"الثقافة هي القوة الإنسانية التي تكتشف متطلّبات التغيير
والتحديث، وتدفع العالم إلى إدراكها واستجابتها".
جاكومو ليوباردي
لكي نستطيع اختراق حصون شعر ما بعد الحداثة، من الضروري أن نرجع قليلا في الزمن، إلى نهاية الخمسينات. فإذا قمنا بجولة في الأربعين عاما الأخيرة من تاريخ الشعر الحديث، سيبدو جليا كم أن معايير تحديد ذلك الشعر لم تكف عن الانقلاب والتـناطح والتناقض في ما بينها منذ أمعنت ثورة منتصف القرن في تحرير التعبير - الحرّ أصلا - مطلقةً العنان للمخيلات الأكثر تطرّفا وهذيانا. في الواقع، شهدت كل الآداب والفنون في أوروبا، بعد أعوام على انتهاء الحرب العالمية الثانية، مرحلة تأمل وتفكير ومراجعة جذرية جدا، كان عنوانها العريض أنه لم يعد ممكنا الاستمرار في اعتماد طرق التعبير نفسها: أي بات من الضروري العودة إلى نقطة الصفر والبدء من جديد: جديدٌ أعلن طلاقا فادحا ومطلقا مع تقاليد الشعر الحديث التي كانت سائدة يومذاك، بسبب تصميمه العنيد على استيعاب الواقع التكنولوجي والصناعي وتخصيبه واستيلاده. فانصبّ اهتمام الشعراء في شكل رئيسي على جدال يحمل إلى كيان الشعر ومفهومه مجموعة من العلوم والنزعات والأدوات والظواهر كانت غريبة عنه، تحت تأثير الفنون التصويرية والبوب آرت خصوصا، وعاشت الحداثة مرحلة من الاغتيالات والإنبعاثات المتعاقبة، أدّت، في ما أدت، إلى استنزافها وإنهاكها مع حلول الثمانينات. فبعد تلك المرحلة المحمومة، - وبسببها- بات من الصعب أن يتمكّن القارئ "العادي" من أن يحدّد ما هو شعر وما ليس شعرا، نتيجة سيادة قيم وأشكال وتجسّدات متناقضة فيه، تتعايش في حال من الغموض والالتباس - بالمعنى الاشتقاقي - ومن التماثل الفوضوي في ما بينها. لهذا السبب، أصبح يُخيَّل للبعض أن تمييز الشعر غدا مستحيلا، لا بل أخطر من ذلك، ذهب آخرون إلى حد التوهّم بأن أي شيء يمكن أن يحمل صفة الشعر، أي أن "يصير" شعرا.
على نحو متواز مع هذه الالتباسات وعمليات الإلغاء والارتكاس والانقلاب الدورية داخل الحركات الطليعية في أوروبا، أو ربما بسببها، عانت هذه خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين حالا من الجمود والركود رغم مشهدها المتنوّع الذي يصعب تحديده أو تأطيره: مشهد غلب عليه غياب الأيديولوجيات والتيارات والاتجاهات السائدة، وميل واضح إما إلى تكرار ما تم تحقيقه خلال الخمسينات والستينات من جانب الحركات النيوطليعية، وإما إلى استفزاز مجاني لا يهدف إلى التغيير بقدر ما يهدف إلى إشباع أهواء وتصوّرات نرجسية خاصة ومنغلقة على ذاتها. هذا إلى أن احتل "جديدٌ" خطير المساحة الشعرية وقلب مقاييسها، بعدما عرّج على الميادين الأخرى: وما هذا الجديد إلا الاختراق التكنولوجي المفرط للشعر عموما، ولأشكال انتشاره خصوصا. إذ تراجعت مادية النص وفيزيائيته إلى مدى بعيد مع اجتياح تقنيات الكومبيوتر وفلسفة الانترنت الفضاء الكتابي والنشري، وسجل الحضور "الرقمي" للشعر ارتفاعا كبيرا انعكس، رغم تسهيله سبل الإطلاع والتوزيع، سلبا على الشعر لأنه اكسبه بعدا تخييليا. في مواجهة هذا البعد الاستيهامي، وبغية إنقاذ الشعر من فضاء الانترنت الفوضوي اللامحسوس وذي اليوتوبيا المفترسة، بدأت تتفاقم في التسعينات ظواهر "تجسيد" الشعر ومنحه أشكال حضور بديلة وإخراجه إلى فضاء مناقض تماما، أكثر تطرفا واجتياحا من فضاء الورقة والكلمة المكتوبة، ألا وهو الفضاء "العام". في هذا الفضاء العام، باتت كل التجارب والمفاهيم الشعرية ممكنة وقابلة للتحقق، وامتزج الشعر مع الأنواع كافة، بدءا من القريبة منه على غرار الفنون التشكيلية أو التخطيطية والموسيقى، وصولا إلى تزاوجات متطرفة وغريبة أحيانا، على غرار الشعر والطبخ مثلا!
