينال جائزة نوبل مثلا ولم يخطط لذلك علي مدار عشرين او ثلاثين سنة متواصلة. ولكنه لم يقبل إلا جائزة واحدة في حياته، وكان هو الذي طلبها من أجل تسديد بعض ديونه. وعندما فاز صديقه ألبير كامو بجائزة نوبل قال للجنة في استوكهولم: - رينيه شار هو أكبر حدث في تاريخ الشعر الفرنسي منذ رامبو-.. وكان هذا أكبر ترشيح له. ولكن الجائزة اخطأته وذهبت إلي سان جون بيرس، بل وحتي إلي فرانسوا مورياك! وبالطبع لا يقبل رينيه شار أن يدخل الي الاكاديمية الفرنسية، حيث يوجد العجائز والامتثاليون والمحافظون، وحيث رفضوا بودلير.-
وكان الشاعر المقاوم معروفا عنه ولعه بالجو العاصف وجو الصواعق وكثيرا ما كان يجلس علي عتبة بيته الريفي في جنوب فرنسا ينظر الي السماء التي احتقنت بالغيوم السوداء ويتوقع انفجار الغضب الالهي في أي لحظة. وعندما يتأخر اندلاع العاصفة يكاد صبره ينفد ويبتدئ بالسباب والشتائم لأن السماء ترفض ان تنفجر بالشرر الساحق الماحق.
*****
من شار إلي كامو .. والعكس:
معركتنا الجديدة بدأت
هنا بعض الرسائل التي أرسلها شار إلي كامو والعكس، والتي صدرت مؤخرا في ذكري رحيل شار.
3 نوفمبر 1951:
من شار إلي كامو
أعتقد أن علاقة الأخوة التي تجمعنا علي كل المستويات أبعد مما خططنا لها. وأعتقد أيضا أن صداقتنا هذه تزعج أعداءنا أكثر وأكثر بل وتزعج المستغلين والمنافقين في كل العصور.لايهم. فمعركتنا الجديدة بدأت وفي النهاية أصبح هناك سبب لوجودنا. علي الأقل , أنا مقتنع بذلك. وأشعر به.
30 يونيو 1947 :
عزيزي رينيه شار
أسعدني كثيرا خطابك. فاليوم قلة من الرجال يستهويني لغتهم وتصرفاتهم. (...) والآن هل يمكنني أن أطلب منك أن تؤدي لي خدمة بحكم أنك صديق قديم ؟ الأمر وما فيه أنني ضقت ذرعا بباريس وبالدهماء الذين نقابلهم. أمنيتي العميقة أن أعود إلي بلدي، الجزائر، وهي بلد الرجال، بلد حقيقية، قاس، لا تنس. ولكن لأسباب عديدة فإن هذا ليس ممكنا.والحق أن فرنسا التي أفضلها هي منطقتك، وبالأخص سفح لوبيرون، جبل لور، لوريس، لورماران، وغيرها.
إلي اليوم لم اجنِ مالا من الأدب. ولكن روايتي -الطاعون- سوف تدر علي القليل من المال. باختصار أود أن أشتري منزلا في منطقتك. فهل تساعدني؟
ألبير كامو
الاثنين 16 يوليو1951
شار قرأ رواية -الرجل المتمرد-
من شار إلي كامو
عزيزي كامو
(...) كتابك يسجل الدخول في المعركة, في المعركة الكبيرة الداخلية والخارجية أيضا لمكافحة الحقائق من الحجج من أجل صالح الرجل، لحمايته من المخاطر. لم تكن أبدا ساذجا فأنت تزن الأمور بدقة. هذه الجبال التي ترفعها , هي الملجأ والارسنال ووسيلة للعمل والفكر في الوقت ذاته. تأكد من أنك لست وحدك في البناء فنحن في النهاية سوف نكون كثيرين، تأكد من ذلك , بدون مبالغة، وسنبني جبالنا معا. لن نقول أبدا - من الضروري أن نعيش جيدا الآن- ولكن - سنقول أن الحياة تستحق منا بعض العناء لأن.... . لقد كسبتم المعركة الرئيسية التي لا يعرف محاربويا الفوز أبدا. كم هو رائع أن نغطس في الحقيقة.
قبلاتي
رينيه شار
باريس 26 أكتوبر 1951
من كامو إلي شار
عزيزي شار
(...) بعد انتهائي من هذا الكتاب , أصبحت في حالة من الفراغ وفي حالة مشوقة من الاكتئاب ثم من الوحدة. ولكني ليس هذا ما أريدك أن تعرفه في رسالتي هذه. لقد فكرت كثيرا في محادثتنا الأخيرة , فيك , وفي رغبتي في مساعدتك. ولكن ما الذي يمكن أن يغضب العالم منك. ببساطة تبحث أنت ونبحث نحن عن نقطة الدعم والالتقاء. علي الأقل أنت تعلم أنك لست وحدك في هذا البحث. ولكن ما لا تعلمه جيدا علي ما أعتقد إلي أي درجة أنت مهم وضروري لمن يحبونك، والذين بدونك لا يساوون شيئا.
باريس , الجمعة 18 مايو 1956
عزيزي شار
[...] قبل أن أعرفك، كنت امتنع عن قراءة الشعر. لم يكن يستهويني. ومنذ عشر سنوات علي النقيض أحسست بداخلي بفراغ لا يملؤه سوي قراءة شعرك حتي أصل إلي منطقة الاشباع.
ماذا يمكن أن نكون سؤالا بلا معني. اننا أصبحنا ما نحن عليه. أني أعلم ذلك عندما أقرأ لك. اننا نجني فقط ثمرتنا حتي وإن كنا في الشتاء. هذا السؤال هو فقط لمعرفة ما هي الحياة أو علي الأقل ما الذي تمتلكه الحياة لتكون فاتنة , أو لماذا ستكون فاتنة. أن هذا يكفي فقط ليجعلنا نعاني. ولكن إذا كنا تعساء, فعلي الأقل اننا لسنا محرومين من الحقيقة. وهذا ما لم أدركه بمفردي. ببساطة عرفت ذلك وأنا معك. محبة.
اخبار الأدب
27 مايو 2007-05-31
إقرأ أيضاً: