(كتاب يوسف عبدلكي)

نزيه خاطر
(لبنان)

(كتاب يوسف عبدلكي)ضخم على كثافة كتاب "عبدلكي" ومكثف بأناقة. وبمحتوياته يختزن ذاكرة محترف من خلال نماذج تختزل تحولات عين وقلق يد. كتاب يحكي من دون ثرثرة. كراهب متقشف او كدرويش معتزل في حال الرؤية. تكفيه كسرة خبز ليغرق في فضاء من ورق وبياض. او في سمكة او في صدفة، تفاحة، مسمار... الخ. اي انه بالقليل يرحل بعيداً وقد يشي قليله ببخل من عرف القلة ولم يشف. لذا هو يترك لغده المؤونة والحلم. وهو ككتاب، مضغوط على مفردات منتقاة بصرامة تلي عمليات الغاء عدة ابتغت ابقاء المميز في قول المعنى، والمشع في إلباسه رداء من ضوء.

وللبياض فخاحه. انه المكان، وقد يراوح طبيعته. وهو مؤهل في الوقت عينه لقنص حتى اصغر الاشارات التي تستدعيه، الى الاستعارات التي تخصّبه وتخصب هذه الاشارات في آن واحد. انه لون في الانتظار. ساكن في مساحته، الى ان تحط عليه نقطة توقظ فيه نبضاً. مستنفر على خشية، كأن قدره ان يخصَّب، فيما تراوده بين مد وجذر رغبات مجنونة تتلاطم ولا تكنّ. بياض يحلم بفقدان عذريته على يد مغامرة اقتحامية لماعة ومتوّجة بالنشوات. بياض يشرق بعد حجب. ولو انه حجب جزئي يطفو عليه التواطؤ مع دخيل اسود يأتي اليه بما يهبه المعنى والفضاء والمدى.
هذا يؤكده لنا كتاب "عبدلكي" الصادر عن "ايام غاليري" المتوطنة دمشق، من خلال سطوة الغشاءات السود على سطوح الاعمال الثمانين التي تضع له متناً صلباً ومضغوطاً بنيةً ومتراصا تشكيلا. وهو كتاب ذو حضور ذوقي وقامة ثقافية وطلة زخرفية تضعه باستحقاق مميز في واجهة المحتويات الثمينة للمكتبة العربية: يسد فراغاً نظرا الى معالجته تجربة فريدة في التشكيل العربي لفنان سوري، عميق على مقتصد، ومتقشف غير فقير، ولبق في تفتيش مادته رغم اعتزاله كل تعاطٍ بليغ مع "اغراض" تصادر لنفسها مكان وجودها، مساحةً وفضاء. يقتحم المعاجم شبه المهملة لأشكال وادوات ومواد وظّفت طويلاً، سوى في مجال المبادرات الاستثنائية في دور الكماليات التي عند الحاجة اليها تركّز المتن الرئيسي للنص التشكيلي. يقترح الحلول ولا يردعه ضيق المعنى وتشابه الطرح وحصر الوسيلة. ففي المخزون المهني ليوسف عبدلكي (من مواليد القامشلي، 1951) من الخبرات المتراكمة تحت جناحي التجريب والموهبة، ومن التخصيب المكثف للمشاعر والملامس، ومن القدرات المتحولة والمشحونة عند التفاصيل الصغيرة في باب الموضوع، الحميمة جهة الفنان، ما لا يشي دوما بحماوة هذا المخزون. لكنه وبمفردات تدل على اليد التي شكلته، يبصم السطح وحياكته، "الغرض" ومنطق ترسيمه، والفضاء وتحريره للعين ما دامت تساكنه.

قراءة اولى فرجوية ولكن!

لكلٍّ من "الغرض" والسطح والفضاء اثر مخصّب في قراءة الصورة العبدلكية، كما في الكتاب، قراءة تستشف روافدها من ثقافة الصورة لدى المتصفح، في زمن تعيش الصورة سلسلة من عمليات التحول والخطف والمصادرة، تثري حضورها وتوسّع اطر دورها. كمن يقول في هذه القراءة انها محاصرة بجدل يستمد تلاوينه من وضع المعرفة في بدايات القرن الحادي والعشرين. نقطة الانطلاق العين الطبيعية: تنظر، ترى، تفهم، وتستخلص، وفي كتاب يوسف عبدلكي مادة متقبلة لـ"قراءة فرجوية" تتلذذ بالخبريات الناطقة التي ترسمها كما هي في الحياة للاشياء العادية التي نادرا ما يتوقف عندها مصورو هذه الايام. ينتبه لحظتها هذا القارئ الى الملامح الأكثر من واقعية لأغراض او اوان او فاكهة او حصاد بحري، فتدهشه براعات اليد والشطارات التقنية وقدرات الرسام السوري المهاجر الى باريس في جعل الصورة اكثر طبيعية من الاصل: "أنطق" قال لتمثاله النحات الايطالي النهضوي.
انها بداية، وجلي مما في اعمال الكتاب ان قراءة كهذه وإن كانت الأكثر انتشاراً في عالمنا العربي، ليست هي المحرك الفعلي لتفاعلات من الطينة التي تُعجَن فيها الهواجس العبدلكية. كأن لتراكم تجربة عبدلكي، كما لميله الى الاحتكاك الحي المستمر بالموجات الفكرية الاقوى تحريضاً لفنان من عالمنا، صداهما الحيويين في عملية بناء الاسئلة المعنية في نظره بالمواجهة مع العصر والصدامات الوحشية لانسانه الجديد. الى كون الرسوم تخلو من المفاتيح الى قراءات معمقة لكل منها. فهو يصف، يقص، يدل، ولا يذهب الى ابعد. كمن يكتفي تاركاً للزائر طلاقة العين والاذن وحرية التأويل. ذلك ان سرّ محتويات الكتاب هنا، اي في طاقة متصفحه على مقاربة رسومه من زوايا عدة، وبعيون عدة، اذا جاز القول. اي من زاوية ان مخزون الصورة يتجاوز المظاهر الى البواطن، فالمنظر يرتاح مطمئناً داخل المساحة التي تؤمن له كل الشروط للتوازن الطبيعي. فالسمكة في صحن على طاولة. او مسمّرة. أو داخل علبة على طاولة. والجمجمة مربوطة، أو تتربع بكل تفاصيلها العظمية فوق سطح يتمدد طولا ولا ينتهي... ومجموعة من الاواني من كل وظيفة وكل شكل، تفترش سطح طاولة كأنها في انتظار خدمة ما. وليس على المشاهد سوى اخذ العلم او التنبه الى ان لصاحب هذه الرسوم مراداً اكثر تطلبا، ومن ثم عليه ان يحاول معرفة فحوى هذا المراد.
ثمة علامات اليفة لمن يتذوق، هوايةً او احترافا، التجاربَ اللافتة لبعض الرسامين، تومئ بذكاء مهني مضبوط علنا ضمن الضوابط الاكاديمية في اعمال يوسف عبدلكي الى وجود دوافع خفية وراء هذا التأكيد الوقح على الملامح الأكثر من واقعية لعناصر الفضاء والسطوح والأشياء. من هذه العلامات الاهتمام المبالغ فيه اولا بالغلاف الفضائي الذي يهب محتويات الرسمة الاطار الفيزيائي الذي يؤكد حقيقة تموضعها في مكان ثلاثي البعد. والتشدد ثانياً، في ابراز الطبيعة المجسّمة والتي تكاد تلامسها عين المشاهد، لسطوعٍ في دور همزة الوصل بين فضاء هوائي والاشياء التي تبدو هي المدار الرئيسي لمبتغى يوسف عبدلكي. لكأن هواجس الرسام كيفما اختار المتلقي تصفح رسومه، تصب في ما يجوز تصويره، بتتويج تشكيلي لاشكال اعتبرت طويلا من التفاصيل المضافة للخدمة عند الحاجة اليها فقط. ولا يتم الحدث التشكيلي سوى لحظة تلاحم هذه العناصر الثلاثة في نص يجد كماله في اختراقه لمعجم لا من باب نقضه انما من طريق الغوص في مقوماته الموروثة، محترفا من محترف، الى حيث التقليدي والهامشي والمحجب يتربع ملكا كالاصل الاصيل بعدما كان الفرع وملحقاته.