بسبب عمليات الدمج والخلط والتهجين والتطعيم هذه، وبسبب طبيعة الفضاء العام، الخارجي، الذي قرر الشعر غزوه كردّ فعل على تراجع مبيعات الكتب من جهة، والتهام الفضاء السيبرنتيكي لحضوره المادي من ثانية، بدأت القصيدة تشهد نجاحا ملحوظا على مستوى الاستهلاك الجماهيري، وإن كان هذا النجاح عاقبة ارتباط الكلمة بميادين أخرى متفاوتة الشعبية والمستوى. تمرّد الشعر فجأة على انسحابه وانعزاليته وبرزت لديه الحاجة إلى جذب جمهور أكبر، جمهور لطالما كان العنصر الطيفي بامتياز في العالم الشعري، ولطالما كانت العلاقة معه جدلية ونخبوية و"مغلقة". وقد تحقّقت عمليات الجذب من خلال ظواهر عدة سوف نستعرضها تباعا، أهمها من دون شك العودة القوية إلى الشعر الشفهي، عبر قراءات علنية ينجح بعضها اليوم في استقطاب الألوف في إطار تلاقح سلس بين الشعر والمسرح والموسيقى والثقافة الشعبية.
هنا، يجب أن نشير إلى أن جمهور الشعر أصبح على الصعيد العالمي مفاجئا للغاية: يكفي أن نعرف أن الشعراء الشباب في اليابان هم نجوم بكل ما في الكلمة من معنى، وأن ثمة سوقاً ناشطة جدا للشعر المعاصر. إذا دخلتم إحدى المكتبات اليابانية، ستجدون أن الكتب المعروضة في مقدمة الرفوف والمواقع الأمامية هي دواوين الشعر، التي تبيع على الأقل بقدر الروايات أو الدراسات، وغالبا أكثر. أما سبب هذين النجاح والإقبال، فيتمثل في العروض performances التي يقدّمها هؤلاء الشعراء في شكل دوري والتي تجذب جمهور الشباب وتدعم شهرة الكتّاب ومبيعات دواوينهم. كذلك في ألمانيا وفرنسا وبولونيا - التي تشهد اليوم موضة "التظاهرات" الشعرية -، هناك اهتمام كبير بالشعر المعاصر وبسبل إحيائه و"هزّه"، كما أن هناك برنامجا في إحدى المحطات البريطانية يطل عبره الشعراء بالبث الحي، ويقدمون عروضا قائمة على مسرحة قصائدهم من خلال طريقة أدائها وإلقائها، وهو برنامج يسجّل نسبة حضور عالية جدا، في حين أن البرامج التي تستضيف الكتّاب وتحاورهم تقليديا في موضوع كتاباتهم وإصداراتهم تكاد تنقرض، إذ لا تتابعها سوى أقلية ضئيلة فقط. إزاء هذا الواقع يقول البعض: "تلك هي الأقلية - النخبة الجديرة بأن نكتب من اجلها"، إلا أن أركان المعسكر الأول يجيبون: "لن يقول الشعر شيئا ولن يخاطب أحدا ما دام متغطرسا، يزدري الجمهور، ويعتبره وصمة عار عليه".
طبعا، لا يمكن أن نزعم أن هذه الظواهر تشكل ثورة شعرية، فالثورة كلمة تحمل أصداء أيديولوجية مشتركة وطموحة لا تتناسب مع المسيرات الفردانية الشديدة التنوع والاستقلالية التي تشهدها البانوراما الشعرية اليوم. لذا من الأدق الحديث عن تحوّلات، وهي عبارة توحي بأفق نظري، وخصوصا تطبيقي، جديدين للشعر: تحوّلات طالعة من العدوى والاحتكاك بين الأنواع المختلفة، تحولات تنزع إلى الإمعان في المزج ومحو الحدود والأجناس على نحو يتيح التنبوء بموت الجنس الواحد "الصافي" وولادة جسد هجين، "خنثوي"، لفنون ما بعد الحداثة وآدابها: كل شيء تقريبا بات ممكنا، ولكن من دون رؤى مشتركة، باستثناء ربما عنصرين طاغيين:
أولا: الرغبة في استفزاز طليعيات القرن العشرين التاريخية وتجاوزها، حتى تلك التي كانت تتمتع بأنماط تعبير مغالية في تجريبيتها، على غرار التيار المستقبلي مثلا، في نوع من الـ tabula rasa للـ tabula rasa نفسها، أي العودة إلى صفر الصفر.
وثانيا: الابتعاد المتزايد عن الايدولوجيا النخبوية، والإصرار على التواص
ل على المستوى الشعبي من خلال لغة تكيّفية، لغة اليومي، لغة المعيش، لغة الواقع البسيطة من دون أن تكون مرادفة للتبسيط، اللغة التي لا تولد كلغة صرفة، فضلا عن استخدام أدوات النظام الإعلامي والتلفزيوني والتكنولوجي التي تميّز العالم المعاصر، من دون أن ننسى التركيز على الشحنة الموسيقية، الداخلية والخارجية على السواء، التي تحملها الكلمات، على نحو يقرن الحداثة بالإيقاع كناقل حيوي وفاعل للفكرة والمفهوم. يحيلنا ذلك على كلام جاك كيرواك الذي قال يوما متحدثا عن نثره، إنه يسعى في كتابته إلى استعادة الإيقاع الهستيري والحاد النبرة الذي يميّز موسيقى البي - بوب: وإن هاجس استحضار الإيقاعات الموسيقية المختلفة قوي جدا في الشعر الجديد وطرائق إلقائه، إلى حد أن البعض أطلق عليه تسمية "الشعر - الصداع"، أو "الشعر - الانهيار العصبي".
كثيرة هي النزعات والتحوّلات التي يشهدها الفضاء الشعري ما بعد الحداثي، ولكن إذا أردنا أن نذكر الأبرز من بين الأمثلة اللامتناهية، لا بدّ أن نتحدّث عن الأداء (performance) الذي تبرز فيه أسماء شابة وأخرى أقل شبابا، على غرار الشاعرين ليللو فوتشي وتيتزيانو سكاربا والشاعرة روزاريا لوروسو في ايطاليا مثلا، التي تجذب عروضهم أعدادا هائلة من الناس، والذين أوجدوا كذلك ظاهرة الـPoetry slam، وهي مهرجان أو مسابقة يتبارى فيها الشعراء في ما بينهم بالإلقاء، ويمرون بمراحل تصفيات مختلفة إلى أن يفوز الأفضل بتصويت الجمهور ولجنة التحكيم على السواء: ففي حين يحكم الجمهور على طريقة الأداء والقدرة على جذب العين والأذن إلى الكلمة، تتولى لجنة التحكيم، المؤلفة من شعراء مكرّسين، دراسة النصوص من حيث المضمون، بغية ضمان استجابة الفائز الشرط الشعري والشكلاني والعرضيّ على السواء: إنها نوع من سوق عكاظ حديثة، واكتمال لدورة الشعر الزمنية عبر العودة إلى الإلقاء الشفهي، الذي كان الشكل الأول والرئيسي للشعر إلى حين اكتشاف الطباعة وسيطرة الكلمة المكتوبة على زمام الأمور. انه شعر "استعراضي" ربما، ولكن على طريقته، لا يضحّي بالكلمة في سبيل الصورة، وإن كان يشهد تشويها و"استسهالا" من جانب البعض على غرار ما يحصل دائما في تاريخ الشعر. ترتكز الـ performance إلى حد بعيد على الشخصية والكاريزما والحضور الجسـدي والتعديـلات الصوتية، في إطار يسـتعيد مفهوم الـ happening الأنغلوسكسوني الذي كان رائده الأبرز من دون شك الأميركي النيويوركي جون جورنو: لقد رفع جورنو "الكلمة المحكية" إلى مستويات تأثير غير مسبوقة، وذلك منذ الستينات، وساهم شعره المكتوب والمؤدى والمسجَّل والممسرح، والمرتكز أيضا على استخدام التكنولوجيا والمولتي ميديا، في تغيير مفهوم القصيدة، وفي إكسابها جماهير جديدة من نوع آخر لم تكن تكترث للشعر من قبل. وهو روّج كذلك لإصدار دواوين على اسطوانات وأفلام فيديو، وكثر هم الذين يحذون حذوه اليوم، على غرار الشاعرة الألمانية الشابة ذات الأصول الجنوب افريقية تريسي سبلينتر التي تصدر بدورها قصائد "مسجّلة"، وتملك طريقة أداء خاصة بها وحضورا مغنطيسيا على الخشبة، وتتمتع بشهرة واسعة النطاق في أوروبا.
نذكر أيضا الشاعر الفرنسي جوليان بلاين الذي يجسّد حرفيا "الصوت الشعري الصارخ في البرّية". فبلاين من روّاد الشعر الصوتي والشعر الحركيّ وشعر الرموز والعلامات، وهو يقدّم جسده ونبرته كامتداد لأفكاره بغية أن يتيح لهذه أن تتخطى إطار الكلمات وتخترق بعدائية "جدار الصوت"، جدار صمم الآخرين، رغم أنه يغالي أحيانا في غرابة عروضه. وهو كذلك شاعر مناضل يلتزم عددا كبيرا من القضايا الاجتماعية المعاصرة، واضعا الشعر في خدمة تلك القضايا، ولا ينفصل لديه الالتزام الشعري عن الالتزام السياسي والإنساني.
هذا الالتزام السياسي حاضر أيضا وبقوة في قصيدة الشاعر الجنوب أفريقي ليسيغو رامبولوكينغ الذي اختار الراب قالبا لشعره، يعبّر من خلاله عن مشكلات بلاده السياسية والاجتماعية. وإذ يشكل الراب أداة ناقلة لقيم وأفكار بسيطة، إلا أنه في الوقت نفسه ذو حضور قوي وعنيف، الموسيقى فيه هي التي تخضع للنص لا العكس، أي أن الكلمة هي الأساس وهي التي تفرض الإيقاع. أما الشاعر البرازيلي الشهير ارنالدو لوبو انتونس، فيزوّج الشعر مع موسيقى الروك والبوب، ويكسر صورة الشاعر المنعزل والمنسحب من المجتمع لكي يحلّ مكانها الشاعر سيدا فاتحا وبطلا محبوبا، يغزو المجتمع ويهزّ أوصاله ويمحو النجوم "الفارغين"، أولئك الذين يحتلون المساحة من دون أن يحدثوا أي تغيير أو ينقلوا أي قيم: وليس همّ مزاحمة النجوم "التافهين" وقفاً على أنتونس وحده، بل يمكن أن نقول إن العنصر المشترك بين جميع هؤلاء الشعراء وغيرهم هو نوع من المفهوم "الماكيافيلي" للشعر: بمعنى أن الغاية تبرر الوسيلة، والهدف - أي إيصال الشعر إلى الجمهور وإنقاذ هذا من براثن السطحية - يبرر استخدام كل الوسائل غير التقليدية، حتى تلك الغريبة عن الشعر والدخيلة عليه والتي من شأن طبيعته التقليدية أن ترفضها أو تزدريها.
أما اللافت في شعر ما بعد الحداثة، فهو أنه ليس مرتبطا ارتباطا حتميا بالأجيال الشابة، بل تشهد الحياة الشعرية عودة عدد ملحوظ من الشعراء الشباب إلى ينابيع الشعر الكلاسيكي، مع إصرار البعض حتى على اعتماد الوزن والقافية، كنوع من تسجيل الفرق. في المقابل، نرى أن عددا كبيرا أيضا من روّاد الظواهر الجديدة هم شعراء متقدمون في السن والتجربة، على غرار الشاعر البرازيلي هارولدو دي كامبوس الذي توفي حديثا والذي جدد الكثير على مستوى الشعر الملموس وتفاعله مع الفنون البلاستيكية، وأيضا الشاعر الإيطالي ناني بالستريني، الذي يعيد في الوقت الحاضر إحياء تجهيزات الشعر وكولاجاته أو مفهومي القصيدة - النصب والقصيدة - اللوحة، والشاعر اليوناني ديموستينس أغرافيوتيس الذي يطوّر الشعر الصوتي والبصري والتخطيطي ويهتم بالعلاقة بين الفن والشعر اليونانيين والتكنولوجيات الجديدة. الشاعر الفرنسي الكبير ايف بونفوا نفسه تحدث أخيرا في الملف المخصص له في مجلة "اوروب" عن ضرورة "تحالف الشعر مع المسرح لكي تخرج القصيدة من عزلتها".
