تخيلوا شمسا حارقة تنهب الأنهار والوديان والسواقي والآبار... وتدسها في غيوم نهمة لا تمطر إلاّ فوق البحار والرمال، وقد يحالفها الجحود فتمطر خارج الأرض.
تخيلوا جفافا عظيما يشبه ذلك الطوفان العظيم، ولا شيء يشبه تلك السفينة.
تخيلوا شركات عملاقة للتنقيب عن الماء ولو في عرض البحر.
تخيلوا أنفسكم أمام صنابير خرساء، كلما لجأتم إليها لاذت بصهاريج العطش الطافحة بالفحيح.
تخيلوا بيوتكم جافة تماما، وعيونكم يملأها القذى، وملابسكم لها تلك الرائحة، والمطبخَ.. ودورةَ المياه : أية مياه؟
تخيلوا رضيعا يَسْتَفُّ مسحوق الحليب.
تخيلوا جَدّا لم يجد جرعة ماء لحبة الدواء.
تخيلوا أصيص الزهر في شرفتكم يذوي.
تخيلوا كلبكم " الكانيش " بلسانه المندلق وعينيه الذابلتين من فرط العطش.
تخيلوا عاشقا ولهانا يهدي حبيبته زجاجة ماء بمناسبة " السان فالنتاين "
تخيلوا شابة مترفة تتباهى أمام صويحباتها : تحممت مرتين هذا العام.
تخيلوا الخرير وقد صار الرنة المفضلة لهواتفكم.
تخيلوا مسجدا بأسره يتيمم.
تخيلوا سيارة إطفاء تلهث عطشا أمام حريق مهول.
تخيلوا فتاة في مقتبل الحب بتجاعيد عجوز في أرذل العمر.
تخيلوا إخوة يقتسمون الإرث، فيعملون شريعة الله : للذكر زجاجتا ماء وللأنثى واحدة.
تخيلوا أنكم تشربون كوكاكولا مالحة لأن شركتها اعتمدت ماء البحر.
تخيلوا يوما ممطرا والناس في الشوارع يفتحون أفواههم كالعصافير العطشى.
تخيلوا الأشجار وقد أضربت عن الثمر.
تخيلوا قراصنة يعترضون سبيل الغيوم الشاردة ويجبرونها على ضخ سيولتها في حساباتهم الجارية.
تخيلوا عائلات تدعو بعضها إلى حفلات ماء، وكم سيبدو المرء سعيدا بهكذا دعوة.
تخيلوا مأتما حيث المعزون يتهامسون : كم ترك المرحوم من الماء؟
تخيلوا قاعات الماء التي ستنتشر على طول الشوارع المحترمة، وكيف ترتادها العائلات الثرية لاحتساء ماء بالألوان: سيكون الأطفال سعداء جدّا، ولربما أخذوا صورا تذكارية تخلد النعمة التي هم فيها.
تخيلوا دولا تشتري طائرات وبوارج وصواريخ لتدافع عن مائها : جنود كثيرون سيموتون في هذه الحروب، سيموتون عطاشى.
تخيلوا جدة تحكي لأحفادها عن ترف قديم يقال له المسبح.
تخيلوا راشيا يعطي رشوة من ماء.
تخيلوا صفقة عمولتها هي الماء.
تخيلوا عريسا يقدم صداقا من ماء.
تخيلوا حملات للتبرع بالماء.
تخيلوا وكالات أسفار تنظم رحلات إلى الماء.
تخيلوا المساعدات المائية التي ستجود بها الدول المرتوية على الدول العطشى.
تخيلوا الشلالات والبحيرات... وقد أضحت من أساطير الأولين.
تخيلوا بيت ماء المسلمين.
تخيلوا قناني الماء وقد وضعت في خزائن من فولاذ تفتح بأرقام سرية.
تخيلوا الماء وقد صار عملة صعبة ، صعبة للغاية.
لا تتخيلوا شيئا.
تخيلوا، فقط ، هذا الهزيع الأخير من ليل البشرية مضرجا بهكذا كوابيس زرقاء، ولا زقزقات في الشفق، ولا ورد في انتظار الندى، ولا ندى... بل لهاث وحشرجات ولهاث.