"نقد"، إسمٌ طَموح لمشروع أدبي يأخذ شكل مجلة فصلية تتوسل ب"الكتابة الثانية" رغبةً في الإضاءة على التجارب الشعرية العربية المختلفة (العدد الأول مخصص لبول شاوول) وإعادة تناولها من منظار نقدي يعد بأن يكون حراً ومستقلاً. يأتي الإصدار ليكمل، وإن من على الضفة المقابلة، مشروع السلسلة الشعرية الذي أطلقته "دار النهضة العربية" أخيراً، ويشكل تالياً محاولة لترسيخ دعائم ثالوث "الكاتب –الناقد - القارئ" الذي لا يمكن أن يستوي أي بناء ثقافي إلا به. إلا أن المجلة التي يقف خلفها، فكرةً وتصوّراً وتصميماً، شاعران شابان، زينب عساف وماهر شرف الدين، تعكس ربما قبل كل شيء شعوراً حاداً لدى الشعراء أنفسهم بافتقاد ذلك النوع من القرّاء الذين يتناولون النص الشعري من داخله، فيعيدون إنتاجه مدموغاً برؤية تحليلية جدية ورصينة تتعدى الحكم القيمي الاوّلي، العاطفي في الغالب، الذي قد ترسو عليه أي قراءة عابرة.
وإذ نتحدث عن إسمٍ طَموح، فللإحالات الضمنية التي ينطوي عليها والتي لن تبقى كذلك طويلاً إذ ستعلنها افتتاحية رئيسا التحرير صراحة منذ السطور الأولى: "شتاء 1957، صدور العدد الأول من مجلة "شعر". شتاء 2007، صدور العدد الأول من مجلة "نقد". (...) لن يكون الاحتفاء بهذا المشروع الرائد مستحقاً بغير إتمامه، بغير إتمام الشعر بالنقد". لا بد هنا من إيراد ملاحظة: إن رفع سقف العمل إلى هذه الدرجة بحيث يسعى ليكون المعادل النقدي لتجربة "شعر" بغية "إتمامها"، مشروعٌ تماماً (مع التأكيد أن هذه التجربة الرائدة تحتاج اليوم في مرور نصف قرن عليها، إلى إعادة نظر تقويمية شاملة بدل الاستغراق في العيش على أمجاد إنجازاتها، وهذا موضوع لا مكان لتفصيله هنا)، إلا أن التعبير عن هذا الطموح بطريقة تعتمد المقابلة المباشرة بين التجربتين شأن لا يمتلك المسوّغات، لا التاريخية ولا الثقافية ولا الزمنية الكافية. كما انه سيمنح متلقّي المجلة بدورهم الحق في رفع سقف توقعاتهم وأحكامهم إلى المستوى نفسه على قاعدة "أنت مُطالَب بالقدر الذي تعد به".
من ناحية ثانية، وبعيداً من هذه المسألة، تستعيد الافتتاحية توازنها عندما تتقدم لتضع الإصبع على أحد جروح "المجتمع" الثقافي العربي الأكثر التهاباً، فتشير إلى النقد الذي "دخل في غيبوبة الاجتماعيات، فبات مجرّد قناة للعلاقات الشخصية، وضرباً من ضروب المجاملات الصحافية، أو تصفية الحسابات". ثم تتطرق إلى تخصيص العدد الأول للشاعر بول شاوول على أن تتناول الأعداد التالية تجارب أخرى لها مكانتها في المشهد الشعري العربي، أكانت تجارب راسخة أم جديدة، قديمة أم معاصرة (العدد الثاني مخصص لصلاح عبد الصبور). وتختتم الافتتاحية بنبرة فيها الكثير من الواقعية والإدراك والانفتاح تنجح في كسر حدة السطور الأولى: "ولأننا لا نعتبر هذا العدد أفضل نموذج يمكننا القيام به، نريد من القراء، شعراء وأدباء ومثقفين وطلاب جامعات، تزويدنا آراء ومقترحات ومساهمات. فإن هي إلا محاولة، أولى، ولا بد أن تأخذ نصيبها من الخطأ والصواب". مع ذلك، فإن ما يسمّيه رئيسا التحرير "ورقة عمل"، يبقى يفتقر في شكل خاص إلى منهجية أكثر وضوحاً ورؤية أكثر دقة، تقدّمان تفكيكاً أكثر علميّة لما تعنيه عبارة مثل "نتناول" تجربة هذا الشاعر، أي إشارة إلى زوايا هذه المقاربة وكيفيتها، لكن خصوصاً حدودها. بمعنى هل تسعى إلى أن تكون ممنهجة ومرجعية وشاملة من حيث تناولها تجربة كل شاعر، أم سوف تكتفي ببعض الإضاءات على بعض محطات هذه التجربة؟
إلا أن ما تغفله الافتتاحية، سوف يستنتجه القارئ لاحقاً من خلال مواد المجلة التي لا تحصر نفسها في أسلوب واحد للمقاربة، بل متنوع ومتعدد، تنوّع الأقلام النقدية وتعددها، واختلاف الخلفيات الثقافية والأكاديمية التي تتحدر منها. من هنا، سنلحظ أن مواد المجلة تراوح بين المقال النقدي ذي الطابع الصحافي، أو الدراسة الأكاديمية المتخصصة، وبين الإضاءة على موضوع معين أو تيمة محددة أو قصيدة أو مجموعة شعرية دون سواها وبين تلك التي تتناول تجربة الشاعر عموماً. يلي هذا الجزء الرئيسي "منتخبات" من تجربة الشاعر تسجل لأبرز محطات مساره، ثم "أخبار الشعر" وهي عبارة عن اضاءات نقدية وتعريفية سريعة تعرض لبعض المجموعات الشعرية الحديثة الصدور.
في العودة إلى الجزء النقدي، يضيء الباحث المغربي عبد الرحمن بن زيدان في "المنفى والجسد وبلاغة الرؤية السوريالية" على هاتين التيمتين في مجمل مسار بول شاوول المسرحي والشعري، قبل أن يعود ليركز اهتمامه على مجموعتي "نفاد الأحوال" و"كشهر طويل من العشق". أما الناقد اللبناني سعد كموني فيتناول تحت عنوان "الغرابة والتكرار والمعنى المفاجئ"، قصيدة "دورة الجسد" منطلقاً من التكرار ومن "عدم التلاؤم في المركّبات الاسنادية" ليقرأها من حيث عناصر المفاجأة فيها والعلاقات بين "العلامات التي يشكل النص نظاماً خاصاً لها". من ناحيته، يقارب المخرج والباحث العراقي فاضل سوداني في "الجسد والحضور الميتافيزيقي للشعر البصري"، نص "كشهر طويل من العشق" من خلال ثلاث نقاط هي: "بصريات اللغة" و"الزمن الشعري الإبداعي" و"الموت كقدرة تدميرية". ثم يقدم الناقد العراقي عيد السامري تحت عنوان "قصيدة الزمن الثاني" قراءة لقصيدة "بوصلة الدم" فيصفها بالمثخنة "كما يليق بلغة لا تكتب الحرب، بل تحياها". تحت عنوان "تكسير المعنى وتكسير اللغة"، تتناول الناقدة الجزائرية مليكة مبارك شعر شاوول من زاوية ما تسميه "الانكسار - المبتدأ والتكسير - الخبر". وينتهي القسم بدراسة معجمية تحليلية للشاعر والناقد اللبناني عقل العويط، تحمل عنوان "المحاور السبعة في بوصفها الدم". الدراسة جزء من أطروحة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها (جامعة القديس يوسف 1984) تتناول القصيدة المذكورة وصفها "قصيدة ضمير سياسي" وتجسيداً ل"مأساة الحرب والموت والانكسارات الخاصة والعامة"، فيعمل العويط على استنباط محاورها الأساسية وتفنيدها محوراً محوراً، استناداً إلى منهجية تعتمد الإحصاء "الذي يفسح المجال لتحديد دقيق للمعجم وعناصره المتنوعة".
إذا كانت هذه الدراسات والمقالات تضيء، كلٌّ بأسلوبها، على بعض محطات مسيرة بول شاوول الشعرية، وتنجح في تفاوت ملحوظ في إدراكها، فإنها تحض قارئها في الوقت نفسه على طرح أسئلة حول النقد في ذاته، أدوات ومدارس وتيارات. أسئلة من نوع "نقد النقد" تعيد النظر في المطروح اليوم على المساحة النقدية العربية ومدى قدرته على مواكبة التجارب الخلاقة المختلفة. أما مشروع "نقد" في ذاته، فرغم أهميته كفكرة حيوية ومقدامة، والحاجة الملحّة إليه في سياق فكري وسياسي واجتماعي كالذي نعيشه اليوم، فإن التراكم وحده هو القادر على قياس مدى نجاحه في تحقيق أهدافه. في هذا الوقت نتابع بعين إيجابية، تدعم وتشجع وتحاول التصويب إذا لزم الأمر.
sylvana.elkhoury@annahar.com.lb
النهار
9 فبراير 2007