لا حركة يد خارج السيطرة

في اللحظة التي يلتئم فيها هذا التلاحم بين عناصر الرسمة، يقع الحدث التشكيلي. لكأن الفنان يكتسب شرعيته من طاقته على الذهاب بالموروث الى ابعد. اما المحور والركيزة فهما "الغرض" المضاف، حتى ولو كان مسماراً. للاضافة هنا معنى من يأتي ليتصدّر الورقة البيضاء بعد تأهيل المكان. بدءاً من شكل هذه الورقة، وفي اختياره تحضير فيزيائي للارضية المتخيلة سلفاً لحدث تشكيلي قيد الانجاز. يلفت اعتناء عبدلكي بالملامح الهندسية لمساحة تشي مسبقاً ومن بعيد بالشيء (وصفاته) المرشح للتفاعل الخصب مع مقاييس سطحها. يخطّط واعياً لما سيلي مبادرته الاولى هذه، حيث ان لعملية الرسم عنده الطابع الممنهج المنطقي البارد، فلا حركة خارج السيطرة، والنماذج عديدة في الكتاب، لكل اشارة دور مخصّب لمحتويات رسمة تحت التصرّف، ويد الفنان، لخبرات جلية تصف مداخلاتها، هي القرار والتنفيذ. أما التعميم والتفاصيل المستهلكة فممنوعان، ذلك ان الهاجس الكمالي المتحكم في سلوك الرسام يمنعه حتى من الارتجال لطبيعة مزاولته التصوير بمادة الفحم المتحولة واللعوبة والمعرّضة مع كل انفعال لليد.

يشعر زائر الكتاب بثقل هذه العلاقة المختمرة بالخبرات والمعرّضة دوماً للاشتعال السريع بضغط من موهبة فوق الشبهات. علاقة باردة بمعنى منطقية، وحارة لرعشات حميمة تلامس الزائر هنا وهناك، رغم انها نادراً ما تبوح بسرّها ليس لقمع يمحو ملامسها الفحمية، أو لسطوة تقنية تقلّل من انفلات اليد، أو ليس لرغبة طارئة تدفع بالفحمة الى هذيان وإن عابراً، انما لرغبة عند يوسف عبدلكي في قول ما يريد بالشكل الذي يريد وضمن الغلاف التشكيلي الذي يريد. لا عجب بعد ذلك من تزيّن كتابه بأعمال من كل شكل وحجم تنتمي جميعها الى تبجيل الفحم وتمليك الغرض مهما كان معناه ورتبته وثراء جلده وملامح بنيته. فالهاجش التشكيلي لعبدلكي ذو مبررات اكثر تعقيداً لتعدّد ركائزه وتنوع طموحاته وكثافة مكان تبلوره بعد مسيرة طويلة صعبة تتوازن ضمنها عقلانية التصوّر ومنهجية التصميم ومهنية التنفيذ. تؤكد طابع المسيرة هذه، التجارب المركزة دوماً على الرسم كاداة للتنفيذ، الرسم كوسيلة للقص، للوصف، لبناء الحكاية، وعلى الكاريكاتور كاداة لابراز تفصيل من كل، بعد نفخه الى اكثر مما تحمله طبيعته. الاداتان تتكاملان في رسوم الكتاب وإن كان يوسف عبدلكي يوظفهما على نحو ثالث يخترق به الارث المتراكم، مدة عصور ومواهب، للرسمة التي تهتم بكل عنصر مفيد في مجتمع يتصفح جمعاً وتفصيلاً الاصول والنوافل.

****

شيء لدى يوسف عبدلكي يذكّر، تصوراً وتنفيذاً مع أخذ العلم بالفروق بين الازمنة والثقافات والتقنيات، بتجربة الرسام الفرنسي جان باتيست ساردان (1699 - 1779) في محاكاة الاغراض الهامشية في اللوحة الملوكية، يوم ابتكر في اواسط القرن الثامن عشر الاهتمام الكلي المحصور بالاشكال المعروفة يومئذ بالميتة، والتي اصبح يدل عليها بعدئذ بالاشكال الصامتة (انجز رسومه بالباستيل على ورق)، اشكال تجذب اليها اليوم وإن بدوافع تحت تأويل يوسف عبدلكي في صوغ مسمكته، حذائه، ثماره، مسماره، اوانيه... الخ... بالفحم على ورق.

كتاب ذكي ومبني تحت عناوين الذوق والاناقة والثقافة، فيه المعلومة المفيدة والشاهد المقنع والنموذج المضيء لمراحل عاشها الفنان خلال مسيرة عقلانية تحت السيطرة وثراء في العطاء نما متماسكاً وتشكّل صلباً مشعاً وتطوّر مضبوطاً بيد خبيرة مجرّبة وتحت اشراف عين ترى ولا تسامح.
أي أنه كتاب في محل معرض وضمان لذاكرة من فحم وورق كأنها لم تكتف بتجسيد الاشكال العادية لكنها ترفعها الى واجهة الحياة بفضل قلم مخترق مضيء يهب الاشياء عرق الايام.

