أمين صالح
(البحرين)

أمين صالح

صرامته النقدية - التي تتّسم أحياناً بالقسوة الجارحة، والصراحة العارية من أية بلاغة تشفّ عن مجاملة أو مهادنة - كانت تجعلنا (نحن الكتّاب "الشبان" الذين كنا وقتذاك، في بداية السبعينيات، نتلمّس مواطئنا الطرية في حقل الكتابة) نتردّد كثيراً قبل أن نسلّمه نصاً، قصصياً أو شعرياً، كتبناه وأعدنا كتابته بكثير من العناء والقلق، كي يقرأه، ويقيّم شكله ومضمونه، ويخبرنا برأيه الحاسم القاطع.. كما لو كنا نخشى على النص من الوأد، نخشى أن يضيع الجهد والوقت والمكابدة التي – عادةً - تستدعيها الكتابة.. كما لو أن حكمه سيقرر لا مصير النص وحده، لكن مصير ما نملك: هل هي موهبة حقيقية أم شيء آخر؟ هل نحن جديرون بصفة الشاعر أو القاص، أم أننا محض كائنات متطفلة على الأدب والكتابة؟

كنا على يقين من أن المحظوظ منا هو من يدّخر له المناعي وقتاً ليحدّثه عن نصه.

احتجنا إلى وقت لكي ندرك أن صرامة المناعي لم تكن نابعة من استعلاء أو أستاذية، أو رغبةٍ في إذلال من لا شأنَ له، أو حاجةٍ للهيمنة، بل كان مصدرها الحب وحس المسؤولية والخوف على الموهبة من اغواءات الزهو والغرور قبل أن تتجذّر بثبات وقوة وعمق في حقل الكتابة.

واحتجنا إلى وقت أطول لنقترب أكثر من جوهر أحمد المناعي، من القلب الإنساني، ونكتشف أن المظهر الذي كان يتحصّن به (الجدّية المفرطة، الرصانة غير المحتمَلة، النأي عن ضروب المجاملة، صعوبة رفع الكلفة، الإصغاء الذي لا يوحي بأنه إصغاء) ما هو إلا مظهر هش، مضلّل، وربما متوهم من قِبلنا نتيجة التباس ما أو سوء فهم أو عدوى حكم أصدره شخص عجول.

من خلال تعرّفي عليه عن قرب، وتوطّد المعرفة والصداقة بيننا، وجدت فيه كائناً مرناً، لطيفاً، مهذّباً، ويمتلك حس الدعابة والتهكم.. إضافة، بالطبع، إلى ثراء تجربته الثقافية وخبرته الحياتية وحسّه النقدي الحديث.

* * *

بيدٍ تعرف كيف تحنو، بيدٍ أخرى تعرف كيف تقسو، تماماً مثل الأب، كان يرعى حركتنا الأدبية الشابة حينذاك.

يطري ما ننجزه إن أفلحنا، يسخر من نصنا إن أخفقنا. يدافع عن توجهاتنا ورؤيتنا للكتابة والواقع، وإليه نحتكم إن صادفنا مشكل أو تورطنا في مأزق.
بدأب الصديق العارف، لا الأستاذ المدّعي، كان يعكف على تعريف حركتنا إلى الأوساط الثقافية الأخرى، فاتحاً بذلك النوافذ لنطلّ منها ويطل علينا الآخرون من خلالها.

غير أنه كان مقلاً في كتاباته النقدية.. بالأحرى، كان بخيلاً، رغم تكرار مناشدتنا له بالكتابة نظراً لحاجتنا إلى خبرته وثقافته وسعة أفقه.. وشراسته أيضاً (لم لا؟).
ربما هو الكسل.

ربما هي خشيته على تجارب شابة طريّة لا تزال تتلمّس طريقها، وقناعته بضرورة الانتظار حتى تنضج التجارب وتصبح مؤهلة أو مهيأة للتناول النقدي.
ربما (وهذا ما أرجّحه شخصياً) هو الصراع الذي كان محتدماً آنذاك، الدائر بين كتابة جديدة تنظر بعين الارتياب إلى أي نقد لا يشحذ أدواته عبر المنجز الحديث، ونقدٍ لا يقل ارتياباً في تلك التجارب.. هذا الصراع (الذي بلغ أقصى حالات التطرّف عند كلا الجانبين برفض أحدهما للآخر إلى حد الإلغاء، وتبادل الاتهامات العنيفة) قد انعكس، بشكل أو بآخر، على موقف المناعي.

لم يكن المناعي ناقداً تقليدياً، غير أنه (وهذا تأويل شخصي، قد أكون مخطئاً فيه) فسّر هجوم الكتّاب الشباب – وقتذاك – على النقد التقليدي الذي لم يحسن الإصغاء إلى التجارب الشابة، فسّر هذا الهجوم على أساس أنه رفض للنقد في المطلق، ولعله اعتقد أن هذا الموقف يشمل كل محاولة نقدية بصرف النظر عن مصدرها ومنطلقاتها.. لذلك شعر بالخذلان فاستاء وعاند وآثر أن يحجم عن التناول النقدي إلا في حالات قليلة كان يشعر فيها برغبة جارفة لإبداء رأيه الواضح والصريح.

* * *

والمناعي لم يكتف بنقد النتاج، والتعريف بالحركة الأدبية الناشئة آنذاك، إنما أيضا قام بالتحاور مع أسماء واعدة في القصة والقصيدة رأى فيها جدّة ومغايرة، وذلك عبر لقاءات مطوّلة تشي بقراءة دقيقة، فاحصة، متأملة، واعية للتجربة.

* * *

مبكراً، ببصيرة المأخوذ بالتاريخ، المدرك لأهمية الحفظ والتوثيق (فالذاكرة وحدها لا تقدر أن تحفظ كل شيء، الذاكرة تضعف وتخون) بدأ أحمد المناعي، بصبر ودأب العارف، وبلا شريك أو معين، في تجميع وتوثيق كل إنجازات الحركة الأدبية من نتاجات وحوارات وفعاليات ونقد و"معارك" أدبية.

وصار أرشيف المناعي يكبر كلما كبرت الحركة وتغلغلت أكثر في نسغ الوقت.
الآن، ليس بمقدور باحث أو ناقد أن يكتب عن تلك التجربة دون أن يمرّ من خلال هذا الأرشيف، دون أن يستعين بهذا المخزون الثري، دون أن يشمّ رائحة أوراق وحبر وحروف وصور.. كلها تنتسب إلى عمر مضى، إلى وجوه كانت غضة وشابة، إلى ذاكرة جيل كان يحلم كثيراً.

* * *

كانت لنا أخطاء وهفوات. كانت لنا اختلافات، في وجهات النظر وفي المواقف، بلغت درجة من الحدّة أدت إلى التباعد والقطيعة (المؤقتة).. ولا أهمية الآن للخوض في التفاصيل. غير أن ما ينبغي أن يقال هنا، أن الاختلافات لم تطمس ما هو جوهري ومتجذّر في العلاقة: الاحترام المتبادل، والمحبة التي لا ينالها عطب.

* * *

الحركة الأدبية، التي بزغت في أواخر الستينيات، نهضت على عدة مرتكزات قوية، من بينها يظهر أحمد المناعي كمرتكز هام وأساسي.

يناير 2009