أنسي الحاج شخصية العدد الخامس من "نقد"صدر العدد الخامس من مجلة "نقد" الفصلية، متناولاً تجربة الشاعر اللبناني أنسي الحاج، وقد افتتح الشاعر والناقد العراقي عبد القادر الجنابي قسم "الدراسات" بدراسته الموسومة بـ"عندما قال الشعر للجميع: لنْ"، قائلاً فيها: "يقوم شعر أنسي الحاج، خصوصاً في «لن»، «الرأس المقطوع»، وإلى حدّ ما في «ماضي الأيام الآتية»، على كسر البنية الكلاسيكية لمسار الجملة العربية وتركيبيّتها البلاغية، فاتحاً تنسيقاً جديداً للكلمات من حيث نظام تتابعها النحوي. وكأن اللغة هي التي تحدّد موضوع القصيدة، وليس الموضوع الخارجي هو من يحدّد لغة القصيدة، وبالتالي موضوعها. وتكشف معظم قصائد الكتابَيْن الأولَيْن عن تجاور كلمات توليديّ في نحو الجملة وتركيبها، تتخلّص فيه الكلمات من المعنى المُعطى لها قاموسياً، محدثةً انزياحاً جديداً في الحقل الدلالي المطلوب لفهم الجملة".

كما نقرأ أيضاً: "الثابت لا المتحوّل بين: لَنـ: ـين... الشاعر في معطفه النثريّ" للباحث والناقد السوري إبراهيم محمود، "تحوّلات الأنوثة في قصيدة «الرسولة...»" للناقد السوري هايل الطالب، "شعريّة اللذّة والتلصص إلى الداخل الجسديّ والمرآويّ" للناقد العراقي علي حسن الفوّاز، "الجذور الضائعة لابن السلالات المنبوذة" للشاعر والناقد السعودي أحمد الواصل، "المتخيّل الشعريّ: أنماط الكتابة وأشكال التركيب" للناقد المغربي عبد القادر الغزالي، "«لن» وتكسير بنية التوّقع" للناقد المغربي نور الدين محقق، وقد ختم هذا القسم الشاعر والناقد اللبناني عقل العويط بدراسة تحمل عنوان "المحاور الخمسة في قصيدة «الرسولة...»".

وفي باب "أنسي الحاج في عيون الشعراء الشباب" نقرأ المقالات الآتية: «أنسي الآن» لإبراهيم سعيد (عُمان)، «لا مؤثّرات؛ فقط أصداء» لمنتصر عبد الموجود (مصر)، «ما يبقى» لمحمد بركات (لبنان)، «نحو ما بعد حداثة شعرية عربية» لصفاء خلف (العراق)، «بصمة القرن الماضي» لحسين حبش (سوريا)، «شاعر الجنود الحالمين» لنسيم الداغستاني (العراق).
وضمّ قسم "منتخبات" مختارات من دواوين الحاج كلّها، إضافة إلى مختارات من "خواتمه" وكتاب "كلمات كلمات كلمات".
وضمن "سلسلة نقد"، المخصصة لنشر إنتاج الشعراء العرب الشباب، نُشرت المجموعة الثانية للشاعر المصري منتصر عبد الموجود، وتحمل عنوان "الحنين سلّة المفقودات"، ومن أجوائها نقرأ:

"وحده ظلّ صامداً
أمام رعونة العاصفة
الصمت المحيط بالمقابر.

لماذا عند عبور الجسر
أفكّر في أشياء كثيرة
عدا أنني أعبر جسراً.

عند الشروع في السفر
تبدو الأشياء وكأنها
تريد أن تقول شيئاً".

وجاء في افتتاحية العدد التي كتبها الشاعران زينب عساف وماهر شرف الدين: "إذا كان لا بدّ من تأريخ نقديّ لتبلور نظرية قصيدة النثر فلا بدّ من الوقوف إذاً أمام التعبير الشهير لرامبو: «كيمياء الكلمة». رحلة الشعر بين القصيدة الموزونة وقصيدة النثر، بين العروض والإيقاع، هي رحلة الشعر بين الرياضيات والكيمياء: من الحساب إلى التفاعل، من التعادل إلى التجانس، من معادلة الـ«يساوي» إلى معادلة الـ«يؤدّي». انطلاقاً من ركيزة كهذه، فقط، يمكن الدخول إلى تجربة قصيدة النثر العربية التي عانت أكثر من غيرها (وهذا طبيعي بسبب ثقل الإرث الشعري وثقل «الاحتكار» القرآنيّ) من عقدة «نقص» على مستويَيْن: الوزن والمرجع. وللأسف فقد لعبت نثرية النصّ القرآني، في هذا المجال، دوراً سالباً بسبب طابعها المقدّس، ناهيك بضياع (وطمس) معظم التراث النثري الجاهلي بعد ظهور الإسلام، في حملة تطهير أدبية لم يشهدها أدب أمّة من قبل. بهذا «المنطق» النقدي، على الأرجح، يمكن إنصاف تجربة أنسي الحاج (استخدم في تقديم «لن» تعبير «التراث الرسمي») ومساهمته في تخليص قصيدة النثر الوليدة من عقدتَيْ نقصها (الوزنيّ والمرجعيّ). لا تشعر، وأنت تقرأ قصائد هذا الشاعر، أن ثمة شبهة «استضافة» بين شعر ونثر. لم يستضف الشعر النثر، ولم يستضف النثر الشعر. كما استطاع الحاج تجاوز معضلة «المنطقة الوسطى» بين الشعر والنثر التي راوح فيها بعض أبناء جيله عندما شرعوا بكتابة قصيدة النثر؛ تجاوَزها إلى منطقة أرخبيلية اتسعت لتستغرق مساحة كبيرة من قصيدة النثر العربية كما وصلتنا اليوم. الحداثتان الشعريتان (التفعيلة وقصيدة النثر) شاءتا الإتيان بمقدّمتين: الأولى (مقدّمة «شظايا ورماد» لنازك الملائكة) بقيت تاريخياً في إطار المقدّمة، والثانية (مقدّمة «لن» لأنسي الحاج) تحوّلت، تاريخياً أيضاً، إلى بيان. لكن الفارق الذي أدّى إلى ذلك ليس تاريخياً فرضته «مصادفة» انعدام الفارق الزمني - تقريباً - بين الحداثتَيْن (حوالى عشر سنوات). ففي حين كانت مقدّمة الملائكة مقدّمة تقديم الأجوبة، كانت مقدّمة الحاج مقدّمة طرح الأسئلة. وفي هذا الفارق بين مقدّمة الأجوبة ومقدّمة الأسئلة يبرز الفارق بين حداثة وأخرى: بين حداثة استيعابية وحداثة استفزازية، بين حداثة تَطْمين وحداثة تَقْليق. هذه بالطبع ليست مفاضلة بين الحداثتَيْن، فالسيّاب مثلاً، في هذا المقياس، أقرب إلى أنسي الحاج من نازك الملائكة.
لقد لخّصت مقدّمة «لن»، والتي جاءت لضرورات تأسيسية، لحظتها فقط؛ لحظة الضرورة والمطالبة بالشرعية. وأفضل قراءة لتلك المقدّمة تكون من خلال وضعها في سياقها الزمني، في معنى استخراج العناصر الفنّية الخاصّة بتلك اللحظة، وتشكيل هويّتها (القصيدة الأولى في «لن» حملت مسمّى «هويّة»).
في قصيدة النثر العربية، إضافة إلى تجربة محمد الماغوط الكبرى والاستثنائية، والتي لم ينجُ من بصماتها سوى القلّة القليلة من الشعراء العرب، ثمة «خلخلتان» تأسيسيّتان:

أدونيس: خلخلة الوعي الشعري.
أنسي الحاج: خلخلة الذائقة الشعرية.

وربما لمّح أدونيس إلى مثل هذه «المحاصصة» عندما قال: «لم أكتب قصيدة النثر، بحصر الدلالة، وفقاً لمقاييسها، في النقد الفرنسي بخاصة، على الرغم من أنني كنت من أوائل الذين بشّروا بها (...) وكان أول من كتبها، في ظنّي، استناداً إلى تلك المقاييس، واقتداءً بأهمّ كتّابها رامبو، ميشو، آرتو، بريتون، هو أنسي الحاج» (موسيقى الحوت الأزرق، دار الآداب، 2002).

أدونيس المبشّر، وأنسي الفاتح؟
في هذا العدد الخامس من «نقد»، والذي تأخّر صدوره بسبب الانشغال بانطلاقة جريدة «الغاوون»، نتوقّف عند تجربة أساسية في قصيدة النثر العربية؛ تجربة اللغة المدرَّبة على القفز والمباغتة، تجربة «سَحْبة» العطف المدوِّخة و«سَحْبة» الجمل الاعتراضية و«سَحْبة» الثنائيات، تجربة محو الحدود بين ذكورة المعنى وأنوثة المبنى".

جدير بالذكر أن العدد المقبل من "نقد" سيتناول تجربة الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط.

لمراسلة المجلة: nakd@alghaoon.com