****

النقد المهيب

لكتاب "عبدلكي" مدخلان لكأنهما من صناعة يد محتشمة، اول يغوص في "الرجل" تحت غشاء من الاسئلة وغرق مرغوب فيه في ظلالها، وثانٍ لا يقبل يقيناً او يمتطي منطقاً مبوبا، لكنه ورغبة منه في تفعيل ما هو ساكن وتخصيب قراءة ما يبدو صامتا، يقترب من المحتويات، من الرسوم بالفحم على ورق، كمن يتلمس فضاء ولا يخشى التأويل، يتوطن سطوحاً ويتلذذ في استيضاح مقاييسها، "يُفَلفِش" الأشياء المثبتة في مواقع مختارة بصرامة ويتصرف كمن لا يرى غيرها وهي في نظره الخبر التشكيلي والحدث الابداعي.

عنون خالد سماوي مالك "ايام غاليري" مدخله بـ"صلابة الاسم او دقة الساعات" (ص 9)، وقد يجوز اختصاره بجملة وردت في نهاية المقطع الثالث جاء فيها: "احب تلك المقدرة في تحويل مادتين، الورق والفحم، الى تلك الحديقة الشاسعة من الالوان، وما عمل الفن التشكيلي برمته غير هذا، غير تحويل الاشياء العادية الى اشياء لا تموت".

المدخل الثاني، نص اميل منعم، هو الاصل والمدخل الفعلي الى محتويات كتاب "عبدلكي". يشي عنوانه "الاشياء تحت سحر الدلالة" بالهاجس الرئيسي لنص يستمد من قلقه الثقافي الاسئلة ومفاعيلها والأطروحات وتخاصبها والاستنتاجات ومحطاتها. والمثير في نص ينبض بالافكار، ليكاد يجاور الانفلاش الذكي الى كل جهات الجدل الذي يخاصم ولا يعادي لكنه يفتح لأسئلته مجال النمو، وإن يكن الوصول غير مضمون. "الاشياء تحت سحر الدلالة" نص يبتغي محاورة آخر، كمن يفكك بدناً من ورق وفحم لينتحر فيه وراء ولادة بديلة. ذو عين تهوى المساءلة، وكلما بنت محطة ارتمت على الاستفهامات شبه المستحيلة. كأن للذكاء اطلالات تتضاعف حجما مع حصولها على ما يفيد ولا يردم فضولا.

قريب من نص يوسف عبدلكي كلام اميل منعم: يصفه، يزيّنه، يلتف عليه، يغازله، يجادله، يمدحه هنا ليعامله ببرودة هناك ولا يعلن رفضا، لكنه، وهنا نقطة التواطؤ بين النصين، يتبادلان التخاصب الفكري من دون شرط سوى حفاظ كل منهما على التخاطب الحميم من دون مهادنة او تفخيخ، ومن باب تبادل التقدير. جريء في فكره، واقتحامي اذا بادر، ومنطقي اذا واجه، وعقلاني في الجدال اميل منعم. لذا يبدو في افكاره ومنطقه الثقافي من طينة شبه مشابهة للملامح العبدلكية المجدولة على الارادة الصلبة والمنطق الموضوعي والسرد العقلاني والنص المركز على يقينات كأنها مخلخلة بضغط من المشاعر الانسانية لفنان عاش السياسة كفعل ثقافي.

مثير للقارئ نص اميل منعم، لنبرة ملونة بعصرنة محتشمة بين ما بعد الحداثة والحداثة المفخخة بالشك الذي ينحو دوماً الى يقين مشروط. لبقٌ منعم في طرح الاسئلة وتوظيف هذا الطرح في خدمة يقين تحت المناقشة. ولا يمنع قلمه من تركيز جهده على ركوب الاعمال بغية الوصول الى خلاصات تمتدح الفنان، وعبدلكي جدير بالمديح.

فجمله الاخيرة تختصر سلوكه الجذاب واللماع. يقول: واذ يهدي (اي يوسف عبدلكي) هذا العمل الى جيل السبعينات، فانما يقدم نفسه ايقونة تذكارية يهديها الى ابناء جيله كله.

اما يوسف عبدلكي فيتوج كتابه باهداءاته "الى كوليزار"، "قوّادة المحل العمومي في القامشلي في منتصف سنوات القرن الماضي".

ن. خ.

nazih.khater@annahar.com.lb

النهار- 12 فبراير 2008