خلات أحمد
(سوريا)

خلات أحمدغابة مني

عصافيرها

الشجرة ....
التي سأغرم بها بعد قليل
داعبتني بكل عصافيرها
غردتكَ لها
صدقتني
المجنونة !
وقاسمتني سيرة التراب.

بما يكفي

قانية ً
كانت أزهاري هذا العام
موسمي زاخر
أفلا تمر من هنا ؟
لأبذل لك حباتي
حلمة ً, حلمة ً
كم ذراعاً تود لو يكون لي ؟
لأضمكَ بما يكفي
أنا
شجرة الرمان النحيلة.

بأني سأمطر

على أنه
ثمة وعد ٌ
قطعه لي شجر الزان
بأني سأرى أثني عشر أفقاً
قبل أن أسلم للغيم
بأني سأمطر
وأقسم أن خفر جذوري
لن يردعه
حتى عند الوردة العاشرة.
وعدهُ طلسم
خدر الزان.

توت شامي

ماروني اسم الكستناء
رجوتها في آخر لقاء ٍ بيننا
أن تمدني ببعض نسغها
فشعر عذرواتي
ابيض
في آخر طروادة خضتها,
بعد مناكفة ٍ وديعة
وافقتها
أن في جذعي قرابة للتوت الشامي.
أغرقت شعري بودّها
صديقتي
شجرة الكستناء.

الطور بظلي

لم أسلم بعد
أن النهار سيمضي أبيضاً,
الصباح الذي فتنتهُ حلتي
وترك نارهُ عندي
لن يتجاوزني كثيراً.
الطور بظلي
حثني أن أنادم اسمه
ريثما يعود
ليؤكد لي أنني تينة*.

* قدم صحابي ٌ صحناً من التين للرسول وحين أكل منه قال : هذا من فاكهةالجنة,ففاكهة الجنة بلا عجم.

سفرجلة

كاد القلق يفلق قلبي
هل أنزلق إلى أعماقه ليَخْبَرَ قطري
أم أبقى في فمه لأخْبَرَ لذته؟
كلانا صعب .

من فرط الحب

ألملم أوراقي
أعيد للحائي غفوتهِ
لو أنجح في الإنكفاء
دون أن أعطب نسغي ؟
لن أشارك في دردشات النضوج
فأنا توتة
وأستطيع أن لا أثمر.

غابة ٌ أم

إنهم يكبرون
" بروين " الزيزفونة
" آزاد " المتشرب طباع الليمون
وحبقُ البيتِ " دلو "
وأنا
ما أزال باسقة ً ودافئة
كما يجدر بغابة ٍ أم .

صهيل القيقب

أفعم من وجعي

نقية ً من المدائن
أزينُ لقيقبكَ الصهيل
وأسوق لأوتاركَ الأحصنة.
لا الليل هاداني السكينة
ولا أصابعك رنّمت أسوداً
أفعم من وجعي.
إبذله قوسك للحنين
هزّ أعماقي إليك
أعدني للداخل الدافء
أتنصت العتمة
وأضمر لك المطر.

لأنعم عليك

أوتاركَ نساء
يزهرن في العالي
ينضجن في النغم
مشمشاً يعطر حيلة المساء
وأنا
جنية الثمر
أنتظر تعرقك في الأبنوس
لأنعم عليك بالوجع.

حكايتكَ بعيداً

أفسح الريح لجناحيكَ
أسرف للماء ظلالك
ستسري حكايتكَ بعيداً
وتتقاسم قتلاك ثلاث ضفاف
تتسامق لعشقها يداك
تغدقني نهراً
" فيكون من عين الصواب
أن يموت القلب فيك ".

البارحة

كأنني حلم
يسبغ الليل عليّ أغانيه
وذَهَبَ الحكايات القديمة
ويمضي.
كأنكَ حلم
أسقيكَ من كفي
أغاني الليل
وذهب الحكايات القديمة
وأمضي.

ظلالي التي

نامي على أوتارك ِ
خدينة القلق
محفوفاً بالبيادر آتيك ِ متيماً
في أصابعي قرىً
ترتدي شهداءها
وتقاسمني ظلالي التي
أوتارك ِ.

ذاهبة ً في تفتحك ِ

ذاهبة ً في تفتحك ِ فجراً
استدرج عطركِ رئتي
لنوروز بلدتنا
أينع أثاث البيت في ضحكتكِ
سال الثلج الواقف بالباب مرايا.
أدخلينيها
وتزيني فيّ
أنا إحدى مراياكِ.

يا أمنا الأرض

شفيفة ً تأتين
يقصم النزيف خصرك
تسندين شروخنا
لا أنت تبادلين جروحك بأغنيتي
ولا أنا كثيفٌ
بما يليق بليلة حب
ولا صعب ٌ
كما يليق بعاشق ٍ في حضرتكِ
مرّي بنا
أتممينا
وعودي إلى نزيفكِ الدوران.

البارحة

مساءً
جالساً إلى وحدتي
كإنما شممتكِ في الغرفة
وضحكت عيناك ِ في المرآة.
مساءً
كإنما تماوجت أنفاسك ِ لشمعتي
تذكر عطركِ في البعيد غرفتي
وأزهرت عيناي في المرآة.

كلما أرادوا إليّ

زيورخ

تنهض
بيضاء تقطر
والريح بأدب ٍ جم
تمسح النعاس عن الأشجار
..........
.........
المتروكة لحريتها .

في أصابعه

طبول
طبول إفريقية
تحت الشجرة
في أصابعه
الشاب النحيل
يكاد من وله الإيقاع
............
..............

أكاد إليك

لا شمع هنا
لا ورد لا بخور
ولا حنين يحتال علينا
لألاءً
يغدقك الموج إلي
تنقر أول المد
وتنحسر.

ربما أكثر

من كاحلي حتى نحري
يهذي
بلسان ٍ من نور
متموجة ً
يلغو في التجاويف
.........
........
قمر البحيرة.

دون ارتباك

بعد قليل
ستكون الأمور في مواضعها تماماً
لن أحتاج إلى الإنتظار أكثر
وسيكون للماء أن يستعيد سطحه
بعد دقيقةٍ واحدة من الأصطدام.

أعلى

هناك
حيث بإمكان المدينة أن تدلكَ إلى ذراعيك
سيخفق قلبك قوياً
ويغمر الحب عينيك
شئ ٌ ما سيذكركَ بي
والهواء المضطرب
سيقبل شفتيك
حين في إلتفاتة ٍ قديمة
ستجلس في هدوء.

ملئ القلب

أغمض عينيك
وأتبعني
سأدلك إلى مرايايّ
قصيدة ً, قصيدة
وبقليل ٍ من الخبث
سأطفئها
...........
..........
قبل أن تشعل عينيك.

أنا الدائرة

كلما أرداوا إليّ
يخطأون.

