أزار نفيسي" في كتابها
"أن نقرأ لوليتا في إيران"
"لا يمكن أن يُسجن يوما،
ذاك الذي يقتات
قلبه من خبز الحرية".
حافظ شيرازي
 (فريدون رسولي- ابران)
|
"رحلتُ عن إيران، لكنّ إيران لم ترحل عنّي"، تقول الأستاذة الجامعية والكاتبة الإيرانية أزار نفيسي في كتابها الصادر حديثاً "أن نقرأ لوليتا في طهران" لدى دار "بلون" الفرنسية في ترجمة لماري الين دوما، بعدما صدر في الولايات المتحدة في آذار من العام الفائت واحتل سريعا لائحة البست سيللر. وإيران التي لم ترحل عن نفيسي تحضر بيننا تحت قلمها في كتابةٍ متقنة تجمع ما بين السيرة الذاتية والتأريخ الاجتماعي والنقد الأدبي، متميّزة بهذا الخليط الغني عن سرب من المؤلفات الحديثة الأخرى التي تطرح بدورها، وبأقلام نساء، مسألة الحريات في البلدان الإسلامية، ومنها على سبيل المثال كتاب "ليسقط الحجاب" للروائية الإيرانية شاه دوخت جوان، الصادر لبضعة أشهر خلت لدى "غاليمار"، ومذكّرات كارمن بن لادن، الزوجة السويسرية لأحد أشقاء زعيم "القاعدة" الأربعة والعشرين، التي تروي في "الحجاب الممزّق" يومياتها مع بناتها في المملكة العربية السعودية قبل قرارها الانفصال عن زوجها يسلم عام 1988.
وضمن الجدال الساخن الدائر اليوم في فرنسا حول الحجاب، والإصدارات المتزايدة في فلك هذا الموضوع، والمتفاوتة نوعا وقيمة، يلفت في كتاب "أن نقرأ لوليتا في طهران" حضور الأدب القوي في روح الصفحات - حضور يُخرج العمل من شرنقة السيرة ويضفي عليه صفة البحث الرصين - ناهيك بتوق المؤلفة الواضح الى الموضوعية والتحليل ضمن نسيج السرد، رغم وطأة جرحها المفتوح أمامنا على مصراعيه، وخاصة لو قارنّا نبرتها بنبرة الكتب الأخرى الشديدة الذاتية والانفعال والتقريرية. ففي حين توجّه شاه دوخت جوان مثلا، باسم شجاعةٍ وجرأة تغلّف بهما غضبها المزمن، سهام انتقاد ماضية وعنيفة الى المدافعين عن الحجاب، الى حدّ قولها مثلا: "إذا كان الرجال يحبّون الحجاب الى هذا الحدّ، ما عليهم سوى ارتدائه"، يؤدي تطرّفها وتجرّدها من المنطق ولا ديبلوماسيتها المفتعلة الى إيقاع هجائها في براثن الكتابة النسوية المحمومة والشغوفة، والشغف على هذا المستوى ضعف لا قوّة. أما كارمن بن لادن فليست يومياتها في منأى عن السعي المفضوح الى لفت الأنظار، وهو سعي تتلقفه دور النشر عامة من أصحاب الأسماء أو القصص ذات الإمكانات التسويقية والترويجية العالية في سبيل تحقيق مبيعات خيالية: وأي منتج "على الموضة" يمكن أن يحقق هذا الهدف في زمننا، زمن اللاأدب، أفضل من صفحاتٍ تتيح التلصص على ال"بن لادنيين" من الداخل؟ في اختصار، كتاب الأولى تنفيس عن احتقان شخصي، وكتاب الثانية لهاث جليّ وراء مزيد من الشهرة والمال: تهمتان ثقيلتان ترزح تحتهما التجربتان على السواء، تحت ستارة مرافعةٍ مشغولة في خفّة عن حقوق الإنسان- والمرأة تحديدا - ضد نير "القمع والظلم والتمييز الجنسي"، فيشهد القارئ على مرّ الصفحات كيف يمكن السمّ الذي ينفثه كتابٌ ما، إن لم يكن معايرا، أن ينقلب على كاتبه و"يقتله".
أما في مؤلف أزار نفيسي، فشراسة محكمة بلا احتقان، وانتقاد مدروس بلا تطرّف، وألم بليغ بلا مبالغات، والنتيجة: عملية "ثأر" موجعة من دون شك، لكنه ثأر "أدبي" جميل يحمل الكثير من عناصر التوازن والرقي والعقلانية، ويحمل أيضا وخاصة الكثير من الحبّ للأرض الأم. حبّ شديد لإيران هو طبعا سيف ذو حدّين، إذ يظهر عمق المعاناة في صورة أصفى، ويجعل إدانة الكاتبة أكثر صلابة وصدقية لما تعتبره هذه "تشويها لتاريخ ومجتمع وثقافة لطالما كان جوهرها يكمن في رقيّها وحداثتها، ولبلاد مضيئة هي براء من الحلكة المصطنعة التي آل اليه مصيرها تدريجا في العقدين الأخيرين". أي أن الكتابة هنا ليست استذكارا فحسب، ولا هي محض عملية طرد للأرواح الشريرة، بل هي شهادة عيش ونضال ومنفى وهجس، شهادة نابضة يتشابك فيها الحنين مع الأمل، والإرادة مع العاطفة، والحنان مع الصفعات، والأدب، الأدب بخاصة، مع الحياة.
ما هي إذن قصّة بطلة نابوكوف مع أزار نفيسي التي تعلّم اليوم الأدب في جامعة جون هوبكينز في بالتيمور؟ في الواقع، يروي الكتاب في ما يرويه وقائع مرحلة عكفت خلالها الأستاذة، بعدما استقالت من منصبها في جامعة طهران احتجاجا على سياسات النظام القمعية، على تدريس تحف الأدب الغربي سرّا لسبع من طالباتها السابقات. ولما كانت الأعمال موضوع الدرس محظورة من جانب الرقابة، كانت الفتيات يجتمعن خفيةً في منزل نفيسي، وغالبا ما كنّ يتبادلن صفحات منسوخة من الروايات الممنوعة. هكذا، بين عامي 1995 و1997، "كنّ يأتين الى منزلي صباح كل يوم خميس، سواء أكان الطقس ممطرا أو مشمسا. وطوال ذينك العامين، لم تلبث تعتريني الصدمة نفسها كلما كن يشحن بالحجاب عن وجوههن ويخلعن التشادور وتنفجر ألوانهن أمام عينيّ. عندما كانت طالباتي يدخلن تلك الغرفة، لم يكنّ يخلعن الوشاح فقط،، بل كانت كل منهن تكتسب شكلا ومظهرا، متخلية عن تجانسها الباهت مع الأخريات ومستعيدة خصوصيتها التي لا تشبه فيها أحداً". هناك، في حميمية ذلك المنزل المضيافة والآمنة، كان كشف الرأس يغدو مرادفا لكشف الروح، وألوان الثياب تتحوّل قوس قزح يعكس خيالات الحلم حيث لا محظور ولا حدود ولا قيود.
بعض أولئك الطالبات كنّ ينتمين الى أوساط محافظة جدا، أخريات كنّ من عائلات علمانية وتقدمية، ولكن معظمهن أمضين وقتا في السجن. لكي تتمكّن نفيسي من سرد قصّتها معهنّ، اضطرت الى تغيير أسمائهنّ وبعض تفاصيل شكلهنّ الخارجي، باستثناء طالبة واحدة لم تكتم اسمها وهويتها إذ أُعدِمَت. صفحة وراء صفحة، نلمس كيف تنتقل الفتيات من الخجل الى البوح، من الانغلاق الى الفضول، من الرمادي الى الزهري، وكيف تتفتّح أذهانهنّ تحت أقمار الشعر والأدب فيتعلّمن، إلى الدروس التثقيفية، أن يتحدثن في طلاقة عن ذواتهنّ وأحلامهنّ وخيباتهنّ:
"هناك، في تلك الدار، كنّا نكتشف من جديد أننا أناس يعيشون ويتنفّسون، ومهما كانت درجة القمع عالية، ومهما كان عجزنا وخوفنا كبيرين، كنّا نحاول مثل لوليتا أن نهرب، أن نخلق مساحات حريتنا الخاصة. ومثل لوليتا كنّا نغتنم كل فرصة متاحة لكي نعبّر عن عصياننا، تارة عبر الإفساح أمام بضع خصلات من شعرنا الإفلات من قبضة الحجاب، وطورا عبر إدخال لمعة من اللون في مشهد التماثل العام، أو عبر إطالة أظافرنا ووقوعنا في الحب وإصغائنا الى الموسيقى الممنوعة".
في جوّ التشابه الظاهري الرتيب، يكتسب "الفرق"، أي فرق، أهمية هائلة مهما كان تفصيليا أو خارجيا، إذ يصبح تجسيدا لخصوصية الفرد الداخلية وتميّزه عن الآخر، لهذا السبب تركّز نفيسي في وصفها الفتيات على لون العينين أو طريقة الكلام أو حركة الجسد، بقدر ما تركّز على شخصية كل طالبة وعلى تفاعلهنّ المختلف مع الأعمال التي كنّ يطّلعن عليها. والواقع أنهن لم يكنّ يطّلعن فحسب، بل كانت قصصهنّ تتشابك مع قصص بطلات وولف ونابوكوف وفلوبير وجيمس واوستن وفيتزجيرالد وسواهم من كبار أدباء الغرب. كانت القصص تتشابك الى حد أنهنّ يصبحن مدام بوفاري، أو الى حد أنّ هوية لوليتا المسلوبة تصبح هويتهنّ، وتمرّد ديزي ميللر مرآة لتمردهنّ.
أزار نفيسي، التي عاشت في إيران مرحلتي ما قبل الثورة وما بعدها تربّت في كنف عائلة نافذة فوالدها كان عمدة طهران، ووالدتها إحدى النساء الستّ الأوليات اللواتي انتُخبن عضوات في البرلمان عام 1963. تلقّت تعليمها في سويسرا وإنكلترا والولايات المتحدة قبل أن تقرر العودة الى إيران في أواخر السبعينات، على مشارف اندلاع الثورة، حيث شرعت تعلّم الأدب في جامعة طهران. أقامت الكاتبة في العاصمة طوال سبعة عشر عاما إلى أن قررت الرحيل عنها أخيرا عام 1997، بعدما غدت عاجزة، في تعبيرها، عن "احتمال الضغوط القمعية على حرية الفكر والتعبير". وفي محاذاة قصص طالباتها الشخصية، تروي نفيسي أيضا وخاصة قصّة بلاد اسمها إيران ومفارقاتها، من إيران الشاه التي كانت تجبر والدتها على خلع الحجاب رغما عنها، وصولا إلى إيران اليوم التي "باتت تجبر بناتها على ارتدائه وعلى القراءة سرّا". كذلك تقدّم نفيسي عرضا جدّيا وعميقا لحرب العراق وإيران من منظار إنساني وسياسي، كما تطعّم السرد بتحليلات دقيقة ومراجعات متبصّرة لأعمال كبار الكتّاب الغربيين الذين رافقوها في مشوارها مع طالباتها، مما يمنح الكتاب حضورا ثلاثي البعد، تتزاوج فيه السيرة مع التأريخ، والتأريخ مع النقد الأدبي.
"أن نقرأ لوليتا في طهران" يضع الإصبع على الجرح معظم الأحيان، وإن كان لا يخلو من بعض الغلوّ، كتشبيه نفيسي تلك المرحلة من حياتها مثلا ب"النوم مع رجل يثير القرف". لكنّ الكتاب في الدرجة الأولى، ورغم كل الإحالات الذاتية التي يتضمنها، عمل أدبي أصيل يرسم الانتقال من مفهوم المعرفة كذنب الى مفهوم المعرفة كخلاص، ويحتفي بقدرة الكتابة على منح اوكسيجين ضد الاختناق، وبلسم ضد الجروح، وانعتاق من قضبان الخوف، ويقدّم صورة حيّة لأبلغ التحوّلات: تحوّل اليسروع السجين فراشة تحلّق بأجنحة الكلمة، وتحوّل "الحصاة العادية جوهرة عبر عين الأدب السحرية".
النهار
الأحد 29 شباط 2004