بين كل مرحلة عمرية وأخرى من حياتي، أعود إلى «ألف ليلة وليلة» بنظرة مختلفة عن سابقتها، برؤية مختلفة، بوعي مختلف، بشغف مختلف، بروح مختلفة.. كأن الحكايات تكبر معي، أو تتحوّل معي. كأني عابر زمن لا يجرؤ على خوض ينابيع الحكايات لأنه، في كل مرّة، لا يزال يفتقر إلى اليقين بشأن ما يسمع وما يقرأ وما يرى.
عندما وقع بين يديّ، مصادفةً، وأنا في المرحلة الثانوية، كتاب صغير اهترأت أوراقه واصفرّت أطرافه من فرط الاستعمال، يحتوي على عدد من حكايات «ألف ليلة وليلة»، مسّتني الدهشة والفضول، فها أنا أقرأ ما سمعته من جدتي من حكايات في صيغتها الشعبية المبسطة، وما شاهدته من أفلام هوليوودية مقتبسة من قصص الليالي العربية.
مع تلك الحكايات، عشت أجواء السحر والمغامرة، مفتوناً بالسفر والحيل والتنكر والمكائد والحِكم والأمثال والمجازفات التي لا تنتهي. البحث عن مكامن الإثارة والتشويق كان المحرك الأساسي لشغفي بالحكايات في تلك الفترة من المراهقة.
لكن قيل لي أن ما قرأته من «ألف ليلة وليلة» مجرد نسخة مختزلة، مبسطة، معدّة للفتيان، وناقصة. هناك نسخة أخرى مؤلفة من صفحات أكثر، وحكايات أوفر، ومتع لا تضاهى.
كنت وقتذاك أبحث عن عمل بعد أن أنهيت المرحلة الثانوية، وفي الوقت ذاته أبحث عن كتب تشبع نهمي إلى القراءة والمعرفة. وجدت مجلداً يحتوي على أجزاء من كتاب «ألف ليلة وليلة».
النسخة السريّة
كان ذلك أشبه بكنز.. نبعٍ لا ينضب.. كلما غرفت منه حكايةً تناسلت حكايات أخرى. تعرّفت على العديد من الشخصيات والمجازفات والمكائد والتحولات. أجواء ساحرة، زاخرة بكل ما يفتن ويسلب اللبّ. علاقات متشابكة. خيال مجنّح لا يقف عند حدود المنطق والعقل والتاريخ. كثير من العواصف، كثير من الرحلات، كثير من الجزر المجهولة، كثير من العوالم المتباينة التي تتعايش في ما بينها في وئام وانسجام، بحيث يتجاور - بتناغم مدهش - الواقع والخيال، التاريخ والأسطورة، العادي والخارق، المألوف والعجيب، الإنس والجن، الملوك والرعايا، البذخ والشظف، المحن والمباهج، وكثير من النساء، كثير من الفكاهة، كثير من الشعر، كثير من العشق.
بعد سنوات، علمت أن هناك نسخة من «ألف ليلة وليلة» سريّة وغير متداولة لأنها محظورة، محرّمة، مكبوحة، مخبأة، لأنها تحتوي على حكايات محورها العلاقات الجنسية، وتتضمن صوراً أو عبارات لا تحمل إيحاءات جنسية فحسب، بل أنها تستخدم، في السرد والوصف، لغة جنسية صريحة ومكشوفة، لكنها ليست فاحشة وإباحية بقصد إثارة الغرائز كهدف أساسي ووحيد، بل إن الكتاب ذاته صار يعد من بين أوائل الكتب الإيروسية في الأدب العالمي التي تمجّد الحب والرغبة الإنسانية، وتصور العلاقات الإنسانية في أنقى وأرقى تجلياتها، وأكثرها تعدداً وتنوعاً.
الحكايات التي نشأت وانطلقت من فم شهرزاد، الجميلة والذكية والفصيحة، بدافع أساسي وجوهري، هو محاولة إرجاء الموت ليلة بعد أخرى بسرد حكايات جميلة وممتعة وآسرة، وتزداد فتنة وتشويقاً ليلة بعد أخرى، كي تسحر الملك شهريار - الشغوف بالقتل - وتأسر اهتمامه وفضوله فيطلب المزيد منها ليلة بعد أخرى، حتى تخفت رغبته في القتل وتتلاشى، أضحت - هذه الحكايات - من روائع الأدب العالمي، وأكثرها شهرة وتأثيراً بعد أن تعدت الحدود الشرقية لتخترق تخوم الغرب وتسحر «تماماً كما فعلت مع شهريار» باحثيها ومفكريها ومبدعيها الذين راحوا يستلهمون منها قصصهم ولوحاتهم وموسيقاهم وأفلامهم.