الذي أنا أرملته الآن

مرآة

الذي أنا أرملته الآن
ميت ٌ على يدي منذ البارحة
رفع عن عينيه شهوة الأقواس
نفض عنه لهفة المدن البعيدة,ونام.
الذي هو كل هذا الصمت
أتركوه نائماً
في زهوري السوداء.

نبيذ

حين أنتَ لست الحب
وكلماتك زبد
لماذا عصرتني في زاوية المطار
وسقيتني من فمك حتى اللظى ؟
حين أنت لست لي
لماذا لوحت
من خلف زجاج الشهر السابع,
أنتفضت لرائحتي في أصابعك
وأنا أنزل الدرج
وحيدة ؟

خريف

شهي ٌ نصلك
يقبّل أعناق الظباء
يسدي لي الحزن
دون أن يتسع حبرك لي.
أكملنا الفصول إذا
وهذا الشتاء
ملائم ٌ لذبولي.

غمام

إذا مررت َ بالجرف المجاور
توقف قليلاًَ
إلتفت إلى الظبية الذبيحة
تنفس قريباً منها
قد تشمّ رائحتك
تفتح عينيها
وتراك
قبل أن تمضي.

صمت

مهراقاً
أسدل عرفكَ الرهوان
تنفس من فمي
أغدق على صمتي
بعضاً من حنان
لأفتح كفيّ
وأنفخ في سرب الفراش
حين ستختفي قسماتك
في الغياب.

زئبق

اجتبيتُ منك َ الحنين
حين أزهر زئبقك
في النبيذ
وها أنا
أضم أشياءك الصغيرة
أنتحي صوتك
وأفغر لجيادك الرحيل.

قلق

هذي عصافيري
أذرفها بعيداً عن ذراعيك
أنا زهرة الثلج
المتفتحة على صدرك
أساقط بتلاتي
لصقيعك
لأموت مكتملة.

عشق

يدكَ الباردة في يدي
شغافك ظلام
لن نسترسل في الحلم إذا
سأدفئك الليلة أيضاً
وغداً
سيعثر علينا الأصدقاء.

سيرة نهر
أنا كوردستان أيها النهر, إلى من تسيل؟

لكَ, لي, لديريك: كل هذا الحب.

- 1 -

منساقاً بالغامض الى صمت "ديرك", متكئاً على سيرته العتيقة, يهدر نهري قادماً من "سرخت", فاقداً اسمه في انتمائه الأصيل لأرض التشظي, حتى فقد الاسم أهميته في التلاحم الكثيف.
ُقُبلته الأولى ينابيع "كاني بحنه" تزيده لهفة على لهفة, تقرأنه السلام إلى شجرتي التوت في "كر زرك" الأختين الحنونتين, تظللان أجساد الحصادين في استراحة الغداء, يقضمون الخيار والجبن, يتناوبون النكات اللاذعة, تفوح منهم حموضة التراب, تفيض عنهم لواعج يؤججها خفر الحسناوات السريانيات, يتدلين من معمار التل إلى قريب التوتين, يمتحن ماء البئر ولواحظ القامات الفتية المعروقة.
ظبيات يتهادين تحت نداوة جرار الماء, يسيل العرق بين نهودهن الرمان. ظبيات يتناقصن إلى أوربا حتى كهولة الأختين.
سأتوق إلى أننا في وارفها التقينا, ولحزنكَ أشعلتُ أصابعي, رحتُ أردّ كل هذا الأسى المتربص بسيرورتنا الهشة, أدركتكَ تحترق بصمتٍ وفتنةٍ، لم تكتمل بين يديّ , فكنا عشقاً كوردياً يتقصده النقصان ليكتمل الشجن.

- ۲-

غَدِقاً بلقائه الأول يضحك النهر أول ولوجه خاصرة "ديرك" عند مسبح "لطيفو". هنا يسبح الصبية في نهارات الصيف المشتعلة مقابل أجرٍ معلوم. ليلاً, تتوثب مياه المسبح بالأعراس. هنا تأبط أخي ذراع عروسه, كسر لخطوها جرة السكّر, تلقف الأطفال بركاتها في فورة زغاريد الأم والخالات.
وفي الأعراس, يكون للعيون ألقٌ آخر, للمسة السرية نكهةٌ أخرى, تضئ لها وجوه الفاتنات, يضمرن ترف عرسٍ آخر قبل أن يستدرجهم الريش وينبلج الزهر الأحمر في جنباتهم شهياً وقاتلاً. قريباً من الماء, سأجافي الأرائك وأتربع الأرض,
فحاول أن تمرّ من هنا
وتهديني وشاحك القديم
لن تبذل الكثير من الجهد
ستعرفني من عيني المغمضتين
فكر فقط
أنني أشتاق إليك
كثيراً.

- 3 -

على يمين النهر ومقابل مسبح "لطيفو", تضّج كازية "سيد أحمد" فجراً بسيارات التكسي الصفراء القديمة, تتزود بالوقود وتنطلق إلى القامشلي عبر الطريق الضيق, تخض ركابها في سعيهم إلى تدابير أطباء بعينهم, ملاحقة معاملاتٍ حكومية, استبدال عملاتٍ أوربيةٍ كتومةٍ على أسرارها, فخورةٍ بمرسليها, لا يندّ عنهم سوى مهاتفات ٍ تدعي ما يرام.
سيارات "بك آب", جرارات زراعية, قاطرات, في صناديقها الخلفية جموع الحصّادين, الحمّالين, عمال القطن, الأسمدة, البذار, الدواب, البطيخ الطازج, الخضار, القش, أكياس القمح والشعير, الجبن واللبن, حسب الموسم والإتجاه.
وهنا وقفتُ قريبة ً منك
قبل أن تجزّ الوقيعة صوتي
وفي ابتعاد الجمع اشتعل الحنين من جديد
فالأشياء التي لم ألتقيها كثيرة ٌ
وفضائي أضيق من الرمق الأخير.

- 4 -

يجتاز النهر كازية "سيد أحمد" ماراً بجسرٍ يحمل الطريق من القامشلي إلى عين ديوار. وعين ديوار, يطلّ على دجلة, يستأنس بالجسر الروماني وقنطرته الصامدة منذ كل شهيد. مرّ تحتها الدكتور "نافذ"، سآءل رسوماتها عن مدى النقصان, تعقب المحنة فيها, أنصت لنشيج الظلال, وأمعن في الخد الآخر لدجلة, قرين منفاه.
"مهرة ٌ رائعة ٌ عاليةٌٌ رشيقةٌٌ وسريعة الإنفعال , يجب أن أراها في وضح النهار, وأمتطيها"** وامتطاها "نور الدين" تنزّ منه الحدود والمعتقلات, حتى سويسرا حيث أهرق وحدتي.
عيونك ِ يا "عين ديوار" كثيرة, بساتينك كثيرة, شهدائك أكثر
زهورهم متروكةٌ في فم النزيف
حبيباتٌ
لهاماتهم المكسورة
للسقوف واطئة ً
مسّها الجنون
لن يعودوا للبيت باكراً
محدقين للحقيقة تأتي
بعد فوات العمر.

