|
"الوليمة" لأنسي الحاج، ايتل عدنان. |
لا يخدعنّكم معرض "الريشة تحيي القلم" الذي تنظمه المؤسسة اللبنانية للمكتبة الوطنية في متحف نقولا سرسق في الاشرفية، فهو أوسع من مجرد معرض لـ"اثنين وأربعين فنانا لإحياء الكتاب"، كما يوحيه العنوان، وابعد في محتوياته من التعريف بكتاب ومكتبة كانا ليختزنا ذاكرة وإنسانا لو لم تمزقهما حروب أكلت الناس قبل الورق. وهو صاحب إطلالة على المدينة تتجاوز النجاح المعتاد للأحداث الفنية الموسمية والعابرة، في متحف كان أهدى جمهوره المعرضَين حول جورج شحاده وجبران خليل جبران. ذلك انه يضيف الى كل تلك المعوقات مجتمعة، التفاعل الخصب ضمن الحدث الواحد، للفاعليات الرسمية مع الخاصة، واللبنانية مع العربية والأجنبية، والثقافية مع الصالونية، والحرفية اليدوية مع الأدبية والفنية. يضيف المدينة الى المدينة، ليبني للمستقبلين القريب والبعيد ذاكرة في خامة الإنقاذ المعجل، تماما كما البلد الذي تمثّل برموزه المعنية بالحدث، في ليلة أول من أمس، موعد افتتاحه بدعوة من وزارة الثقافة ومتحف نقولا سرسق والمؤسسة اللبنانية للمكتبة الوطنية.
يغطي معرض "الريشة تحيي القلم" الطبقتين الاولى والثانية لمتحف يعيش هو ايضا منذ أكثر من أربعة أعوام، انتظار البدء بتأهيل عمارته المصنفة "تراثية" لتلبي متطلبات فنون العصر، وحاجة العاصمة الى صرح ثقافي يحضن الوجه المتحرك لمجتمع يرفض الاستسلام للرمال المتحركة التي تجذبه الى انحطاط اعنف. خصص جان مارك بونفيس، الطبقة الاولى للتعريف بالمكتبة الوطنية، موقعاً وعمارةً جديدة بعد التأجيل ومخزوناً تاريخياً، من الوثائق النادرة الى الكتب المخطوطة كما المطبوعة، الى شريط يحكي بالعناوين الكبرى قصة مكتبة ولدت من مبادرة الفيكونت فيليب دو طرازي، وازدهرت نسبيا ما بين عام تأسيسها في 1921 وأواسط السبعينات، وتعطلت في أزمنة حروبنا الصغيرة وغوغائياتنا الكبيرة، وعرفت حياة عصرية مع تبنّي رفيق الحريري عملية إحيائها مجددا والتفاف عدد عريض من مريدي المشروع حول الإحاطة العملية أولا، بترميم المخزون المتبقي من الكنوز القليل عددها والكبير محتواها والتي هي قيد الفرز العلمي حاليا، كما حول تحديث المفهوم العام ثانيا، الدور الذي ينبغي لمكتبة وطنية ان تؤديه لملء فضاء مدينة تريد الولوج الخصب والفاعل الى عالم يواجه تحديات عولمة، وهو على علم بأن هناك على بعد ساعة طيران مكتبة الإسكندرية، وبأن العصر يعيش تحوّل العالم قرية صغيرة.
يرافق زائر هذه الطبقة الاولى، شعور بين العجب بضغط من المفاجآت، والإعجاب بما يراه من ثراء في النماذج التي تم انتقاؤها لتأكيد أهمية المخزون التاريخي للمكتبة الوطنية. شيء غير متوقع يستوقفه في زاوية من المكان: منظر أفراد من فريق المرممين ينجز أمام متابعين لعملهم إصلاح مطبوعات عرفت تلفاً، والمكان شريط الفيديو الوثائقي الذي يقدّم الشروح المفيدة حول إعادة الحياة الى المكتبة الوطنية التي ستتوطن نهائيا بحسب آخر الأخبار، المبنى المصنف اثريا لمدرسة الصنائع التاريخية والمعروفة حاليا بمعهد الحقوق التابع للجامعة اللبنانية. وإذ نشير الى ذلك فلأن في هذا الجزء من المعرض، المعنى الذي يفسر أسباب إقامة معرض تشكيلي، في الطبقة الثانية، في إشراف نادين بكداش من "غاليري جانين ربيز"، يضم اثنين وأربعين رساما لبنانيا يتمثل فيه كل منهم بعمل فني او أكثر، وذلك حتى تاريخ الجمعة 31 آذار 2006. معرض للبيع قرب متذوقين يرغبون في اقتناء أعمال يحبونها، ويساهمون في الوقت عينه من خلال تلذذهم بامتلاك قطعة يريدونها في إطلاق مشروع وطني يعيد الى لبنان جزءا من ذاكرته، والى بيروت جزءا من دورها اللبناني والعربي.
