
| "أكتبُ على الأوراق، على الدفاتر، على كفّي، على فوطة المطعم، أكتب بالقلم الرصاص أو بالحبر أو على الكومبيوتر، ولو أعيتني الوسائل يوماً فلن أتوانى عن نحت أفكاري على ألواح من حجر " أمبرتو إيكو |
نيويورك...
بعدما عرفنا الكتاب الألبوم والكتاب الالكتروني والكتاب الـ"بلوغ" وسواها من وسائل النشر البديل التي حملها إلينا عصر التكنولوجيا المتطوّرة وتطرّفاته "الضرورية"، ها أن فكرة جديدة وغريبة تطالعنا من بلاد الصرعات، الولايات المتحدة، حيث عمدت الكاتبة الأميركية الشابة شيلي جاكسون أخيرا إلى ابتداع أسلوب حديث، عنيفٍ وإيكولوجيٍّ (إذ لا يعوزه الورق) ومقاومٍ لجميع أشكال "الاهتراء" المادي تقريبا، بغية ضمان صمود أعمالها الأدبية أمام امتحان الزمن: إنه الكتاب-الجسد أو الكتاب-التاتو.
ماذا يعني الكتاب-التاتو؟ هو منتج لا سابق له، يقوم على تحويل أجساد القرّاء كتاباً. جاكسون تحتفظ بمخطوطة قصّتها القصيرة، المؤلفة من 2095 كلمة، في ظروفٍ من السرية التامة، وينبغي لكل قارئ مهتم بالاطلاع على هذه المخطوطة أن يشم على جزءٍ - يقرره هو - من جسده، كلمةً من كلمات القصّة - تقرّرها الكاتبة وحدها. عندما يحصل القارئ على كلمته، ثم على وشمه، يستطيع آنذاك أن ينال النص من جاكسون وأن يقرأه. أما لو امتعض القارئ المحتمل من الكلمة المخصصة له (كأن يرفض مثلا وشم كلمة "أحمق" أو "سافل" أو "بَوْل" على جسمه، وهي من الكلمات التي تتضمنها المخطوطة)، فانه يفقد للتو حقه في الانتماء إلى هذه البدعة الأدبية العجائبية.
عنوان القصّة هو "جِلد" skin، وجاكسون كانت أولى حبّات العنقود اذ وشمت العنوان على رسغها، كما يبدو في الصورة، في الثامن من أيلول 2004 عند الساعة السابعة مساء في نيويورك، مثلما تشرح لنا في دقّة بالغة، وبلغ عدد الموشومين حتى هذه الساعة 1780 شخصا، أي أن الباقي 315 مشاركا قبل أن تكتمل الحلقة. أما عدد مقدّمي الطلبات فتجاوز الخمسة عشر ألفا، من الولايات المتحدة وخارجها على السواء. وعندما التقيتُ أحد المشاركين السعيدي الحظ في هذه الصرعة أكّد لي أنه راض عن كلمته (وهي فعل "سمع" تتبعه فاصلة ، hear) المطبوعة على أعلى ذراعه الأيمن، إلا أن زوجته أنّبته على قيامه بهذه الخطوة الطائشة التي ستلازمه مدى الحياة. وقال نيكولاس فيث إنه لم ينضم إلى المشروع توقا منه إلى قراءة القصة بقدر ما أغوته الفكرة الفريدة في نوعها، وأراد أن يكون جزءا منها مهما كلّف الأمر.
وتنوي جاكسون متابعة مشروعها الذي تصفه بالعمل الفني "الفاني"، بقصص لاحقة أكثر طولا. ونالت فكرتها تغطية إعلامية واسعة، منها مقالات في منابر بارزة مثل "نيوزويك" و"نيويورك پوست" و"يلاج ويس" ومجلة "پيپبل"، فضلا عن تناولها كظاهرة خارج الأراضي الأميركية أيضا، في بلدان مثل بريطانيا وكندا وألمانيا وايطاليا والأرجنتين وهولندا واسوج وبولندا (والآن في لبنان!). وكانت الدعوة إلى المشاركة صدرت بداية في "كابينيت ماغازين" حيث أعلنت شيلي جاكسون أن نص القصة لن ينشر في أي طريقة أخرى إلا هذه الطريقة، وأنها لن تسمح باختصاره ولا بالاقتباس منه ولا بتلحينه ولا بتحويله فيلما أو برنامجا تلفزيونيا أو مسرحية. وحدهم المشاركون هم الذين سوف يطلعون على النص، كما سوف يمنحون فرصة الاتصال أحدهم بالآخر إذا شاؤوا، وان لم يكن ذلك ضروريا. وأوضحت الكاتبة في رسالتها - النداء أنه في حال عدم تلقيها العدد الكافي من الطلبات، سوف تصبح النسخة الناقصة من القصة هي القصة النهائية. ودعت المشاركين المحتملين إلى الكتابة إليها بواسطة "الإيميل" وشرح سبب اهتمامهم بالفكرة. وهي تطلب من كل مشارك توقيع عقد يحرّرها فيه من أي مسؤولية في حال بروز مشكلات جسدية أو عاطفية أو عملية في حياته بسبب التاتو. وتشير إلى المشاركين في مشروعها بـ"الكلمات"، وتؤكد أن موت الكلمة هو العامل الوحيد الذي سيؤدي إلى اختفائها من النص: هكذا، عند وفاة المشارك الأخير، سوف تموت القصة.
شيلي جاكسون، المولودة عام 1963 في الفيليبين والتي نشأت في يوغوسلافيا ثم في بيركلي في كاليفورنيا، وتعيش اليوم في نيويورك، هي صاحبة سوابق في مجالي النشر التقليدي والبديل على السواء، إذ أصدرت كتابا إلكترونيا في شكل سي دي قائم على مفهوم الـ"هايبرتكست" حاز شهرة وانتشارا واسعين عام 1995، وعنوانه "الفتاة المرقّعة - شقيقة فرانكنستين الصغرى"، أعادت فيه كتابة أسطورة وحش ماري شيلي على هواها، ومجموعة قصصية في كتاب "عادي" مطبوع صادر لدى دار "أنكور" عام 2002 تحت عنوان "مالينخوليا التشريح" (غمزا من قناة كتاب روبرت بورتن المشهور "تشريح المالنخوليا")، كما أنجزت أعمالا للأطفال منها "المرأة العجوز والموجة" (1998) و"صوفيا، كلبة الخيميائي" (2001)أرفقتهما برسوم تزيينية تحمل توقيع ريشتها أيضا.
جاكسون "تلميذة في فنّ الانتهاك، ومتخصصة في كل شيء"، على ما تصف نفسها، وحائزة شهادة في الفنون من جامعة ستانفورد وأخرى في الكتابة الإبداعية من براون.نُشرت نصوصها في عدد كبير من المجلات والنشرات الأدبية الأميركية، وفيها مجلة "باريس ريفيو" المهيبة. وأثبتت جاكسون، خاصة في عمليها الرئيسيين "الفتاة المرقّعة" و"مالينخوليا التشريح" أنها كاتبة موهوبة تجيد اللعب مع اللغة كما تجيد فن التفصيل من دون الوقوع في الرتابة والإسفاف. فكرتها لا تمشي في خط مستقيم، بل تتجول وتتفرع في متاهات لا تحصى ثم تتخلى عن مساراتها الأولى لتخترع سواها. وهي مسكونة بموضوع الجسد منذ بداية كتاباتها، ولاسيما هاجس إعادة تركيبه وتحويله خياليا وسورياليا في شكل مربك وطريف ومفاجئ وغرائبي ومؤثر على السواء، مع إظهارها الكثير من الطاقة الفانتازية المطبوعة بالنفس الكافكاوي. الجسد عندها نصٌّ، والنصّ جسد، وبرهنت على مرّ أعمالها عن خصوصية في محو الحدود بين الروح والجسد، بين الجسد والكلمة، بين الكلمة والإنسان.
تخيّلوا لو قرر ميغيل دي ثرفانتس في زمانه أن يعتمد وسيلة النشر البديلة هذه لرائعته "دونكيشوت"، ترى كم من الموشومين كان ليستلزم تنفيذ مشروع مماثل؟ والأدهى، كم كانت خسارتنا لتكون فادحة لو مات هذا الكتاب، وسواه من التحف الأدبية، مع موت قرّائه - "كلماته"؟
عن "النهار"
Joumana333@hotmail.com
www.joumanahaddad.com