- 5 -

بعد الجسر, وفي ارتفاع الوهدة إلى اليمين, تطلّ كنيسة "مار يعقوب" على البلدة. أنا صرير أبوابها في عودة الغائبين, رشرشة المياه على تراب دورها عصراً, ضوع الأجنحة في أسرار المساء.
كانت الكروم تلفّ وقار الكنيسة قبل أن يأتي عليها الإمتداد العشوائي للمساكن الفقيرة. في كرومها
تتبعناالخريف إلى قطر الزبيب, تعلمنا أولى مطاردات الدبابير, تطفلنا على المطر يشيع ورق الخريف, فمن لي بذاكرة ٍ تنكأ هذا التيه لأستغرق في الأجراس, ورفُّ الحمام على الصليب يستهطل نزوفي. كلهم غرروا بنا, وها أنا ومريم في المصلى نبكي, تقاسموا وصايا عيسى وزكريا خلف الباب ذبيح.
في دمي ما يشدو إليك، فكيف نعود إلى الغسق الحليب؟

- 6 -

في تدفق النهر نحو الأرض السهل, زاحمته البيوت على حوضه. زرعوا له التين والرمان والياسمين, فرشوا لخريره عرائش البنفسج وزهور العسل.
أمعنت "بسنة حجي عمر" في احتفائها بيُمْنِه، فآوت قفيرين من النحل الأصيل النادر, أغدقت عليهما رعاية يديها الخبيرتين, عكفا يدران عليها رفاهية عسلهما الأصلي, تخبئ لي منه قطرميزاً صغيراً, أغمس فيه عينايّ, أصبهما فصاً لخاتمكَ الفضة, أضمر لكَ البياض, أخاف تذوب بين ذراعي،ّ فأقلبكَ على صدري, عسلكَ أحلى من أن أتمكن من رشفه كله, أكثر من أن تحتمله سيرة النهر, أغراه إغراق الجنائن في فاكهتها, فدخل لها بين الخالة, صعدتْ من فتوته المباغتة سطح الدار ونوافذها تلفظ مياهه.
فاض به الرحيل, ففاض بالجنائن, أترعَ الدار بلعابه, كسّر كل الخوابي. بقيت الخالة على السطح مسترسلة ً في حريرها تصيح:

- أكل هذا الحب لي؟

- 7 -

ضجّ النهر بمسيرته الشمالية, مال غرباً, تقرّب من مدرسة الشهيد "خضر الداوود بن صلبي", يتسمع الأناشيد تعلو بها حناجر الصغار, تقّوم عصا الآنسة ألسنتهم.
هنا, تعلمنا لغة الأزياء الموحدة والحنجرة النقية, ارتقينا الفصاحة, سمونا بها إلى دهشة تاريخ ٍ لازلنا نتتبع غموضه, َدَرجْنا منه إلى حروفنا المغايرة, نسألها عن شيءٍ آخر غير الحب, شيء ما يثير الدهشة أكثر , فتدلت أصابعنا يانعة.

- ٨ -

منحازاً للغة الماء, ممعناً في مسيرته غرباً, يتلكأ أمام الصبية, يصعدون شجرة التوت الأسود, يزاحمون عصافيرها, فتتركنها لهم. يقطفون حبات التوت الناضجة من أغصانها إلى أفواههم حلوة ونظيفة. تستيقظ "آمنة كلش" من قيلولتها وتصيح بهم:

- دعوا للعصافير ما تنقره يا أولاد الحرام.
يدوي في صوت العجوز البيضاء جمالٌ غابرٌ وفتوةٌ. يركض الأولاد إلى الساحة الترابية قرب النهر يلعبون بالدحاحل والبرّامات والدواليب والحنكليو, والفتيات يتخذن في ظلال البيوت دمىً تصنعنها من العيدان والأقمشة القديمة أبناءً, يتزاورن في بيوتهن المشيدة من أحجار صغيرةٍ بفسحةٍ تعتمد باباً, يبكّرن في أمومتهن.
في الملل, يدخل الجميع مياه النهر, يتراشقون, يضحكون, ساهين عن المساء يفرد غمامه البليل على قلوبهم الغضة, يراقب الوقت يصعّدهم إلى أول الهتك.

- ۹-

أبعد قليلاً من طفولتهم, تسكن "وضحة", غمر الماء أرضها، فقادوا جواميسها شمالاً. قشدتها مشهودةٌ في كامل البلدة, لم تشفع جودتها لسبع ازهارات كادت تجعلها أماً. قريبَ أن يفتح حلمها عينيه, يشيح عن غربتها وحسرتها ويذوي إلى التراب.
مرّت "وضحة" تحت الجسر الفرنسي سبعاً, مرّت عجائز الحي سبعاً, مرّت العوانس سبعاً, مررتُ مع الأطفال سبعاً, تبركاً بأوراح الجسر الطيبة, الأرواح الأرقّ من آليات البلدية وهي تعدّ لجولة كراس ٍ, هي رمية نرد ٍ خاسرة ٍ على أي وجه ٍ قلبناها.
تهاوى الجسر الفرنسي, وسال النهر دمعاً, هامت أرواحه الحائرة غريبةً وبلا مكان, تهجع على الضفتين طوال الحنين العاتي,
تؤجج الذاكرة حتى أقصاها
تفرد للسواد العقيم
فلا تبقي لي منك شيئاً
وأنا ليس لي بأول الكسر دراية
ولا مقدرة لي بكل هذا التشظي
فهل تسترسل معي في رغبةٍ متصاعدةٍ، تحدّ بنا إلى الإغراق في عشقٍ قاصرٍ على النمو الصحيح؟ نتشبث بما ليس فيه سوى العذاب؟ .

- 10 -

مقابل دار "وضحة" وزرائبها, وعلى الطرف المقابل, الأيسر للنهر, بعد شجرة التوت والساحة الترابية, يسكن "محمود الحموي", لم يعد أحدٌ يذكر اسمه, هي ذاكرتي الطفولية توهّجت للحظةٍ أقصر من رمشة, فلمع اسمه، واختفى من جديد في سيرته الغامضة.
بيته ضيقٌ على عائلته الكبيرة, جلّها نساء, تعلمنّ لغتنا الكوردية, فصرنا أتراباً. بقي الحموي حبيس أسراره, ما عرف أحد يوماً لماذا ترك حماه إلينا, قيل هرباً من ثأر, والحقيقة بقيت رهينة صدره.
أغدقت يداه على الأطفال سكراً. يغلي السكر على نارٍ هادئة, يضيف إلى ذوبانه الصباغ الأحمر, يتلقفه, يجعله حبالاً رفيعةً, يلفها على عود ٍ صغيرٍ, فتصبح "علوكه". يشتري التفاح الصغير الحامض, يغمسه بمحلول السكر الأحمر، فتصبح "تفاحات علوكه" ونحن الصغار نتشبث بفساتين أمهاتنا, نسأل تدبيرهن, عشر قروش, عشرة قروش ٍ فقط.
صار "علوكه" اسم العائلة, يعرفه كل أطفال البلدة, لم نسمع صوته إلا وهو ينادي "علوكه... علوكه".
"ثناء" كبرى بناته, صار اسمها بلهجة الحارة "سني" بقيت ناضجةً لم يطرقها أحد, جميلة وشغوفةً بالإعداد لزيارة النهر السنوية, يدخل بيتهم, يطفو حتى أزرار الكهرباء.
تهرب الأم بصغارها إلى الحارة, يصعد الحموي سطح داره مستغيثاً:

- يا جيران, يا أكراد, هذا النهر يريد داري.
لا يأبه النهر باستغاثته ويأخذ معه ما يشاء, قبل أن يصل إليه رجال الحارة مربوطين بالحبال. وحدها "سني" تضحك له, تلحق به, وتقول:
أسرفت في إيذائي حتى ما لا ينبغي
وأنا والله أحبك
اليوم كما قبل سنتين
لا أخاف منك
لا أخاف عليك
ألا ترى سيماءك على وجهي؟
وأنك والله لو سقيت رضابك غيري
لتهشم دمي
سأنتظرك العام المقبل
وأحبك دائماً أكثر.

-۱۱-

أبعد من بيت الحموي, تماماً عند الجسر الفرنسي, كان بستان "عزيز جاجان" يطل على النهر مغروراً بفاكهته وزهوره المعطرة, كان صاحبه موظفاً حكوميا في العهد الفرنسي ولازال حتى سنواتٍ قريبةٍ يستلم راتبه من الدولة الفرنسية.
قلبت الآليات أشجاره, عرضت جذورها للهواء, جفت الأشجار حزناً على رفقة الجسر المهدم. كانت النسوة يستظلن بأفياء البستان عصراً, يتهامسن عن أطيافٍ غامضةٍ تتحدث لغةً تفوح منها رائحة البلوط، تجتاز الجسر ليلاً. ينسجن الدانتيللا, يطرزن الوسائد بالملائكة والزهور والأحصنة المجنحة.

- ۱۲-

خسرت النساء أفياء البستان الندية, وخسر المارّة حافة الجسر, يستندون إليها, يراقبون الجدة "لعله"

- رحمها الله ـ واقفةً بقامتها السامقة, تشير بصوتها المجلجل لأحفادها أن يزرعوا الأوتاد حيث تشير. ترمي إلينا بكرات الصوف الملون, نتلقفها ببهجة قطط صغيرة, نركض من طرف الجدة إلى طرف الحفيد, نسلمه طرف الخيط, نركض رجوعاً إلى الجدة وهي ترتب خيوطها بدقة وأناة, حتى يستقيم لها ما تبدأ برسم زخرفاتها البديعة عليه, وفضولنا الطفولي يراقب الخيوط تأخذ أشكالها الجميلة, نتشاقى, تصرخ بنا, فنسكت.
الجدة "لعله" جدة كل أطفال الحي, توزع علينا السكاكر والحكايات ومزاجها العصبي, أهمس لها:

- يا جدة, أحبه منذ شجرتين وقفيرين ومدرسة وجسر، فلمن زخارفي يهجرها؟
فتقرأ عليّ سورة "يوسف".

- ۱۳-

كانت الجدة تنصب نولها بعد الجسر الفرنسي, على يسار النهر. على الضفة الأخرى بناءٌ من الحجر الأسود, غرف ٌ متراصة ٌ تشكل في وسطها صحناً مستطيلاً له بوابتان, شمالية وجنوبية, كان هذا البناء في العهد الفرنسي دائرة حكومية, تحول فيما بعد إلى دائرة التجنيد العسكري, يقصدها شبابٌ في ريعانهم, في أيام ٍ معلومةٍ من السنة, ينتظرون أن يكتمل النصاب, ليستقلوا الباصات, تتجه بهم إلى خدمة العلم؟؟!
يأتي الأهل لوداعهم, يطلّ الشباب برؤوسهم من شبابيك الباصات المغادرة, تزغرد النسوة, تلعلع رشاشات المجندين, تدلق الأمهات الماء في أثرهم:

- ليبق أثرهم ندياً ويزهر.
يردفن والنشيج يخنق طراوة الكلمات. أمام البناء عوت في الليل البهيم طلقتان, كان هذا " نواف" أكل مسدسه. اليوم تحول البناء إلى مسكن ٍ عائلي, بعد أن نهضت دائرة التجنيد إلى أعلى الوهدة, حوالي ثلاثمائة مترٍ أبعد شمالاً, تماماً على يمين المشنقة!!

-۱٤-

المشنقة, هي البناء الوحيد الذي بقي سليماً من القشلة الفرنسية. للقشلة قصص أخرى, أحد تفاصيلها أنها توزعت على كل بيوت البلدة: التوتياء, القرميد الأحمر, الحجارة السوداء المقطوعة بحرفية, أعمدة الخشب, جذوع أشجارالتوت, الأسلاك الشائكة التي كانت تسور محيطها, حتى أفاعيها لم تسلم من عصابات الأطفال, يقلبون عنها كل حجر ويدخلون لها كل جحر.
وحدها المشنقة بقيت صامدة, نصعد إليها عبر السلم الحديدي المحكم على حجارتها. البلدة كلها تبدو من هناك, أشجارالتوت, الناموسيات البيضاء, كنيسة "مار يعقوب", طريق القامشلي، عين ديوار, حارة المسيحين, سينما إيليا, مدرسة الشهيد خضر الداوود, النهر, بستان عزيز جاجان ورفيقه الجسرالمهدم, الكورنيش الجديد الذي هدم الجسر والبستان, حارة "خيركا", ديرك القديمة, منارة جامع "السيد", أجراس كنيسة "مار شموني", قبة جامع السيد"نذير", وكذلك سد "بورزه" حيث عثروا في انحسار الماء صيفاً على هيكلٍ عظميٍٍ لإنسان, كُسرت ذراعاه وساقاه, حتى أسنانه المتبقة لم تساعد في التعرف عليه. فالمفقودين من البلدة أكثر من أن نعرفهم من أسنانهم.
المشنقة, اسمٌ لم نكترث أبداً للرعب الذي فيه, وبقينا نصعدها كلما ضاقت صدورنا بهواء القشلة, حتى خفق قلب أحدهم لسلمها الحديدي, انتزعه ومضى به. بقينا أنا وصديقتي على الأرض, قلقتين في علوم كتبنا المدرسية, نستقرأ المنشورات تحت ثيابنا, نخفيها بإحكام ٍ, مالت صديقتي على شرودي واندهشت:

- أتحبينه؟

ـ 15 ـ

بعد كل هذه الكثافة, يرتاح النهر ويهدأ مجراه مروراً بمؤسسة الكهرباء, يجتاز الجسر الجديد الثالث, يمرّ في بستان "خليل عبد الغني". تماماً على الباب قتلوا ابنه, الغامضون الواضحون.
لم تبكِ "سينم", لم تضغط على نزف زوجها, ولا غسلت دمه عن شتلات الورد, رفعت رأسه إلى عنقها وهمست:
"شفتاك جافتان
صدرك حزين
ماذا تفيدك كلماتي البنفسجية؟
سأضم رعشتك حتى الإنطفاء".

- ۱٦-

كسيراً للدم المسبي, مائلاً نحو الشمال من جديد, يمرر النهر مياهه على الحجارة في حوضه, كأنما بيد حنونةٍ على رأس طفلٍ يتيم. يكمل مسيرته بخريرٍ خفيض.
أَمِنَ إليه سكان ضفتيه, فرصفوا الحجارة على عرضه, يتقافزون عليها قبل أن يمده الشتاء بالسماء، فيأخذ رصيف الحجارة معه.
يوصل الرصيف الكورنيش على الضفة اليمنى مع نبع "العسكرية" على اليسرى, يدفق ماؤه منذ ما ينوف عن ستين عاماً من أنبوبٍ معدنيٍ لا يصدأ, مغروس ٍ في مكعب من الإسمنت الأسود، يرتفع إلى ما يقارب المتر ونصف المتر. العسكر الفرنسي هم من رفعوا لفحولته الإسمنت, رصفوا لسلسبيله الحجارة, ومكثوا يشربون منه حتى الرحيل.
بقي النبع المصدر الرئيس للماء الحلو في البلدة, حتى تمديد أنابيب المياه إلى دورها. مهملٌ هو هذه الأيام, ترده الكلاب والقطط والعجول, ورواد المسلخ وسوق الماشية على بعد إلتفاتة.
في أيام الصيف وشحّ مياه الآبار الإرتوازية, يكون للنبع الكهل فسحةٌ من غنج الصبايا, يَرِدنَه, يبللن جدائلهن على عجل, يغرفن منه على وجوههن, يملأن منه أوعيتهن, ينعشنه بقوالب الثلج, ليكون برداً وسلاماً على الأحشاء المشتعلة بالفقدان والأحلام المتجاسرة على قسوة الهواء وفوضى التخمين, يستجرن بالتسامح مع َولَهِ " ليلى " المجنونة , تدلي بقدميها في مياه النبع, تناجي خيالها ب:
"َوعْلي أنت
عينك النور
تدفع عني حجر الغياب
أنا الظبية
أدوّن أسماءك على الجروف
وأبحث عن شجرة ٍ معطرة
تظلل عناقنا التالي".

- ۱٧-

كان المسلخ فيما مضى يقع على يسار النهر, لكن شارع الكورنيش المستحدث, دفع بالنهر حتى أحاط به من كل الجهات, اختلطت دماء الذبائح بمياه النهر, فسال أحمرَ. أُتخم الذباب الخمري بالخثر والجلود وراح يؤدي دوره المرصود, يوزع الأمراض على بيوتات البلدة.
أَسِفتْ أشجار الزيزفون في بستان "موسى" المطلّ على النهر, لكل هذا الهتك لحميمية الترسيم الطبيعي الأول, ساقطت أوراقها, ذابت, انحسر البستان إلى عدة أشجارٍ فقط:
"غار خد النهر حزناً
فمن أين أضم لكَ باقة؟
أنتَ الخيال
أتسعُ فيكَ
لأكفي الشجن".

- ۱٨ -

بعد المسلخ بقليل, تماماً على شارع الكورنيش, كنت أصل مع والدي فجراً إلى سوق الماشية, أهشّ خلفه قطيعنا الصغير, أو أستجره للسير قدماً بلغة أصوات عصيةٍ على التسمية.
ما من شاةٍ عليلة, خروفٍ أجرب, إلا ويأتي به التجار إلى السوق لبيعه للجزارين. مامن دابةٍ تفور بركة, إلا ويأتون بها إلى هنا, يتباهون بها ثم يبيعونها, هكذا هي التجارة.
يتبادل التجار التعليقات والنكات الفاجرة, يتداولون السياسة, يستغبون كل من في الأرض, وهنا يرسمون الكثير من القواعد والقوانين السارية على أهليهم. يتجاهلون إتيان "رشويه موسى" السوق. يدخل الرجل إلى السوق بعنزة معتوهة, يجعلها في عين الشاري ظبية. بقرةٌ بضرع ٍ ينزّ قشدة, تدغدغ شهية الشراء عنده, يجعلها في عين البائع كلباً كهلاً. مشدوهين بقدرته الفارهة, يدخلون كل مرة ذات الشرك.
فُتن أبي ببراعته وهو يتاجر, فشاركه, خرجنا من الشركة ننفض البلاط وننظف أنوفنا من النخالة.
"محو" كوجريٌ أصيل, جاء البلدة برفقة زوجتيه وطباع الكوجر, صار مديوناً لتجارها بما يكفي لشراء كل مواشي البلدة. يسترسل التجار في أحاديثهم وعيونهم تنقب عنه بين الجموع, يستحلفون له, يتطيّرون وهم يتجهون إليه, لكن "محو" تعلم من الشراكة مع تجار حلب والشام سريعاً, لا ينفضّ التجار عنه إلا وقد استدان منهم أموالاً أخرى, لا يعون الإنزلاق إلى لسانه الطلي إلا ويكون قد اختفى من السوق كلها, فيضحكون.
ما يكاد النهر يتجاوز نقاشات التجار، حتى يمر بالجسر الرابع، ويحيد في مسيرته شرقاً. متعباً من كل هذا الهدم المتعمد لذاكرة الماء.
أسهو عن خراف أبي في بزوغ الشمس على موجه الخفيف. والنهر يحتاج لأكثر من اتجاه ليزدحم بالحكايا, وأنت, لستَ تحتاج لأكثر من قلبي, ليكتمل قلبك.

- ۱۹-

يستكمل النهر مسيرته شرقاً بموازاة المقبرة التي تقع خلف حارة "خيركا" المنتشرة على الوهدة إلى اليسار. هناك يرقد جدي, شهدتُ تمّزق كبده في بيتنا القديم, أدهشني كل هذا الأصفر الذي له في حضرة الموت. لم أعرف أن أحتجّ على نقصانه من زيارتنا في العيد بغير رعافٍ باذخ . قريباً منه, بعد سبع سنوات, تمكنت جدتي إلى التراب.
وجدتي من سلالة النبي, لم أشهد انفطار قلبها وهي تتوضأ للصلاة, هرعتُ إلى المقبرة, ظننتُ أنها تنتظرني هناك, بقامتها القصيرة وذراعيها الطيبتين, لم أجد غير كومة تراب, قالوا أنها جدتي, كل ما قرأته من آيات على قبرها لم تؤكد لي أنها ماتت. أسمع حفيف قلبها دائماً قريباً من وجعي, لم أتركها تجتاز الضوء إلى الجانب الآخر, وهي لم تدخل لي حلماً أبداً.
كانت جدتي تزور الشيوخ, تكمل على زجاجة حبري ماءً من ثقوبٍ في أضرحتهم تعيد إليّ الزجاجة وتقول:

- ليكون لكِ علمهم وصلاحهم
ها أنت تنهض فيّ نوراً, ها أنت تعصرني إلى صدرك لأسيل حبراً, تدخل نداوة الفجر لتسبغ الدمع على أصابعي وأنا أدونّ المرايا لأخرج من عتمة عينيك وأكون نقيةً كقلب أمي.

- هل أنت دعاء جدتي؟.

- ۲۰-

مثل مدن الحكايات, انبثقت حارة "خيركا" على المرج الممتد على يسار النهر حتى المقبرة. امتدت بيوتها شرقاً حتى منطقة الزرائب والإسطبلات, بلهجتنا المحلية "خان". والخانات منطقة محرمة على النساء والصبايا, حالكة ٌ ليلاً, مؤاتية لأن تقيد رفيقاً سابقاً وتلقي به في مياه السد القريبة, تكسّر أطرافه, تشد عنقه بحبل ٍ إلى دراجتك النارية.
في آذار ينظفون أحد الخانات, يفرشونه بالحصير واللباد, يضعون في الصدر طاولةً وبضع كراسٍ, يرشقون جدران الخان بالكولونيا, يتقاسمون فيه ألوان نوروز منذ الغروب السحيق, وغواية الشمس ممتدةٌ في أحلامنا, نحن ـ المتقصفين ـ للنشيد. يصلون الخان عبر أزقة حارة "خيركا", تدبقت قدماي بطينها, خبرتُ بيوتها, تعلمتُ في أحدها الحروف الكوردية, جالستُ مسنيها في أيام الشتاء المشمسة, يستندون إلى جدران الحوش, يلفون تبغ "سرختِ" بورق "الشام", يقدمون لي واحدة, ندخن بتلذذ, يضيقون عيونهم, يسترسلون في الجبال وغمامها الأخضر, يُغَنونَ الهجرات والمشانق.
أمعنتُ في الشرود مع العجائز, يشربنّ الشاي حول المدفأة, ينسجن الجوارب الصوفية للرفاق في الجبال, والرفاق في الجبال استشهدوا, تركوا زهورهم على أيدينا وانطفأوا. دفعت العجوز شرودها إلي وقالت:

- من له بزهور ابني يا بنية؟

- ابنك, حبيبي يا خالة
حبيبي, أُطفأتْ عيناه
لمن أستحم بالقرفة بعد الآن؟
لمن أدهن قديّ بالنعناع ؟
حبيبي, صار حجل
وفي أحشائي ينمو يا خالة حجل
اسْدُلوا الأسود على المرايا
أسندوني إلى النهر
قولوا:
هذي كوردستان أيهاالنهر
فإلى من تسيل؟.

* العبارة للدكتور "نور الدين زازا" من كتابه "حياتي الكوردية".

أنا صباح الأضحى في هولير

( فرط خرزي ,لنرتعش أكثر )

بهدوء ٍ
أصبو إليك
أنا البعيدة عن هذيان الكون, في هدأتي الأشبه بالموت.
يا غريبي, هات قلباً, أفرشه على جرحي ليهدأ الألم قليلاً, قليلاً أفتح فيه عينيّ للنور, يمرّ بي أنا الكليمة, ويمضي,إلى غير شأن ٍ له,فمن يحنو على نضوجي ؟
عاريان من كل حب, تعال نعبر للخيال,نمتحن أصابعنا,هل تكفي لتدوين كل هذا الدم ؟
إنهم هناك, على أطراف دجلة ينتظرون, يسقون أطياف خيولك العائدة, ينفضون الرماد عن لحاهم, يعطرون الأغاني, يلقنون الدفوف قصائد" الجزري" , متيمين بالرب الذي قادك جنوباً وينتظرون.
ترجّل عن اليرموك وتعال نمضي للشمال,قد بخسنا الناس أشياءنا,وعاثوا في الأرض قبل إصلاحها.
حرائق , مذابح , ولا يفتأ ريشي كل مرةٍ ينمو من جديد.

يا قوم ليس بي سفاهة ٌ
كل ليلة ٍ أنهض من رفاتي
ألملم أبنائي المذبوحين
وهنا
بمحاذاة الصمت
أحبكَ
أنا أنثاك الطازجة
أغار عليك التراب الغريب
وأحلامي سقفٌ هزيل
أٌرَتِبُك بالشوق
أزرعك نرجساً
وأتأهب لرجوعك.

-۲-

تنبثق الغارقات في " وان " من صوتي, تنبت أكياس الخيش المتنورة من خاصرتي, أفيض على
" خالد الجبرانلي" مغدوراً في دمه على مرمر قصرٍ يمتد غابره إلى سلالة " مير شرف خان ".
استدرجه الضابط التركي ببدعة أخوة ٍ طُبع على قلوبهم.

سراً دفنه الذئاب في الحلكة
لا رفاق رشوا جروحه بماء الورد
ولا صبايا قصصن له جدائلهن
هتفتُ به :
- يا أميري,علمني كيف أكون لك أكثر.
- هؤلاء القوم استضعفوني,أنجدي الشيخ على الجسر.
صاح بي دمه المتخثر على ذراعي وفاض.

- ۳ -

يا " مير شرف خان "
أسس لأحصنتي الجذور,ردّ القلاع إلى فرسانها,أفرد لهم أجنحتي,ليستدلوا إلى قلبي في وجعه المحكم.
في ليلة عيد الفطر,عَلِمَ كل أناس ٍ مشربهم,نُصبت مشانق الشيخ " سعيد " ورفاقه, فجراً تأرجحوا في الريح تميل إلى الأضحى, استنطقوا الهواء عن دمنا المهدوروأخوة الإيمان المتربصين بهولير وهي تصيح بالعيد :

أكنز منك الوجع
وأقداراً تشبه كوردستان
حين أنت راحلٌ
وأنا أكثر من الحب
لا تنسى أن تأخذ صباحي معك.

- ٤ -

للريح منذورةٌ أقدارنا, وللمياه أكياس الخيش , تتفجر شهوتها للمتنورين الكورد, أزهار ثورةالشيخ ,فتيان الألق والخيال,أوثق الطورانيون أطرافهم فيها, ورموا بهم في بحيرة " وان ".

كان بينهم عاشق ٌ هجر حبيبته,استمرت هي تكتب له عن طيورها. حين احتض قاع البحيرة جسده الفتي, تذكرها, شهق للماء :

أوقدت ُ مجزرة في قلبكِ الأمير
سأصبح عصياً على جلدك
فهلاّ توقفت عن الكتابة لي
.
قلقة في أوراقها,تحتار في الصمت الظالم,تغني له:

أرني, أنظر إليك
أما ينزغنك مني نزغٌ
أذكرني في نفسك
تقرباً ورغبة ً
أنقشني على يدك
أفرط خرزي
لنرتعش أكثر.

- ٥ -

كانت قوافل الكورد الهاربين من حراب الموت العمياء تعود منهكة من الجبال. أحدق العسكر بأطراف
" أله قه مشه" , حشروا النساء والأطفال في منزل ٍ كبير , أوصدوه, كمثل ما أوصد الله على قلوبهم, قيدوا الرجال في ساحة القرية, خرّموهم بالرصاص,وأضرموا النار في الجميع,وحدها بقيت تترنح في الذكريات _العجوزالراوية_ .
كان الدخان عالياً,يوصل نشيج سينما " عامودا" في ثورة الجزائر, وهي تمضغ أبناءنا وتبصق شط العرب وأنهار كوردستان, لينفلق قلبي عطشاً في مستشفيات واشنطن,أشتعل في زنازين " حسيجا"
يتأجج حريق كبدي في دمشق النكران, وأنا ألتفت إلى " ديرك " البعيدة وهي تستلم شهداءها من كل الجهات, بقلب ٍ من حرير,تضغط الملح على الجرح , تضع كمشة ًمن زهر الليمون بين نهديها,تودع زائرها الغريب :

نسيتَ أخضرك معي
وبعضاً من غبار الطلع
قلبي لك
كل الورد النازف فيه منك
أناالرهيفة في
موجك العالي
وقلبك الحجر.

سنّها براهينك,وارب الصدأ,ليلمع خنجرك في خاصرتي كلما أنكفئ الحنين وترهلت أزهاري في درابة الوقت ينحاز لموازينك الخراب.
رصّها, مقايضاتك المرّة, عاقر الكتابة لأتوالد إشارة تعجب ٍ يتنامى كلما خاتلتْ أبوابك وصرّ في الصمت إتقانك للكلام.

- ٦ -

سعاة خويبون,فرسان " احسان باشا", يحيكون الأعلام لهامة " آغري",يستريحون في قرى
" ديرك", ينادمون " دجلة " فيعشقهم حتى الغرق. ظهورهم للصخور وسهل " زيلان " نزيف ,
وبارام راع الكباش الذبيحة
أورق على يدي
حين يتيمة ٌ معقوصة ٌ فيّ
ممتلئاً بضلالة شعري
نثر كحله على ظهري,
أسرجتُ فرسه, علقت على جبينها خرزة ً زرقاء وتميمة,ربطت وشاحي على زنده,نادته كوردستان فنهض لها:
- مازالت رائحتك تملأني
كيف تغادرني
وعسلك ينبت كل ليلة ٍ على جسدي ؟

- ٧ -

" في وادي زيلان وحده تم قطع رأس ؟؟؟؟ شخصاً "*, ضربوا الوادي بالمدافع والطائرات من كل الجهات,وفارسي يستبسل على هامة " آغري ", يولي أغنيته للريح فتأتيني وأنا أختنق في دمي المتفجر:

- َأَكَلنا الوقت
انتهك غيابي رقتك
كيف آتيك أميرتي المنهكة
وأناأرتعش في صوتك الذي يسقط مني
سأقبل أصابعك
أتنفس آذار في جيدك
قبل أن أنساك
وأتركك للظلال
لن أكون لكِ أكثر
فأنا راحل ٌ
تعرّقي في الأسئلة
ودعينا نحتار طويلاً
أينا مرآة ؟
لعق الطورانيون حرابهم,ثملوا من دحرجةالرؤوس,ساقوا عذارى الكورد عبر " وان ", اتقدت مياه البحيرة في قلوبهن, فقفزن لعشقها حتىالظلمة.

- فارساتٌ, ثلجٌ جبليٌ هنّ,فكيف يدنسه الغادرون؟

- ٨ -

- لست أقل من حزنك حبيبي,
من سيسند نزيفك إذا مِلتَ عن فرسك الكميت.
في أمان الله أيها المغادرون.
تقول " ياشار خانم " للراحلين عن تشظي " آغري " إلى صباح هولير وهي تعد قرابين عيد ٍ سيتفجر,
وأنا
طوال السواد
ألوك شفتي
وأتكور.

- ۹ -

عشرة آلاف قتيل يطفون في بحيرة زيورخ, على جروحهم ملح " أورمية", ونقش رصاص ٍ فارسي.
- كيف أضمهم على زندي ؟ ودم " اسماعيل خان الشكاكي " يقطر على إكليل شعري, حين سأحمله على كتفي, أفتح عينيه القتيلتين ليقرأ لي : " يطمح الأكراد إلى حرية تربية أطفالهم بلغتهم الأم, فهم يريدون ببساطة السماح لهم بالعيش علىالطريقةالكوردية "** يسند رأسه على ركبتي وظلال " قاضي محمد "وأخوته تتارجح على جسدينا, يمرر يده على قلبي لأراهم, فأنا منذ الهجر عمياء

- ماذا يعني أن يرمى بالرصاص بشرٌ مقيدون ؟

يسألني النبيل ويغادر.

-۱۰ -

أنام في رائحةالتفاح, أمضغ الخردل,والعشب يتشرب خيالات طفولتي, يشخص لها الموت,فلا أدرك فتوتي, ولا حكايات العشق.
أهمس للخريف حين ينسدل على أغصاني :

أنظر يدي بيضاء
ما مسنّي سوء
وأنت لا تجيد الحب
فدعني أعلمك صوت الألم
في الصمت الملتحم.

- ۱۱ -

موشاة ً بالمجازر والفرسان, يغدقني الرعاة على ناياتهم, يعزفونني, يهيبون بغابات " ديرسم " المجتثة, أن تخفي عشاقي عن حرابهم .
كل فجر ٍ نرتعد في إحتراق " سيد رضا ",نقرأ رماده همساً,نتتابع وعوله,نذرف نجله في قرية
" دشت", استدرجوه إليها بمكيدة الأخوة, مدوا الخرائط, فرشوا الكلام,

- بلا رفقة ٍ استلوك من قلب أبيك وصوتك النحيل ينادي :

- دونيني يا " بروين ", بلغة ٍ غريبة,دثريني بأختام الكتم على ميلادك,حين أنت حنطة "أوركيش" وفضيلة حبر " طلب هلال", انثري أسماءك في اللغة الغريبة, تكّوري علىالحلم يا طفلتي,تذكريني حين سيطرق العيد صباح " هولير",غني له,
أغنية ألم ٍ نقي
كشوق ٍ صقله الغياب
عمدّي عشقك بالقرابين
لنكبر في الوجع.

انفتق لحم " ديرسم", ضيقاً ولزجاً فاح الأنين من معابرها والعسكر يذبحون أبناءها, يوصدون منابع الماء بالجثث, يبغونها عِوجاً, يستقطرون من العويل زعافاً, يوزعون أرغفته على مخيمات الأنفال, فنتقاطر إلىالموت.