مشاهير سحروا باللياليمن بين المشاهير الذين أبدوا إعجابهم الشديد بالليالي العربية، واعترفوا بتأثرهم المباشر بها، نذكر: فولتير، بورخيس، ماركيز. وقيل أن الواقعية السحرية، التي اشتهر بها أدب أميركا اللاتينية، كانت مستمدة من «ألف ليلة وليلة».
وعندما أخرج السينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني فيلمه الشهير عن «ألف ليلة وليلة» كتب مقالة قيّمة يوضح فيها رؤيته وسبب انجذابه للحكايات، وأترجم هنا فقرات من المقالة أراها مهمة، وتظهر طريقة فهم المبدع الغربي للكتاب. يقول بازوليني:
(الاكتشاف الأول، أن الحكايات في «ألف ليلة وليلة» هي نتاجات سلسلة من مراوغات والتواءات القدر. القدر يولّد، في نمط مخفي، كل الحوادث المألوفة ولادات، أعراس، وفيات. لكن أحياناً هو يستيقظ، يرسم لنا علامات مباشرة. إنه «يظهر»، وهذا يعد شذوذاً، خروجاً عن القياس. كل حكاية في «ألف ليلة» تبدأ بـ«ظهور» للقدر، والذي يُبدي نفسه من خلال الشذوذ، وكل شذوذ ينتج آخر. هكذا تنشأ سلسلة من الأشياء الشاذة، الخارجة عن القياس. وكلما كانت هذه السلسلة أكثر أساسية، ومعقودة بإحكام، ومنطقية، صارت الحكاية أكثر جمالاً.. وبالجمال أعني الحيوية، الانتعاش، البهجة. سلسلة الأشياء الشاذة دوماً تنزع إلى العودة إلى الحالة السوية. إن نهاية كل حكاية في «ألف ليلة» تتألف من «اختفاء» للقدر، والذي ينحدر نحو النعاس السعيد في الحياة اليومية.
إذن ما ألهمني في صنع الفيلم كان رؤية القدر وهو يعمل بخفّة، والمركّز على واقع مربك. أنا لم أكن أريد أن انزلق نحو سحر أو سوريالية والتي يمكن العثور، في فيلمي، على بضعة آثار متفرقة منها غير أنها أساسية، لكنني أردت أن أقترب من اللاعقلاني بوصفه كشفاً عن الحياة التي لا تصبح ذات دلالة أو مغزى إلا إذا تم استنطاقها بوصفها «حلماً» أو «رؤيةً».
مجهوليةمن الذي ألّف هذا الكتاب العجيب، المجهول المنبع والهوية والمصدر؟ كيف تم إنتاجه؟ من الذي صاغ وشكّل عوالمه الساحرة الأخاذة؟
لا أحد يعرف. لا أحد يعرف متى أنتج العمل، وضمن أي سياق، وأي ظروف، وأي حاجة، وأي ضرورة. وبأي عالم أو محيط خاصين يتصل هذا النص.
المرجّح، وهذا ما يتفق عليه الباحثون، أن هناك أكثر من مؤلف شارك في صياغته. وأنه مشروع جماعي شاركت فيه أجيال متعاقبة ومتعددة، تنتمي إلى جغرافيا ومناخات مختلفة، وبالتالي لا يمكن أن ينسب إلى مؤلفين محددين، ذي جنسيات مؤكدة، في فترات معينة من التاريخ الإنساني.
إن أسماءهم جميعا ظلت مجهولة، ولا أحد يعرف حتى الآن هوياتهم، أو دوافعهم أو طموحاتهم. ربما هذه المجهولية جعلت مبدعي العمل بمنأى عن أي تدخّل خارجي، أو تأثير سلطة ما، أو تعريض الموهبة لمساءلة ما.
لقد جعلتهم هذه المجهولية، البريئة من الأنانية والغيرة والحسد والنفاق، يبدعون بإيمان وصدق وجمال وتواضع، إنطلاقاً من رؤية خاصة ترتكز على حرية الخلق والتعبير، مدفوعين بالإحساس بالرضا والإشباع، مكتسبين الحصانة والمناعة من هذه الحرية النقيّة.
الآن،أتساءل في فضول شديد، كيف سأقرأ «ألف ليلة وليلة» عندما أبلغ السبعين؟
الاتحاد- تاريخ النشر: الخميس 29 يناير 2015