ميزة الطبقة الثانية، الأناقة التي تجذب اليها من يقف عند عتبتها متأملا بانورامياً المنظر التشكيلي الذي يطل عليه: فهناك صلابة في المعلقات على جدران القاعة الكبيرة والموزعة داخل أقفاص زجاجية في فضاءاتها، تترك راحة في العين، وشعوراً بأن المستوى العام للمحتويات ارفع قيمة تخيلية وأكثر جرأة في التنفيذ مما كان قبل شهرين هنا، في "معرض الخريف لعام 05". يتأكد هذا الانطباع بعد جولة أولى يتبقى بعدها في ذاكرة الزائر عمل هنا واسم هناك، ومنها "خشبيات" (04) لعفاف زريق، المتنامية كخطوط تبحث عن معنى، و"رأس غاليله" (04) لتانباك (تانيا بكاليان) التي تبني رأس إنسانها من ورق وخشب في حال قصوى من الالتصاق، و"كتاب التحول، كتاب الديانة" (الجمع جائز) لهانيبال سروجي، على نحو متدليات (04) من ثلاثة أجزاء تتفاعل طيرانا مع جدار يكاد يندمج بها في رعشة تدعو العين الى نزهة في أجواء المخطوطات المشلعة، و"في البدء كانت الكلمة" (04) للزميلة لور غريب، ضمن غابة كثيفة من الكتابات المرمزة والحكايات البصرية الطقسية، كأنها صفحة من كتاب الأزمنة الرحالة، و"مذكرات سفر رقم 2" (1992) لشفيق عبود في صفحة من وريقاته الحميمة التي كان يوظف فيها كل ذكرياته المشرقية لفنان لبناني في باريس، ولذا ربما دور النص الفرنسي، في لوحة تشي بالحنين الى الهناك الذي لم يعرف يوما كيف الإفلات منه.
جولة ثانية تلفت الى أعمال لم يتنبه لها الزائر، وكان يلزم لذلك تنقيب أكثر اعتناء بالمحتوى التشكيلي العام، وإنما أكثر تأملا في ملامح بعض النصوص التشكيلية التي تحتاج الى وقفة أطول للتفاعل مع سرها. منها على سبيل المثال عمل "الوليمة" (بيروت 1994 - باريس 04) شعر انسي الحاج، للمفكرة والشاعرة والرسامة ايتل عدنان، والذي يطل عابرا من صفحات مختارة من كتاب على نحو الاكورديون، تزينها ضربات لونية بالكاد هنا تلتقي عفويا وببراءة مفخخة بمقاطع شعرية للكبير الرائد انسي الحاج. او "الكتابات المسمارية" (04) لبسام جعيتاني، او "وردة المتاهة" لفيصل سلطان (05) في صفحتين من 27 تطل كدعوة الى الذوبان بصريا في قصائد لها سلطان تحت العنوان نفسه، او "شجر الكلام" لجميل ملاعب (1984) التي تعيد ابتكار الشكل والمعنى لشجرة المعرفة الأثرية، مما يضعنا في مواجهة عنيفة مع "كتاب الذكرى الأخيرة" (02) لحليم مهدي الكريم الذي يروي في صفحاته المهترئة بقايا ذاكرة أكلتها الأيام قبل أن يأكلها غبار الزمن. يستوقف ايضاً هنا، رغم السهولة في التأليف، عمل رفيق مجذوب: "يوم وراء يوم، يوم وراء يوم، يوم وراء يوم..." (04) الذي يتهم ببساطته المباشرة عالما أضاع ملذات العيش فلم يبق لمن هم في عمر الفنان الشاب سوى الضجر.
في خلاصة الكلام، رغم ثراء حدث لا يختصر بسطور، هو معرض للزيارة غير الزيارات، إذ فيه من المحتوى ما يصعب الإحاطة به عبورا، فكيفما جاء الاقتراب منه، كتعريف تقني بمكتبة وطنية تحت التأهيل العلمي المحتفي، او كمعرض تشكيلي نموذجي يضم مادة جديرة بمصالحة الذواقة مع فنون غابت أخيراً عن واجهة المدينة، يبقى انه يصنع الحدث الثقافي والفني في مدينة تنشط على كل مستوياتها في سبيل استرجاع دورها.
nazih.khater@annahar.com.lb
النهار
السبت 18 شباط 2006
إقرأ أيضاً: