أزمة: كلمة تتردّد على كل شفة ولسان في زمننا الراهن، وتطال أوجهاً عديدة من ميادين الخلق: الموسيقى، المسرح، السينما، الهندسة المعمارية، الخ... ولكنها تتركّز في شكل خاص حول وضع الكتاب والفنون التشكيلية. في أواخر القرن التاسع عشر، ميّز الناقد الفرنسي ألبر تيبوديه بين الكاتب و"الكتبجي"، وبين القارئ والقَرّاء، فكان يردّد مثلا أن القارئ الحقيقي ليس محض قَرّاء، بل شخص يسائل النصّ ويصبح في بعض الحالات شريكا في كتابته. أمّا الرسّام الاسباني سلفادور دالي، الذي يستعدّ العالم للاحتفال بالذكرى المئوية لولادته في السنة المقبلة، والذي بدأت المعارض المتمحورة حول أعماله تغزو المدن الأوروبية منذ اليوم، فقد أعلن من جهته: "يا أيها الرسّام، إذا كنتَ تريد ان تضمن لنفسك موقعا بارزا في المجتمع الفني، عليك منذ شبابك أن تعاجله بركلة قويّة في ساقه اليمنى، شرط أن تكون ركلتك صادقة لا مفتعلة". فهل تكون الأزمة التي يُحكى عنها اليوم في مجال الأدب والفن ناجمة عن هيمنة جنس "الكتبجيين" والقَرّائين وراكلي الفنّ المنافقين؟ هل صحيح أن عصر "الماس ميديا" والاستعراض قد خلع الكتاب عن عرشه؟ وهل صحيح أيضا وأيضا أنّ الأعمال الفنّية الصادمة ذات الإغراء المصطنع والشعبية الفورية المضمونة، أصبحت أكثر رسوخا من الأعمال الجدّية؟ عددٌ كبير من الأصدقاء الأوروبيين الذين التقيتهم أثناء تجوالي، كتّاباً وفنانين ومثقفين، شككوا في مدى دقّة هذه التوكيدات وحذّروا من تفريغ كلمة "أزمة" من معناها الحقيقي وجعلها محض ذريعة "لائقة سياسيا" تلائم كل الأحاديث والفصول
"تعاني الأعمال الفنيّة وحشة لامتناهية،
وليس أسوأ من النقد لمقاربتها.
وحده الحبّ قادر على فهمها والحفاظ عليها وإنصافها".
راينر ماريا ريلكه
أوروبا...
خرجت ايلينا، ابنة الأحد عشر ربيعا، من الصالة المعتمة راكضةً، وعلى وجهها الطفولي ابتسامة خفرة ومرتبكة. سألتها أمّها، صديقتي الناقدة الفنية الايطالية كارلا سوبريزي التي عوّدت الفتاة على مرافقتها الى المعارض منذ صغرها، وعلى التعبير عن رأيها في ما تراه: "هل أعجبكِ التجهيز؟ ماذا رأيتِ في الداخل؟". لم تجب ايلينا واكتفت بالتحديق فينا قبل أن تغرق في نوبة من الضحك مخبّئة وجهها بيديها. كنا نزور معا معرضا للفنان الأسوجي الشهير لارس نيلسون تحت عنوان "انتهت اللعبة" في قصر طوكيو في باريس، وهو المتحف المتخصص في الفن المعاصر والتجريبي. وكان برفقتنا أيضا زوج كارلا، الرسام الايطالي جان فرانكو باروكيللو، الذي يمضي وقته في التنقّل بين العاصمتين الفرنسية والايطالية. في تلك الأثناء، خرج ثنائي أمامنا من الغرفة المظلمة نفسها، وسمعنا الرجل يقول للمرأة التي ترافقه: "إنه لأمر مرعب حقا أن تُطلَق صفة الفن على سخافات مماثلة!". فما كان من الرسّام إلا أن سارع الى دخول الجناح المذكور، وتبعناه طبعا بدورنا وقد أثار فضولنا، لكي نكتشف أنّ العمل عبارة عن شاشة فيديو كبيرة تصوّر لنا مشهد امرأة عارية تماما تمارس العادة السرية في أحضان الطبيعة وتتأوه بين ظلال غابة كثيفة. لم نضحك مثل ايلينا، نحن الراشدين "المروَّضين"، ولا احمرّت خدودنا، لكنّ ارتباكنا، أقله ارتباكي، ربما بصفتي الأقل تعرّضا بينهم لهذا الوجه من الفنّ الأوروبي واحتكاكا مباشرا به، لم يكن يقلّ عن ارتباك الطفلة أمام المشهد الذي أجّج، رغم غرابته أو ربما بسببها، رغبتي الشغوفة أصلاً في فهم ما تتلقاه عيناي واستيعابه وتفسيره "فنّيا".
غابات
كان ذلك المعرض الفردي الاول لنيلسون في مؤسسة فرنسية، ويستكشف فيه الفنان، في نوع من السيرة الذاتية، عالمه الباروكي والسوريالي والميثولوجي القائم على موضوعات الجنس والعنف والسويداء والاستيهامات والتباسات الهوية وثنائية الرجل والمرأة. وإذ تابعنا تطوافنا في أرجاء المكان، سألتُ الناقدة البارعة عن رأيها في ما عاينّاه للتو، وعمّا إذا كانت ترى فيه شكلا من أشكال الإفلاس الفنّي والمجانية والاعتباطية في الخلق، توافقاً مع الحكم الذي أطلقه ذلك الزائر المجهول أمامنا، فأجابت: "إنّها بكل بساطة طريقة أخرى في النظر الى الأمور. ثمة فرع من الفنّ يتجه في الوقت الحاضر على نحو متزايد الى منح نقاط انطلاق للناس، لدفعهم الى التأمّل في أحوال العالم والحياة المعاصرة، بدلا من فرض رؤى محددة عنها. عمل نيلسون هذا دعوة الى الرجوع الى الطبيعة، لا الى الطبيعة الخارجية فحسب بل كذلك الى طبيعة الانسان الداخلية وغرائزه وفطريته". اعترضتُ:
- ولكن أليس هذا نوعاً من "التبرير" المفتعل الذي يمكن ان ينطبق على أعمال لا تملك مسوّغا فنّيا حقيقيا؟ أليس إسم نيلسون بالذات وخلفيته هما اللذين حملاكِ على إيجاد هذا المخرج النقدي لعمله؟
ربما، ولكن تلك مسألة أخرى مرتبطة بالعلاقة التي يبنيها الفنان على مر الوقت مع جمهوره ونقّاده، وبأسلوب عمل الناقد والمؤثرات التي لا مفر من أن يخضع لها، وإن بدرجات متفاوتة، وهي كلما قلّت، ازدادت براعته وصواب حكمه. أما نقطة التأمل هذه التي أحدّثكِ عنها، فرهان أساسي من رهانات الخلق الفني الراهن ومفتاح لفهمه، وهي تثير إشكاليات على أصعدة مختلفة ولكنها في رأيي متكاملة، أي متداخلة فنّيا وجماليا وفكريا وفلسفيا وحضاريا وتاريخيا واجتماعيا وسياسيا. وواقع أن يكون هذا النوع من الفنّ صادما أو مرفوضا أو سطحيا أو غير مفهوم في رأي البعض، لا يمنحنا الحق في تجريده من صفته الفنّية...
الجديد بأيّ ثمن
ثم أعطتني كارلا، كمثالين على كلامها، معرض "أقدار متقاطعة" للمصوّر الإيراني رضا على أسوار حديقة لوكسمبورغ حيث يعرض وجوهاً ذات تعابير إنسانية صاعقة من الصين وكمبوديا وأفغانستان وأثيوبيا والجمهوريات السوفياتية السابقة، بالإضافة الى معرض GNS وهو بمثابة "إعادة اختراع" للطوبوغرافيا ولخريطة العالم وجغرافيته. ويقدّم ذلك المعرض فعلا حافزا على التأمّل في كوكب الأرض وفي العوامل الجغرافية المختلفة التي تصنع البلدان وتحدّدها وتقولب مصيرها الى حدّ بعيد، وذلك من خلال أعمال ثلاثة وعشرين فنانا عالميا لجأوا الى استكشاف العالم بأساليب متنوّعة تراوح بين الرسوم البيانية والأعمال
التوثيقية، ومن الرسم الى التجهيز. لكني ذكّرت صديقتي من جهة أخرى بخيبتنا المشتركة إثر زيارتنا السابقة لمتحف مجاور، هو متحف الفن الحديث في مدينة باريس، حيث لم يكن معرض الفنان الليتواني يوناس ميكاس على قدر توقعاتنا، باستثناء الجزء الذي يحمل عنوان "حياتي الليلية". وميكاس، المقيم في الولايات المتحدة منذ عام 1949، أحد ابرز شخصيات سينما الأندرغراوند الأميركية وأعنف منتقدي شكلها الهوليوودي، ويقدم في معرضه الباريسي هذا مزيجا من الشرائط المصوّرة القائمة على غياب أي تدخّل إخراجي، وغيرها من الأعمال على غرار تسجيلات صوتية وكتابات، إلا أنها لا تملك ثقلا حقيقيا مقارنةً بأعماله السابقة في رأي سوبريزي، والأسوأ منها زاوية يوكو أونو، زوجة فنان البيتلز الراحل جون لينون التي كانت تعرض في المتحف نفسه، وتحت عنوان "غرفة النساء"، تجهيزات متنافرة ومفكّكة.
تدخّل الرسّام باروكيللو بدوره، معقّبا على كلامي ومذكّرا زوجته بالأزمة "الوجودية" العنيفة التي عاشها أخيرا إزاء حياته وفنّه، وبإعادة النظر المؤلمة التي قام بها عندما لمس أن لوحاته، أي حقيقته الإبداعية، لا تشهد الإقبال والاستحسان والشهرة نفسها التي تشهدها أعمال أخرى "خفيفة" يقوم بها لأسباب غير فنية بل محض معيشية، على غرار بعض التجهيزات والشرائط المصوّرة ذات الطابع التجاري مثلا. وقال لي بحسرة واضحة: "تكمن المشكلة في رأيي في انّ جلّ ما يستحوذ اهتمام الفنانين الجدد هو مفهوم التجاوز، في حين أنهم كانوا ليكونوا أفضل حالا لو عملوا على تعميق تجارب أسلافهم الروّاد ومنحها رؤيتهم الخاصة والمزيدة، لكي يحدث التطوّر بإيقاع طبيعي وسليم لا صاروخي ومشتّت. يجب التمييز بين النجاح بالمعنى العمودي، أي الراسخ الذاهب الى الأعماق، وذلك بالاتجاه الأفقي، المرادف للانتشار، الذي ليس بالضرورة مرادفا للجودة والموهبة بل قد يكون لعبة محض تسويقية. كل تجربة جديدة تظل في منتصف الطريق بدلا من ان تُطوَّر وتُستثمر لأن الجدد يريدون اختراع الجديد بأي ثمن، وهاجس الجديد والمختلف هذا يؤدي أحيانا الى انتاج فظاعات. فضلا عن ان الناس يعجزون أحيانا، وسط هذه الفوضى الغامرة، عن تمييز الصالح من الطالح والأصيل من الاستفزازي الصرف".
الكاتب منتصراً وملعوناً
كنّا، آل باروكيللو وأنا، قد قمنا أيضا لأيام خلت بجولة في معارض روما قبل أن نؤم متاحف العاصمة الفرنسية، ولم يكن بعض ما رأيته هناك أخف وطأة مما شاهدته هنا، على غرار أمسية الأداء الشعري المزعومة التي رافقنا إليها الشاعر والروائي ناني بالستريني، والتي لم نجد بدّا، رحمة بأعصابنا وآذاننا، من مغادرتها قبل الوقت المحدّد، أو ذلك المعرض "الحيّ" (Live) لأحد الفنّانين اليابانيين، الذي كان عبارة عن أشخاص عراة يتمشون ببطء في أنحاء الصالة وتغطّي
أعضاءهم التناسلية لمبات كهربائية تضاء وتطفأ بلا انقطاع: أمسية ومعرض لم ألتق فيهما شخصيا لا بالشعر ولا بالفنّ، رغم جودة بصري وسمعي وحسن نيّتي الأكيد وكل الجهود التي بذلتها ل"توسيع" آفاقي. اللهم إذا كان توسيع الآفاق، لا تشويهها، هو المطلوب لفهم ظواهر مماثلة.
إلا أن بعض وجوه زيارتي الايطالية كانت فعلا مثيرة للإهتمام، على غرار معرض "الكاتب" في بيت الآداب في روما. وبيت الآداب مؤسسة ترعى التجارب الفنية والأدبية الايطالية الجديدة، وتشكّل فسحة لقاء مميّزة للكتّاب والفنانين والنزعات المختلفة، ومركز تفاعل للفنون ومختبرا للكتابة الجديدة، وهي تستضيف مبادرات ثقافية متنوعة في شكل دائم، على غرار معارض رسّامين ونحّاتين ومصوّرين، وتساهم في إلقاء الضوء على حياة أدباء بارزين وعلى أعمالهم، فضلا عن تنظيمها المؤتمرات والمحاضرات والأمسيات الموسيقية والشعرية والمسرحية. أما في ما يتعلّق بالمعرض الذي ذكرته آنفا، فهو تجهيز للفنان جان كارلو نيري (المولود في نابولي عام 1955)، والمؤلّف من طاولة وكرسي خشبيين بأحجام عظيمة (الكرسي يعلو عشرة أمتار عن الأرض والطاولة سبعة أمتار ونصف متر بعرض 11 مترا). ويمثّل تجهيز "الكاتب" تأملا في الطبيعة الصامتة والمنعزلة لعملية الكتابة، محتفيا بانتصار الخيال على عامل الانزواء عن العالم الخارجي. بذلك تصبح الطاولة والكرسي بأحجامهما المضخّمة وطريقة عرضهما الغريبة رمزين لوضع الكاتب: أي أداتا "انتصاره" و"لعنته" على حد سواء. وقد ترافق تدشين التجهيز، الذي سينتقل قريبا الى لندن، ومنها ربما الى عواصم أوروبية أخرى، مع تقديم كتابٍ يضم قصصا غير منشورة لثلاثة كتّاب ايطاليين وثلاثة بريطانيين.
جدير بالذكر أيضا مشروع "نساء مهاجرات" الذي ينظّمه بيت المرأة العالمي في روما والذي يشتمل على شهادات ومحاضرات وقراءات وأمسيات شعرية حول موضوع الهجرة والمكان، ومعرض فرانشيسكا بوناني الدائر حول تيمات اللعب والخيال والحلم وفسحات الظل والالتباس بينها. أما الفنان بيار لويجي ماتيوتزي فيقدّم رسوما جميلة ل22 طوطما، وهي رمز الانتماء القبلي المرتبط بالسحر والتطيّر وممارسات الشعوب البدائية. ناهيك بمعرض "رحلة الى عصر الهلوسة" الذي يحلّل من خلال مجموعة من اللوحات، ظاهرة الهلوسة في فنّ الستينات وكيفية تشابك عالمها الحُلميّ والرؤيوي مع تيارات أخرى كالرمزية والدادائية والسوريالية.
انسوا الكتاب والعبوا الفوتبول
إنها في اختصار، ورغم بعض المظاهر المشوَّهة -أكاد أقول المضحكة- فورةٌ فنية جليّة بكل ما في الكلمة من معنى، في باريس كما في روما وطبعا في غيرها من العواصم الأوروبية، وأذكر منها تلك المدينة التي زرتُ فيها معرضا جميلا لرسوم الكتب والليتوغرافات التي نفذّها دالي ويفوق عددها المئة، وأبرزها "الكوميديا الإلهية" و"أليس في بلاد العجائب" ودون كيشوت وفاوست وماكبث وقصائد ابولينير وماو تسي تونغ وغيرها من المآثر الأدبية، والتي لفتني أنّ معظمها معروض للبيع. في المدينة نفسها أيضا كانت لي محطّة لافتة مع الموسيقى الغجرية بفضل حفل رائع في الهواء الطلق لاوركسترا بوبان ماركوفيتش الصربية، وما تلك إلا مناسبة واحدة وسط سيل من الحفلات والمهرجانات المتواصلة، إذا ما استثنينا فرنسا التي شلّت الإضرابات معظم مهرجاناتها. لا يملك الزائر إذا، أمام هذه "الحمّى الفنية الزاحفة"، إلا ان يتساءل عن مدى دقّة كلمة "أزمة" التي تتناقلها الألسن على محطات التلفزيون والإذاعات وأيضا في الأحاديث الخاصة بين الناس، وهي كلمة لا تستهدف مجال الفنون التشكيلية فحسب، بل تشمل أيضا وخصوصا ميدان الأدب. اذ يردد كثيرون اليوم أن الكتاب، الذي لا يخاطب الانفعالات فحسب بل يتطلب الصمت والتركيز، يشهد تقهقرا نهائيا وحاسما أمام منتجات المرئي والمسموع. كلام ليس بالجديد طبعا، لكننا بتنا نسمعه بازدياد، رغم أرطال الكتب والمنشورات الجديدة التي تصدر مع كل موسم، والتي يكفي المرء، لكي يكوّن فكرة عن عددها الهائل، أن يتصفّح جداول دور النشر الأبرز في أوروبا.
هاكم أحد الأمثلة المعبّرة عن هذا التناقض: أثناء وجودي في روما، تناهى إليّ انّ روائيا ذا شعبية كبيرة (وعلى ما يبدو مبالغ فيها) هو أليساندرو باريكو، كتب مقالا منذ بضعة أسابيع على صفحات "الريبوبليكا" يدعو فيه الشباب الى الامتناع عن القراءة والانصراف الكلي الى لعبة كرة القدم. وهي على الأرجح طريقته في الاستفزاز بغية الدفاع عن جنس القرّاء الآيل الى الانقراض بحسب قوله، وفي تصوير الحال السيئة التي يعانيها الكتاب في الوقت الحاضر. أما الغريب في الأمر، فهو أنني كنتُ قد تسلّمتُ قبل ذلك بوقت قصير، من دارَي موندادوري ولونغانيزي للنشر، كاتالوغات اصداراتهما الجديدة للموسم المقبل، وكانت المجلّدات أثقل من ان استطيع حملها بيد واحدة! فهل يمكن ان يكون ثمة أزمة قراءة حقيقية في بلد ما، بينما تعيش دور النشر من جهتها حال ازدهار ورخاء؟ أوليس الإقبال على الكتاب ونشاط النشر عنصرين متناسبين حكما، أم تراها الكتب تطبع لتتلف؟ طرحتُ هذا السؤال بالذات على الشاعر والروائي الايطالي ناني بالستريني فهزّ برأسه وقال: "عندما يعلن كاتب مثل باريكو أنّ النصيحة الوحيدة التي في وسعه تقديمها للشباب هي بأن ينقطعوا عن القراءة وينصرفوا الى الفوتبول، في بلدٍ قائم تحديدا وفي شكل شبه حصري على الهجس بهذه اللعبة، لا أعجب. لكن العجيب هو هذا الحديث المتواصل عن أزمة، في حين ان الكتاب في صحة جيّدة نوعا وكمّا على حد سواء. ثمة طبعا تفاهات كثيرة، لكن هناك أيضا كتّاب ايطاليون جيّدون، فضلا عن ان دور النشر الايطالية تمارس حركة ترجمة نشيطة ومكثّفة، هي ربما الأكثر اجتهادا في أوروبا، لما هو جدير بالقراءة من أدب البلدان الأخرى. الأزمة في هذا المعنى هي تاليا كلمة فارغة لا تدلّ على واقع ملموس، ويستخدمها كثر عندما لا يعرفون ماذا يقولون. طبعا لست أزعم أننا في وضع مثالي، وكم كنت أودّ لو كانت أحوالنا الأدبية أفضل، فحين ألمس مدى الفساد الاستهلاكي والجشع المادي الذي نعيشه في الوقت الراهن، أتمنى أحيانا لو يُلقى القبض مرّة على سارق كتب بدلا من سارق مصرف مثلا...".
أهلا وسهلا
حدّثني ناني، الذي كان عائدا لتوّه من مدينة أنكونا، عن حضوره هناك مبارزة شعرية تُعرف بالPoetry slam وتشهد انتشارا كبيرا في ايطاليا وألمانيا اليوم، حيث يتبارى الشعراء أمام جمع من الناس بأدائهم قصائدهم (نوع من الإلقاء المُمَسرح بدرجات متفاوتة، بدءا من القراءة والتلاعب بالصوت والنغمات، وصولا الى إدخال الموسيقى أو الرقص) ليفوز، بعد سلسلة من التصفيات، الشاعر الذي قدّم أجمل أداء بحسب لجنة الحكم والجمهور. كنتُ قد حضرت إحدى هذه المبارزات بدوري منذ سنتين عندما دعيتُ للمشاركة في مهرجان Romapoesia الشعري، وأذكر كم لفتني آنذاك تأثيرها القويّ على الموجودين في زمنٍ لا يستقطب الشعر جماهيريا اهتماما كبيرا، لكني شككت في الوقت نفسه في مدى صحة ارتكاز حكم اللجنة على طريقة الإلقاء بدلا من مستوى النص الشعري الذي لا سبيل الى تقويمه بدقّة بهذه السرعة. حدّثني ناني أيضا عن مهرجان Discanti الذي كان سيبدأ في أواخر تموز ويقوم على عروض تتميّز بالتفاعل بين الأغنية والسرد المسرحي، وعن الشاعر والروائي الكبير اداوردو سانغوينيتي الذي يهمّ بنشر روايته الجديدة "الساعة الفلكيّة"، وعن غيرها الكثير من الأحداث الراهنة أدبيا وفنّيا، قبل ان يختم: "هل تستنتجين من كلامي هذا وجود أزمة؟".
أما الشاعر والرسّام والمؤلف الموسيقي الفرنسي برنار أسكال الذي التقيته تحت السماء الباريسية، فقد حدّثني من جهته عن عرضه الشعري-المسرحي الجديد المستند الى أعمال الشاعر المارتينيكي ايميه سيزير، وعن الانطولوجيا التي أصدرها أخيرا حول اثني عشر شاعرا فرنكوفونيا: "لا أرى ان الأزمة هي الكلمة المناسبة لوصف حال الأدب عندنا. يحكون عن أزمة الكتاب في حين تصدر الكتب بالأطنان! ثقي بأن دور النشر، بعيدا عن أي مثاليات، هي مؤسسات تجارية في الدرجة الاولى ولا تهوى خسارة المال، ولو لم تكن السوق تستوعب هذا الكمّ من الكتب لما كانت الدور تؤمّنه أصلا. ولكن ليست الأزمة في أي حال كلمة سيئة. ثمة كلمات أسوأ بكثير، على غرار النظام مثلا، نقيضها. إذا كانت الأزمة عكس الثبات واليقين والأوضاع "العادية" فأهلا وسهلا بها".
في أي حال، لا يمكن المتنقّل بين روما وباريس إلا ان يلاحظ فرقا فاضحا الى حدّ ما: تشعر في العاصمة الفرنسية ان كل من حولك يقرأ، في الشوارع، في المقاهي، على "الشواطئ" الرملية المخترَعة التي تقيمها بلدية المدينة صيفا على ضفاف نهر السين وداخل المدينة لتعزية اولئك العاجزين عن الذهاب في عطلة. أما في روما فالقراءة في الأماكن العامة مشهد نادر. الباريسيون يطالعون حتى في الميترو، أي خلال الدقائق القليلة التي يتطلبها الانتقال من محطة الى أخرى، ناهيك بالملصقات الشعرية التي تزيّن حافلاتهم من الداخل وتعرّفنا أو تذكّرنا بأبيات هذا الشاعر أو ذاك، والتي لا يمكن الزائر لدى رؤيتها أن لا يتحسّر متذكّرا عبارات "يخزي العين" و"لا تسرع يا بابا فالموت أسرع" وغيرها من التحف التي يقرأها على عربات شبكة النقليات في بلده. فكّرتُ في سرّي: إذا كان هؤلاء، المعرّضون للشعر والفن أينما كانوا، حتى في الميترو تحت الأرض، يتحدثون عن أزمة، فماذا نقول نحن إذا؟
تعليقا على هذه الملاحظة، كان لجان فرنسوا مييه، الذي يدير جمعية adcep لإنماء الخلق الفني والأدبي، بعض الانتقادات لمآل الحياة الأدبية في بلاده: "ليس من الخطأ الحديث عن شكل من أشكال الأزمة التي تطال الكتاب. لقد تحوّلت مثلا معارض الكتب خلال الأعوام الأخيرة مجموعة من المناسبات واللقاءات الاجتماعية السطحية القائمة على النفوذ والعلاقات العامة، وكم نودّ لو نرى فيها عددا أقل من قمصان الحرير وقدرا أكبر من الفضول والاهتمام بالجوهر".
الرواية في أزمة. الشعر في أزمة. الكلمة المطبوعة في أزمة... قد تبدو القراءة للبعض عملية سلبية، انسحابا من العالم، نوعا من العدول والاعتكاف في صمت الكلمة، لكنها ليست كذلك. ففي هذا الصمت بالذات تقدّم الكلمة المكتوبة نبعا لا ينضب من المعاني والصور والأصوات. ومثلها العمل الفني الذي يعبّر في صمته عن قلق الانسان وقدرته الخلاقة في آن واحد. ويحلو لنا ان نفكّر أنّ الاثنين يتحسسان طريقهما وأحلامهما، أبعد من الصور المربكة والأعمال الفارغة والكلمات المجّانية، نحو عصر جديد ليس إذعانا ولا فشلا ولا أزمة خصوصا، بل تحدّ وبدايات. في هذا المعنى، نحن أيضا نشتهي لأنفسنا ولبلادنا "أزمة" جميلة، أزمة حقيقية، انفجارات تهزّ حياتنا الأدبية والفنية، تمزّق "قمصان الحرير" عندنا وما أكثرها، تنتشلنا من خدرنا وركودنا، وتنقذنا من هذه الطمأنينة التي لا تُحتمل.
ملحق النهار- الأحد 17 آب 2003