لقد حضرتُ شخصيا عروضا و"معارض" للشعراء الذين أتيت على ذكرهم، في مهرجانات ولقاءات شعرية مختلفة، وتعرّضتُ لعدد لا بأس به من هذه النزعات الراهنة: الشعر الصوتي، الالكتروني، الصناعي، الحركي، البصري، النصّي، التشكيلي، التخطيطي، الملموس، الآلي والراب، الخ... وأكثر ما هزني في هذا المشهد المتنوع هو قوة حضور الشعر وتفاعل الجمهور معه: هكذا رأيتُ كيف يصير الشعر تقاطعاً لقاءً تبادلا استكشافا موعدا عدوى حمّى، حمّى تدرك أحيانا من دون شك حدود السخافة والعبثية المطلقة، لدى بعض الذين يدفعهم توقهم إلى التمرّد على منجزات الحداثة و"قتلها" إلى إنتاج أمور لا علاقة لها بالشعر، مهما كانت المخيلة جاهزة لاستيعاب الجديد، مثل الشاعر الأسباني بارتولومي فيراندو الذي لامست تجاربه في غالب الأحيان المهزأة. إلا أن الرديء والسريع الاحتراق لطالما كان موجودا في كل طرائق التعبير، الكلاسيكية منها والحديثة والطليعية على السواء. في اختصار، إن العنوان العريض لكل هذه التجليات هو من دون شك مزج الأنواع وفتح أفق النص في اتجاهات لم تكن متخيَّلة من قبل ونحو جماهير تزداد اتساعا، وربما جهوزيةً شعرية. كما لو أن الوقت قد حان لكي تصير الكلمة جسدا، ولكي يكتسب الشعر صوتا ووجها ويدين وساقين وألوانا وأحجاما، علما أن معظم هؤلاء الشعراء ما بعد الحداثويين لم يتخلوا عن الكلمة المكتوبة، بل هم يكتبون وينشرون أيضا قصائد بالمفهوم المتعارف عليه للقصيدة، وليس وجههم الشعري الآخر سوى امتداد هدفه تأمين نقاط تأمل واستفزاز ودمج الشعر في المجتمع وإزالة جليد النخبوية عنه وحفره في الوجدان الشعبي وتحميله رؤى ومعجزات من نوع جديد.
بين لغة الشعر الكوني، السامي، الشاهق، التائق إلى "الخلود"، الطوباوي حتى في يأسه وآلامه، ولغة شعر الواقع العنيف والعاري والفاني والمدمّر على طريقته الفجة، بين لغة ليوباردي الصافية ولغة تريسي سبلينتر الهجينة، هوة عميقة من دون شك. وبسبب هذه الهوّة يتهم كثيرون شعر ما بعد الحداثة بأنه مسؤول عن أزمة اللغة، وعن التحديات التي تواجهها هذه. ولكن ألم يقل ليوباردي نفسه أن "الأبد كلّه ماثل في اللحظة الحاضرة"؟ كثيرة هي اليوم أيضا الغربان التي تنعق وتقول بموت الشعر. والشعر يموت فعلا، يموت كل يوم، لكنه إذ يموت يولد من جديد، ويستمرّ أبوكاليبساً لانهائياً للتعبير سنظل نعجز عن تخيّل أجساده المستقبلية. في خضم عالم بات إنسانه محدداً في الدرجة الأولى كـ"مستهلك بضائع"، في عالم غدت حتى أفكاره تتخذ شكل "أشياء"، ما الذي يستطيع الشعراء فعله لمواجهة هذا التشييء؟ محاولة إنقاذ الكلمات والأفكار من سجن الأشياء، من فخ الاستهلاك السريع، ولكن من دون تقييدها بقوالب محددة وجامدة، بل منحها دائما معجزة "الحنين إلى المستقبل". لا شيء يضمن أن الشعراء سينجحون في هذه المهمة، لكن سيكون على الأقل في وسعنا أن نقول: لم نتظاهر كأن شيئا لم يكن.
اقرأ أيضا: