سألتُ غونتر غراس، قال: "أحب بلدكم الجميل لبنان، وأتمنى ان أزوره يوما ما لأنام تحت سمائه".
التقيتُه في فرانكفورت، وتحديدا في المعرض الدولي للكتاب الذي كنتُ أواكب نشاطاته، بعد البرنامج الذي أعدته له محطة "ارتي" الفرنسية - الألمانية. كان اللقاء عميقا، لكن على عجل، مع وعد بلقاء مطول قريبا عن مجمل أدبه وتجارب حياته ومواقفه من الإنسان والسياسة والحروب والموت والكتابة...
"زوروا الشرق"، قال غراس. هذا هو الموضوع الأساسي الذي يشغل حائز جائزة نوبل للآداب، على هامش معرض الكتاب. هي دعوة أراد ان يوجهها الى الناشرين والكتّاب الألمان من اجل تصحيح النظرة المشوهة عن الشرق، ومن اجل التعرف الحقيقي والموضوعي والجذري على واقع الأدب العربي المعاصر وعلى فكره المتنوع والخلاق وديناميكياته المتعددة.
رأيت الرجل يسبقني الى الأسئلة، أو يكاد، ويجيب عنها بتأكيد الحاجة الألمانية، والغربية عموما، الى تجذير عملية الترجمة، لأنه كلما التقت الثقافتان العربية والغربية وتبادلتا الأرواح والأفكار، نجم عن ذلك فضاء ثالث غني، هو حصيلة هذا التلاقح، على غرار ما حصل في اسبانيا خلال الوجود العربي فيها. إذ انشأ العرب جراء تفاعلهم مع الحياة الاسبانية وشعوبها واتنياتها حضارة "ثالثة"، لا هي عربية فقط، ولا اسبانية فحسب، بل مزيج ساحر من الاثنتين.
أراد غونتر غراس ان يقول لأهله الألمان ان "الحضارة والثقافة العربيتين تملكان كنوزا لا تقدّر بثمن جديرة بأن يكتشفها الغرب، ومن شأنها، من دون شك، ان تبدد ما يُحكى عن سوء تفاهم بين العالمين. كثيرا ما ترتبط صورة البلدان العربية بالإرهاب والعنف في هذه المرحلة من تاريخنا"، قال، "وكأن هاتين الآفتين غير موجودتين فوق أرضنا الغربية!".
"لقد تسنى لي ان اقرأ بعض الأدب العربي المترجم الى الألمانية، فاكتشفت كم نحن في حاجة الى المزيد: ليس لأنه أدب آخر فحسب، وإنما أيضا لأنه أدب على كثير من الخلق والتنوع والأهمية، ويعالج الموضوعات التي تشغلنا بعين اخرى كم نحن في حاجة الى ان نستضيفها".
أهلاً بالكافر
سخر غونتر غراس قليلا من أميركا، ورأى ان الصورة التي تعطيها عن العرب والمسلمين تعميمية، وضرب على سوء الفهم هذا، المقصود وغير المقصود، مثلا يحتفظ به في الجانب الحار والحميم من ذاكرته. فقد روى انه خلال زيارته اليمن السعيد، "استقبلتني إحدى المدن الصغيرة لا بالرقص والبخور فحسب، بل بأن صعد احدهم الى برج ملاصق لمئذنة المسجد ورحب بي باسم الله، أنا الكافر! ذلك هو التسامح الذي نحتاج إليه جميعا".
ولم ينسَ غراس ان يقول للعرب ان "هناك تشابهات ونقاط لقاء كثيرة بين الشرق والغرب، ومن المهم صونها وتنميتها. بل أكثر: من المهم البحث عن فرص ثقافية وفكرية مشتركة لجعلها أساسا لمستقبل أكثر إشراقا بين ضفتي العالم. ولكم أحب ان أكون احد الجسور بين هاتين الضفتين".
لم يشأ غونتر غراس ان يتحدث فقط عن السياسة، بل ختم لقاءنا السريع بالوصية الآتية: "الأدب هو الأمل المطلق. هو الواقع الحقيقي لأنه الواقع المحلوم به، أما الباقي فاضغاث أوهام".
إصدارات
ماذا بعد في فرانكفورت؟ يوماً بعد يوم كانت ألمانيا تكتشف روح الثقافة العربية. شيء ما يشبه السحر الأدبي جعل بلاد غوته بصحافتها وتلفزيوناتها ودور نشرها ومثقفيها تنحني على هذه الثقافة "المرذولة" لترفع النقاب عن وجهها، وربما لتقدم نوعا من الاعتذار المتأخر عن التغييب الفادح فيها لأبرز المكونات الخلاقة في الأدب العربي شعراً ورواية". من مربض المعرض الدولي الأكبر للكتاب، كما من الأمكنة الأخرى، هجمت وسائل الإعلام على كتاب العالم العربي لسؤالهم عن الأسرار والكنوز في بلاد ألف ليلة وليلة.
الكتب العربية الصادرة للتو بالألمانية تنبئ بالخبر اليقين: صفحات وبرامج مخصصة بأكملها لتغطية هذا الحضور الذي راح فجره يبزغ ويحتل سماء اللغد الجرمانية: "مختارات من الشعر العربي الحديث"، "مختارات من القصة العربية الحديثة"، كتب لفؤاد التكرلي وناديا تويني وفؤاد كنعان وايتل عدنان والياس خوري ومحمود درويش وفؤاد رفقة وعبد الرحمن منيف وابره يم نصرالله وسحر خليفة وربيع جابر، فضلاً عن انطولوجيا للشعر الحديث... أسماء وأعمال وغيرها كثير تشق طريقها نحو عين القارئ الألماني.
ثمة علامة فارقة وأساسية في المعرض لفتتني وتجلت في المقر المخصص لـ"العملاء الأدبيين" وهو مفهوم نفتقر إليه - ونفتقده - في عالمنا العربي. ففي هذا المقر بالذات تنعقد العلاقات المتينة على مستوى التعرف الأدبي الى الآخر. هنا توقًّع العقود والاتفاقات بين هؤلاء العملاء ودور النشر العالمية المختلفة. هنا تباع حقوق الترجمة، وهنا فقط تصان حقوق الكاتب المادية والمعنوية، وتنفتح أمامه الطريق الى العالم. وهذه مأساة اخرى يعيشها الكاتب العربي الذي لا يجد - الا في أحيان نادرة - السبيل الموضوعي الى العالمية المستحقة.
ألفريده يلينيك
أما على صعيد جائزة نوبل للآداب التي كان ينتظر نتائجها على أحر من الجمر عدد من الطامحين العرب، وتنفست غالبيتهم الصعداء لأنها جاءت من نصيب النمسوية الفريده جلينك، أي بعيدا عن منافساتهم وعداواتهم المحتدمة، فقد أتيحت لي فرصة التعرف الى دلف شميث، الناشر الذي تحتضن داره الألمانية كتب النمسوية الفائزة للتو بجائزة نوبل للآداب. وقد اسرّ لي شميث انه يعرف الفريده يلينيك منذ عام 1977، تاريخ دخوله الى دار "روفولت" البارزة في ألمانيا، كانت يلينيك قد نشرت حتى ذلك الحين ثلاثة كتب، فبقيا يعملان معاً حتى عام 2000 في تلك الدار، الى ان غادرها شميث نتيجة خلاف حول سياساتها النشرية التي شرعت تتجه نحو "البست سيلّر" وتبتعد عن الأعمال الأدبية الجدية. الفريدة يلينيك لم تشأ التخلي عن ناشرها، فتبعته الى الدار الجديدة التي انتقل إليها، وهي دار "برلين فيرلاغ".
يلينيك، العضو في الحزب الشيوعي والملتزمة سياسياً والمناضلة في سبيل حقوق المرأة وضد الطبقية الاجتماعية، تعشق اللعب بالكليشيهات وتستخدم أدوات اللغة استخداماً طليعياً يحتل مقدمة رواياتها القائمة غالباً على خلفية سياسية أو بسيكولوجية. وقد اتجهت خلال الأعوام الأخيرة نحو كتابة المسرحيات، التي تعرض في أهم المسارح على غرار الـ"بورغ تياتر" في فيينا. هذا الصباح، اتصلت يلينيك بدلف شميث لتطلعه على نيتها عدم الذهاب الى اسوج لتسلم الجائزة. "هل من موقف ما وراء هذا القرار؟"، سألته؟ "لا، أبدا، لكن عليك ان تعرفي ان يلينيك امرأة لا تحب الأضواء وتتفادى الظهورات العلنية".
نالت يلينيك هذه السنة أيضا جائزة كافكا التي ستتسلمها في براغ في الشهر المقبل، على نحو متزامن مع عرض مسرحيتها "السدّ" التي تتناول فيها حياة العمال الأجانب في النمسا وبعض مراحل النازية فيها، مما يشكل "تابو" نظراً الى رفض بلادها الاعتراف بتعاونها مع ألمانيا في تلك الفترة.
يلينيك هي أيضا "باتاي"-امرأة، وقد حاز كتابها "الشهوة" شهرة واسعة تكاد تجاور شهرة كتابها "عازفة البيانو" الذي تحول فيلماً والذي انتشلته من حياتها الخاصة وعلاقتها المعقدة بأمها. لكنها، على ما أكد لي دلف شميث، تتمتع بحس الفكاهة وتحب المزاح على غرار معظم النمساويين، رغم ظروف حياتها الصعبة، وهي التي نشأت في بلاد "ثقافة المقاهي". "كتابها "أولاد الموتى" كان سوف يصدر بعد عامين بالفرنسية عن دار "سوي"، لكنه سوف يصدر على الأرجح بعد شهرين نظراً الى نيلها الجائزة"، ختم شميث بابتسامة ساخرة سوداء.
جولة بين الدور
في ختام الحدث نسأل: ماذا استطاع معرض فرانكفورت أن يقدم للكاتب والناشر العربيين من مفاتيح ينبغي استخدامها لتأسيس علاقة سليمة ومتوازنة تتيح للكاتب ان يحتفظ بكرامته، وتتيح لكتابه أوسع درجات الانتشار التي يستحق؟
طوال الأيام السابقة، أفسح أمامي التجوال في أجنحة المعرض، ومساءلة الناشرين، أن أتعرّف عن كثب الى الدور الذي تضطلع به دور النشر في علاقتها بالكاتب ومؤلفه، والى الطريقة التي يصل فيها الكتاب الى الجمهور الواسع.
الكاتب هنا مقدّس، ليس في المعنى الأخلاقي، ولكن من حيث أهمية كونه كاتباً.دوره أن يكتب. أن يكتب فحسب. أن يستجمع رؤاه وتجاربه ويجعلها في قصيدة أو رواية. ليس في هذا الكلام أيّ طوباوية، إذ ثمة دائماً ما يكسر القاعدة وما يؤكد العكس، ولكن ذلك ما نقله اليّ مسؤولون عديدون في كبرى دور النشر الألمانية، التي حاولتُ ان أستقصي من خلالها المشاريع الراهنة والمقبلة على صعيد ترجمات الأدب العربي الى الألمانية.
لقد خرجتُ من تلك الجولة بانطباعات مؤلمة من جهة، ومثيرة للاهتمام والتقدير من ثانية. أما المؤلمة، فلأن الجولة مكّنتني من استشعار المهانة التي يعيشها في معظم الأحيان الكاتب في العالم العربي، متروكاً الى أقداره أو الى الظروف التي قد توفّر له سبل الاستعطاء لنشر ديوان، وبنسبة أقل لنشر رواية.
أمام دار "سوركامب" التي طبعت كتباً لإيتل عدنان ورشيد بو جدرة وأمين معلوف ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني والياس خوري، وأيضاً للنفزاوي والمعري وابن العربي، وهي تُعتبر بلا منازع كبرى دور النشر الألمانية وأكثرها مهابة وتألقاً، وجدتني أمام مفهوم للنشر يختلف الى حد بعيد عن معظم مفاهيمنا في العالم العربي. إلا أن هذه الدار، التي أصدرت لتوّها في ما أصدرت أحدث كتب بيتر هندكه في عنوان "دون جوان"، تقيم توازناً من نوع آخر مع الكتّاب الذين تنشر لهم، وهو توازن مدروس تماماً على مستوى حجم الكتب التي تترجمها من العالمين العربي واليهودي.
زيارة لدار "لينوس فيرلاغ"، وحديث مع هايدي سومرير، المسؤولة فيها عن قسم الترجمات من العربية، وتشكل نسبة 20 في المئة من نشاط الدار، "لينوس فيرلاغ" تترجم للكتّاب العرب منذ عام 1983، عندما افتتحت سلسلتها مع غسان كنفاني ثم قدمت للقارئ الألماني أسماء عربية بارزة على غرار محمود درويش وحنا مينه وحسن داود وحنان الشيخ وابرهيم الكوني واميلي نصرالله والطيب صالح وادوار الخراط وغيرهم كثر. وقد أطلعتني السيدة سومرير على أسماء جديدة انضمت الى لائحة المترجمين المقبلين، بسبب انتهاز الدار فرصة تسليط الأضواء على العالم العربي وحضور عدد كبير من دور النشر العربية في فرانكفورت، لعقد صفقات جديدة وضخ اللائحة بأسماء لا تقل وهجاً عن الأولى، ومنها ابراهيم أصلان في "عصافير النيل" والحبيب السالمي في "عشاق بية".
إلاّ أن المسؤولة التي تجيد العربية والواسعة الاطلاع على ثقافتنا، اشتكت من افتقار عدد كبير من دور النشر العربية الى عناصر التعامل المهني المحترف في عالم النشر، مثل الكاتالوغات والكتيّبات وسواها من سبل إقامة "اتصال أول" بين أي طرفين متعاقدين.
لاحظتُ أن دار "روفولت" الضخمة، التي تقضم زاويتها قطعة كبيرة من مساحة المعرض، لا تستضيف أسماء عربية، باستثناء بعض الكتب القديمة للطاهر بن جلون، ومثلها دار "برلين فيرلاغ" مسقط منشورات الفائزة بجائزة نوبل الفريده يلينيك. لاحظت أيضا الامتعاض الذي بدا على وجه المضيفين في دار "فاغنباخ" عندما سألتهم عن ترجمات مؤسستهم من العربية، وهو امتعاض سرعان ما وعيت أسبابه عندما ألقيت نظرة على كاتالوغ الدار فلفحتني رياحها اليهودية الشديدة البرودة.
أما مونيكا موللر من دار "اونيونز فيرلاغ"، فاستقبلتني من جهتها بحفاوة وودّ زاد حرارتهما شريط الأسماء العربية التي استضافتها دارها على مر 25 عاماً، من أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وآسيا جبار وإدريس شريبي وسحر خليفة ومليكة مقدم وآخرين. "كم افادكم المعرض على مستوى توطيد علاقات جديدة؟" سألتها، فأكدت انه شكّل فرصة استثنائية للتعرّف الى كتّاب عرب جدد مثيرين للاهتمام، كما لدعم الجهود التي تبذلها بعض الدور الألمانية المنحنية في شكل جدي على الأدب العربي والساعية الى تشريع أبوابه أمام القارئ الألماني خصوصاً، والغربي عموماً.
وبعد، زيارة لدرا "بيك" التي تحفر عميقاً في ارض المنشورات الاستشراقية، ودار "هارا سوفيتز" المتخصصة في كتب تعليم اللغة العربية، وغيرها من الأسماء الكبيرة والصغيرة التي لم تغتنم المهرجان لوضع كتّابنا في الواجهة، علماً ان تلك التي فعلت لم توفّر سبيلاً على مستوى الترويج لهؤلاء، من تواقيع وجولات وإعلانات وظهورات تلفزيونية وحوارات صحافية تُشعر الكاتب بأهميته وتزيد من حرقة أولئك الكتّاب الذين في العالم العربي يعانون سوء توزيع مؤلفاتهم وضعف السياسات الترويجية لها من جانب دور النشر.
لن نحفظ الهنات
لم تجد نفعاً وجود الخيمة التي نصبها عند مدخل المعرض في فرانكفورت بعض الجمعيات اليهودية المتطرفة احتجاجا على تكريم العالم العربي، فالكلمة كانت في فرانكفورت للفكر وللانفتاح الحضاري والثقافي. رغم ذلك، ظهرت بعض البصمات الاستعراضية المرفوضة على صفحات الحضور العربي، وآلمنا ان المستمعين الغربيين كانوا قلة عموما مقارنة بالجمهور العربي، و أن "تظبيط" الأمسيات والقراءات انطوى على فخاخ واضحة اخرى، فخُصصت للبعض أمسيات شعرية أو قراءات سردية افرادية، دون غيرهم من المشهود لهم أو من المستحقين. آلمنا أيضا أن الحضور الشكلاني للمشاركة المصرية في المعرض كان هو الطاغي. قد يكون السبب ان جامعة الدول العربية التي "تحتفي" بضيوفها... عادت تكون مصرية.
إلا أننا لن نحفظ من حدث فرانكفورت هناته وعثراته وفجواته. سيكون عندنا فقط شعور مزدوج بالألم والنقص، مشفوع بالتحدي والأمل في كسر الواقع المهين الذي غالباً ما يعيشه الكاتب في العالم العربي. فقط أمنية كبرى: ان لا ينتهي هذا المعرض ودلالاته هنا، بل ان يكون بشارة أمل لدخول الأدب العربي الى الغرب من البوابة التي يستحق.
"هل كان من الضروري ان تحدث تلك المواجهة المؤسفة بين الغرب والشرق الإسلامي حتى ننتبه لأهمية مواصلة العلاقة بيننا؟ هل كان يجب ان يشعر الغرب بأن الشرق يهدد أمنه حتى يسعى لإعادة اكتشاف حضارته الإسلامية وثقافته العربية؟": سؤالان طرحهما الأديب نجيب محفوظ في كلمته الافتتاحية وهما جديران بأن نحملهما معنا من فرانكفورت الى عواصمنا العربية، وبألاّ نكفّ عن التأمل فيهما عند هذا المنعطف الحاسم من تاريخنا الإنساني عموماً، والعربي خصوصاً.
joumana333@hotmail.com
www.joumanahaddad.com