(هذا اللبناني الريفي الغنائي التجريدي قد يكون الأفضل في مدرسة باريس الجديدة)

نزيه خاطر
(لبنان)

شفيق عبود في كتاب بالكلمة والصورة يأتي الكتاب عن شفيق عبود الذي صدر أخيرا (منشورات CLEA (أي بعد مرور أكثر من عامين على وفاته في نيسان 2004، وليد رغبة صريحة لدى ناشريه في بناء بورتريه مختزل جدا، وفي آن واحد، قريب ومحبّ وعليم. فقد تمّ تنفيذه بضربات سريعة لقلم مليء بالنيات الحسنة، يكتفي من الشيء بقطاف الملامح العريضة ذات الفائدة المستعجلة، مع إيحائه بتلك العلامات المضيئة التي وهبت الفنان وحياته بعضاً من قامة فريدة ومشعة، ومن حضور رافق مسيرته التي لفّت عالمين، الغرب الأوروبي والشرق العربي، ومدينتين، باريس يوم كانت العاصمة العالمية للفنون، وبيروت في دور المختبر الطليعي للضمير العربي الحديث. حضور لم يكتف في أن يكون، وأن يضيء، بل اخترق العاصمة الفرنسية الى مدن أوروبية رأت إليه انه من بين أفضل فناني "مدرسة باريس الجديدة"، وتوسل بالعاصمة اللبنانية ليشع في مدن عربية تبنّته كإحدى الركائز الثابتة لثقافتها التشكيلية الحديثة.

ينتمي الكتاب الى رفّ المؤلفات الفنية التي تبتغي الإحاطة الأنيقة من جهة، والرصينة الموثّقة من جهة أخرى، بفنّان اطلّ في الأزمنة الصعبة، أي مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية، وفي باريس المدينة المتطلبة التي كانت لتبدو خارج المتناول بالنسبة الى شابٍ آت من بيروت، وفي الحقل الثقافي المستحيل تقريبا على لبناني طموح يحلم بغزو فني لموقع محصن، وهو ابن الأرض البور. يتزيا الكتاب عن الفنان عبود، اللبناني المولد (المحيدثة، قضاء المتن الشمالي، في 22 تشرين الثاني 1926) والفرنسي بالتجنس (في 25 نيسان 1969)، بالتعامل في وضوح كلي ومقتصد في آن واحد، مع المعلومات المفيدة والضرورية، التي تفتح النوافذ على ما يلزم من الأحداث التي تذكي بالتفاصيل المجدية هذا الوجه لعبود أو تلك الهواجس التي حكمت نموّ لوحته. ويتلبس الكتاب الشكل الجذاب للعين أولا، ويقوم على توازن مرغوب فيه بين موضوعية المحتوى المنحاز الى إعطاء الصدارة للصورة، والتصميم اللبق للإخراج الذي، على ما يبدو من تقليب بطيء لعناصره، يعطي الاهتمام الأول لإيصال مادته الى قارئ يريد ان يتآلف براحة مع فنان، سطحه هنيء وعمقه متطلب على اكتناز.

طابع الكتاب أنيق على بساطة. مليء بالمعلومات على ذكاء في التبويب. ذو حضور بصري مع تحريض زائره على الاقتراب من محتواه التشكيلي بعينه القارئة المتمعّنة. وجليّ ان الكتاب قليل الكلام النقدي، لكنه في الوقت عينه يفي بوظيفة التعريف بالفنان لدقة ما يشي به عنه، بفضل اختيار الناشرين لأبحاث نقدية مقتناة بلباقة ثقافية مضبوطة، من خلال النصوص الأربعة المصقولة في نص واحد من أربعة مقاطع للناقد الفرنسي روجيه فان غنديرتال. وهو المدخل الصلب الى لغة الفنان شفيق عبود، والغوص المتين في مفردات معجمه التشكيلي، في أدق مراحل ولادة لوحة لـ"محارب" شاب، في أيام البدايات الجريئة في وسط الخمسينات من القرن الماضي (ص 11). فيه أيضا، كنص لناقد باريسي رافق عبود طوال سنوات، التصاق حميم وعليم ومثقف بامتياز، وحيث كانت تُصنع الفنون الغربية في ذاك الزمن، بين تجربة تشكيلية لفنان في غربة مرغوب فيها وعين قارئة ترى وتتابع وتعترف بما تراه، وتسجل للفنان صعوده بين أفضل الباريسيين الجدد (في 1955)، واكتناز لوحته بلغة تختزل التصوير في زمن تدهور التشكيل (في 1961). كأنها تفرح حين يعلن عبود بعد شكّ عميق في مستقبل اللوحة، "بأن التصوير لا يزال ممكنا" (في 1977).

أقلام أخرى تضيف رؤية أصحابها النقدية الى نصوص فان غنديرتال، ملوِّنةً الجزء المكتوب باللغة الفرنسية بالمقاربات الثقافية ذات النسيج المتعدد والثري، وخصوصاً تحليلها لركائز فن يرفض اختصاره بقراءة أحادية النكهة، لما يتفاعل في بواطن قشرته اللونية من تفاصيل قائمة على لبس عاطفي وتفجّر مشاعري وفوران لوني، لتبتكر مجتمعة ما كان عبود يدل عليه ببشرة اللوحة وكأنها البديل من بشرة الفنان. يصف اللبناني جوزف طراب الفنان عبود بـ"الجسد الوثني المتناغم بحرية مطلقة مع الفضاء الكوني من دون أدنى اثر للتصوف، للأسرار، للنزاعات، للدراما، للمشاكل" (ص 15). مقال آخر لصلاح ستيتية يتحايل فيه بلغة شفافة، كالضوء النقي في لوحة عبود، وراء الايحاء بكل ما تحمله هذه اللوحة من براعات مهنية في ابتكار نص كأنه من جسد وهواء وضوء (ص 13). وأخيراً مقال للفرنسي جان بيار بورغارت الذي، الى محاولته مساءلة لوحة عبود عمّا اختزنته على مدى نصف قرن، يقدم آراء للفنان في تجربة ابتكار نص يلتحم وحياته من دون الابتعاد للحظة عن مرافقته النقدية لتجربة يصفها تكراراً بأنها مليئة بالشوق النهم الى التصوير، ولا يجد متعته سوى بتوالده من ذاته (ص 17(.

يبقى الكتاب معنياً أولاً وفي جزئه الرئيسي، بالمصوّر شفيق عبود، لكنه يفتح في بعض صفحاته النوافذ على فنون زارها عبود بفضولٍ يرى الى معاجم تقنية عدة تأتي كالصدى لعمل تشكيلي يعلم جيداً ماذا يريد. ضمن هذا الإطار، ومن خلال صداقته مع الروائي جيرار خوري، مرّ بفنون الخزف والحفر والجدرانيات، منجزاً الأعمال الخصبة المحمّلة إشارات كثيفة لرهبة تبدو كيفما اقتربت منها أنها تتفلّت من حصارها بكلام نقدي يلزمه دوماً التعامل مع تحولات ذوقية ومهنية وفنية تحت الاتهام. رغم ذلك، قد يجد بعض قراء هذا الكتاب مادة غير متداولة بين جمهور المتذوقين، لكونها الى اليوم ضمن مجموعات ضيقة، أي في متناول العدد القليل من الناس، والكتاب يضعها للمرة الاولى في المتناول، مع كمّ من الملذات الحميمة التي تبدو كأنها ملتصقة دوماً بالأعمال المشغولة بطراوة حسّ ورجفة عين من فنان لم يرغب يوماً في تجاوز تواضعه الشديد الحياء. وقد يأتي تصفح هذا الجزء من الكتاب بمعرفة تفصيلية بشخصية عبود الأخرى، تلك التي أمضى الفنان حياته بالتستر حولها، كمن يحفظ اصدق مشاعره لنفسه وللقريبين جداً من قلبه.

غير ان لكتاب عبود وجهاً أكثر علنية، وخصوصاً بالنسبة الى ذواقة لبنانيين رافقوه طوال سنوات، من خلال لوحات تركت صداها البصري في ذاكرة حفظت ألوانها من دون أن تبتعد عن غَرْف الإشعاع من عالمٍ زاول القصّ من دون قصة ولوّن القصص من دون قصّ. اللوحة المطبوعة بالألوان تصنع للكتاب محتواه الثري فترفعه من مرتبة المطبوعة الأنيقة عن فنان مغامر على بطء، وعقلاني تحت الوهج، وفضائي على حفافي الكون، وتجريدي في أطر الغنائية، وسردي كمن يغرق بكل جسده في بحر التلاوين المضيئة. لكأنها لوحة تفلتت بكل تجريدها من كمّ يصعب حصره من تيارات تجريدية قالت أكثر مما تراه العين، ووشت بالألوان كأنها الوسيلة الرئيسية لمن يركّب بعينه الألوان، للارتحال المضيء على بساط من أضواء. من هذه الزاوية يطل الكتاب محمّلاً مادة تثقله أكثر مما تنعشه، لكأنها زادت على المفيد وتجاوزت الحد المعقول لولادة الملذات البصرية، بل كأنها لوفرة حمولتها تقع في تخمة لونية خانقة.

ولكن يلفت في الكتاب انحياز كامل الى الوجه الباريسي لفنان عاش وأعطى وحاور ضمن ركيزتين تتعادل بينهما الفرنسية واللبنانية: أما اللغة الفرنسية فهي المرجع الوحيد لمعدّيه ومصمميه، مما جعل المحتوى محصورا بأقلام قليلة، بعيداً عن تلك التي رافقت تجربة الفنان في مدن أخرى وبلغات وثقافات مختلفة. الى جانب ذلك، يُلاحَظ انتماء معظم مواد الكتاب، كي لا نقول جميعها، الى مرحلة سابقة لوفاته، بينما كنا لنتوقّع أن يتضمن في اقله دراسة إستعادية تضيء على الملامح الأصلية لتجربة اخترقت بجرأة بلغت حد الصدام مع الوضع التشكيلي الرائج في هذه العشرية الباريسية أو تلك العشرية العربية، ولم تتنازل عن تطوير معنى للتصوير يستمد خصوبته من الفعل التصويري الصافي.

كتاب ذو صلة مغرية من حيث أناقة غلافه الخارجي من كرتون، تزينه لوحة تقول عبود ولا تقفل الرغبة في معرفة أعمق. كتاب ثمين، ذكي، عملي، وصالح لدور المحاولة الاولى للإحاطة بفنان قد يحتاج الى مجلد ثان لمقاربة تتجاوز بدايات الكلام الى النصوص التي تغوص في فنان اختزل بتجربة نصف قرن وأكثر زمناً يقال فيه انه عاش موت اللوحة ثم ولادتها من جديد، وإن بأشكال ومواد وأدوات تحت الاختبار.

nazih.khater@annahar.com.lb

النهار
الاثنين 8 كانون الثاني 2007