العدد الثاني - أبريل 2007 رئيسا التحرير زينب عساف / ماهر شرف الدين | |
****
في العام الذي رحل فيه صلاح عبد الصبور كان بعض جيلنا لم يولد، وبعضه الآخر بالكاد تعلّم النطق. هذه ليست بداية مرافعة للدفاع عن جهلنا بهذا الشاعر، فقد قرأنا أحد مجايليه (السيّاب) كما لم نقرأ شاعراً حديثاً. في الواقع كان في شعر صلاح عبد الصبور جميع "المقوّمات" التي تبقيه خارج دائرة التكريس:
- غياب القضية عن شعره في زمن القضايا الكبرى.
- صوته الخفيض في زمن الجعير القومي والأيديولوجي.
- ابتعاده، مختاراً، عن حلبة الريادة وتسجيل النقاط حول أسبقية كتابة قصيدة التفعيلة، وإلى ما هنالك من "فتوحات" لا تزال تأخذ نصيبها من جدل هذه الأيام.
إلى ذلك يمكننا تسجيل سبب إضافي، غالباً ما يردّده الذين عرفوا عبد الصبور معرفة شخصية، وهو مسألة إقامة العلاقات التي كان عبد الصبور زاهداً فيها.
بالطبع، هذه أسباب تُساق على سبيل المديح أيضاً، لكننا من خلالها نفتح باباً لا يمكن سدّه بإصبعين حول مسائل جوهرية تطاول الذائقة الشعرية العربية برمّتها. بقاء عبد الصبور خارج دائرة التكريس كان يجدر به أن يكون سبباً للعودة المتكرّرة إلى شعره. لكن هذا ما لم يحصل، وقد لفتنا تعبير أحد النقّاد من الذين اعتذروا عن عدم المشاركة في هذا العدد حين قال: "أصبح بعيداً".
بالفعل، صلاح عبد الصبور "بعيد" أكثر من كونه غائباً. ثمّة عائق المسافة في علاقتنا مع هذا الشاعر، لا عائق الزمن. كان عبد الصبور جريئاً في خفوت صوته وخفوت بلاغته وخفوت إيقاعه. هذه الجرأة المضادّة، التي لم تُفهم إلا في ما بعد، هي التي نسجت قماش شعره بإبرة النثر (والعكس ليس صحيحاً)، وهي التي جعلت اليومي والعادي قضية، وإن من الباب الخلفي. لم يكن في وسع عبد الصبور أن يكون شاعر الأمّة. ويكفينا أن نقرأ قصيدة سأقتلك في ديوان "الناس في بلادي" كي يراودنا الشكّ في كون عبد الصبور هو من كتبها حقاً: "أقسمتُ بالأهرام والإسلام والسلام/ سأقتلك/ (...) أغوص في دمك".
كان عبد الصبور شاعر وجدان وتأمّل، ولذلك كان شاعر ليل. ولو اتُّفق أن قام أحدنا بعملية إحصاء معجميّ لمفردتَي "الليل" و"المساء" في شعره لاستوقفته قلّة القصائد التي أهملت هاتين الكلمتين. ناهيك بأن أجمل مطالع قصائده ارتبطت بالليل المشفوع بمنادى غالباً ما يتأرجح بين "صديقتي" و"صاحبي". الأكيد إذاً أن في وسع المرء الحديث عن مطلع صبوريّ خانَ الأطلال مع الليل، مطلع شرطه اقتران الليل بالمنادى. في وسع المرء الكلام على "لكنة" صبوريّة، لم تهدم جداراً بين النثر والشعر، كما يشيع القول، بل بنت جسراً.
كان صلاح عبد الصبور شاعر أنا منكفئة، وأنا خائبة، وأنا مكتوبة بصيغة اليومي، لذلك رفضت الأمّة أن يكون شاعرها.
****
"الله يا وحدتي المغلقة الأبواب".
"والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير".
"ثم أنام غارقاً، فلا يغوص لي... حلم".
"وأرى الموت، فأعوي يا أبي".
"أما عرفتِ أنني صموت/ يطلّ من كُوى الجدار وجهه المرتاب/ كل مساء مظلمٍ، كأنه سرداب".
"أدرتُ وجهي للحياة، واغتمضت، كي أموت".
"لا تسأل الشيء الحزين أن يبين/ أن يبين/ لأنه مكنون".
"الليل ثوبنا، خباؤنا، رتبتنا، شارتنا، التي بها يعرفنا أصحابنا".
****
"شعراء ليل" على مثال ما نقول "بنات ليل"؟
صلاح عبد الصبور حاضر، لكنه بعيد؟
لذا، لا تزعم "نقد" أن عددها الثاني أكثر من محاولة اقتراب من هذا الشاعر، أقلّه بالنسبة إلى جيلنا الذي وُلد قبل موت صلاح عبد الصبور بسنتين، أو بعده بسنتين. هذا الجيل الذي أغواه، ولا بدّ، تصديق أن عبد الصبور قُتل بكلمة قيلت له في سهرة. أسعده أن تكون الكلمة مقتل الشاعر بالفعل. كلمة قتّالة؟ شاعر سمعنا به من قصّة موته، ومن نهايته تلمّسنا الطريق إليه؟ عن حقّ، صلاح عبد الصبور "نموذج" مغرٍ لإقامة الحدّ بين الكلمة القاتلة والكلمة البعيدة.
رئيسا التحرير
****
لا يزال صلاح عبد الصبور حاضراً بشدّة في ذاكرة الحداثة الشعرية وفي وجدان الأجيال التي تعاقبت لاحقاً. وصورته ما برحت محفورة في وجدان قرّائه، وموقعه في الحركة الشعرية العربية المعاصرة لا يزال حيثما ينبغي له أن يكون. ولئن حلّ به بعض الظلم النقدي ولم يُنصف عربياً كما يستحقّ، فهو يظلّ ذلك الشاعر العصي على التصنيف الجاهز، والقادر على مواجهة حكم الزمن. كأن صلاح عبد الصبور وُجد ليبقى مشروعاً لا يكتمل إلا في مستقبل ما، مستقبل يظلّ ربما مجهولاً. بل كأنه يسعى دوماً، حتى بعد رحيله إلى إكمال مشروع شعري وجد لئلا يكتمل.
لا أدري لماذا يبدو لي صلاح عبد الصبور شاعر المستقبل لا الماضي، شاعر المستقبل المجهول، شاعر الأجيال التي تتوالى لا الأجيال التي عبرت. كأن في شعره جوهراً مفقوداً ينبغي البحث عنه دوماً. ولعلّه الجوهر الذي يصنع سرّ الفعل الشعري، سرّ الإلهام والإبداع في قصائده. قد تنتمي لغة عبد الصبور وتقنيته الشعرية وموضوعاته إلى "تراث" الحداثة مثله مثل بدر شاكر السيّاب وعبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة وسواهم. إلا أن "شيئاً" ما في شعره يظلّ عصياً على حكم الزمن. "شيء" كالجمر الذي لا يخبو تحت الرماد، شيء حزين، غريب، غامض، كما يعبّر الشاعر نفسه في إحدى قصائده. "شيء" يدفع شعره إلى المزيد من التوهّج السرّي على رغم ملامح الشيخوخة التي لا تغفل أحداً.
ينقل أحد النقّاد عن صلاح عبد الصبور أنه عندما سئل مرة عن أحبّ قصائده إليه قال: "إنها القصيدة التي لم أكتبها بعد". هذه العبارة تنمّ عن معاناة أليمة وصادقة طالما كابدها الشاعر الرائد. إنها معاناة الشعراء الحقيقيين الذين يشعرون أنهم قد يمضون العمر بحثاً عن قصيدة تظلّ وهْمَ قصيدة. لكن عبد الصبور خلال بحثه المضني والدؤوب عن تلك القصيدة - المثال كتب أجمل ما كتب، بل أصدق ما كتب من قصائد خافتة الصوت، عميقة الأثر، قصائد محفوفة بخيبة الوجود وقلق اليقظة وألم الحياة.
لم يكتب شاعر عن "الأنا" المسحوقة مثلما كتب صلاح عبد الصبور عن "أناه" المستحيلة "ذاتاً" متألمة ومعذّبة في عالم هو بقايا عالم، وفي حياة هي أشبه بـ"قاع البئر المعتم". هنا تكمن إحدى خصال هذا الشاعر، بل ربما أحد ملامح شعريته الفذّة. فالانسحاق الذي لن يوفر القصيدة واللغة كلتيهما، هو أقرب إلى انسحاق لـ"أنا" الصوفية، أو "أنا" الشعراء "الملاعين" الذين أضاؤوا ليل اللغة في العالم. يرثي الشاعر نفسه كما لو أنه يرثي صورة الشاعر المثالي الذي يمثّل نموذج الضحية بامتياز. وكم كان عبد الصبور جريئاً في "تحقير" ذاته حيال "ذات" المتنبّي في إحدى قصائده نافياً عن نفسه موهبة اقتناص المعنى ومسبغاً على المتنبّي مواصفات البطولة والفحولة. لعلّ هذا "التحقير" الذاتي هو أجمل ما يمكن أن يعلّمنا إيّاه هذا الشاعر الكبير، وكان هو تعلّمه من المتصوّفة، من الحلاّج كما من المسيح، من بودلير وأبي العلاء وبقية الشعراء الذين عرفوا محنة الغربة في عالم ليس لهم.
نقرأ صلاح عبد الصبور كما لو أننا نقرأه للمرّة الأولى. قراءته تبدأ دوماً ولا تنتهي، لا لصعوبة شعره أو "انغلاقه" بل لبساطته التي تخفي وراءها كثيراً من الحكمة والتأمّل، وربما لتلقائيته التي تند عن حال غريزية حادّة. صلاح عبد الصبور شاعر لا يُستنفد بسهولة، بل هو شاعر لا يسلّم مفاتيحه بسهولة، مفاتيح لأبواب هي غير مغلقة أصلاً. فما لا يكتبه هو بمثابة الجذوة التي تعتمل في صميم ما يكتب. وما لا يقوله يظلّ أبداً بمثابة الجرح المفتوح الذي لا يشفيه الزمن مهما تقادم عليه. وليس من المستغرب أن يعبّر الشاعر أكثر من مرّة عن "العذاب" الذي يكابده في البحث عن "معنى الحرف". فالشاعر الحقيقي في نظره هو الذي "يسعى جاهداً إلى أن يقبض على الشعر من خلال بحثه عنه".
يحفل شعر عبد الصبور بما لا يحصى من موضوعات وقضايا تختلف وتأتلف، تتناغم وتتناقض. فهو شاعر الوجود مثلما هو شاعر الحياة، شاعر العدم مثلما هو شاعر العالم، شاعر الهموم الماورائية والهموم اليومية، شاعر الحزن والليل، شاعر الإيمان والخيبة، شاعر العزلة والتأمّل، شاعر الحبّ واليأس والسأم... أما الشعر لديه فهو كما يصفه "صوت إنسان يتكلّم". وعندما يكون الشعر صوت الإنسان المتكلم يصبح قادراً على أن يستوعب ما لم يستطع أن يستوعبه سابقاً. بل يصبح قادراً على أن "يشعرن" كل ما يصادفه. ولعلّ سرّ صلاح عبد الصبور يكمن في قدرته السحرية على "شعرنة" الحياة في تفاصيلها الصغيرة وأشيائها النافلة وأمورها الصغيرة. سرّه أنه أنزل القصيدة أو رفعها إلى مرتبة "الكلام" اليومي، لكن من غير أن يُفقدها أبداً سحرها السرّي وكثافتها الوجدانية وعمقها الوجودي. ولعلّ هذا الطابع هو "العيب" الذي أخذه عليه النقد "المحافظ" والتقليدي جاهلاً فرادته الخاصة التي ستنعكس لاحقاً على الأجيال المقبلة.
إلا أن عبد الصبور كان مدركاً كلّ الإدراك أن من ضمن ما أضاف إلى القصيدة التفعيلية "لهجة الحديث الشخصي الحميم" كما يعبّر. هذه اللهجة هي التي شرّعت القصيدة العربية الجديدة على اللاشعري، سواء أكان مفردة أم عبارة أم مرجعاً... ويكفي إحصاء "المعجم" اليومي واللاشعري في قصائد عبد الصبور حتى تبين بوضوح محاولة الشاعر المستميتة في كسر هالة الفصاحة والبلاغة والخطابية التي طالما هيمنت على الشعر العربي. يكفي أن يقول الشاعر جهاراً: "آه لو استفرغ ما في أمعائي..." كي تتضح صورة "اللعنة" الشعرية كما تجلّت لدى شعراء الحداثة في العالم.
كم أصاب صلاح عبد الصبور حين اعتبر نفسه غير معني بمعركة الشعر الحرّ التي دارت بين بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وسواهما، وراح كلّ شاعر حينذاك، يضع نفسه في مقدّم الثورة التفعيلية. علماً أن عبد الصبور يستحق تمام الاستحقاق أن يكون في طليعة الشعراء الحديثين في العالم العربي وليس في مصر فقط. وقد أغمطه بعض النقّاد العرب حقّه فعلاً، ولم يلقوا ضوءاً على تجربته الرياديّة. ومن هؤلاء نازك الملائكة نفسها في كتابها الشهير قضايا الشعر المعاصر، وقد أخذت عليه "ركة الإيقاع وضعف البناء وتنفير السمع" مستندة إلى مقطع شعري، هو برأيي المتواضع من أجمل الشعر: "وحين يقبل المساء/ يقفر الطريق/ والظلام محنة الغريب". وتأخذ عليه الملائكة أيضاً "الطابع المرسل" في بعض القصائد مسدية إليه النصح من عليائها. ولعلّ "الطابع المرسل" هو من السمات النادرة التي ميّزت قصائد عبد الصبور التفعيلية، وهو ما أمدّ تلك القصائد بحال انسيابية متهادية بعيدة كلّ البعد من الخطابية والجلجلة الإيقاعية والتهويم اللفظي. ونجح عبد الصبور حقاً في التخفّف من ثقل القوافي وفي اعتماد الجمل الشعرية الطويلة، وقد خلا بعضها من القافية، ما أسبغ على قصائده حالاً أخرى من "الخفوت الإيقاعي" الجميل. فصوت صلاح عبد الصبور صوت خافت أصلاً، لكن في المعنى الشعري أو المجازي. صوته هو صوت الشاعر المتألم والمتأمّل، صوت الشاعر الغريب والمقتلع، صوت الشاعر المجروح والمخنوق. أما الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي فامتدحت "الرقّة المؤثرة" في بعض شعره، والبساطة التي تسم الكلمة المفردة لديه و"اللهجة الحميمة"، لكنها أخذت عليه "الرخاوة" في العبارة والحشو والمواربة. وأساءت (بل أخطأت) في قراءة قصيدته الشهيرة "أقول لكم" معتبرة أن هذه العبارة (أقول لكم) هي عبارة "خطابية متعمدة". وفاتها حقاً أن عبد الصبور هنا يؤدي لعبة "القناع" مستعيراً هذه العبارة من يسوع الناصري في معناها الصوفي والإصلاحي. ولعلّ هذا ما أشار إليه الناقد المصري أحمد عبد الحي في كتابه عن شاعر "الناس في بلادي".
كم يبدو مظلوماً صلاح عبد الصبور عربيّاً. وربما ساهم بعض النقد المصري في هذا الظلم العربي عندما حصر الشاعر في هويته المصرية. علماً أن عبد الصبور شاعر عربي مثلما السيّاب شاعر عربي ونزار قباني وأدونيس وأنسي الحاج وسواهم. هذا الشاعر الذي عرف كيف يوفّق بين التراث والمعاصرة، بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، بين إليوت والحلاّج، بين بودلير وأبي العلاء، حري به أن يكون شاعراً، وشاعراً فقط.
ولعلّ الأجيال، كلّ الأجيال، ستظلّ تردّد مع صلاح عبد الصبور: "هذا زمان السأم".
****
صلاح عبد الصبور من الشعراء القلائل الذين حملوا بداخلهم رغبة الإصلاح، فقد تميز شعره عن باقي شعراء الحداثة الذين واكبوه أمثال السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، كذلك الذين أتوا من بعده أمثال أدونيس ويوسف الخال وأحمد عبد المعطي حجازي... تميَّز بالإضافة إلى عزوفه عن استعمال أي فخامة لغوية وركونه إلى لغة بسيطة مباشرة تحمل بين طياتها عمقاً دلالياً، بأسلوب السخرية مما كان يدور حوله. ونحن في هذا البحث لسنا في صدد التطرق إلى جميع جوانب التميّز التي اصطبغت بها قصائد عبد الصبور، وإنما سنقصر موضوع بحثنا على جانب واحد ألا وهو استخدام النسق القناعي عند الشاعر عبد الصبور، وسنقوم بتحليل قصيدة "الظل والصليب" أنموذجاً.
من الملاحظ أن معظم قصائد صلاح عبد الصبور تقوم على البناء المركب في الأنساق، وهو بناء تتداخل فيه الأنساق كالنسق الرمزي والقناعي والقصصي وغيرها. ففي قصيدة "الطفل"، على سبيل المثال، يستعمل النسق الرمزي كنسق رئيس، ويدعمه بنسق بنية التوازي والنسق القصصي (1):
"قولي... أمات؟
جسّيه، جسّي وجنتيه
(...)
هذي أصابعه النحيلهْ
هذي جدائله الطويلهْ
(...)
لا تلمسيه!
هذا الصبي ابن السنين الداميات العاريات من الفرح
هو فرحتي
لا تلمسيه
أسكنته صدري فنام
وسّدته قلبي الكسير
وسقيت مدفنه دمي
وجعلت حائطه الضلوع...".
القصائد التي تُبنى بناءً نسقياً مركّباً تتداخل عناصر التعبير فيها بحيث يحكمها "نظام داخلي دقيق من العلاقات يربط بين محاورها ومستوياتها... تتولد منه الدلالات أو تتكامل بفضله الدلالات" (2). وما يميَّز القصائد المبنية بناء نسقياً مركباً "العمق الدلالي للنص المتأتي من احتوائه على فراغات عديدة تجعل القارىء يدخل كأداة فاعلة لملئها وبالاعتماد على منظومته التأويلية" (3)، وهذا ما نجده في معظم قصائد عبد الصبور، ففي قصيدة "الظل والصليب" يتداخل النسق القناعي والنسق الرمزي إلى درجة بالكاد نستطيع التمييز بينهما، ثم يأتي نسق بنية التوازي ليعمّق المستوى التعبيري والدلالي للنسق القناعي والرمزي.
والنسق القناعي هو تقنية يوظّفها الشاعر لتمرير وجة نظره أو أفكاره وكل ما يجول بخاطره أو يعتريه، ففي قصيدة "الظل والصليب" استطاع عبد الصبور أن يُلبِس قناع "الملاّح" بطل القصيدة لشخص ما، وفي الوقت نفسه وظَّف البطل نفسه "الملاّح" كرمز يرمز إلى شخص أو شيء ما.
وما يشدّ انتباهنا في هذه القصيدة وجود ميل واضح إلى الاعتماد على الجمل الاسمية في البناء اللغوي لنصوصها:
"هذا زمان السأمْ
نفخ الأراجيل سأمْ
دبيب فخذ امرأة ما بين إليتَيْ رجل... سأمْ
... لا عمق للألمْ
لأنه كالزيت فوق صفحة السأمْ
لا طعم للندمْ
لأنَّهم لا يحملون الوزر إلا لحظةً
ويهبط السأمْ".
بالطبع، تركيز عبد الصبور على الجمل الاسمية لم يكن اعتباطياً لأن "أي نسق يفرضه الكاتب إنما يمثّل جوهر رؤياه لأي أمر حياتي يتعامل معه" (4). وما يميز الجملة الاسمية أن المعنى الذي تعكسه يمتاز بالثبات والسكون لأنها "لا تكشف عن مظاهر الحركة لافتقادها للذات الفاعلة، ولكونها مجرّدة من الفعل فهي إذاً مجرّدة من الزمن الذي هو من لوازم الفعل" (5)، أي أن الشاعر أراد أن يُثبّت الدلالة، وبالتالي يعطي صورة للمتلقي بأن هذه الحالة، أي حالة السأم، ليست طارئة وعابرة بل ثابتة.
قراءة كتاب عبد الصبور حياتي في الشعر تدلّ على أنه كان توّاقاً لإصلاح الكون، إذ يقول: "لستُ شاعراً حزيناً، لكنّي متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شللي، شهوةً لإصلاح الكون". من هذه القراءة نستشف أن عبد الصبور غير راضٍ عن الكون وعن هذه الحياة فكل شيء فيها "سأم" من نفخ النراجيل والذي يقصد به ممارسة الحياة اليومية كالجلوس في المقاهي وغيرها وصولاً إلى المرأة والرغبة في المرأة... هذه النظرة التشاؤمية تجاه الحياة لا تصدر إلا عن شخص يرغب في إصلاح الكون. فعندما نتتبع القصيدة لنفكّ لغز الرمز الرئيس فيها "الملاّح" وبقية الرموز "جبال الملح والقصدير" و"الصخور":
"ملاّحنا هوى إلى قاع السفين واستكان
وجاش بالبكا بلا دمع، بلا لسان
ملاّحنا مات قبيل الموت، حين ودّع الصحاب
والأحباب والزمان والمكان...".
نلاحظ أن هذه الأبيات تقودنا إلى استنتاج مفاده أن "الملاّح" الذي يستعمله عبد الصبور رمزاً في القصيدة، ربما يكون رمزاً لكلّ إنسان غير راضٍ عما يدور حوله، فهذا الملاّح يقرر أن يركب السفينة ويجوب البحار كي يصلح الكون، لكنه "يهوي إلى قاع السفين"، أي أنه لم يفلح في رحلته. ثم يأتي البيت الذي يقول: "ملاحنا مات قبيل الموت، حين ودّع الصحاب والأحباب والزمان والمكان"، ويقصد به أن الإنسان الذي اختار رحلة الإصلاح "مات"، أي طلَّق لذّات الدنيا التي يصفها الشاعر بالسأم ليعتكف. فهو - أي الإنسان - ودَّع بمحض إرادته "الصحاب والمكان والزمان"، وهذا طبعاً نتيجة طبيعية لأي شخص لا يرضى عما يجري حوله ويحاول إصلاحه فيلجأ إلى الانعزال ليتفرغ لعلمه وقراءته، فلا إصلاح من دون علم ومعرفة، والعلم والمعرفة لا يأتيان من "نفخ الأراجيل" أو التسكع في الشوارع...
عود على بدء، يمكن أن نربط بين هذا الاستنتاج وكلام عبد الصبور الآنف الذكر كي نصل إلى نتيجة تفيد أن "الملاّح" هو قناع لبسه عبد الصبور في هذه القصيدة ليمرّر ما يجول في داخله، وهذا أسلوب تميّز به شعراء الحداثة عمّن سبقوهم، فهم يميلون إلى الابتعاد عن تناول الموضوع مباشرة، ويحاولون بناء معظم قصائدهم حول عالم رمزي يخفي وراءه أفكاراً ومعاني أخرى، أو يلبسون قناعاً لتمرير أفكارهم من خلاله من دون بوح صريح قد لا يتقبّله المتلقي. والأدلة كثيرة في القصيدة التي تدعم هذه الفرضية، فعندما يقول: "يا شيخنا الملاّح، قلبك الجريء كان ثابتاً فما له استُطير"، فهذا يدلّ على أن "الملاّح" - القناع الذي لبسه عبد الصبور في القصيدة - لم تتملّكه هذه الرغبة في إصلاح الكون إلا عندما تقدّم به العمر (يا شيخنا) فهو كان راضياً عما يدور حوله وكان جريئاً، وهي صفة تطلق على المغامر في جميع أشكال المغامرة ابتداءً من المغامرة العاطفية، لكن ما ان بدأ يسأم الكون ويفكر بالإصلاح حتى طار "قلبه من الوجل". وعندما يقول:
"هذي جبال الملح والقصدير
فكل مركب تجيئُها تدور
تحطُمها الصخور".
فهو يقصد بجبال الملح والقصدير الغاية التي يروم وصولها عندما قرر العزلة، وقد تكون العلم والمعرفة، وخير دليل على ذلك فرحته عندما يقول:
"هذي إذن جبال الملح والقصدير
وافرحاً نعيش في مشارف المحظور".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لِمَ استعمل عبد الصبور جبال الملح والقصدير، ولم يستعمل شيئاً آخر؟
في الحقيقة إن الرمز يختلف من شاعر إلى شاعر، ويختلف من قصيدة إلى أخرى عند الشاعر نفسه، فبعض الرموز يحمل إرثاً دلالياً (6) يكمن في ذهن القارىء والمتلقي على حدّ سواء، وبعضها مجرّد يخلو من أي إرث دلالي وإنما هو من نسج خيال الكاتب ولا يشاركه فيه المتلقي. فلو أخذنا كلمة "الصليب" في أشعار معظم شعراء الحداثة، نجد أن هذه الكلمة تحمل إرثاً دلالياً يحيلنا على السيد المسيح وكيف صُلِب، وهذا المفهوم لا يكمن في ذهن الكاتب فحسب بل هو موجود في ذهن المتلقي أيضاً، وبذلك فهو ليس اختياراً ذاتياً نابعاً من دواخل الكاتب. ويقسم الشحماني الرموز على أربعة أنواع: رموز بشرية ورموز حيوانية ورموز مادية ورموز تجريدية، فهنا الشاعر ارتاح إلى الرمز المادي ليرمز به إلى غايته، ولربما تأثر بالقصص القديمة وكيف يواجه البطل تلك الصخور التي تنهار حالما يمرّ البطل بمركبه من بينها ليصل إلى غايته.
أما النسق الآخر الذي وظّفه عبد الصبور، إضافة إلى النسقين الرئيسين، القناعي والرمزي، فهو: نسق بنية التوازي، الذي يقسمه كوخ إلى قسمين: بنية التوازي التراكمي cumulative parallelism وبنية التوازي التعدادي listing parallelism، كما في الأمثلة الآتية:
"هذا زمان السأم
اسم إشارة + مضاف ومضاف إليه
هذي جبال الملح (والقصدير)
لا عمق للألم
لا النافية للجنس + اسم مفرد نكرة + حرف جر (لـ) + اسم مفرد مُعرَّف
لا طعم للندم
ملاّحنا هوى...
اسم مفرد (ملاّح) + ضمير متصل (نا) + فعل ماضٍ
ملاّحنا مات...
بلا دمع
حرف جر (بلا) + اسم مفرد نكرة
بلا لسان
كذلك تكرار الفعل الماضي خمس مرّات في أبيات متقاربة (هوى، استكان، جاش، مات، ودّع) وذلك كلّه لتعميق المستوى التعبيري والدلالي.
وبالنسبة إلى بنية التوازي التراكمي، أي استخدام البنية النحوية ذاتها، لكن بتوظيف مفردات جديدة مترابطة في ما بينها دلالياً، فلم يعتمدها عبد الصبور كثيراً في هذه القصيدة التي جاءت خالية من تكرار العبارات إن استثنينا عبارة "هذي جبال الملح والقصدير" و"ملاحنا". هكذا يتضح أن صلاح عبد الصبور استطاع أن يوظّف أكثر من نسق ليعمق المستوى التعبيري والدلالي لقصيدته، فهي قصيدة ذات نسق بنائي مركّب.
***
حين كنت أتصفّح أعداد مجلّة "الآداب" اللبنانية لمنتصف القرن الفائت، كان يلفتني فيها قصائد لشاعر مصري يوقّع باسم "صلاح الدين عبد الصبور"، ثم ما لبث أن استقام الإسم "صلاح عبد الصبور"، بعدما صدرت له لدى "دار الآداب" بالذات مجموعته الشعريّة "الناس في بلادي". كان يتميّز من بين مجمل شعراء المجلّة بلغته الهادئة العميقة، الجديدة من حيث ابتعادها عن الصيغ البلاغية الرائجة، والتي تقدّم الفكرة الشعرية من خلال حكاية شعرية غالباً ما تطلع من الريف المصري، ما يطرد البلاغية المحض والغنائية المحض من قصائد هذا الشاعر، وأبرزها قصيدة "شنق زهران"، وكان يزاحمه يومذاك أحمد عبد المعطي حجازي، على استحياء، إذ أنّ تجربة صلاح عبد الصبور بدت أكثر جدّةً وقوّةً شعرية من تجربة حجازي، ولم يلحق به إلاّ بعدما صدرت له، هو الآخر، لدى "دار الآداب" أيضاً، مجموعته الأولى الجديدة والجميلة "مدينة بلا قلب" وهي من الشعر التأمّلي المديني والحكائي أيضاً. هكذا استقطب الريف صلاح عبد الصبور واستقطبت المدينة حجازي. وكرّت قصائد عبد الصبور ودواوينه بعد ذلك، كي ترسّخه شاعراً من أبرز شعراء الريادة الشعريّة العربية، إن لم يكن أبرزهم، على الرغم من أنه لم يحظَ من النقد والرواج ما يستحقّه شعره العظيم، لأسباب كثيرة بعضها يتعلق بماهيّة هذا الشعر، الصامت غير الصائت، وناسج العلاقات مع الناس والأشياء بسريّة الينابيع الكامنة في جوف الأرض، والغوص على الينابيع أصعب وأبطأ من رصد حركة المياه الجارية فوق اليابسة، فتأخر النقّاد قليلاً عن صلاح عبد الصبور لهذا السبب، فحين أصدر أبرز نقّاد جيل الروّاد في خمسينيات القرن الماضي، الدكتور إحسان عباس، كتاباً عن بدر شاكر السيّاب، وكتاباً عن عبد الوهاب البياتي، لم يلتفت إلى صلاح عبد الصبور. وثمّة سبب آخر لحجب الشاعر عما يستحقّ، فهو شاعر منكفىء مستوحد مستوحش وحزين، ولم يكن يجيد تصيّد العلاقات العامّة كما يجيدها بعض أقرانه من الروّاد، ولعلّ في سيرة حياته وموته ما يومىء إلى ذلك. فقد مات الرجل وهو في الخمسين من عمره، بانفجار في القلب، على أثر مشادّة جرت بينه وبين بعض أقرانه من شعراء ورسامين وصحافيين، في منزل أحدهم في القاهرة، والحادثة معروفة ومأثورة، ولا حاجة لاستعادتها اليوم، وفي هذا المقام.
والصُوَر التي ظهرت له في القاهرة في احتفالية أقامها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، في ذكرى وفاته، كانت تُظهره أكبر من عمره المتوسط الذي عاشه، وهو حوالى نصف قرن من السنوات، بعقدين أو أكثر الجبين العريض للشاعر، والعينان الواسعتان المتأملتان بدهشة، والملامح الهادئة والحزينة، توافقت مع بعضها البعض كي تَسِمه بميسم شعره المعقود على غنائيّة الموت والتأمّل في الوجود.
لا تخلو الصورة من سخرية مُرّة، من خلال ابتسامة كابية تحت شاربين كثيفين، وهي سمة شعره المتأمّل والساخر من مفارقات الحياة، حيث أنهى حياته، مثلما عاشها، من الداخل، من القلب.
وفي حياته كما في شعره، صلاح عبد الصبور شاعر مشغول للموت، معقود السنوات والأيام بالموت. متهكّم بالموت لأنه متهكّم بالحياة، هو الذي أنهى إحدى قصائده التي توسّل فيها الحياة الحرّة والجميلة والسعيدة، فلم تستجبْ له، فاستغاث قائلاً: "فأين الموت أين الموت أين الموت؟". والموت الذي تمنّاهُ عبد الصبور، بل سار فيه، ووقف بين جفنيه، لم يكن، على الأرجح، ردّ فعلٍ على أسباب حياة شخصية تتسم بالشقاء أو الفقر أو التعاسة، بل هو موت وجودي بل درامي ناجم عن التفكّر. فهو شاعر يتأمّل في كل شيء من الله إلى ما خلق من الحيوان ومن الشجر والليل والإنسان، وفي المتألهين من الصوفيّة، وفي الوحوش البشريين... وبين التجديف والفيض، ومن السخرية من المفارقات حتى الموت، يموت من شدّة السخرية. كانت دواوينه ومسرحياته تتوالى، من "الناس في بلادي" الصادر له في بيروت العام 1957، في طبعته الأولى، إلى آخر ديوان له "الإبحار في الذاكرة" الصادر في طبعته الأولى من القاهرة العام 1979، وبينهما على التوالي: "أقول لكم" و"أحلام الفارس القديم" و"تأملات في زمن جريح" و"رحلة في الليل" و"شجر الليل". ومن أولى مسرحياته "مأساة الحلاّج" الصادرة في طبعتها الأولى في القاهرة العام 1964 إلى آخرها "بعد أن يموت الملك" العام 1973 من بيروت، وبينهما "مسافر ليل" و"الأميرة تنتظر" و"ليلى والمجنون"، وهي جُلّ عبد الصبور الشاعر المسرحي.
كان عبد الصبور بين روّاد الشعر العربي الحديث شاعراً خاصاً وعلى حدة، صاحب فيض وهدوء وتأمّل وجودي، عميق وساخر تترقَّق بين يديه اللغة وتترقرق لتخدم فيضه الداخلي، المتأمّل والمتألّم، فتأتي اللغة والصورة والمثل والحكاية بين يديه لتخدم الحال الشعري، ولا يعبأ كثيراً بالاستقامة العروضيّة الدائمة والمنضبطة للقصائد، فغالباً ما كان يكسر العروض أو يُدخل عروضاً في آخر، ووزناً في آخر، من أجل تقديم الحال الشعري مفضّلاً إياه على المقال الشعري. والغالب على شعره من التفاعيل "فعلن" و"فعولن" و"مفاعلن"، وربما مَزَجَ بينها في ما أسماه ماهر شفيق فريد في دراسته عن ديوان "الإبحار في الذاكرة" بـ"التقبّض"، أي العبث بالإيقاع والكلمة. وكلمة "التقبّض" مأخوذة من النقد العربي القديم.
عبد الصبور في حقيقته وجوهره وشعره، ليس مجدّفاً بل طهراني، شديد الطهرانية. أشبه ما يكون بالمتصوّفة المتوحشين. متأمل كبير ومرهف إلى حدّ المَرَض، أكثر من حزين، فهو يقول لست حزيناً لكني متألم، مكتئب.
وشعره من خلال المفارقات شعر يختلط فيه الضحك بالبكاء. يقول: "أمي ما ماتت جوعاً، أمي ماتت جوعانة"، ويقول: "قالوا لا تدسُسْ أنفَكَ في ما لا يعنيك/ لكنّي رجلٌ مجدوع الأنف"... ناهيك بزمن الحق الضائع، والصور المختلطة والمركبة بين الناس والحيوانات: "هذا زمن الحقّ الضائع/ لا يعرف فيه مقتولٌ مَنْ قاتِلُهُ ومتى قتله/ ورؤوس الناس على جثث الحيوانات/ ورؤوس الحيوانات على جثث الناس/ فتحسّسْ رأسك/ فتحسّسْ رأسك".
وحين رأى الحياة شَرَكاً، بل موتاً لا بدّ من أن نحياه، قَدَح عقله التأملي الفلسفي وغنائيته الصافية واتخذ من الليل والبحر معاً رمزاً للبهاء والاختلاط، ومن السفر والإبحار أداة رحيل ومغادرة. وهو أيضاً شاعر سأم، وملل وجودي عظيم: "نفخ الأراجيل سأمْ/ دبيب فخذ امرأةٍ ما بين إليتَي رجل/ سأمْ/ لا طعمَ للندمْ/ لا عمقَ للألمْ".
هذه العناصر في شعريّة صلاح عبد الصبور، تنضح من شعره. والغوص على آبار تكوّنه النفسي والثقافي، يلتقي مع ملامحه الشعريّة التقاءً محكماً. لقد عَرَض لنا الرجل محطات حياته في الشعر، ومصادر ثقافاته المتنوّعة، وتفاعله مع التجارب الشعرية والفكرية والصوفية، ومع تجارب أخرى اختارها من ثقافة العصر، في كتابين هما: "حياتي في الشعر" الصادر لدى "دار اقرأ" في بيروت العام 1981 و"أصوات العصر" وهي مقالات كتبها صلاح عبد الصبور وجمعها استناداً إلى الذائقة (كما يقول) صدرت في طبعة لدى الهيئة المصرية العامة للكتاب العام 1997، ولا يُذكر تاريخ الطبعة الأولى لها.
في كتابه "حياتي في الشعر" يذكر الشاعر أنه قرأ التراث العربي والشعر منه بخاصة، في البداية، متناثراً وانتقائياً. لكنه عاد وألزم نفسه بقراءته قراءة منتظمة تاريخيّة ومتتابعة على امتداد سنتين (1964 و1965)، لينتهي إلى أحكام محكمة من بينها عظمة الشعر الجاهلي وأهميته، فهو شعر حسّي جسدي يخلط بين الحواس، يقدّر اللون والشكل، ويستجلب الصورة من دائرتها. وهو عميق الإحساس بالطبيعة، فإذا فكّر الشاعر الجاهلي "فكّر بجسمه"، وهو إذ يتخيّر تراثَه من هذا الشعر، فهو يتخيّر من شعراء الجاهلية الأعشى وامرأ القيس وطرفة وعروة بن الورد والصعاليك، ويتخيّر مما بعد الجاهلية من الشعر الإسلامي، الأعظم وهو المعرّي: "إنّ أبا العلاء عندي هو ثلاثة أرباع الشعر العربي والربع الباقي من قلبي يتقاسمه أبو نؤاس وابن الرومي والمتنبي وغيرهم" (ص 157). وقبل أن نتحدث عن المعري وأثره في ذات عبد الصبور ونقارن بين الشاعرين، يحسن أن نتوقّف عند رأيه بأبي نؤاس. إنه هو الشاعر المتمرّد (وليس بشّار بن برد): "لقد وَقَع ضحيّة سوء فهمه لنفسه، أو خبث الطوية بتعبير سارتر mauvaise فتصوّر نفسه خارجاً على المجتمع مكلفاً بإغاظته... آثر الخلاعة سلوكاً وشعراً ليفزع الطبقة الوسطى البغدادية بإلحاده وتبذّلِهِ وحِدّته" (ص 156).
أما اعتبار عبد الصبور للمعرّي بأنه الأعظم فيلخّص أسبابه بكلمات: "إنه يتحدث عن الحالة البشرّية".
والمقارنة التي يمكن أن تُعقد بين الشاعرين، عبد الصبور والمعرّي، لا يقوم بها الشاعر بنفسه، بل نلاحظها نحن على تباين العصور والمدنيات والبيئة، واللغة، فنرى أن أهمّ ما يجمع بين الشاعرين هو "ألم العقل". إنّ ألم الجسد ثقيل، أثقل منه ألم النفس، أما المفجع المرعب المضحك المبكي فهو ألم العقول. كان أعمى المعرّة مألوماً في عقله، مفزوعاً، شكّاكاً ساخراً وفجائعياً، تماماً كحفيده صلاح عبد الصبور. يكفي أن نأخذ البيت الآتي للمعري، من قصيدته المعروفة "غير مجدٍ..." لنشهد هول ألمه العقلي وفجيعته وسخريته، من حيث تفكّر في الحياة والموت، يقول:
"ربّ قبرٍ قد صار قبراً مراراً
ضاحكٍ من تزاحمِ الأضدادِ"
والمشهد صوريّاً هو الآتي: قبر يفتح شدقيه بالضحك، وتتزاحم الخلائق بأضدادها على الولوج فيه. بالطبع هنا ستتبادر إلى ذهننا سخرية صلاح عبد الصبور وفجيعته في مشهد رؤوس الناس على جثث الحيوانات ورؤوس الحيوانات على جثث الناس، والتحذير "فتحسّس رأسك". كلا الشاعرين متأمّل مُبتلى بالعقل، شكّاك ضاحك من شدّة البكاء.
من خلال فصول "حياتي في الشعر"، يظهر صلاح عبد الصبور على استبطان لا يهدأ لذاتِهِ وأحواله الداخلية من جهة، وعلى جهد نقدي يقظ في قراءاته واختياراته الثقافية، ثم في القيام بمزج ذكي بين تجربته الداخلية وقراءاته الثقافية المتنوعة، بحيث تُظهر قصائده مزيجاً شعرياً بين هذه وتلك. فقصائده ذات خصوصية ذاتية لا يخطئها القارىء، إلاّ أنها أيضاً ذات إحالات معرفية ومرجعيات ثقافية فلسفية وفكرية وشعرية. لذا جاء عنوان سيرته الحياتية والشعريّة التي تركها لنا جامعاً بين هذين الحدّين: "حياتي في الشعر". وهو ينطلق من كلمة فلسفية لسقراط: "اعرف نفسك"، معتبراً أن تاريخ المعرفة الإنسانية، بما فيه من علوم وفنون واختبارات، ليس سوى تاريخ تأمّل الإنسان في ذاته حيث يجري حوار ثلاثي الأطراف والأبعاد بين الذات الناظرة والذات المنظور فيها والأشياء. هذه البذرة الفلسفية ينقلها صلاح عبد الصبور إلى القصيدة، فيرى إليها بدورها على أنها نوع من الحوار الثلاثي: تبدأ خاطرة وتتحقق بالفعل وتنتهي بالالتفاف على ذاتها وذات الشاعر بهدف التصويب.
هذه المراحل الثلاث للقصيدة ينقلها صلاح عبد الصبور من مستوى التأمّل الثقافي إلى مستوى التجربة الصوفية. فالخاطرة هي ما يشبه "الوارد" في معجم التصوفة، وقد فرّقوا بين "وارد" وما يشبهه مثل الخاطر والبادي والبادِه والعارض والوهم، فجعل السراج الطوسي في كتابه "اللمع" البادِه مقدّمةً للوارد حين يبده القلب أو يفجؤه فيخرج به على مساره إلى مسار جديد. ويحدّثنا القشيري في "الرسالة القشيريّة"، عن اللوائح أو الطوالع أو اللوامع، وهي خواطر سريعة تنبع من حيث لا يدري الإنسان، تلمع بسرعة ثم تنطفىء، وما يبقى هو الوارد. والوارد ليس حدساً من صنع العقل كما يرى برغسون، بل دعوة غامضة ومفاجئة وغير محسوبة لبدء القصيدة. يلي ذلك مرحلة التلوين والتكوين، وهي مرحلة الفعل التي فيها تولد القصيدة وليدتها العجيبة الغامضة... وبعدما تولد، يعود الشاعر بها إلى حاله العادية قبل ورود الوارد إليه، حيث يقطع الحوار وتبدأ المحاكمة، فيغيّر لفظاً هنا وجملة هناك، قبل أن تستقيم القصيدة بصورتها النهائية الأخيرة.
القصيدة إذاً، كما يرى إليها صلاح عبد الصبور، تجربة روحية، أو رحلة. والصوفية هم أوّل من نظر إلى التجربة الروحية على أنها رحلة، فاقتبس الشاعر منهم الفكرة والمراحل والعبارة، لكنها رحلة إلى أين؟ إنها رحلة للظفر بالنفس، كما يرى أرسطو، ويجد عبد الصبور. هذا لجهة جوهر الشعر والقصيدة. أما لجهة الشكل، فالشاعر كان شديد العناية بفكرة "التشكيل" ومعناه "أنّ القصيدة ليست مجرّد مجموعة من الخواطر أو الصور والمعلومات، لكنها بناء متدامج الأجزاء منظّم تنظيماً صارماً" (ص 26). والتشكيل في القصيدة أقرب إلى فنّ الرسم منه إلى أي فنّ آخر، ويستطاع تلمّسه في الشعر الحديث أكثر مما هو في الشعر القديم، حيث يعوّل على بيت القصيد، أما هنا فيعوّل على البناء بمجمل أجزائه وأبعاده ونسبه، وهو التشكيل. لكنْ أليس ثمّة من إشكالية تثار حول حدّي نظرية عبد الصبور للقصيدة؟ فهي من جهة انخطاف وإبحار لا واعٍ في البحران ورحلة غامضة بل مغامرة في الروح، وهي من جهة ثانية تشكيل وهندسة وتناسب وبناء. فلأي إله تخضع القصيدة؟ أهي بنت الديانة الديونيزيسيّة اللذّية المبادهة أم بنت الأبولونية في عبادتها للعقل؟
وينجده في التوفيق بين هاتين الفكرتين المتناقضتين، الفيلسوف الألماني نيتشه. فقد كان يرى أن الفنّ العظيم يجمع بين الديونيزيسية والأبولونية. ونيتشه شكّل لصلاح عبد الصبور، وعلى مراحل متعاقبة من قراءته في كتابه "هكذا تكلّم زرادشت" لقيا مذهلة ورابضة عليه. كما تكوّنت حساسيته الثقافية من مطالعات أخرى فلسفية وشعريّة غربيّة وغالبة عليه وعلى نماذجه المختارة، يضاف إلى ذلك انفتاحه النقدي على التراث العربي، وتشرّبه الروحي لتجربة الصوفية في الإسلام.
يرى الشاعر ضرورة وجود ذروة للقصيدة، لكنّ هذه الذروة يصعب تحديدها سلفاً كماهيّة أو كموقع. فذروة قصيدة الشاعر السكندري اليوناني كافافيس في قصيدته "في انتظار البرابرة" هي في نهايتها المتمثلة بعقم انتظار البرابرة لأنهم لم يأتوا، بل لأنه "ليس ثمة برابرة"، وقد كانوا تعلّة وانتظاراً... والآن ما العمل وكيف الخلاص؟ أما ذروة قصيدة "الغيتار" لغارسيا لوركا فتكمن في تصعيد نواح الغيتار الذي يبدأ ويصعد ويصعد ويصعد. وذروة قصيدة جاك بريفير "عائلية" ذروة قصصية متمثلة بطرح العقدة والانتهاء بحلّها أو الردّ عليها. وذروة قصيدة كولردج المسماة "قوبلاي خان" التي يتخيّل فيها قبّة للذة، يعيش فيها كما يعيش في فردوس، هي مفاجأة أصوات الأسلاف له تتنبأ بالحرب. فكأن الذروة لقصيدة كولردج تتمثّل في الدورة، واقتران الأضداد في الحياة.
ويحملنا صلاح عبد الصبور على أجنحة معرفته الشعريّة الغنيّة، إلى مناطق لشعراء ذوي تجارب جديدة وغنيّة وشاملة، والأرجح أن الشاعر تأثر بتجاربهم. من بينهم ت. س. إليوت في مسرحيته "حفلة كوكتيل" الذي يرى التجربة الشعرية تمرّ بمرحلتين: مرحلة الفتوّة الشعرية والانبثاق التلقائي العظيم للشعر حتى الخامسة والعشرين من عمر الشاعر، تليها مرحلة الثقافة، وضرورتها لاستمرار شعريّة من تجاوزوا الخامسة والعشرين. يقول إليوت: "إنّ قليلاً من الشعراء هو من يستطيع أن يظلّ شاعراً بعد الخامسة والعشرين"، ويشترط لاستمرار الشعرية ضرورة تمثّل التراث الشعري. لكنه يتوقف عند هذه المسألة، من خلال اعتباره الشعر تجربة ذات اتصال بالذات والعالم والثقافة، فيرى "أن الشاعر لا يعبّر عن الحياة، لكنه يخلق حياةً أخرى معادلة للحياة" (ص 52)، وهي نظرة فيها من العمق ما فيها من الملاءمة. يقول صلاح عبد الصبور في سيرته إنه تفتّح على المنفلوطي وأحبّه، وعلى جبران وعشقه حتى أسلمه جبران إلى نيتشه فكاد يؤلّهه، وإنه مرّ خلال حياته الشعرية بأطوار من التجربة والصمت، وشرب من مشارب فكرية وفلسفية وشعرية كثيرة: لقد عرف الماركسية وانتقد سطحيتها في نظرتها إلى الفن كخادم للأيديولوجيا الطبقية، ووقع أسيراً للدين في طقوسيته، لكنه ما لبث أن خرج من الأسر، بسبب اصطدامه بواقع الفقر في بلاده، حيث كتب في قصيدة "الناس في بلادي" "قصة قرية ريفيّة تعيش تحت طغيان فكرة الله وصورته تصطبغ في ذهنها من خلال الوعظ والتخويف بالقوة والعشوائية، والقرية تستجلب هذه الفكرة وتستطيبها وتغضّ النظر عن واقع حياتها الفقير المرير، لكنّ شاباً منها يرفع في وجه السماء قبضة التحدّي (...): يا أيها الإله/ كم أنت قاس موحش يا أيها الإله/... فالعام عام جوع/ وعند باب القبر قام صاحبي خليل/ حفيد عمّي مصطفى/ وحين مدّ للسماء زنده المفتول/ ماجت على عينيه نظرة احتقار/ فالعام عام جوع" (ص 117).
من الواضح هنا تأثّر صلاح عبد الصبور بكل من جبران ونيتشه، فليس عبثاً اختياره اسم خليل "حفيد عمّي مصطفى" في القصيدة، وأرجّح أن قصة "خليل الكافر" المعروفة لجبران، ضغطت عليه، كما أن فكرة "موت الإله" لنيتشه ضغطت بدورها، فنبعت قصيدته من أصل تجربة محلية عايشها الشاعر في بلاده المسحوقة والمخدّرة بالفقر والصبر، إلاّ أنّ نارها الفكرية أتت من جهتَي جبران ونيتشه.
وفي تطوّحه النفسي والفكري ووصوله إلى حدود التجديف، اهتدى عبد الصبور إلى المجتمع ثم غادره، وإلى الدين ثم غادره، إلى أن رسا مركبه الحيران على فكرة الإنسان وضرورة تساميه. وهذه الفكرة أخذت بيده من جديد إلى الله. يقول: "ليكن الكمال هو العودة إلى الله نقياً كما صدر عنه" (ص 120)، ويكتب فرحاً بسلامه الذاتي بعد العاصفة: "لقد أصبحت الآن في سلام مع الله" (ص 121).
هذا السلام مع الذات النابع من السلام مع الله، قاد الشاعر أيضاً إلى السلام مع الحب والحرية والشعر (سواء كان ذلك في القصيدة أو المسرحية التي يرى أولويّة الشعر بها على النثر، بخلاف آراء مسرحية كثيرة ترى المسرح مجتلى للسرد النثري...)، ويقول في نهاية "حياتي في الشعر": "كانت مسرحيتي "مأساة الحلاّج" معبّرة عن الإيمان العظيم الذي بقي لي نقياً لا تشوبه شائبة وهو الإيمان بالكلمة".
لا نشكّ في أنّ قراءة الشاعر في شعره، ضرورية لمعرفته. لكن قراءته في ما يصاحب الشعر ويسبقه ويليه، من روافد السيرة وروافد الثقافة، تلقي ضوءاً كاشفاً على تكوّنه الفكري والنفسي والروحي أيضاً. وربما اختلط هذا بذاك، أو التقى به، أي القصيدة وينابيعها، فاكتملت المعرفة بالشاعر، أو على الأقلّ، اقتربت جدّاً من هويته.
لقد عاش صلاح عبد الصبور خمسين عاماً في أواسط القرن العشرين، وقد التقط حساسياته وإشكالياته كما التقط جنونه. يقول في إحدى قصائده: "كيف أُجَنّ، كي ألمس نبضَ الكون المختلّ؟"، وكأنه لمس الخوف من اختلال نبض الكون فسجّل هذا الهاجس في بيتٍ راءٍ من الشعر.
والشاعر كان قد سجّل وجمع في كتاب سمّاه "أصوات العصر" لائحته المنتخبة الفنية والفكرية، لأصوات عصره ورموزه الإبداعية، وهو حصيلة قراءات واختيارات شاعر مثقّف عاش في قلب التيارات الفكريّة والفنيّة، المحليّة والعالميّة، لعصره، وتفاعل معها تفاعلاً إبداعياً ظهرت ملامحه في ما ترك من شعر ومسرح شعري، وأمسك بعصب متوتّر ساد بعد الحربين العالميتين، هو غلبة الضجر والفراغ، بالإضافة إلى الجنس والعنف، على الحساسية الروائية والمسرحية والشعرية في الغرب والولايات المتحدة الأميركية، من خلال النماذج والأسماء الإبداعية التي يعرض لها في كتابه، مستنداً إلى الذوق والتعريف، دون النقد والتقييم. وهو يدعونا للجلوس إلى مائدة جلسائه في العصر. الصوت الأوّل الذي اختاره عبد الصبور هو صوت أنطون تشيخوف، الروسي رائد القصة القصيرة المعاصرة. هذا الرجل النحيل المتوسط الطول، ذو الشعر الناعم الكثيف، والجبهة العالية البيضاء، والعينين الرماديتين، والملامح الرقيقة الأنثويّة، وذو اللحية الحائرة بين الفرنسيّة والروسيّة... هذا الرجل صاحب السعلة الخفيفة الناطقة بمرض الصدر كان طبيباً، لكنه كاتب أولاً. مات باكراً في الرابعة والأربعين من عمره، إلاّ أنه حفر بقوة في القصة القصيرة الروسية والعالمية. من الطب إلى القصة، نقل معه تشيخوف النبض الإنساني لحالات المرض والضعف. وكتابته تظهر وكأنها تغرف مباشرةً، وبلا قفّازات، عناصرها من جوف الحياة. يكتب في إحدى رسائله إلى صديقه سوفورين، واصفاً ما ينتابه من سعالٍ عند مفاصل الفصول: "كل شتاء وخريف وربيع ينتابني السعال، لكنني لا أجزع إلاّ حين أرى الدم. هناك أجد أن أمراً وحشياً حدث في منظر الدم وهو يتدفّق من فم إنسان كأنه وميض نار ملتهبة".
لقد صوّر تشيخوف حالات الانحراف والضعف والمرض كحالات ملازمة لهذا الكائن المريض وغير مفصولة عن نقيضها في الكائن الصحيح، ومن أجمل ما كتبه قصته "العنبر رقم 6"، ويظهر لي أن القصصي المصري الراحل يوسف إدريس قد أسّس كثيراً من حساسيته الفنيّة على "العنبر رقم 6" لتشيخوف، خصوصاً في قصته "لغة الآي آي"، أي لغة الألم، وأحداث العنبر تدور بين طبيب ومجنون في مستشفى للأمراض العقلية، ففي المستشفى نماذج للمجانين: نموذج اليهودي الرثّ الذي يستعطي في الليل ويعود مع الصباح إلى العنبر ليعطي حصيلته للحارس (وهنا نشير إلى أن الروائي اللبناني توفيق يوسف عوّاد ربما تأثر بهذه القصة في "الصبي الأعرج")، ونموذج الفلاّح الصامت الذي لا يتكلّم، بل ينظر بعينيه، ونموذج الموظّف الشاب الذي يتخيّل أنه مطالب بجريمة لم يرتكبها، وهو مريض مثقف، وكان الطبيب في العنبر يقول له إن الألم شريعة الحياة، والحياة خارج العنبر تشبه الحياة داخله، ويجيبه المريض الشاب: أنت منافق أيها الطبيب، أنت لا تعرف الألم بل تتخيّله. وتزداد صلة الطبيب بالمريض المتفلسف حتى يصاب بالعدوى فيصبح مجنوناً. ثم من خلال خدعة ما، يُلقى بالطبيب إلى المستشفى بعد أن يُلبسوه البرنس الأبيض. هكذا يتعرّف الطبيب إلى الألم الحقيقي لا ألم التأمّل والتفكّر.
نقف هنا بعد هذا السياق لـ"العنبر رقم 6" لتشيخوف، وقد اختاره صلاح عبد الصبور كنموذج لصوت أحبّه من أصوات عصره، لنسأل: أليس هذا الحال الذي عرضه تشيخوف في قصته هو عينه حال عبد الصبور في قوله: "كيف أُجَنّ/ كي ألمس نبض الكون المختلّ"؟ فالشاعر ضغط الحكاية بمشكلتها وسياقاتها وأشخاصها، بسؤال شعري من كلمات عدّة.
من تشيخوف، ينتقل بنا عبد الصبور إلى مسرحيّ كان قد أزعج نيويورك ولندن من خلال مسرحية بعنوان "أنظر خلفك بغضب". والمسرحي هو جون أسبورن، والمسرحية أسست لجيل الغضب في المجتمع الأميركي والغربي على العموم، وهي تدور حول مفارقات حياة رجل عاصف وضجر ومثقف ولا يعجبه شيء هو جيمس بورتر. إنه رجل ضارّ، في حياته الزوجيّة كما في عمله وعلاقاته مع أصدقائه وأعدائه على السواء، إلى درجة أنه يعزف على الأكورديون وكأنه يقتل! ويرى إلى الحياة وكأنها خطأ فادح ولا مانع من تلافيه، في ما يشبه دعوة ضمنية إلى الانتحار. جيل الغضب الذي أسست له مسرحية أسبورن سرعان ما تناسل في المجتمع الأميركي والمجتمع الإنكليزي وظهرت علاماته في الحياة اليومية للشباب وفي ما شكّلوه من عصابات العنف والتسكّع. كما تجلّت في السينما من خلال شخصيّة جيمس دين، النجم المزاجي الشرس الذي حطّم ذاته بقيادة سيارته بسرعة جنونية.
إلى تشيخوف وأسبورن، يضيف صلاح عبد الصبور في فترة الخمسينيات والستينيات من عصره، ممثلتين وكاتبة. أما الممثلتان فهما مارلين مونرو وبريجيت باردو، وأما الكاتبة فهي فرنسواز ساغان... رموز المراهقة والجنس والعلاقات الوجودية المكشوفة آنذاك.
وكان العصر قد شهد تحطيم الأصنام القديمة، في الفلسفة والفكر والأخلاق والدين والأدب، من أرسطو وأفلاطون حتى كانط وصولاً إلى جورج صاند. ومثلما فعل نيتشه في كتابه "الأصنام"، فعل المسرحي الإنكليزي جورج اسكواير، فأعمل معوله المسرحي في شكسبير، فأحاله إلى مهرّج متهم بأن ثمة من كان يكتب له مسرحياته لقاء رشوة، وهذا الكاتب المرتشي (عبد الكتابة المسرحية) ليس سوى الفيلسوف الإنكليزي المعروف اللورد بيكون نفسه.
هذا هو موضوع مسرحية جورج اسكواير الساخرة، المسماة "مهرّج من ستراتفورد" حيث يتحوّل فيها اسم شكسبير إلى "شاكسبور"، ويتحوّل بيكون من فيلسوف إلى كاتب مأجور ومهرّج. ويصلنا صلاح عبد الصبور بهذه المسرحية الإنقلابية من خلال ترجمتها إلى العربية وإثبات نصّها الأصلي ونصها المترجم في أصواته.
وأخيراً وأخيراً، نسأل أنفسنا: أنتكلم عن صلاح عبد الصبور في أصواته، أم نتكلّم عن هذه الأصوات في صلاح عبد الصبور؟
من الحلاّج ومجنون بني عامر إلى زهران، ومن أعمى المعرّة إلى "بشر الحافي" و"سيرة الملك عجيب بن الخصيب"، ومن أرسطو إلى ماركس فنيتشه، ومن تشيخوف إلى أسبورن إلى أرنست همنغواي... يظهر لنا أننا نتحرك مع صلاح عبد الصبور الشاعر، من كينونة ثقافية إلى أخرى، ودائماً دائماً من صلاح عبد الصبور إلى صلاح عبد الصبور.
****
"لو كان لي بعض يقينك
لكنتُ منصوباً إلى يمينك"
صلاح عبد الصبور
1
هل تستحقّ هذه الحياة أن تعاش؟
من كوّتين مضاءتَيْن بنبراسَيْن أتى جوابٌ مضيء، وجواب مشحون بالقهر يصرّ على قبول الحياة ما دامت وسيلة لرفع الظلم ونصرة الضعفاء. لقد كان الحلاّج صوفياً وشهيداً ممتلئاً بالحالتَيْن. كان قلبه مصباحاً دُرّياً أحرق "الدلق" وخرقة الصوف لأن بدايته المشرقة أوصلته إلى نهايته المحرقة، والحريق هنا هو الحالتان معاً: فناء العاشق في المعشوق، والموت تحت راية نظيفة دفاعاً عن المظلومين الذين لم يكتشفوا ظلمهم إلاّ على ضوء جراحه، ولذا لم يكن موته موتاً. كان مصلوباً على الشجرة "يبدو كالغارق في النوم" و"عيناه تنسكبان على صدره". فالموت عند المضيئين لا يخشاه إلاّ الموتى. كان في الحلاّج "الوليّ" ولينين معاً، وعبر هذين العاشقين يبدأ الحلاّج مضيئاً لينتهي شهيداً. هكذا يراه صلاح عبد الصبور في مسرحيته "مأساة الحلاّج".
2
ليس ثمّة في رأي عبد الصبور برزخ فاصل بين تجلّيات الحلاّج الصوفية، وخلْع جبته لمساعدة الفقراء، وبذلك رصد ضوءه المتصاعد من صدره والمتألق كالحجر ليجعله راضياً، بل وسعيداً في دفاعه عن الفقراء والانحياز إلى قضاياهم والتحريض ضدّ التجار وغلاء الأسعار... كانت معارج لا بدّ من قطعها. فالشبلي أخو الحلاّج في الرؤية الصوفية يختلف عنه في المنهج. الشبلي حفظ نوره في داخله واشتعل به، والحلاّج خرج من ناسوته ليعلن شهادته قبل موته، انتصاراً لقضية الإنسان، ويلخّص صلاح عبد الصبور الكونَيْن عبر اتحاد الضدَّيْن في الصديقَيْن المتوحّدين في الله.
الشبلي: يا حلاّجُ اسمع قولي
لسنا من أهل الدنيا، حتى تلهينا الدنيا
(...)
هل نبصر عندئذ في قلب غمامتنا الفضيّة
إلاّ أشباحاً حائلةً تذوي في وهج العرفان
وظلالاً زائلة لا تمسكها الأجفان
الحلاّج: لكن... يا أخلص أصحابي، نبّئني
كيف أُميت النورَ بعيني
هذي الشمس المحبوسة في ثِنْيات الأيام
(...)
في كل مساءٍ تمسح عينيّ بها، توقظني من سبحات الوجد
(...)
الشبلي: لا، بل حدّقتَ إلى الشمس
وطريقتنا أن ننظر للنور الباطن
ولذا، فأنا أرخي أجفاني في قلبي
وأحدّق فيه، فأسعدْ
وأرى في قلبي أشجاراً، وثمارا
وملائكة ومصلّين وأقمارا
(...)
الحلاّج: (...) لِمَ يختار الرحمنُ شخوصاً من خلقه
ليفرِّق فيهم أقباساً من نوره
هذا، ليكونوا ميزان الكون المعتلّ
(...)
الشبلي: لا، يا حلاّج
إني أخشى أن أهبط للناس
(...)
ويموت النور بقلبي
الحلاّج: هبْنا جَانَبْنا الدنيا
ما نصنع عندئذٍ بالشر؟
نحن هنا أمام شيخَيْن كبيرين من مشايخ الصوفية. الشبلي يرى التصوّف عزوفاً عن الدنيا، والهبوط إلى الوجدان العارف في أعماقه مستجلياً متلذذاً باكتشافاته الخارقة عبر نور قلبه الممتلىء بالله. أما الحلاّج الرائي الآخر فهو ملتهب بنار الوجد العرفاني كالشبلي تماماً، لكنه يرى أن رسالته الاتصال بالآخر في وحدة كونية تحارب باستمرار الظلام وتغسل بقعه عن كينونتنا الداجية، التي تنتظر حلاّجاً باستمرار كي يشعلها، ويلهب فيها جمرته القدسية. وبهذا يكون الحلاّج مسكوناً بمناضل يؤمن بالتحريض والسير في أسواق بغداد داعياً التجّار إلى خفض الأسعار، ومحرّضاً الفقراء على اتباع نهجه عبر إيمان يتدفق منه إليهم. لقد تقدّم الحلاّج من المشنقة، وهو يقول بأعلى صوته: "حسب الواجد إفراد الواحد له". وبشهادته دخل الحلاّج في "الأنا" المطلق الذي كان يراه فيه، وكان بسعيه يرى أن التصوّف الحقيقي هو "إنهاض القلب من الحق". رمزية شهادة الحلاّج دخلت في الثقافة الإسلامية المبدعة، وغدا متجدّداً بتجدّد موته في الآخر المبدع الحياة عبر الموت، والموت عندئذ ليس نهاية، وإنما هو درس في خلوة صوفية تتسع لكل المريدين من أتباع الجمهور المتعطش لجعل السراب ماءً. الموتى هم الأحياء الذين لم يتمتعوا بفجيعة الحلم اللذيذة عبر القتل الشهيّ الذي مارسه الحلاّج، وكأنه في حضرة ربّه يفرد له ذاته ويدخل فيه. الفرح للأحياء دائماً، الأحياء الذين لا يموتون حين يموتون. لذلك تكون النفس ميتة حين لا تدخل في الآخر، هكذا عبّر بودلير للتي لا تحبه: "إنها لا تدري علام يبكي الموتى"!
رماد الحلاّج المتناثر في الرياح بعد إحراق جثته لا يزال إلى اليوم يصيب أعين الظالمين والقتلة. إنّ دروشة، ضوؤها ليس مرعباً، تدخلها ظنون كثيرة، وربما نجاسات رآها الصوفيون الكبار على خِرَق أدعياء الصوفية، فإذا كانت الصوفية "إنهاض القلب في طلب الحق" فكيف نقبل تصوّفاً متشرنقاً في مساحة داخلية يعبّر عنها الشبلي بقوله حين أنطقه شاعرنا صلاح عبد الصبور:
"وطريقتنا أن ننظر للنور الباطن
ولذا، فأنا أرخي أجفاني في قلبي
وأرى في قلبي أشجاراً، وثمارا
وملائكةً ومصلّين..."؟
اختيار عبد الصبور الحلاّج رمزاً صوفياً، هو اختيار لثقافة عربية إسلامية مبدعة تتحوّل باستمرار وتهاجر من أقاليم الذات المملوءة بالضجيج الكوني إلى رحاب الكون حيث الظلام يحيط بالأفئدة الغُلْفِ، وحيث ذَهَبُ المادة يدفع الدراويش إلى إطفاء أنوارهم الحقيقية، وفَتْح التكايا لاستقبال الهبات، لا لاستقبال الظامئين إلى النور المعرفي المبدع.
3
حلوليّة الحلاّج لم تذهله، ولم تصرفه عن إخوانه الضعفاء الجائعين إلى النور والمعرفة. حلوليّته كانت دينية وثقافية مبدعة في شوارع بنت الرشيد، بينما حلوليّة الشبلي وغيره من المتصوّفة تنحو منحى انغلاقياً وتعاني جذباً باستمرار صوب الداخل:
الشبلي: يا حلاّج
لا أدري للصوفيّ صديقاً إلاّ نجوى الليل
وبكاء الخوف من الدنيا
وأناشيد الوجد المشبوب وآهات الذل
وفتوح المحبوب بنور الوصل.
ويستمرّ الشبلي في إقناع الحلاّج بأن الشرّ هو أعلى من فهمنا نحن البشر السجناء في هياكل الطين:
الشبلي: هل تسألني من ذا صنع القيد الملعون، وأنبت
سوطاً في كف الشرطيّ؟
وإليك جواب سؤالك؟
الظلم
...
لكني ألقي في وجهك
بسؤالٍ مثل سؤالكْ
قل: من صنع الموت؟
...
قل: من وسَم المجذومين؟
والمصروعين؟
قل: من سمل العميان
من مدّ أصابعه في آذان الصمّ؟
من شدّ لسانَ البكم.
والحلاّج المغمور بالمطلق يصرخ متوجعاً، من دون أن يكون له القدرة على الشكّ أمام جبروت النور الغامر:
"لا... لا... لا أجرؤ
أتريد تقول...
لا... لا...
لا تملأ نفسي شكّاً يا شبلي".
كان الحلاّج متفرّد المصير بين أصحاب الحالات الصوفيّة. كان الجسد إحدى وسائل الخلاص عبر تهديمه، لكن التهديم يجب أن يكون قيميّاً، أي ألاّ تجعله يحترق بغير نور الحق وإنهاض القلب في طلبه، بمعنى "الشهادة المضيئة" حيث يغدو الموت امتداداً للحياة، وتخليصاً لها من شوائبها القاتمة المظلمة. كان السير إلى الحق أسلوب الحلاّج في التعبير عن وحدة الإلهي الحالِّ به. كان يصرخ في شوارع بغداد: "أنا الحقّ". روى بعضهم أنه سمع الحلاّج يردد في أسواق بغداد:
"ألا أبلغْ أحبائي بأني
ركبتُ البحرَ وانكسرَ السفينهْ
ففي دين الصليب يكون موتي
ولا البطحا أريد ولا المدينهْ".
لقد ركب البحر الهائج الذي هو الحياة، وصراعه معها كان في الوصول إلى المطلق المتجلّي بإنهاض القلب في طلب الحق، وهذا يستدعي إهمال الذات بل القضاء على رغباتها الدونية، وكان يقول: "أريد أن تُقتل هذه الملعونة" مشيراً إلى نفسه. وسأله أحدهم: هل يجوز إغراء الناس على الباطل بقتله، أجاب: "لكني أغريهم على الحق، لأن عندي قتل النفس من الواجبات". انحياز الحلاّج لمحاربة جشع البشر وقتل الظلام فيهم كان طريقه لقتل نفسه عبر ما نسمّيه الشهادة.
رفضه للبطحاء والمدينة هو في المضمر قبول بهما عبر الغوص وراء الشكلي في العبادة. هو يريد عبادة أخرى تجعله منتشراً برماده في ثقافة الأمة التي أُمرت أن تفعل الخير وتساعد على حصار الشرّ. العبادة هي دخول في الآخر بمقدار ما هي سمو وصعود إلى الذات الكلّية المتجلية في اللاهوت الأسنى "المطلق".
4
مسرحية "مأساة الحلاج" بهذا المعنى لا يمكن أن نسميها مأساة، لأنها هادفة ولأن المسرح في أساس وجوده هو "حركة الأفكار" يعيد عبرها المسرحيّ خلق التاريخ. كتابة التاريخ تعني "عملية بناء المعنى" التاريخي للحدث ("الحركة المسرحية في لبنان" لخالدة سعيد)، لا باعتباره حدثاً بل باعتباره هادفاً لمعنى يريده الكاتب. فالتراجيديا في المسرح اليوناني رغم لجوئها إلى الأسطورة، هي في الحقيقة تعبير عن هزيمة البطل - الإنسان أمام القدر المهيمن، حيث استأثرت الآلهة لنفسها بالحياة الخالدة، بينما جعلت الموت من نصيب البشر، كما يبدو في الغاية النهائية لكل فكرة، هزيمة الإنسان بعد صراعه مع القدر في المسرح اليوناني هي سرّ مأساته، وهي سبب تعاطف المُشاهد مع البطل في مصيره المحتوم. هي تُصعّد حزنَ المشاهِد لتفجّره، أي، هي تخلي النفس البشرية من أحزانها المصيرية عبر تصعيد حركة المسرح، وعبر سير البطل الحثيث إلى مصيره أمام الآلهة المنتصرة باستمرار. هذا التفريغ يشبه الندب الكربلائي لدى المسلمين. تصعيد الحزن إلى الذروة هو في النهاية محاولة قذفه خارجاً بعد عملية المعارج الداخلية في أقاليم النفس الممتلئة بالتعاطف والأسى.
لكن في "مأساة الحلاّج" الأمر مختلف، حيث يهدف شاعرنا في النهاية إلى جعل الحلاّج المتصوّف بطلاً اشتراكياً ثائراً مع الفقراء ضدّ السلطة الجائرة وغلاء الأسعار والفساد الاجتماعي، فالبطل - الحلاّج منتصر في النهاية بشهادته التي ترمز إلى بقاء رماده في ثقافة الحق المبدع المستمرّ في التراث العربي الإسلامي، فكيف نسميها "مأساة"، وهي محاولة مكمّلة لمسرح النهضة، وبداية لمسرح الحداثة، وقد بدأ هذا التوجه في المسرح العربي منذ ما يزيد على مئة عام؟ صلاح عبد الصبور في هذه المسرحية الشعرية يعيد بناء شخصية الحلاّج بناءً اشتراكياً آخذاً من التاريخ، ومسبغاً عليه أفكار مرحلة التحوّل الاشتراكي التي شهدتها مصر تحديداً في فترة جمال عبد الناصر، وشهدتها المنطقة العربية في أقطار أخرى. لقد أصرّ صلاح عبد الصبور على إعطاء شخصية الحلاّج أكثر من واقعها التاريخي رغم الخيط المنسول من كتب التاريخ، حيث كان الحلاّج ينادي في أسواق بغداد ضدّ غلاء الأسعار كما سبق أن قلنا. إنه لم يغيّب الحالة الدينية عن الحلاّج بل غلّب عليها الصفة الاجتماعية، صفة الثائر الحامل صليبه على ظهره باستمرار. وهنا يمكن وضع مسرح صلاح عبد الصبور بين مرحلة النهضة ومرحلة الحداثة في المسرح العربي، حيث أعاد بناء شخصية الحلاّج وفق ما يراه ضرورياً للمستقبل العربي، وتلك حالة نهضوية في كل حال. إنها محاولة جادة للبحث والتجديد حول قضية الجدل بين الجذور التاريخية وبعث الحيوية في الثقافة العربية المبدعة. إنها محاولة تحديث التاريخ العربي كي يصبح نهضوياً داخلاً في حداثة العالم الجديد. الشاعر هنا يعيد طرح نظرية وحدة الوجود بمفاهيم حديثة متصلة رغم حداثتها بالحلول الصوفي المعروف منذ الحلاّج ومحي الدين بن عربي:
"أراد الله أن تُجلى محاسنه، وتُستعلن أنوارهْ
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه، وزيّنه، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآةٍ، يطالع فوق صفحتها
جمالَ الذات مجلوّاً، ويشهد حسنه فينا".
فإذا كان الله حالّاً فينا فكيف لا نُنهِض القلب في طلب الحق؟ من هنا يبدأ الانسجام الثقافي المتحدّر من "الفرد الواجد" بالصعود إلى المجتمع هادماً وبانياً وماحياً ومثبتاً. هذا ما أراده صلاح عبد الصبور في مسرحيته هذه:
"وكما لا ينقص نور الله إذا فاض على أهل النعمهْ
لا ينقص نور الموهوبين إذا ما فاض على الفقراء
...
جوعُ الجوعى، في أعينهم تتوهّج ألفاظٌ
لا أوقن معناها
أحياناً أقرأ فيها
ها أنت تراني
لكن تخشى أن تبصرني
لعَنَ الديّانُ نفاقكْ
أما ما يملأ قلبي خوفاً، يضني روحي فزعاً وندامهْ
فهي العين المرخاةُ الهدب
فوق استفهام جارح
"أين الله"
والمسجونون المصفودون يسوقهمُ شرطيٌّ
مذهوب اللبّ
...
من فوق ظهور المسجونين الصرعى قد رفعه
ورجال ونساء قد فقدوا الحريّة
تخذتهم أربابٌ من دون الله عبيداً سُخريّا
يا شبلي
الشرّ استولى في ملكوت الله
حدِّثْني... كيف أغضّ العينَ عن الدنيا
إلاّ أن يُظلمَ قلبي".
اشتعال القلب بأقباس الإيمان في نظر الحلاّج هو حتميّة الانحياز إلى قضايا الناس الأساسية: الحب، الحرية، الخبز، الحلم، وبهذا يختلف عن أولئك المجذوبين الذين ينساحون في شطحات تخرجهم من جلودهم للضياع في صحارى لا حدود لها، ولعلّ هذا الانحياز هو الذي تكوّر صليباً ليصلب الحلاّج عليه على جذع شجرة لا تعرف أي مسيح يُصلب عليها!
واضح أن صلاح عبد الصبور يترجم عبر "مأساة الحلاّج" الخطاب الأيديولوجي في مصر أثناء التحول الاشتراكي ومحاولة نشر العدالة الاجتماعية بين الجميع، ولذا كان لا بد من التقاء الغابر بالحاضر في قضية واحدة، وبهذا يكون المسرح في مراميه النهائية عملية استعادة وتكرار خلق المشهد الهادف عبر خشبة المسرح، ويكون في الوقت نفسه زمن الحلاّج هو زمن التحوّل الاشتراكي في مصر: الزمان والمكان ينموان معاً في المسرحية في مسارٍ صراعي، كما سنبيّن ذلك.
5
النمو المسرحي في "مأساة الحلاّج" يكون مرموزاً له بقضيتَيْ الخير والشرّ وقواهما المحتشدة، ولا بدّ في النهاية من انتصار الحق، والنصر هنا يأخذ شكل الشهادة. وتغدو الشهادة بداية لا نهاية لأنها تؤسس لمرحلة تكون أشبه بالولادة. روح الحلاّج ظلّت في حالة حضور، وجسده "مات يوم مات". حضور الروح يعني أن الحلاّج دخل في الآخر عبر الثورة والحلم، وهذا ما أراد الشاعر إثباته ونفي الموت عن الخالدين، الذين يهجمون على الموت مسلّحين بقضاياهم... "كان يريد أن يموت كي يعود للسماء". قوى الخير والشرّ تتصارع في المسرحية، شخصيات قديمة جديدة تظهر حاملة فكر السلطة لتقمع معارضيها، لكن باسم المبادىء والقيم التي تزركش عرش الحاكم، ولا تدخل صدره. يدخل إبراهيم بن فاتك وهو مريد الحلاّج وخادمه:
إبراهيم: ما أصبحنا في خيرٍ بعد الآن
قد كنت اليوم أزور القاضي ابن سُريجْ
نبّأني أنّ ولاة الأمر يظنّون بك السوء
الحلاّج: بي يا إبراهيم؟!
إبراهيم: ويقولون
هذا رجل يلغو في أمر الحكّام
ويؤلّب أحقاد العامّة
ورجائي أن أنبيك رجاءه
بالحيطة والكتمان
الحلاّج: ماذا نقموا مني:
أترى نقموا مني أن أتحدّث في خلصائي
وأقول لهم: إن الوالي قلب الأمّة
هل تصلح إلاّ بصلاحه
فإذا ولّيتمْ لا تنسوا أن تضعوا خمر السلطة
في أكواب العدل.
هذا هو جوهر الخلاف بين الحلاّج والسلطة، لكنّ السلطة لا تنقم منه علانية بأسلوب يجعل الناس تتبعه، ولذا رموه بالزندقة، وهم باعتبارهم أمناء على دين الله في ملكوته يحولون بين المرء وقلبه، ويكون لزاماً عليهم إقامة الحدّ على الزنادقة ليستقيم دين الله في الأرض، هذا ما يعلنون، وغير ذلك يبطنون. وتنمو المسرحية في مسار صراعي بين قوى الخير وقوى الشرّ، وتنتشر عيون الحكّام وعَسَسُهم لتشويه سمعة هذا الثائر المشرق، وتتبعه الشرطة وهو يخاطب الناس وهم مزوّدون بالأسئلة التي تلقى عليه لرميه بالزندقة. كان الحلاّج في لحظة توحّد وحلول ووعظٍ جوّاني لا يرقى إلى فهمه أصحاب القلوب الغليظة:
الشرطي: "مقاطعاً"
ولكن شيخنا الطيّب هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة؟
الحلاّج: ولكن ولدي الطيّب، هل قفلٌ على قلبك
حتى ينطق القرآن
شرطي آخر: أجدت الرد، كيف إذن تظنّ الله
بلا نعت ولا تشبيه؟
الحلاّج: أظنّ الله، كيف، ونوره المصباح
وظني كوّةُ المشكاة
وكوني بضعة منه تعود إليه
الشرطي: أتعني أن هذا الهيكل المهدوم بعض منه
وأن الله جلّ جلاله متفرّق في الناس؟
الحلاّج: بلى فالهيكل المهدوم بعض منه إن طهرتْ
جوارحه
وجلّ جلاله متفرّق في الخلق أنواراً بلا تفريق
ولا يُنقص هذا الفيضُ أدنى اللمح من نورهْ
شرطي ثالث: فأنت إذن إله مثله ما دمت بعضاً منه.
الهدف كان إيصاله إلى هذه الحال، كي يستطيع الحاكم صلبه بتهمة الزندقة والكفر، والحقيقة أن الحلاّج كان ممتلئاً بالله في حلوليّة لا تأبه بالموت بل تطلبه للوصول إلى السماء. وينمو المسار الصراعي حتى يصل إلى المحاكمة التي يكون فيها وُعّاظ السلاطين هم "الخصم والحكم"، أما الفرد المتألّه بإنسانيته فيدخل في وجده غير عابىء بكل هذا الورم الإيماني الذي يبدو على أجساد السلاطين ووعّاظهم.
وها نحن مع الحلاّج في المحكمة التي هي مضلّة ومظنة، ما عدا القاضي ابن سريج الذي رفض أن يكون قاضي الشيطان في محاكمة الإيمان، لكن قبل المحكمة - المؤامرة أدخلوا الحلاّج السجن فأضاء نفوس من كانوا فيه بنقائه، لأن أصحاب القضايا الكبرى لا تحجبهم الزنازين وجدران السجون العالية الخالية من النوافذ.
الحارس: ادخل يا أعدى أعداء الله
ولتجلسْ بين رفيقَيْك
الحلاّج: يا صاحبَ هذا البيت
هبْ ضيفك نوراً
السجين الأول: (هامساً لرفيقه)
هذا رجل مأفون
يتوهّم أنّا جئنا في مأدبة أو حفل
السجين الثاني: من يدري، هل هو مسكينٌ مثلي أو مثلك
سجنوه إذْ هو أضعف من أن يفلت من
عسف القانون
أم شريرٌ، قد سلّطت الأيام عليه شريراً
أكبر منه
السجين الأول: أو والٍ نقّى مما أحرزه الأوباش
مكنونات وطرائف من نسوان ورياش
ودعا وزير القصر فأطعمه وأنامه
فتحلب ريق وزير القصر
واستصفى ماله
السجين الثاني: ورماه في السجن.
صورة واضحة عن حال الحاكم والمحكوم في عصر الحلاّج، وما أشبه اليوم بالأمس، لذا ينشدّ المشاهد لمعرفة النهاية منتصراً للحلاّج، إذ هو منتصر لنفسه في النهاية. التعاطف مع البطل المهزوم من قبل الجمهور منبعث من وحدة الرؤيا لقضايا الحرية والخبز والعدالة.
في هذه المسرحية، الجمهور ليس مع ذهاب البطل إلى الموت، رغم النصر المرموز له بالشهادة، لأنه يعتبر الميت ذاهباً إلى القبر مهزوماً، بينما البطل يرى نفسه صاعداً إلى السماوات العلى منتصراً لقضية الإنسان الأولى، مخترقاً جدار الخوف المتكوّر في "حفنة من تراب" ("الأرض اليباب" لإليوت). ولأن فكرة الموت لا يمكن تمثيلها على خشبة المسرح إلاّ في جثة هامدة، فإن الجمهور ينتصر لهزيمة البطل محاولاً هزيمة الموت نفسه، ومن هنا تبرز أهمية الشهادة في انحياز الجمهور إلى أصحابها، وتصبح القضايا المرموز لها بالشهادة في ما وراء الخشبة والمسرح والجمهور في آن واحد. إنه الحلاّج هنا في مصيره عند صلاح عبد الصبور يشبه المسيح في مسرحية "يسوع سرّ الآلام" التي قدّمتها فرقة منير أبو دبس في كنيسة انطلياس في نيسان 1973. الشهادة على خشبة المسرح تجعلها امتداداً للحلم وانكساراً له في آن واحد. وما يجعل المشهد لذيذاً هو امتلاؤه بروح الشرق والجذب الصوفي الحادّ الذي يرى في الموت عبوراً إلى برزخ الحلم الأبدي المنتصر بإشراقة النور الغامر ماحياً كل بقع الظلام في أحادية كونية سرمدية. أما في المحكمة فالسلطة تجلس على منصّة القضاء حاكمة سلفاً وتدين قبل السؤال، وهي بريئة من العدل تماماً، منحازة كمحاكم السلطات في زمننا، وقد لا تختلف إلاّ بالأسماء والأمكنة، غير أن القضية واحدة والقاضي واحد والحاكم يبقى هو المعصوم وهو ظل الله على الأرض لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. القاضي قبل رؤية المتهم يحكم بفساده. التهمة جاهزة ولصيقة بالحلاّج مثل كل أصحاب القضايا الكبرى حين تحاكمهم سلطات شمولية متعسفة طاغية:
القاضي أبو عمر: يا حاجبُ...
لِمَ لم يأتوا بالرجل المفسد حتى الآن؟
والقاضي الذي هو وعاء السلطان الشرعي، لا يحكم بفساد المتهم سلفاً بل بفساد المجتمع كله إذا انتصر المظلوم، فحين أخبر الحاجبُ القاضي أن الشرطة سيأتون بالمتهم من باب سرّي لأن العامّة تجمهروا للدفاع عنه في شوارع بغداد لم يفهم القاضي ذلك، بل أصر على فساد العامّة أيضاً:
"ألأن عدوَّ الله والسلطان يُؤَدَّبُ
يتجمع أوباش الناس على الطرقات؟
حقاً! ما أصغر أحلامَ العامّة".
القاضي يحرّض الشرطة على العامة ليفقد آخر حالةٍ من حالات القضاء. ورغم السلطة وأدواتها القمعية يبقى صوت العامّة قادراً على ملء قلوب وعّاظ السلاطين والسلاطين بالخوف. وككل زمان يبقى بعض الشرفاء في القضاء يمانعون ويصوّبون باتجاه الحق، كما فعل القاضي ابن سريج في محاكمة الحلاّج:
ابن سريج: أأبا عمر، قل لي، ناشدت ضميركْ
أفلا يعني وصفك للحلاّج...
بالمفسد، وعدو الله
قبل النظر المتروّي في مسألتهْ
أن قد صدر الحكم...
ولا جدوى عندئذ أن يُعقد مجلسنا.
والظلم يُعرف بأهله، وتستمرّ المحكمة المهزلة:
أبو عمر: لا، ليس بأيدينا، إذ نحن قضاةٌ، لا جلاّدون
ما نصنعه أن نجدل مشنقةً من أحكام الشرع
والسيّاف يشدّ الحبل.
تُدخل الشرطة الحلاّج، وتبدأ مهزلة القاضي الخارج لسانه من جيب السلطان الأصفر، والقاضي ابن سريج يستعفي من مجلس القضاء احتجاجاً على سير المحكمة الباغية:
ابن سريج: هل نحن قضاةٌ باسم الله
أم باسم السلطان؟
أبو عمر: بل قل أنت
أَوَتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان؟
وتبدأ ألاعيب السلطان الخادع، حيث يرسل رسالة إلى المحكمة فيها ما يأتي:
"إن الدولة قد سامحت الحلاّج
فيما قد نُسب إليه، وتثبّت منه السلطان
من تحريض العامّة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه.
أبو عمر: لكن وزير القصر يضيف
هبنا أغفلنا حق السلطان
ما نصنع في حق الله
فلقد أُنبئنا أن الحلاّج
يروي أن الله يحلّ به، أو ما شاء له الشيطان
فالوالي قد يعفو عمّن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله.
هذا الكلام الدائر في المحكمة يذكّرني بكلام لشكسبير: "الملوك لا يأمرون بالقتل، لكنهم يسمحون به".
وتمضي المهزلة حيث يتمّ الإعدام، ويهتف العامّة بأمر السلطان للسلطان مكررين كل زمان، ويستمرّ القتل، لكن الحلم يظل أقوى من القتل، وكم يحزّ في النفس أن الذين تموت من أجلهم يهتفون بموتك.
القاضي أبو عمر بعد الإعدام "يلتفت إلى جمع الفقراء":
"ما رأيكمُ يا أهل الإسلام
فيمن يتحدّث أن الله تجلّى له
أو أن الله يحلّ بجسده؟
المجموعة: كافر... كافر
أبو عمر: بمَ تجزونه؟
المجموعة: يُقتل، يُقتل
أبو عمر: دمه في رقبتكم؟
المجموعة: دمه في رقبتنا
أبو عمر: والآن... امضوا، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
...
لتقولوا ما شهدت أعينكمْ
قد كان حديث الحلاّج عن الفقر قناعاً
يخفي كفره
...
فامضوا، قولوا للعامّة:
العامّة قد حاكمت الحلاّج
إمضوا... إمضوا... إمضوا.
المأساة تنتهي بشهادة الثائر، وهتاف الغوغاء على طريق عبّده الظلم منذ فجر المسيرة الكونية. البطل مهزوم سلفاً، ومصعوق بلعنة سيزيف وهو يحمل صخرته إلى الجلجلة، وعينه على المنحدرات التي سيستمرّ بقطعها إلى أبد الآبدين. إنها السرّ والقربان معاً في مسيرة الحياة، حيث الظلم ينتصب باستمرار بكل أدواته أمام أصحاب القضايا الكبرى.
6
المسرحية تمزج بين الديني والاجتماعي، في حالة وعي واحدة هي الثورة المستمرّة. والدين هنا ليس طقوساً ومناسك، إنما هو رؤى واختراق وبشارة، والحلاّج في تصوّفه رأى الظلم أكثر، ورأى الحقيقة بمقدار ما رأى الله حالّاً به. ومن هنا يبدو مدفوعاً بقدره إلى مصيره المحتوم. الضوء الساطع في أعماقه كان باستمرار يدلّه ويقوده إلى الشجرة التي سيُصلب عليها. نحن ننحاز إليه، أما هو فالموت عنده مرحلة من مراحل المكاشفة مع الله، وهذا ما يخفف من ألمه، وهذه طبائع الشهداء باستمرار، إنهم يجبروننا على الحزن، لأننا لا نعاني مثلهم من ضوء المصباح الدرّيّ في مشكاة أجسادهم. كان مولانا جلال الدين الرومي يقول: "لا تعبدوا حتى تروا"، في معنى أن الله شديد الحضور في بصيرة المريد، ومن كان الله حاضراً في بصيرته لا يرى الموت موتاً، بل يقدم عليه مختاراً، وكأنه على موعد مع معشوقه. والحلاّج كما يقول صلاح عبد الصبور: "كان يريد أن يموت كي يعود للسماء".
إذاً، الموت هنا ليس عَوْماً في العدم، إنما هو البرزخ الذي نعبره للوصول إلى الحالة الأسنى، حيث يغدو الإنسان والخالق متداخلين تماماً:
"لا يخشى الموت سوى الموتى".
وإدراك المريد أن الموت ضدّ العدمية ينقذه من العذاب الذي نعانيه نحن أبناء التراب. إنه ربما كان في حالة فرح، حيث تتحقق مشيئته عبر شهادته:
"وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردَّهُ السلطان للسجّان
ووُشِّيتْ أعضاؤه بثمر الدماء
تمّ له ما شاء".
إيمان الحلاّج يفصله عن خوف الجمهور، هو مطمئن للنهاية - البداية، ويريد أن يبيت عند ربه:
"هو خالقنا وإليه نعود".
الإيمان ينزع الخوف من النفس، وبمقدار ما يغوص الإيمان في الذات يخرج الخوف، وتغدو النفس البشرية متصالحة مع قدرها عن وعي وإرادة، وبهذا تختلف هذه المأساة عن المآسي اليونانية. هنا البطل هو الذي يصنع مصيره (الشهادة)، أما في المسرح اليوناني فالآلهة هي التي تصنع مصير البطل، ويكون الانتصار له أكبر من الجمهور. في هذا المعنى يكون العنوان الذي اختاره صلاح عبد الصبور ("مأساة الحلاّج") غير دقيق، حيث أن الحلاّج هو صانع فعله وقدره معاً، وتكون المأساة أقلّ عمقاً في الذات، لأن البطل يسعى حثيثاً إلى مصيره الحميم. حين حدّق الشاعر الفرنسي بودلير خلف الستارة لم يرَ غير العدم، ولذا كان إحساسه فاجعاً مؤلماً: "إنها لا تدري علامَ يبكي الموتى". عدمية بودلير جعلته يرى الحياة عبثاً، ولذلك كانت حياته مأساة مستمرة في ملهاة اسمها "الحياة" حيث لم يستطع أن يرى إبداعاً مبرّأ من الألم. الحلاّج هنا لا يتألم لأن الموت عنده أمنية تتصل بالضوء وبالمعشوق في آن واحد.
ثقافة السلطة كانت تحرّف فكر الحلاّج وتحمله ما لا يريد حمله، وكانت تبثّها عبر الشرطي والقاضي والسجّان والغوغاء، لكن هذه الثقافة تظل غائبة رغم حضورها، وتظل ثقافة الحلاّج هي الحضور رغم غيابها. مصير الحلاّج كان يهشم "لا أبالية" الضمير الإنساني المضمر تحت كراسي الحكام. ويظل موت الحلاّج ضرورة في كل عصر لتوحّد الإبداع مع الحق المطلق، حيث لا إبداع من دون فعل، والفعل كي لا يكون دونياً يجب مزجه بمحو الإرادة الجسدية للامتزاج بإرادة الحق المبدع.
والذي يشدّ الإنسان (الجمهور) إلى المسرح، يحمل في معظمه تأثيرات التربية الفكرية والبعد الروحي في أمة ما، فالحلاّج شهيداً عند فئةٍ مسلمة يحمل بعض الخلاف عن الحلاّج شهيداً عند أمةٍ غير مسلمة، مع أن قضايا الإنسان الكبرى متطابقة باستمرار، وهذا التمايز ناشىء عن اختلاف فهم الإبداع الكلّي بين أمّة وأخرى "لأن طريقنا في الوعي إلى الأشياء، في التفكير، في التخيلات تختلف كثيراً عما هو عليه سوانا، فلذا سنخلق إن أردنا أم لم نرد طريقة جديدة خاصة بنا"، وهذا يساعد على نفي التقليد. فلو أعجبنا المسرح الروسي مثلاً وطريقة ستانيسلافسكي القائمة على معرفة الكائن نفسه وتدريبها إلى أن تصل إلى الوعي البسيكولوجي الذي هو ضروري جداً للمسرح، نقول رغم صحة هذا المنطلق، تظلّ الفوارق بين أفكار الأمم ومشاعرها لها التأثير الكبير في الممثّل والجمهور معاً، وهذا ما حاول صلاح عبد الصبور حشده في "مأساة الحلاّج"، حيث كان الفكر الصوفي المبدع أحد أهم عناصر الدفاع عن شخصية الحلاّج في المحكمة، وهو الذي جذب إليه السجّان والسجناء معاً. وكانت قضية الإيمان هي مأساته عند الجمهور البسيط الذي اعتقد أن الحلاّج كافر ومفسد في الأرض، ودور السلطة واضح في تكوين هذا الوعي المنحرف لدى الجمهور.
7
ثمة صعوبة في مسرحة الوعي الذهني المجرّد إلى فعل مسرحي، كأن يُطلب من الممثلين أن يكونوا "كما هم في الواقع" ("الحركة المسرحية في لبنان" لخالدة سعيد). هذا يعني أن المسرح يصبح أسهل في نقل الفعل أكثر من الفكر المجرّد إلى خشبة المسرح، فالمؤلف المسرحي يؤلف نصاً، لكن الصعوبة تتأتى من نقل الكلمة إلى فعل مسرحي، وبخاصة عندما يكون النص المسرحي ذهنياً، كما في بعض مسرح توفيق الحكيم. مع ذلك تظل الحركة متوافرة إلى حدّ ما في "مأساة الحلاج" لسرعة تنامي الحدث في الشارع والسجن وقاعة المحكمة. والمسرحية تصبح ناجحة على خشبة المسرح بمقدار ما تثير من انفعالات في الممثل والجمهور معاً، وبمقدار ما يكون الممثل منفعلاً ومبتعداً عن اللعب وتمثيل الانفعالات يكون ناجحاً، ولعلّ فكرة الشهادة في "مأساة الحلاّج" من أهم بواعث الهياج عند الجمهور المتلقي، وهذا يرفع المسرحية وشخوصها من المسرح إلى الحياة نفسها. فهم الفضاء الروحي لأمة مع زمنها الخاص بها ضروري لفهم التأثر والتأثير في العمل المسرحي. وعصر الحلاّج كان عصر جذب صوفي حاد بعد الانكسارات التي أصابت كيان الأمة، وكان ظهور البطل ضرورياً لإعادة الثقة إلى الجمهور المنهزم. وفكرة الشهادة في هذه المسرحية تلغي نظرية كريغ القائلة: "إن الحقيقة العليا غائبة". وقوام هذه النظرية أن الواقع المحسوس ليس موطن الحقيقة، فما تكون جدوى "مسرح يجتهد في محاكاة الواقع"؟ والمبدع هو الذي يعيد بناء العناصر المأخوذة من العالم المحسوس لتصبح إشارة إلى المعاني والحقائق الغائبة. إعدام الحلاّج هو واقع محسوس، لكنه بما يعنيه لا يجعل الحقيقة غائبة، بل يجذب الجمهور إلى تصوّر الألم والمعاناة وجبروت الفكرة وقساوتها التي تجبر الروح على تسليم الجسد بكل كبرياء. هذا يؤثّر كثيراً في الجمهور كما يقول كريغ: "الشكل الفني للألم أشدّ إثارة للنفس من الألم ذاته". لهذا يكون الجمهور في القاعة أشدّ ألماً من الحلاّج الذي يستسلم لحبل المشنقة، في طقس جنائزي مرعب.
8
بقي أن نقول إن صلاح عبد الصبور هو من مجموعة الشعراء الروّاد: بدر شاكر السيّاب، خليل حاوي، نازك الملائكة، عبد الوهاب البيّاتي... وهي بداية الحداثة في شعرنا العربي الحديث، ولعلّ سرعة الزمن الحالي على أصعدة المعرفة كافة جعلتنا ننظر إلى لغتهم اليوم، وكأنها امتداد للكلاسيكية الجديدة، وممثلها عمر أبو ريشة، والتي جاءت تطويراً لمرحلة البارودي وشوقي وحافظ. وما يهمّنا الآن في هذه الدراسة عن صلاح عبد الصبور كشاعر مسرحي هو اللغة التي كتب بها مسرحيته الشعرية "مأساة الحلاج" والتي نرى فيها ما يأتي:
أ - حاول الشاعر جاهداً الجمع بين لغة الحداثة، ولغة الواقع التي يحتاجها مسرحه، وهذا ما جعله متنافراً أحياناً كثيرة. استقبال النص المسرحي يحتاج إلى استيعاب دلالة الكلمات في مراميها البعيدة، وهذا ما يقرّبها من الرمز ويحدِّثها، لكنها لم تكن كذلك عند صلاح عبد الصبور. فقد كتب المسرحية شعراً، والمسرح الشعري كان نافذاً ومهيمناً في مرحلة طفولة الحضارة وسيطرة الأسطورة على الشاعر المسرحي وجمهوره المتلقي، لذلك استُقبلتْ المسرحية اليونانية استقبالاً داخلياً وشارك الجمهور الشاعر في خلق الحالة بالانتصار للبطل والتدخّل في النص أحياناً. كان ثمة حنين في العقل البشري ليبقى في طفولته الرعوية، أما اليوم فهل يصلح المسرح الشعري لحمل القضية؟ أقول نعم في حالة المسرح الغنائي الذي صعد به الرحابنة عبر النص المبدع وعبر حنجرة فيروز الخالدة إلى كل وعي ووجدان، ودخل إلى كل بيت لا بصوت فيروز وحدها، وإنما بإيماءات ودلالات الكلمة وشخصية البطل. مسرحية "بيّاع الخواتم" بشخصية راجح وعالم القرية الثري نقلت الحالة ليس إلى المجتمع اللبناني فحسب، بل راحت عميقاً في وجدان المتلقي العربي، وأصبح راجح رمزاً سياسياً، وكذلك "يعيش يعيش" وغيرها كثير. لغة صلاح عبد الصبور المسرحية لم تتقن لغة المسرح، ولا حافظت على ريادته الكلاسيكية.
ب - استعمل عبد الصبور على ألسنة البطل وخلصائه اللغة الصوفية، وهذه شهادة له وليست عليه، وقد مرّت معنا في هذه الدراسة نماذج واضحة منها ولا داعي لتكرارها. وهذه اللغة تحدث خرقاً على خشبة المسرح يغذّي حالة التشوّق القصوى التي يريد المتلقي أن يتقدّم عبرها إلى مرحلة متقدّمة. ولعل وظيفة المسرح تكمن في هذا الاتجاه، حيث الدلالة تتحوّل إلى فعل، ويصبح المسرح ثورة يخافها الحكام خوفهم من الموت نفسه. المسرح الملتزم هو تحريض قوي على سلطات لا تؤمن بالتغيير إلاّ في إرثها وتناسخها إلى الأدنى باستمرار. استعمال لغة المتصوّفة متناسب مع روح الأمة التي تنتظر المخلّص، ويكون المسرح عندها إرهاصاً وربما ولادة. كان المسرح اليوناني يفتح الحالة عند الجمهور بما يناسب الطبيعة الداخلية للإنسان اليوناني، كان يبدأ "باستشعار السماء الصافية وزرقتها القاسية، وإذا كان نصاً شكسبيرياً يحضر الضباب والعالم الرمادي القاتم" ("الحركة المسرحية...")، ولذلك لا بد للمسرح من هوية وتاريخ ورقيا في كل مجتمع. رغم أن الأمة العربية بتركيبتها الدينية رفضت المسرح إلاّ أنها احتوت الحالة، وعادت إليه بمواسم كربلائية، على سبيل المثال، لتفريغ الحزن المشحون في النفوس المقهورة، وانتصاراً لشآبيب الدم التي يرونها مسكوبة على ثرى "الطف".
ج - استعمل عبد الصبور لغة الشارع ولغة العصر الاشتراكي، محاولاً عبرهما تحويل الحلاّج صاحب نظرية الحلول إلى ثائر اشتراكي. ورغم الانطلاق من حقيقة تاريخية تشير إلى بعض هذا، إلا أن لغة العصر الاشتراكية لا تتناسب مع لغة الجذب الصوفي التي ظلّ الحلاّج فيها حتى صعد إلى ربه "حسب الواجد إفراد الواحد له".
ولا بدّ من الاعتذار من شاعرنا الكبير صلاح عبد الصبور، فـ"ما أصعب الفن وما أسهل النقد". مع أنني أعتقد اعتقاداً راسخاً أن النقد هو كتابة أخرى للنص المُنتقَد، وليس الناقد "كالدجاجة التي تُقَوْقىء كلما باضت جارتها" كما يقول ميخائيل نعيمة. والناقد أيضاً ليس عدواً للمبدع بل هو استمرار له، وليس أيضاً كما يقول المثل اللبناني "من غربل الناس نخلوه". فالحركة الأدبية لا تنمو إلاّ عبر التكامل المتضاد بين طرفين يلتقيان بمقدار ما يختلفان. المسرح الإنساني ليس أجساداً وأضواءً وأشكالاً على خشبة المسرح، إنما هو ظلال الأشياء الداكنة في النفس، والتي تتوق باستمرار إلى الانعتاق باتجاه الضوء. لقد كانت الأوثان الحجرية القديمة بداية الانطلاق للديانات التي جعلت اللاهوت فضاء بلا بدء وبلا نهاية، وتركت مجالاً للاستمرار في الأسئلة ومحاولة الاختراق: "كل ما خطر في بالك فهو على خلاف ذلك". المسرح أفكار ورموز في حفنات الطين المتحركة على المسرحة، إلى درجة أن الممثل الجيّد قد يموت على خشبة المسرح لشدّة توهجه وحضوره في دوره. فبمقدار ما كانت الغابات مسكناً لساحرات ماكبث كان المسكن الحقيقي لهن في أعماق ماكبث، وليدي ماكبث. والممثل الذي يمثّل هذا الدور يجب أن يمتلىء بالحالة حتى لكأنه هو هي. وقد يقترب قدره من قدر بطل المسرحية نفسها.
****
"شاعر أنت والكون نثر"، هذه المقولة تصدق بحقّ على صلاح عبد الصبور قبل أن تصدق على غيره، فقد كان يتمتع بخاصية الشاعر، أو فلنقل الشاعرية، في أدواته وذاته، فيتعامل مع واقعه من هذا المنطلق ليس كإدراك عقلاني مفتعل، بل كجزء لا يتجزأ من بنيان شخصيته، وبنيان ثقافته. وبقدر ما نقترب من العالم الإبداعي لصلاح عبد الصبور، بقدر ما نشعر بثراء معطيات هذا العالم، في الوقت نفسه الذي نشعر فيه بغزارة مشاعره وأفكاره وأحاسيسه، حتى نظن في بعض الأحيان أننا نكاد نضيع في زخمه المتلاطم في آونة قصيرة.
الاقتراب من عالم شاعر مثل صلاح عبد الصبور يحتاج إلى عدد من الأدوات، هذا من منطلق فهم خاص لدور، أو مهمة الناقد أو الباحث، والتي يجب أن تصدر عن إحاطة شمولية ببنية الشاعر الثقافية، بحيث يبدو عالم الشاعر جزءاً أصيلاً من عالم أكبر ألا وهو عالم الناقد، حتى يستطيع أن يضعه في مكانه بدقة وتمكّن. أما إذا كان العكس فلا أظن (ولا بدّ أن يتفق معي القارئ الكريم في ذلك) أن النقد في هذه الحال يضيف جديداً من التفسير والتحليل، ولذا فهو يميل غالباً إلى التعليل والتبرير.
بالرغم من كثرة الكتابات حول الراحل صلاح عبد الصبور، والتي بيّنتها ببيلوغرافيا "الشاعر والكلمة"، المنشورة في مجلة "فصول" الصادرة لدى "الهيئة المصرية العامة للكتاب" في القاهرة (عدد 1، المجلد الثاني، أكتوبر 1981م)، والذي يحتوي على رصد ببيلوغرافي لما كتب من مقالات أو أشعار أو مسرحيات أو كتب أو مترجمات، وما كُتب عنه، وما أُجري معه من لقاءات وأحاديث، وما تُرجم من أعماله إلى اللغات الأخرى... نقول بالرغم من كثرة هذه الكتابات فإن شيئاً منها لا يكاد يعطيه حقّه نقدياً، وإذا ما حاول فهو يقف عند جانب واحد في قصيدة منه أو ديوان أو مسرحية، دون محاولة حقيقية لخوض هذا العالم كلّه، على الرغم من أنه عالم جدير بأن نسبح فيه ونغوص إلى أعماقه بحثاً عن خواصه وأفكاره. ومع كل التقدير والاحترام لهذا الكم الكبير من المقالات التي كُتبت عن عبد الصبور في حياته، أو بعد مماته، والآراء الانطباعية، والأحاديث الصحافية مع الشاعر أو عن الشاعر، وفصول الكتب التي دُبِّجت عنه، توهّم أغلبنا أن الرجل قد "قُتِلَ بحثاً"، وهو ما يحدث عادة مع كبار كتّابنا العرب، والسبب يرجع إلى الخلط بين ما هو دراسات نقدية حقيقية، وبين ما هو مجرّد حكايات إخبارية، لا يقوم بها باحث أو ناقد متخصص، فإذا ما نحّينا جانباً هذا القدر الكبير من النوع الأخير لا يبقى أمامنا سوى عدد لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة من الدراسات النقدية المهمة والجادّة.
وسوف تندهش عندما تفتّش وتفتّش فلا تعثر إلا على عدد ضئيل من الدراسات الجادّة المتميزة والتي لا يتناسب حجمها مع حجم عبد الصبور الذي أوهم بكثرة الدراسات، أو من الأفضل القول كثرة الأخبار الصحافية، أو الاحتفالات المناسباتية، أو ما على شاكلتها، وليس الدراسات النقدية القائمة على منهج علمي سليم.
هذه الانطباعات تتحقق من مطالعة أولية لما كُتب عن صلاح عبد الصبور في ببيلوغرافيا "الشاعر والكلمة"، وهي انطباعات تخلص إلى اقتراحات أبحاث لا زالت في انتظار من يقوم بها. وكأمثلة على ذلك:
- بحث يخوض في العالم الشعري لعبد الصبور من منظور بنيوي، وشعره أكثر الأعمال صلاحية لهذا المنهج النقدي المثمر: الشاعر شاعراً.
- بحث يخوض في عالمه المسرحي مؤصّلاً دراميته عنده أولاً، ثم محاولاً خوض تجاربه المسرحية، ومصادر تأثراته الغربية أو الشرقية، وعملية التأثر والتأثير أمر مشروع ومعترف به، ولا ضرر ولا ضرار فيه، وليكن هذا البحث مدخله: الشاعر مسرحياً.
- بحث يخوض في تجربة صلاح عبد الصبور الثقافية التي تنبئ عن حس ناقد، يمكن من خلاله أن نصل إلى منظوره النقدي التذوّقي: الشاعر ناقداً.
- بحث يقف عند أبطاله الدراميين شعراً أو مسرحاً بدءاً من الملك عجيب بن الخصيب وبشر الحافي وصولاً إلى شخصية الملكة في "بعد أن يموت الملك".
- الدلالات اللغوية في كتابات صلاح عبد الصبور، ومحاولة الكشف عن طبيعة معجمه، ونوعية مكوّناته اللفظية، والتراكيبة، ونتمنى أن يدرس هذا الجانب أصحاب الاختصاص والخبرة والدراية في علم اللغة.
تتبّع مصادر تأثرات صلاح عبد الصبور الشرقية أو الغربية، سوف يجعلنا نقف عند ما كان أكثر جذباً له في الثقافات المختلفة بدءاً من ثقافات الدول الكبرى والعالم الثالث. وعليه فإن من الواجب التعريف بمن يعرف، وبمن صاحب من شعراء وروائيين ومسرحيين، وبما تأثر من أعمالهم كملاحظات أولية تعيّن، أو تساعد على اكتشاف عالمه من منظور الدراسات النقدية المقارنة. وهي محاولة من أجل وضع الخطوط الرئيسية الخارجية لملامحه، أو تحديد الإطار العام لهذه الملامح، معترفةً بأن الجهد لا بدّ أن يكون متبوعاً بمحاولات تضع التفاصيل الداخلية، وتلقي الظلال والأضواء حتى تكتمل الصورة، من منظورها على أقل تقدير.
دراسة مثل تلك يمكن أن تعتمد على دليل "الشاعر والكلمة"، الذي أصدرته مجلة "فصول" كما ذكرنا سابقاً، بعد رحيل عبد الصبور وهو أول رئيس تحرير لها. وبلا ريب فإن عملاً كهذا يكاد يكون جامعاً مانعاً، لكننا في الواقع عثرنا على مواد كثيرة لم يُشر إليها الدليل، أضف إلى ذلك ما نُشر بعد وفاته مباشرة.
لقد ارتبط صلاح عبد الصبور ارتباطاً وثيقاً بحركة الشعر العالمي المعاصر، وارتبط أكثر بشعراء من العالم الثالث، في فترة من أكثر فترات التاريخ المعاصر اضطراماً بالحركات التحررية والثورة. لقد عرف لوركا، وبابلو نيرودا، وإيفتو شنكو، كما عرف إليوت ووايتمان، ونشأت بينه وبينهم روابط فكرية وثقافية بلورتها طبيعة المتغيرات التاريخية العالمية من ناحية، وطبيعة المتغيرات العربية من ناحية أخرى، مع مراعاة أن صلاح عبد الصبور ولد سنة 1930م، وقد تكوّن وجدانياً وفكرياً وثقافياً خلال فترة المدّ الثوري في مصر والعالم العربي والعالم الثالث في إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية. ولعل صلاح عبد الصبور كان أكثر شعراء مصر حساسية تجاه المتغيّر الثقافي العلمي، من هنا جاءت قيمته التي تفرّد بها بين شعراء عصرنا. وهذا يقودنا إلى وجهته الثقافية في الآداب الغربية، وطبيعة اختياراته لما يقرأ، وطبيعة ملاحظاته الفكرية في رحلاته وسياحاته المختلفة شرقاً وغرباً من الهند حتى الولايات المتحدة، كما يقول الدكتور حلمي بدير، عندما يتحدث عن المؤثرات الوافدة في شعر عبد الصبور، وذلك في كتابه "المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث"، دار المعارف، مصر، 1983م.
وإذا كان لنا أن نقارن بينه وبين جيل سبق من شعراء مدرسة "الديوان" (العقاد، شكري، المازني)، فسنكتشف الآتي:
- نقطة التقاء: في أن مدرسة صلاح عبد الصبور قد ثارت شكلاً ومضموناً على محاور تعتدّ بها حركة الشعر الحديث عموماً، كما سبق أن ثارت مدرسة "الديوان" على محاور كانت تبدو هي الأساس في معيار الشعر العربي.
- نقطة خلاف: في أن مدرسة الديوان لم تمتدّ في لقائها بالثقافة الغربية إلى معاصريها من الشعراء، ودليلنا على ذلك، كمثال، أن إليوت نشر قصيدته المهمة "الأرض الخراب" سنة 1922م، ولم تنتبه إليها مدرسة "الديوان"، بل رحلت إلى أعماق الشعر الغربي في منتصف القرن التاسع عشر وما قبله، بينما تكاد مدرسة صلاح عبد الصبور تتلاحم مع صوت الشعر العالمي الحديث والمعاصر.
ونذكر هنا أن ببيلوغرافيا "الشاعر والكلمة" أشارت إلى مقاطع من قصيدة "الأرض الخراب" لإليوت، ترجمها عبد الصبور ولم تُطبع بعد، وقد حصلت عليها مجلة "فصول" من أسرة الشاعر الراحل.
وإذا كان شاعرنا أحد روّاد مدرسة الشعر الجديد أو شعر التفعيلة، فإنه ينفرد بسمات خاصة، قرّبت المسافة بينه وبين الإحساس بالمتغير الثقافي العالمي. وعليه كان عبد الصبور أكثر إدراكاً، وأكثر وعياً، وأكثر تجاوباً مع جوانب خاصة من الشعر العالمي مثّلت في مجملها حالات من القتامة، والإحساس بالتضاؤل، والضياع والغربة.
أهمّ عنصر يميّز شعر هذه المدرسة، أنها نفضت يدها من معانٍ كثيرة ترددها دون معنى، فإذا كان التراث يحتوي في مضمونه على عدد كبير من الأفكار، نحبّها ونعجب بها ونستسيغها، فإن هذا ينبع من مناسبتها لعصرها وأجيالها الفائتة.
إذاً، ليس من داع إلى أن نعود إلى ترديد هذه المعاني والأفكار، أو نطالب معاصرينا باستخدامها رغم مغايرة الأجيال والعصور، ولذلك فإن الأساس الأول في شعر هذا الرعيل المتميز من الشعراء، على مستوى العالم، ينبع من هذه الخاصّية التي يتميز بها تعبيرهم، وهي التعبير الدقيق عن طبيعة الإنسان الجديد في عالم متغير، يتأزم بقدر ما تزداد فيه حدّة المادية، وتتفاقم فيه صراعات متشابكة، بين دول العالم الأول من ناحية وبينها وبين العالم الثالث من ناحية ثانية على الرغم من تفاوت درجات القوى، يقف فيها إنسان هذا العصر والأوان موقفاً لا يجد حياله من مفرّ.
وهنا أحب أن أشير إلى أن تعبير "إنسان هذا العصر والأوان" تعبير استخدمه صلاح عبد الصبور في قصيدته الشهيرة "الظل والصليب" (أقول لكم، الطبعة الأولى، ص 62).
ويشهد إنسان هذا العصر والأوان صراعاً جديداً يصبح فيه العالم أجمع محتلاً بقوتين عظميتين تتفق في ما بينها على تقسيم مناطق النفوذ، فأصبح حول الشرق ستار حديدي تحاول يد الغرب أن تمتدّ إليه، كما فرض الغرب ستاراً حديدياً آخر حاول الشرق أيضاً أن يمتدّ إليه (ألاسكا في الحالة الأولى، وكوبا في الثانية). ويشهد أيضاً إنسان هذا العصر والأوان حضارة لا تتميز بسمات محلية أو قومية، بل هي حضارة عالمية، تضيع فيها هوية الأمم والشعوب، ونتيجة لذلك فإن القوى العظمى أصبحت هي مصدر هذه الحضارة، وبالتالي فإن إنسان هذا العصر لا يتميز بالإبداعية الحضارية، وإنما ينتابه دائماً شعور بالتبعية، وهو شعور مصاحب للشعور بالتخلّف، بل والأميّة الفكرية أحياناً لدى عدد كبير من الشعوب في دول العالم الثالث، كما يشهد إنسان هذا العصر نوعاً من "البلطجة" السياسية في الشارع الدولي، ولا شك أن ذلك كلّه لا بدّ أن يترك أكبر الأثر على الإنسان حيث يشعر باللاقيمة والغربة والتضاؤل، في عالم يصطرع بهذا القدر من استعراضات القوة.
لذلك فرّ إنسان هذا العصر والأوان إلى العبث واللامعقول وما وراء الواقع، سواء في الفنون التشكيلية (سلفادور دالي، بيكاسو...)، أو المسرح (بيكيت، يونسكو...)، أو الشعر (أراغون، لوركا، نيرودا...).
وما لا شك فيه أن ثمّة علاقة وثيقة بين الحركات الفنية في بداية القرن العشرين في الفنون التشكيلية عند كبار التشكيليين أمثال بيكاسو ودالي، وبين مذاهب الأدب الحديثة، خصوصاً في محاولات تفسير اللامعقولية (الغورنيكا مثالاً).
بالطبع، هذا الفرار يمكن أن يخضع للتحليل النفسي، إذ انه يبدو كمهرب وحيد لحالة من حالات الإجهاد الذهني بدت واضحة في مهرجانات الرقص، والتي انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية، وفي العقدين الأخيرين من القرن العشرين على وجه الخصوص، والتي تبدو من هزاتها العنيفة، فكأنها محاولة لتهدئة حدّة السيطرة العقلية والفكرية.
وقد يكون من المجدي محاولة اكتشاف الجو الثقافي الخاص بالشاعر في فترة الإبداع الفني، بحيث نحاول اكتشاف طبيعة ما كان لديه من اهتمامات، وقت تأليفه أحد أعماله.
فصلاح عبد الصبور أخرج مسرحيته الأولى "مأساة الحلاّج" سنة 1964م، في الوقت الذي كان مشغولاً فيه بقراءة إليوت والكتابة عنه، وفي وسعنا مراجعة مقالته المنشورة في مجلة "روز اليوسف" بتاريخ 16 يناير 1961م، وما نشره من مختارات في فهم الشعر ونقده بقلم إليوت (مجلة "المجلة" عدد مايو 1963م)، ومقالته المعنونة "سكت الصوت الصارخ في البرية" (جريدة "الأهرام" عدد 22 يناير 1965م)، ومقالته "قراءة جديدة لشعر إليوت" (مجلة "المجلة" عدد يونيو 1964م).
هنا نشير إلى أن عبد الصبور في عام 1964م، قام بترجمة مسرحية "حفل كوكتيل" لإليوت، وفي العام نفسه قام بترجمة مسرحية "جريمة قتل في كاتدرائية" لإليوت أيضاً، وقدّمهما إلى "سلسلة المسرح العالمي" الكويتية، لكنهما لم تصدرا إلا بعد وفاته سنة 1981م (العددان 148 و149 على التوالي)، ولعلّ هذا يوضّح لنا استمرارية تعلّقه بهذا "الصوت الصارخ في البرية" و"الأرض الخراب"، قبل بدء كتابة المسرحية، أي منذ 1961م وحتى 1971م، وما بعدها، مروراً بقراءات متنوّعة في شعر إليوت ومسرحه وكتاباته النقدية والثقافية.
لقد أشارت ببيلوغرافيا "الشاعر والكلمة" إلى مسرحية "حفل كوكتيل" فقط، لكن من المؤكد أن شاعرنا قام بترجمة "جريمة قتل في كاتدرائية" سنة 1964م، وإن كانتا لم تصدرا إلا بعد وفاته. وعندما كتب "مأساة الحلاّج" كانت البيئة الاجتماعية تشهد تغيرات جذرية، تاريخياً واقتصادياً وفكرياً، ربما لم يرضَ عنها الشاعر، أو لم يرضَ عن جوانب منها، وربما أيضاً كانت حياته الخاصة تشهد بعض التغيرات الأساسية (حلمي بدير، بحوث تجريبية في الأدب المقارن، القاهرة، 1988م، ص 112 وما بعدها).
لقد عبّر شاعرنا عن بعض أفكاره في شعر وشعراء الغرب والشرق، فغير ما ذكر من شعراء (لوركا، نيرودا، إيفتو شنكو، إليوت، وايتمان)، نراه يتتبع: ماياكوفسكي، ناظم حكمت، كازانزاكس، بوشكين، بودلير... شاغلاً بملاحظاته مساحات من صحيفتَي "الأهرام" و"الأخبار" القاهريتين، أيضاً في مجلتَي "روز اليوسف" و"صباح الخير" وغيرهما، قبل أن يقوم بجمع بعض مقالاته في: "أصوات العصر" أو "رحلة على الورق"، أو "حتى نقهر الموت" أو "كتابة على وجه الريح".
أهمية هذا التتبّع لمصادر قراءات عبد الصبور الغربية لا تتضح إلا من خلال الوقوف على جانب منها لغربلة ما بقي منه في وجدان الشاعر وخلفيّته، بحيث نستطيع من هذا المدخل التوفّر على:
أ - أعماله الشعرية والمسرحية والنثرية لمحاولة حصر أفكاره، في إطارها العام أولاً، حصراً ببيلوغرافياً علمياً سليماً.
ب - مقارنة أفكاره هذه بما اشتهر عند من قرأ لهم من أفكار.
ج - الاستعانة بكتاباته النثرية وتواريخ نشرها (بحكم عمله الصحافي) للكشف عن البيئة الثقافية الخاصة للشاعر وقت نشر القصيدة، أو الديوان، أو المسرحية، ويهمّنا في هذا المجال التثبّت من تاريخ النشر لأول مرّة.
ونحبّ أن نؤكّد هنا أن صلاح عبد الصبور لم يهرب من عالمه المعاصر إلى أحضان اتجاهات أو مذاهب من أي نوع في عمق التاريخ الأدبي، قريباً أو بعيداً، كما فعلت مدرسة "الديوان" والرومنسية المصرية بوجه عام، على الرغم من صلاتها الوثيقة بالثقافة الإنكليزية والفرنسية، ما يجعلها مستعدّةً لتتبع المعاصر منها، وكان شكري في بعثة لإنكلترا لمدّة ثلاث سنوات في بداية القرن العشرين، لكنه عاصر شعراء عصره، وتجاوب معهم، واستجاب لهم، وقد يكون لوسائل الاتصال الحديثة دخلٌ في هذا، ووسائل التقريب بين ثقافات العالم وحضاراتها الحديثة.
ختاماً، إن ما بقي من صلاح عبد الصبور كان أعظم وأكثر من أن تذروه الرياح.
****
يذهب الكثيرون إلى أن الزمن وحده هو صاحب الكلمة الفصل بالنسبة إلى الشعراء والمبدعين، وأن سنوات طويلة يجب أن تمرّ قبل أن تتبيّن القيمة الحقيقية والخالية من الغش والزيف للنصوص التي يخلّفها الشعراء وراءهم بعد أن يسلّموا الروح. والحقيقة أن مثل هذه الرؤية إلى الشعر والفن ليست بعيدة عن الصواب تماماً، وإن كانت لا تنطبق على الجميع بالنسبة ذاتها. فثمة شعراء استطاعوا أن ينتزعوا الاعتراف بهم وبقيمتهم الإبداعية وهم ما يزالون على قيد الحياة، تماماً كما كان الحال مع المتنبي في العصور السابقة، وكما هو الآن مع شعراء معاصرين أمثال أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، على سبيل المثال لا الحصر. وثمة آخرون بالمقابل لم ينعموا بمثل هذه الحظوة في زمنهم بل احتاج الأمر إلى زمن طويل بعد رحيلهم كي يتم إنصافهم وإزالة الغبن الذي لحق بهم جرّاء غياب النقد أو سيادة الفوضى أو اختلاط المعايير. وثمة فئة ثالثة انتزعت حظوتها وتكريسها ونجوميتها لا بفعل حجمها الإبداعي الحقيقي بل لما امتلكته من سلطة ثقافية وإعلامية وترويجية حتى إذا ما غيّب الموت أصحابها تبخّرت نجوميتهم بسرعة البرق وعادت أحجامهم المصطنعة إلى حجمها الحقيقي.
إن قراءة متفحصة لنتاج الشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور لا تدفع قارىء شعره، بحسب رأيي على الأقل، إلى إدراجه ضمن الفئة الثالثة وهو الذي لم يكن يأبه كثيراً للتسويق والترويج الإعلامي، بل كان يتصف بقدر رفيع من التواضع والنزاهة والصدق مع النفس. ولعل هذا الصدق المبالغ في حساسيته هو الذي أودى بصاحب "الناس في بلادي" و"أقول لكم" بعدما شعر بجرح في كرامته بفعل اتهامات باطلة تناولت مواقفه الوطنية والتزامه القومي. وإذا كان من الصعب أن نضع عبد الصبور في خانة الفئة الأولى التي نالت في حياتها ما تستحقه من تقدير، فمن الصعب بالمقابل أن نضعه في خانة الفئة الثانية التي تعرّضت إلى الغبن والتجاهل الكاملين. إنه يقع على الأرجح في منزلة بين المنزلتين مع تأكيد إضافي على أنه أحد الشعراء القلائل الذين لا نملّ من إعادة قراءتهم، والذين لم يضمر حضورهم بفعل الزمن كما هو الحال مع كثيرين غيره، وهو أمر لا يتأتى بفعل الصدفة المجرّدة بل بتضافر العديد من العناصر التي ميّزت تجربة عبد الصبور، سواء من خلال المسرح الشعري أو الشعر المجرّد. ولمّا كانت هذه العجالة لا تتسع لإلقاء الضوء على مسرحيات صاحب "مأساة الحلاّج" و"مسافر ليل" فثمة على الأقل متسع لمقاربة بعض السمات التي تحكم شعره وتطبعه بطابعها الخاص.
أوّل ما يلفت قارىء صلاح عبد الصبور هو صدور تجربته عن أحاسيس ودوافع مترعة بالصدق والانهمام العميق بالحياة. فمنذ القصيدة الأولى المعنونة "رحلة في الليل"، وحتى قصيدته الأخيرة في رثاء جمال عبد الناصر، لا نلمح أثراً لأي تكلُّف أو افتعال، بل ثمة قول شعري يصدر عن باطن النفس وينبثق عنها انبثاقَ النور من قلب الشمس. ليس ثمة من مسافة موضوعية بين الشاعر وموضوعاته كما هو الحال مع المنظور الكلاسيكي للكتابة، بل ان كل ما يكتب يصدر عن ذات الشاعر، لا بما هي ذات مغلقة على همومها الخاصة بل بما هي اختزال لهموم الآخرين، بدءاً من الحي والمدينة والوطن وانتهاء بالأمة والعالم بأسره. وإذا كان ثمة قدر وافر من التلقائية في شعر عبد الصبور فهي ليست التلقائية المرادفة للعفوية والترسُّل السهل، بل تلك التي تخفي وراءها الكثير من الدربة والمهارة العاليتين. وكما أن التلقائية عند الشاعر لا تعني العفوية فإن الوضوح في شعره لا يعني انكشاف المعنى، والسهولة لا تعني السطحية. بل لربما كانت هاتان الميزتان مرادفتين للعمق وتعدّد الظلال ومستويات التأويل كما هو الحال مع هذا المقطع من "مذكرات الصوفي بشر الحافي":
"يا شيخي الطيّب
هل تدري في أي الأيام نعيش؟
هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامن
من أيام الأسبوع الخامس
في الشهر الثالث عَشَرْ
الإنسان الإنسان عَبَرْ
من أعوامٍ
ومضى لم يعرفه بشرْ".
فنحن هنا إزاء مفردات سهلة وعبارات لا تشكو من التعقيد ولا تفتقر إلى الموضوع، لكنها، ورغم خلوّها من الصور الاستعارية والمجازية، حافلة بالدلالات والأسئلة التي تدفع القارىء إلى التأمّل في ما يقصده الشاعر باليوم الثامن والأسبوع الخامس والشهر الثالث عشر، وفي ما إذا كان الحلم الإنساني حدثاً ماضياً ومنقضياً إلى غير رجعة أم أن ثمة بارقة أمل تلوح في الأفق.
الأمر الآخر الذي يلفت في شعر عبد الصبور هو البعد الوجودي لتجربته التي تجنح دائماً نحو التقصّي والاستكشاف وطرح الأسئلة الإنسانية المتعلّقة بالكينونة والمصير وتمزّق الانسان بين الأقدار المرسومة من جهة، وبين اختراع الحياة بقوة الإرادة من جهة أخرى. هنا لا يعود الشعر تغنّياً بالواقع، ولا توصيفاً غنائياً لمجريات الحياة وأحداثها بقدر ما هو معرفة وتأمّل وبحث عن الجوهري. ثمّة نسب من نوع معين بين الشعر والفلسفة في تجربة صلاح عبد الصبور، وهو يتقاطع من هذه الزاوية مع تجربة الشاعر اللبناني خليل حاوي. لكن الفارق بين الاثنين يكمن في المقاربة نفسها كما في مسألتَي اللغة والإيقاع. فحاوي يميل إلى مقاربة الواقع من موقع المثقف العارف و"المترفّع" عن القضايا الصغيرة والتفاصيل المعيشة، كما أن المعرفة تحضر في شعره حضوراً واعياً ومباشراً من طريق التصدّي لمشكلات الحضارة والفلسفة والموت والانبعاث مجيّشاً لذلك الكثير من الأساطير والخرافات والأقنعة والرموز. أما عبد الصبور فينطلق من الحيثيات والوقائع المحيطة به فيتحدّث عن بشر عاديين وعن عمّال وفلاحين وشهداء ومكافحين من أجل الحياة ليصل من خلال تجاربهم المختلفة إلى استكناه الوجود وتلمّس أبعاده وغاياته. كما أن اللغة عند عبد الصبور أقلّ بلاغية وأكثر قدرة على استخدام المفردات اليومية والعادية. وهو ما ينسحب أيضاً على الإيقاع الذي يبدو عند الصبور أقلّ احتفالية وجرساً مما هو الحال مع صاحب "الناي والريح" و"بيادر الجوع".
مع ذلك فثمة عند صلاح عبد الصبور ميل واضح إلى متابعة المعنى وتقصّي وجوهه وأبعاده في عملية تدرّجية تبدأ من الجزئي والتفضيلي وتنتهي عند نوع من الخلاصات التي تشبه الأمثال والحكم السائرة. وهذه الميزة التي عرفها الشعر العربي عبر ما كان يدعى ببيت القصيد تكثر نماذجها عند الشاعر الذي استخدمها ببراعة لافتة جعلت الكثير من نصوصه قابلة للحفظ والترداد من قبل القراء، خلافاً لمعظم مجايليه. ويكفي أن نذكِّر في هذا الإطار بقصيدة "الظل والصليب" التي أعتبرها واحدة من أجمل نصوص الشعر العربي الحديث بما امتلكته من قدرة فائقة على تجسيد واقع البشرية المتآكل والمتأسن والباعث على السأم والغثيان والقرف من كل شيء. ومن منّا لم يردد مرّة أو مرّات قول عبد الصبور الشهير:
"قلتم لي:
لا تدسس أنفك فيما يعني جارك
لكني أسألكم أن تعطوني أنفي
وجهي في مرآتي مجدوع الأنف"؟
أو ذلك الهجاء الساخر للجنس البشري برمّته في المقطع الأخير من القصيدة:
"هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله
ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسَّس رأسك!
فتحسَّس رأسك!".
ولا يخفى ما في فعل الطلب الأخير من معرفة عميقة بالنفس البشرية بحيث لا يملك أحدنا إلاّ رفع يده باتجاه رأسه وتحسّسه له ليتبيّن حقيقة ما هو عليه.
هذا البعد الوجودي لشعر عبد الصبور هو الذي يطبع هذا الشعر بطابع الحزن ويجعله مشوباً دائماً بالشجن والمرارة وهجران الفرح. وهذا الأمر يظهر من خلال التصريح المباشر والعناوين والألفاظ الصريحة كما في قصيدة "الشيء الحزين" التي يتحدّث فيها الشاعر عن ذلك الحزن المكنون والخفي الذي يقبع في أعماقنا جميعاً، أو في قصيدة "الحزن" التي يسري الحزن فيها مع ضوء الشمس ومسام الهواء ونسغ النبات. ومع الحزن تشيع العناوين والتعبيرات الدالة على الليل، لا بما هو تغليف رومنسي حنون للمشاعر والأجساد، بل بما هو دخول في عتمة المصائر وتيهها المظلم. وثمة أيضاً الحضور الطاغي للموت سواء موت البشر العاديين والبسطاء من الفقراء والفلاحين الباحثين عن لقمة العيش، أو الشهداء الباحثين عن الحرية مثل زهران، أو القادة التاريخيين مثل جمال عبد الناصر. والموت يحضر أيضاً ببعده الميتافيزيقي والفلسفي كسبيل وحيد إلى الحرية والانعتاق الكاملين من ربقة الجسد وقيوده المرهقة. ويحضر ببعده النفسي والروحي حين تتحوّل الحياة إلى صحراء موحشة من الكراهية والأنانية ونبذ الآخر. ولعلّ القصيدة التي تحمل عنوان "زيارة الموتى" هي من أجمل القصائد التي تدور حول موضوع الموت حيث تنهدم الجدران بين طرفَي الأرض، ويكثر سعاة البريد الذين يحملون الرسائل المتبادلة بين الأموات والأحياء:
"يا موتانا
كانت أطيافكُمُ تأتينا عبر حقول القمح الممتدّهْ
ما بين تلال القرية حيث ينام الموتى
والبيت الواطىء في سفح الأحزان
كانت نسمات الليل تعيركُمُ ريشاً سحرياً...
هل جئتم تأتنسون بنا؟
هل نعطيكم طرفاً من مرقدنا؟
هل ندفئكم فينا من برد الليل؟
نتدفّأ فيكم من برد الوحدهْ".
ثمة أشياء كثيرة تقال حول تجربة صلاح عبد الصبور الخاصة والفريدة، لكني أريد أن أختم بفكرة أخيرة مفادها أن شعر عبد الصبور قد يتطابق مع المعايير الفعلية للحداثة أكثر من معظم شعراء الحداثة المعروفين. وهو استنتاج لا تعوزه القرائن ولا يقع في باب الارتجال والأحكام المتسرّعة، بل يجد مسوّغاته في قصائد الشاعر ونصوصه المختلفة. فإذا كانت الحداثة تعني في بعض وجوهها الابتعاد عن التراكيب الجاهزة والبلاغة المتعسّفة وبلادة القواميس والاقتراب من الحياة نفسها فإن شعر عبد الصبور يحقق هذه الخاصية بامتياز، حيث نرى اللغة اليومية القريبة أحياناً من المحكي والشائع. وإذا كانت الحداثة نأياً عن الإنشاء والوصف والخطابة واقتراباً من التأمّل والتقصّي والحفر المعرفي، ففي شعر عبد الصبور الكثير من هذه السمات. وإذا كانت الحداثة كسراً للفخامة الوزنية والغناء التطريبي لمصلحة الإيقاع الهادىء والرشيق والمتناغم دون افتعال مع مقتضيات القول، فإن شعر عبد الصبور يقع في قلب هذا التعريف. وإذا كانت الحداثة كسراً للحدود المألوفة بين الشعر والرواية والقصة والمسرح، فثمة في شعر عبد الصبور ما يمزج بين هذه الأنواع ويؤالف بينها في انسجام ظاهر. لا بل إن تجربة صلاح عبد الصبور في رأيي هي من أكثر التجارب التي رفعت الكلفة بين الشعر والنثر بحيث أسهمت، دون تقصّد أو ادعاء، في تمهيد الطريق أمام قصيدة النثر العربية.
****
"حبيبي أطفأ المصباح،
وانطفأت مرارته على بدني
وأيقظ حزنه، وأراق من عينيه في وسني
فأيقظني
ومدّ جناحه المحطوم من حولي
وعانقني
ووشوش صوته المنغوم في أذني
يؤرجحني
على أغصان دمعته التي امتزجت، وفرحتَه
وحين أصاب من نفسي الذي يبغيه،
أطلقني
وأغفى في جواري، والمساء يلمّ طرحتَه
لتولدَ في الصباح مرارةٌ أخرى
وتولدَ،
شهوةٌ في الليل، تدفع صدر محبوبي
ليطفئها على بدني".
قصيدة "أنثى" لصلاح عبد الصبور
من المستحيل أن يغادر القارئ هذا النصّ من دون أن يلفت انتباهه الحضورُ العارم للمتكلّم، لكن اللافت أيضاً، هو حضور المتكلّم في البنية الداخليّة للنصّ، وليس من دلالة عليه في البنية الخارجيّة، أو السطحيّة، سوى "ياء المتكلّم" ضميراً يضاف إليه، أو يقع تحت تأثير فعل.
... ولولا العرف الاجتماعي ما تمكّنّا من معرفة جنس المتكلّم، فـ"ياء" الضمير أصلاً، للمذكر والمؤنث، لكن العرف هو الذي يقضي بأنوثة "ياء" المتكلّم هنا، لكون المضاف حبيباً مذكّراً.
إذاً، الإضافة إلى "ياء" المتكلم في هذا النصّ، تشكّل ظاهرة أسلوبيّة تستحقّ الوقوف عندها بهدف تحليلها وملاحظة دلالاتها في مدوّنة مغلقة أطلق عليها مبدعُها اسم "أنثى".
ورد في المعجم الوسيط أنّ "الياء" مخرجها هواء الفم، أو الجوف إذا كانت مدّاً كما في "كريم". وإذا كانت غير مدٍّ، فمخرجها وسط اللسان وهي من الحروف الشجريّة لخروجها من الشّجر (وهو منفتَحٌ ما بين اللحيين) وهي من الحروف المجهورة الرخوة...
وحضور المتكلّم في النصّ عبر حرفٍ مجهورٍ رخو، فيه دلالة الاحتياج إلى الآخر لإتمام الدلالة. فالياء، كما رأينا، حرفٌ، وإن احتوى على مضمون، فهو محتاج إلى غيره لإنجاز المعنى، فالحرف لا معنى له منفرداً.
عددنا المواضع التي ظهر فيها المتكلم ضميراً بصورة الياء، فوجدناها ثلاثة عشر موضعاً، أربعة منها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به، وتسعةٌ تشكّل مع الاسم مركّباً إضافياً.
يلاحظ هنا أن المتكلّم لم يفعلْ، أي لم يتحرّكْ في تشكيل الصورة الشّعريّة، ما يجعل الحضور على المستوى الفنّيّ حضوراً خاضعاً للفعل، أو مضافاً إليه اسمٌ أُسند إليه فعل، أو تعلّق بفعل.
المستوى الفنّيّ هذا، مرآةٌ تتجلّى فيها الصورة الواقعيّة، فالمرأة شديدة الحضور في الحيّز الموضوعي، لكنّ حضورها مرهونٌ بوجود الرجل الفاعل ليقعَ فعله عليها، أو ليضاف إليها أو يضاف ما تعلّق بفعله من جارٍّ ومجرور.
إذاً، أنثى هذه القصيدة ليست بوحاً حقيقياً بهواجس الأنثى الطموح لأن تكون فاعلة، بل بوحٌ بهواجس الرجل حيال الأنثى، وفي المحصّلة، هي الأنثى بعين رجل!
***
يدشّن الشاعر قصيدته بكلمة "حبيبي"، وقد أسند إليها الفعل "أطفأ"، وما التقديم للمسند إليه سوى دلالةٍ على أهمية الفاعل في هذا المركّب الفعليّ، وإضافة المسند إليه إلى الياء، أخذ أهميته على المستوى الفنّيّ من تقدّمه على المسند، لنقف للياء على وظيفةٍ دلالية مفادها التعريف أوّلاً. فكلمة "حبيب" نكرة، وإضافة ياء المتكلّم إليها خلّصها من التنكير، وأعطاها معنىً محدوداً مفاده أنّ هذا الحبيب، هو حبيب ياء المتكلّم حصراً.
والوظيفة الثانية لهذه الإضافة مفادها أنّ الياء مضافاً إليها المسند إليه، لها علاقة بالمسند، ما يوحي بأن حركة الصورة "أطفأ" ما كانت من الحبيب إلاّ لأنها معنيّة بهذه الحركة. والإسناد مع الإضافة يوحيان بأنّ الحبيب وياء المتكلّم في مكانٍ واحد، تحت مصباحٍ واحد.
الموضع الثاني الذي تمظهرت فيه "الأنثى" هو في إضافة اسم مجرور بـ"على" إلى ياء المتكلّم، "على بدني". وموقع الياء هنا يواصل تأكيد ما ذهبنا إليه قبل أسطر، في أنّ موضع المرأة موضعُ تابعٍ أو خاضع، فحرف الجرّ "على" حرفٌ فوقيّ - استعلائيّ، تعلّق مع مجروره بفعل أسند إلى بعض أحوال الرجل - الحبيب، ما يعني أنها واقعةٌ تحت تأثير فعلٍ أُضيف فاعلُه إلى الحبيب، ناهيك بأن فعل "الانطفاء" هو فعلٌ سلبيّ لما ينطوي عليه من إخماد وإنهاء، ما يوحي بأنّ الأنثى خاضعةٌ بشكل كلّي.
وخضوع "بدن" بواسطة حرف الجر "على" لفعل "الانطفاء" له دلالة قهريّة، فالبدن: "ما سوى الرأس والأطراف من الجسم"، إذاً، هو الجسد ناقصاً، وعندما تأخذ مرارة الرجل - الحبيب هويّة الجمر فيسند إليها فعل "الانطفاء" لا يحتاج هذا الفعل إلى جسد الحبيبة كي يتمّ حدوثه، بل يكتفي من ذلك الجسد بالبدن، والبدن هذا فيه ما يشبع نهم الرجل جنسياً يضاف إلى ياء المتكلّم ليكتمل الخضوع، فالمتكلّم هو الرأس والأطراف والبدن، وبذلك خضوع تامٌ للفعل السلبيّ.
والموقع الثالث لـ"ياء" المتكلّم هو موقع إضافة "وَسَن" المجرور بـ"في" إليها، وقد جعل من الوسن وعاءً منفتحاً على حركة الفعل "أراق" المسند إلى ضمير هو في البنية الداخليّة للجملة كثيف الحضور، وما كان استتاره إلاّ لشدّة حضوره فاعلاً.
انطلق الفعل "أراق" من "عينَي الحبيب". والفعل "أراق" لا يتعدّى بواسطة الحرف إنّما يتعدّى بنفسه، لكن وقوعه على "من عينيه" يشدّنا باتجاه الداخل فـ"من" بقدر ما هي مبتدأ الغاية ونقطة الانطلاق للفعل، هي أيضاً حرف تبعيض. وعليه، نستطيع أن نرى مفعولاً به وقع عليه الفعل يأخذ معناه من التبعيض. وهو قبل أن يريق من عينيه كان أيقظ حزنه و"الحزن" لا بدّ من أن يكون له أثرٌ في العيون، هو الدمع. ونفهم من ذلك أنّه لشدّة بكائه تحوّلت عيناه ودموعه إلى شيء واحد، لذلك عندما تقول الجملة: "أراق من عينيه" كان لهذا التركيب دلالة معرفيّة جديدة، تعطي للعينين هويّة جديدة، إذ حوّلتهما الدموع إلى شيء يُراق، وهذا حيدٌ جميل يخرج بالأشياء عمّا هي عليه في الواقع إلى وضع جديد مدهش لأنه جاء من خارج حقل التوقّعات. وأن يريق الحبيب من عينيه في وسن الحبيبة، يعني، توسّنها أي أتاها وهي نائمة. وأن يضاف الوسن إلى الحبيبة يعني أنّها "وَسْنى"، أي فاترة الطَّرْف. والملاحظ أنها في جميع الأحوال لا تفعل.
للمرّة الأولى في هذا النص يقع على الأنثى فعل بشكل مباشر، "أيقظني" المفعول به هنا مشتملٌ عليها كلّها (البدن والرأس والأطراف والأحوال من وسنٍ وغير وسن)، إنّها تحت تأثير اليقظة التي انطلقت إليها من رجلٍ - حبيبٍ – حزينٍ. واليقظة هذه، هل ستنتقل بها إلى موقع الفاعل؟
نواصل تتبّعها فإذا بها مرّة أخرى تدخل في مركّب إضافي "حولي" ليصبح المكان خاصّاً بها، ما يوحي أنّ حقل الخضوع للفعل شمل ما هو خارج الجسد،كما كان قد شمل الجسد.
وتدخل من جديدٍ في حقل الخضوع للفعل بشكل مباشر "عانقني" ما يوحي بأن الحركة في هذه الصورة الشعرية أخذت تتزايد وتقترب أزمنتُها أكثر فأكثر. وتعود ليضاف إليها جزء من الرأس (أذن) واقع بواسطة حرف الجرّ (في) تحت تأثير الفعل "وشوشَ"، ويتصاعد تأثير الفعل عليها بعد الوشوشة والعناق والإيقاظ بخضوعها للفعل "يؤرجح"، والفعل هذا يقع عليها بكلّيّتها، لا على المكان المحيط وحده، ولا على عينيها فحسب، ولا على أذنها، بل على "ياء" المتكلّم بما تعنيه من أنثى مكتملة البنية، وكأني بهذا الفعل "يؤرجح" واقعاً عليها، أخرجهما على هويّتيهما الأصليتين، فدمعته الحزينة تحوّلت إلى شجرةٍ، وهي إخالها عصفورةً ترفّ من غصنٍ إلى غصن.
في هذه اللحظة بالذات أخذت القصيدة مستواها الفنّيّ من حضور الفعل أي الحركة. خضعت "ياء" المتكلّم لجميع الأفعال والأحوال التي أرادها، فكانت صورةً تعجّ بالحركة والألوان، حتى بلغ الخضوع بالأنثى مستوى التأثير وهي في ذروة التأرجح على أغصان دمعته، وهذه المرّة الأولى من أوّل النص تستطيع بواسطة الحرف الفوقيّ - الاستعلائيّ "على" أن تُغني الصورة الشعريّة، وأن تثبت بواسطة هذا الحرف أنها حيّة ولها أثر.
وبعد هذه الذروة، عادت "ياء" المتكلّم لتبعد عن الفعل، فتضاف إليها "نفس"، وهي هنا للدلالة على أنها مصابة، على الرغم من كون "نفس" المجرورة بـ"من" توحي بأنّها "منّي"، لكن مجيء النفس التي هي على قرابة مع الروح أي مع الحياة، كان "عرض حال" لما يشبه المأساة، فهي لم تبغِ، كانت نائمة، وهو توسّنها، وأظهر حزنه حتى أرجحها في أغصان عينيه - دمعته، وحين أصاب من نفسها ما يبغيه، أطلقها!
الفعل "أطلق" هنا فعل إيجابيّ على الرغم من الأسى الذي يتركه في النفس، فهو يتضمّن معنى الحرية، وخضوعها لهذا الفعل هنا، ربما يكون قد ترك في النفس ندوباً، غير أنه يؤكّد بأن كل الأفعال السابقة كانت قيوداً، وهنا حدث انتقالٌ في إيقاع الحركة التي كان يقوم بها الحبيب، فالفعل "أطلق" هو آخر فعل قام به، وقع على ياء المتكلّم، والفعل الذي يلي "أغفى" قام به الرجل - الحبيب ليقع على نفسه، أي هو فعل لازم رغم أن الألف تؤكّد عنجهيّة الرجل، فالألف للتعدية لتشير إلى حدوث الفعل منه عليه، ولم يقل "غفا" حتى لا يتوهم أنه تحت وطأة الفعل ولم يكن له إرادة بالنوم. ناهيك بأن ياء المتكلّم أضيف إليها مكان متحوّل أيضاً فهي لم يعد مضافاً إليها "حول" المكان الذي يحاصرها، بل أضيف إليها "جوار" المكان المتناسب مع الحرّية.
ثم تمتلئ المساحة الشعرية بالكلام على الزمان والانبعاث، لتكون ياء المتكلم في ما بعد مضافاً إليها "محبوب" و"بدن"، أي ليتكرّر خضوعها على مرّ الزمن.
***
أرادت هذه القصيدة أن تقدّم لنا المرأة كما يرى إليها الرجل، وقد نجحت فنّياً في إبراز الخضوع الكلّيّ. وقد تبيّن لنا بالتفكيك والتحليل أن الإضافة تؤدي دلالات أبعد من التعريف والتخصيص يمكن الوقوف على مزاياها المتعدّدة بتعدّد النصوص. وأهم مزية لها في نص صلاح عبد الصبور، "أنثى"، هي تغييب المتكلم عن البنية المنظورة، ليكون حزن النصّ متناسباً مع مراميه.
تحقّق في هذا النصّ أكثر من مرّة خروج على النسق الموضوعي، باتجاه نسقٍ فنّيّ هو العالم الشعري، أو المعرفة المنشودة بواسطة الشعر. وبذلك يكون نجاح القصيدة.
****
ارتبط شعراء الحداثة العربية بالآداب الغربية، كالفرنسية والإنكليزية والألمانية وغيرها، ارتباطاً كبيراً، إلا أنهم ظلوا متمسّكين في الوقت نفسه بتراثهم العربي، إذ عبّر كلّ منهم عن هذا الارتباط بالطريقة التي رآها، فمنهم من اتكأ على التراث ليُظهر تجربته الشخصية لما يرى من أوجه تشابه بينهما، ومنهم من استحضر الموروث ليعقد موازنةً بين تلك الشخصية أو الحادثة وبين واقعه الذي يعيشه، ومنهم من يستحضره كرمز يُلوِّن به تجربته العاطفية، وآخر كي يقرأ التاريخ من خلاله وهكذا. وصلاح عبد الصبور واحد من شعراء الحداثة الذين اعتمدوا على التراث بما فيه من أساطير وشخصيات ونصوص ليصوّر به واقعه الذي يعيشه، فقد أكثر من القراءة عن الأساطير مثلما قرأ الشعر العربي والغربي مهتدياً بمقولة ناقد عربي قديم "حين نصح شاعراً ناشئاً بأن يحفظ عشرة آلاف بيت مما كتبه العرب، ثم ينساها، فكأن النسيان لا يقل أهمية عن الحفظ، وهو لم يكن يعني بالنسيان هنا أن تُمسح عن قلبه، بل أن لا تخطر في باله حين ينظم شعره، والشاعر من هذا المستوى، يتجاوز التراث عادة فيضيف إليه جديداً ولا يأوي إلى ظلّه، بل يخرج إلى باحة التجربة الواسعة، ويحسّ إحساساً عميقاً بسيطرته على اللغة، بل على الشعر" (1).
هذه هي كلمات صلاح عبد الصبور التي تمثّلها، والتي يصوّر فيها أهمية الإطلاع على تجارب الآخرين والإفادة منها شرط الإضافة، ففي قصيدة "أبو تمّام" التي ألقاها في مهرجان أبي تمّام عام 1961، والتي يقول فيها:
"الصوت الصارخ في عموريّهْ
لم يذهب في البريّهْ
صوتُ "البغدادي" الثائر
شقّ الصحراء إليه... لبَّاه
حين دعت أخت عربيهْ
وامعتصماه
لكن الصوت الصارخ في طبريهْ
لبَّاه مؤتمران
لكن الصوت الصارخ في وهران
لبَّته الأحزان" (2).
يستخدم الشاعر الشخصيات التراثية الحقيقية (المعتصم، المرأة، أبو تمام) رمزاً يعبّر من خلاله عن واقع هذه الأمّة عبر إجراء مقارنة بين موقفين متناقضين: الأوّل، يمثّل ردّ فعل المعتصم الذي استنجدت به امراة عربية نادت "وامعتصماه" فلبّى نداءها. والموقف الثاني، يمثّل استغاثات المظلومين من العرب التي تذهب أدراج الريح. فهو يحتفظ بالملامح الحقيقية للشخصية التراثية "فلا يُسقط عليها الأبعاد المعاصرة لرؤيته كشاعر، وإنما ينشىء علاقات أخرى بين أبعاد رؤيته وملامح الشخصية التراثية الموظفة كعلاقات التقابل مثلاً بهدف توليد نوع من المفارقة التعبيرية بين الدلالة التراثية للشخصية وبين الأبعاد المعاصرة" (3).
فالدلالة الرمزية تتولّد "من خلال التفاعل الفني الخلاق بين الدلالة التراثية - الحقيقية - المشخصة، والدلالة المعاصرة - المجازية – لها" (4).
وهذا ما نجح فيه شاعرنا فعلاً، فلم تطغ الدلالة التراثية على المعاصرة، ولا المعاصرة على التراثية، بل أقام توازناً دقيقاً بينهما، كما قلنا، حاول فيه أنْ يصوّر الفارقَ الكبير بين الموقفين بلغة تشوبها السخرية تجاه المواقف العربية في زمن الشاعر، والتي لا تتعدّى عقد مؤتمر أو مؤتمرين.
وقد يستبدل عبد الصبور اللغة المباشرة باللغة الإيحائية الأكثر تعبيراً مستعيناً بالشخصية أو الأحداث التراثية وكيف ارتبطت في ذهن المتلقي، يقول:
"صديقتي، إني مريضٌ
وساعدي مكسور
ومهجتي على الفراش كل ساعة تسيل
وأغزل التراب في سكينتي رداء
وأصنعُ الأكفان ثم أنجُرُ التابوت
هذا الصباح...
أدرت وجهي للحياة واغتمضت كي أموت
في هدأة السكوت
(...)
وطرقتين فوق بابنا... موزّع البريد
لا لا أريد
هل من مزيد يا حياة، محنتي! هل من مزيد
خطابك الرقيق كالقميص بين مقلتَيْ يعقوب
أنفاس عيسى تصنع الحياة في التراب" (5).
فالنبيّان، يعقوب وعيسى، بما يحملانه من دلالات في ذهن القارىء، قد نقلا النص من المباشرة، حيث حديثه عن حاله قبل أنْ يصله ساعي البريد بخطاب المحبوبة الرقيق كيف كان: مريضاً، ساعده مكسور، يبكي، ينتظر الموت... إلخ، إلى الإيحاء. فأراد أن يقول إن خطاب محبوبته قد أعاد الحياة إليه مثلما أعاد قميصُ يوسف الحياة لأبيه، ومثلما كان عيسى يحيي الموتى بأنفاسه.
وقد يستعين الشاعر بالأساطير الموروثة للتعبير عمّا يشعر به من حزن وألم "مع الإيحاء بوقع اللحظة الحضارية الراهنة على لوحة الذات الشاعرة" (6)، فجاء السندباد بما يحمله من أخبار عن عالَمِ البحار ليعبّر عن الحياة الباطنة للإنسان العربي المعاصر وليكون القناع الذي يبوح من خلاله الشاعر بما يراه ويحسه في مجتمعه:
"في آخر المساء يَمْتَلي الوساد بالورق
كوجه فأر ميت طلاسمُ الخطوط
وينضح الجبين بالعرق
ويلتوي الدخان أخطبوط
في آخر المساء عاد السندباد
ليرسيَ السفينْ
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم" (7).
يصوّر لنا الشاعر مشهداً غاية في الروعة يستطيع القارىء البسيط أن يدركه، فالشاعر - السندباد في آخر الليل يبدأ بكتابة الذكريات السوداء التي خيّمت عليه في أول الليل نتيجة لإحساسه بالغربة والحزن والضياع وسط هذا الظلام المخيف:
"الليل يا صديقتي ينفضني بلا ضمير
ويطلق الظنونَ في فراشيَ الصغير
ويثقل الفؤاد بالسواد
ورحلة الضياع في بحر الحدود
فحين يقبل المساء يقفر الطريق" (8).
وهو يصوّر حاله حيث الأوراق المبعثرة التي ملأت الوساد، والعرق الذي يتصبب من جبينه، ودخان السيجار يلتوى في غرفته كالأخطبوط. وهو لا ينسى أبداً أن يعتمد على أسلوب الحوار في استحضاره للموروث، فالحكايات التي يرويها الشاعر - السندباد لأصحابه هي حكايات تقوم أساساً على الحوار بين السندباد، باعتباره رمزاً للشاعر، من جهة، وبين الندامى من جهة ثانية. يقول:
السندباد:
(لا تحكِ للرفيق عن مخاطر الطريق)
(إن قلت للصاحي انتشيت قال: كيف؟)
(السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت!)
الندامى:
هذا محال سندباد أن نجوب في البلاد
إنا هنا نضاجع النساء
ونغرس الكروم
ونعصر النبيذ للشتاء
ونقرأ (الكتاب) في الصباح والمساء
وحينما تعود نعدو نحو مجلس الندم
تحكي لنا حكاية الضياع في بحر العدم (9).
لقد نجح عبد الصبور في توظيف الموروث توظيفاً استخدم فيه اللغة البسيطة، كما سبق أن قلنا، إذ تخلو أغلب قصائده من المفردات والتراكيب المعقدة. يقول في قصيدة "الحزن" التي عاتبه بعض الأصدقاء والنقاد على ما فيها من ألفاظ مثل ترتيق النعل وغير ذلك (10):
"يا صاحبي، إني حزين
طلع الصباحُ، فما ابتسمت، ولم ينر وجهي الصباح
وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف
ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش
فشربت شاياً في الطريق
ورتقتُ نعلي
ولعبت بالنرد الموزّع بين كفِّي والصديق
قل ساعة أو ساعتين
قل عشرة أو عشرتين
وضحكت من أسطورة حمقاء رددها الصديق
ودموع شحاذ صفيق" (11).