لا ريب في أن رافع الناصري من الأسماء التي دلت في مرحلة الستينيات على ظهور ملامح تنشط في سبيل فن عربي حديث. نحن في الستينيات كنا مجموعة عراقية لبنانية سورية تحلم في بناء فن يتجاوز الصياغات المحلية كفن لبناني وسوري وعراقي... الخ. ولم يكن دوره ثانوياً بل كان من العناوين التي ينادي عليها لإعطاء صفة لهذه المحاولة في بناء لوحة تكون عربية بالمطلق، لا لبنانية او سورية، أي عربية بالمفرق.
نصّه متين ومتماسك، منير ولا يخلو من المزج اللاواعي لعلامات عربية وغربية، وفي ذلك ينتمي رافع الناصري إلى رعيل حلم في بناء فن عربي معاصر يتجاوز المكان الضيق ليدل بحرفية متطورة على وجود علامات ولادة لوحة عربية تتجاوز المكان الضيق والزمان المتفلت.
رافع الناصري عنوان بليغ للوحة كأنها تمتص الماضي لبناء لوحة تكون عربية بالمعنى المتين أي الذي يتجاوز المكان الذي صنعت فيه والزمان الثقافي الذي يشارك في بناء ملامحها.
لذلك يصعب على من يقف أمام إحدى لوحاته أن يربطها بزمان ومكان، وإنما في الوقت عينه هي تؤكد عراقيتها من خلال بعض الألوان التي كان يقع عليها الزائر بحذر، لكون فنه أعم تأثيراً من ان يكون لبنانياً أو سورياً أو حتى عراقياً.
ذلك أنه فنان منفتح على تأثيرات ململمة من مصادر عربية وغربية من دون ولاء لأي منها دون غيرها.
لوحته كأنها مزيج من ثقافات عربية كانت تدل على هذه المدينة أو تلك. انه فنان يمكن نعته «بالعربي» لما لديه من ميل إلى بدائية حرفية تتوسل الشطارة والبراعة من دون التخلي عن ارتباطها بهوية الفنان.
انه فنان لبق، طري، بارع في قول ما يريد من دون التخلي عن مواصفات تضعه خارج الفولكلورية المحلية. إنما لا تمنع عنه صفات اللوحة العراقية كما كانت متداولة في الستينيات، زمن كان يتردد فيه على بيروت التي كانت تحلم بأن تكون عاصمة الفنون التشكيلية العربية يومئذ.
إنه مجرد رسم في سلسلة ثرية من مواهب صنعت وأسست في آن للوحة عراقية عربية وغير بعيدة كثيراً عن الرموز الرائجة يومئذ لفن عربي يتجاوز البلدية والفولكلورية والاستسلام الكامل للغرب.
عندما كنت طالباً بمعهد الفنون الجميلة في بغداد منتصف سبعينييات القرن الماضي.. ومن خلال دراستي فن الحفر والطباعة على يد أستاذي الفنان رافع الناصري، كنت قد أعجبت به كإنسان وفنان وأب يحمل بداخله وخارجه كل صفات النبل والأناقة والإبداع الفني الذي كان محط أنظار تلامذته ومحبي فنة.
إنه «الامير رافع الناصري»، هكذا أطلق عليه المهندس المعماري حسين علي حربة اسماً يليق بمبدعنا أمير الأناقة والفن الراقي، فوجد صدى كبيراً في الأوساط الثقافية العراقية والعربية.
ويبقى الأمير حاضراً.. من خلال إنجازاته الجمالية في الرسم والحفر المعلقة على جدران ذاكرتنا التي هي امتداد للحضارات الأولى في «سومر» و«أكد» و«أشور». ويبقى محفوراً كأي أيقونة على بوابة المتحف الوطني العراقي.
ترك لنا غيمة وإشارات وأرقام مساجين وبقايا أجساد وأفقاً يحمل تلك الرموز كحجاب عشق لحبيبته بغداد. لن يتوقف غزله لبغداد.. إنها رحلة عاشق. بعد ان أنهى سنوات دراسته الثانوية الأولية عام ١٩٥٩، في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وتتلمذ على يد الرائدين جواد سليم وفائق حسن، لينهل منهما أبجديات الخط واللون والشكل، اختار الناصري طريقا آخر ليكمل مشوار دراسته الفنية في بكين وليس في أوروبا... وكان هذا الاختيار صعباً، سواء أكان اختياراً نابعاً عن وعي مسبق أم محض رغبة في الاختلاف.
وقتها سئل الناصري ما سبب هذا الدافع فأجاب: إن هذا الاختيار كان نتيجة مشاهدته لمعرض الفن الصيني الذي أقيم على قاعة معهد الفنون الجميلة في بغداد عام ١٩٥٩، وقد اثار إعجابي ودهشتي وحبي للفن الصيني الذي لامس مشاعري، وبعدها قررت ان اختار الصين نافذتي ومدرستي التي سأتعلم فيها وأطل من خلالها على أسرار تلك الحضارة العريقة.
بعد التخرج عاد الى بغداد واستمر في التعليم بمعهد الفنون الجميلة وأسس قسماً للحفر والطباعة، وجد نفسه أمام فرصة جديدة ليذهب الى البرتغال، ويكمل دراسة هناك لمدة سنتين من ١٩٦٧ حتى ١٩٦٩، كانتا حاسمتين بالنسبة إليه في تغيير مسيرته الفنية تغييراً جذرياً. هناك اقترب من المشهد الكبير الذي منحه الاتصال بصرياً وروحياً بأوروبا، فوجد له أسلوباً جديداً وطريقاً ما زال ينير دروب طلابه وعشاق فنه.
وتألق الناصري باختصاصه (الحفر والطباعة)، وأنتج فناً مميزاً كان قريباً من نبض الإنسان، لأنة استلهم من تاريخنا وعذاباتنا رموزاً منحها حياة معاصرة ولغة تجريدية غنائية.
وفي بدايات تجربتي كنت قد وقفت كثيراً عند نتاجه البصري الذي أبهرني في طريقة تنفيذه وإخراجه لأعماله الأكثر أناقة وترفاً ونقاءً، وحتى طريقة حفره للكلائش التي كان يحفرها كنت أُذهل بدقتها ولمعانها... حقاً كان الناصري رمزاً للأناقة والجمال.
وكنت أزوره بين الحين والآخر في محترفة، لأتعرف على أسرار الحفر والطباعة الخاصة بعوالمه السحرية، فكان قلبه مفتوحاً لكل طلابة... ولم يبخل بما يحمله من أسرار وتقنيات في ذلك الاختصاص.
حلمت كثيراً بأن امتلك تلك الأسرار وذلك المحترف، وبالفعل أسست محترفاً خاصاً بي، وكان متابعاً ومباركاً لكل خطوة قمت بها... رغم بعده عن بغداد آنذاك كان يرسل إلي تبريكاته وفرحته بهذا الإنجاز الشخصي، وقتها كنت أنفذ مجموعة كبيرة للفنان الراحل إسماعيل فتاح الترك.
لا بد من أن أعلن محبتي وولائي لهذا الفنان الكبير، الأمير رافع الناصري.
هكذا هو الناصري أمير الحب والجمال والفن التشكيلي... الرحمة كل الرحمة لك أستاذي ووالدي.
(فنان عراقي مقيم في بيروت)