- دوني كتان جدتك, دوني المنافي وصوتك الكسير, دوني أمك المجنونة في سطوة الحزن واسأليها :

- لماذا نحن يا أمي ؟.

* العبارة من كتاب " الحركةالتحررية الكوردية في العصر الحديث ل " جليلي جليل " وخمسة من الباحثين الروس
** مقطع من مقالة نشرتها الصحيفةالبريطانية " ديلي تلغراف" في 13/4/1946 أثناء قيام جمهورية" مهاباد "الكوردية.

الهوامش :

1- بحيرة وان,جبل آغري,سهل زيلان,نهر دجلة,دشت,آله قه مشه,عامودا,حسيجا,هولير,ديرسم,ديرك والموقع ألأثري أوركيش : اسماء مدن وقرى ومعالم في كورستان.
2- خالد الجبرانلي,الشيخ سعيد,احسان باشا,اسماعيل خان الشكاكي,سيد رضا: قادة بعض الثورات الكوردية التحررية والقاضي محمد هو رئيس جمهورية " مهاباد الكوردية التي استمرت 11 شهرا فقط.
3- خويبون: تنظيم كوردي سياسي تأسس في العشرينات واستمر حتى الأربعينات .
4- مير شرف خان : أمير كوردي ألف كتابه الشهير في التاريخ الكوردي " شرف نامة ".
5- ياشار خانم: زوجة إحسان باشا قائد ثورة آغري.
6- محمد طلب هلال: صاحب الإقتراح المشؤوم علىالحكومة السورية بتجريد الأكراد من المواطنة.
7- الجزري: من شعراء الكورد المتصوفين الكلاسيكين وهو أكبر من كل ما قد أقوله عنه.
8- بروين: ابنتي,أصغر قاصة كوردية,وهي مجردة من اية جنسية في العالم.

ستمطر علينا أرواحاً أخرى

أَتَذكر "ديرك " في بداية السبعينات ؟
أعني عامودا ؟
أتذكر بساتين المشمش والتفاح تخاصر فتوتي المنمنمة ؟
أقصد قصب " جقجق " يسير ضحلاً في قامشلو الحب ؟
أعني عذوبة عينيّ والصرة الأطلس تتراقص على أكف الصبايا يغنين للعريس , يرافقه الفتية ليستحم في النهر,فقد حانت الحنطة.
أغرقتُ في الحلم, وإلهٌ ما يحابي بكَ دمي, يهمس:

يا ديلانتي
في قلبي فراخ عصافير ٍ
سنابل غضة
أسعى إليكِ بالفرات
أنضج فيه وجهكِ
أسوق إليك القطا
أمهلي الوقت بعضاً من الألم
ضميني إليك ِ
لنكون إنكساراً كاملاً
وتريثي .

********

- الدفء
الدفء الدافق,
ظننته صوتك ثانية يسيل من صدري.
الخدر في أصابعي النصف خضراء منك ذكّرني, أعني أيقظني على الحكايات أرويها لك في فراشنا علىالسطح الترابي, ترفعني إليه الأحلام كل ليلةٍ, نسمة ٌ منعشة ٌ ضغطتني إلى صدرك, أنضجت رجفة سُكرٍ عذبٍ داعب قلبي , لكن ....
كيف صعدتَ إلى هنا وليس في دارنا كلها سلم ؟ وكل سنابلي تقصفت حين انحنيتَ تحتسي امرأةً أخرى ستبقى أنا.

مساءً
سألني الأصدقاء عنكَ بخفوتٍ
متوجسين من ألق الحزن على وجهي
قلتُ لهم
ما خانني
فقط
شقّت عليه وعورتي
أتعبته أحلامي
إنه يستريح.

********

- كل هذا ليس مهماً .
المهم أنك توافقني على أن جلسة " خالد " هي جلسة عاشق. طريقة لفه للتبغ, أنفه الدقيق, الهواء المحيط به, مناجاته الخفيضة,عيناه البعيدتان, مشيته الأنيقة.
خالد المجنون
خالد العاشق
خالد الأمير
منذ أن ولجَ الأربعين أغوته الجنية " ديرك", تبعها إلى التخوم, كلما أنجبا حقلاً , أغوته إحدى الجهات لإيقاد نارها, فيغيب .
تحزن " ديرك " , تذوي نهرا آخر, يحزن " خالد ", يخفت ألقاً آخر.

*******

- هل تصدق حقاً أن هذا ما أردت قوله لك ؟
إنما استدرجتك لأدعوك إلى "بايزيد", ليس لتزور مقام أمير الشعراء, إنما لترى كم هي كثيرة النجوم في سماءنا صيفاً بعد أن تنفضّ مجالسنا عن حكايات الجن والحوريات, سيرة الأمراء والفرسان, ولربما يوافقنا الحظ فنحضر مضافة الأمير " طاهر خانى " لنسمع " عفدالى زينكى " يغني :

أيُ قلب ٍ من قلوب هذا الربيع
سنفرش لقدميك الحريريتين ,
يا قامشلو الدم ؟
أي نشيد ِ حياة ٍ سنختاره
أي بيرق ٍ سنفرده على قامتك
لتكبري في أحلامنا كالمقابر ؟
ها قامشلوكه
صباياك ِ في حداد العصر
يمضين إلى زغاريده
يخطف عرسانهن الورد الأحمر من براثن القدر
أشرعي صدرك
ضمّي بوهجك " عامودا " الحرائق
أشرعي قلبك
امتدحي عرسانك بعَبَراتِ " ديرك " الكليمة
افتحي كتابك الذي من رصاص
اسردي ملاحمك بلغة الحدود
لآمد
لهولير
لمهاباد
استدعي ينبوع ذاكرتك
عدّدي قتلة روحك
عدّديه
الورد الأحمر على خديك
خناجر القتل الأسود لحلمك
خطوات الحداد لحسناوات غبارك
النجوم القتيلة في جيد جُمعَتُكِ الحزينة
جرحك الملون
نعوش َ عشقك
عدّديها قامشلوكه
بسنابل يديك ارتجاجات جدران " عامودا "
بمشاعل صدرك أنفاس َ قناديل َ ليل ِ " ديرك "
بحنجرتك المنهوبة أنين فجر " سره كانيه "
استغاثة غروب " كوبانه "
عدّدي زيتون عفرين في عاصفة الرصاص بالرصاص
عدّدينا
أنا
أنت
حيواتك.*

*******


هل صدقتني هذه المرة ؟

- كيف تصدقني وأنا لم أطلب منك بعد أن ترتدي منمنمات " مير شرف خان " ولا أن تروي خزائن
" أوركيش " ؟
كيف تصدقني وقد انشرخت أزراري الأثنين والثلاثون وأنا أنحني لحلب قطيعك على منابع
" واشو كاني" ؟
الكوجر أيضا كانوا حاضرين في "جارجرا " حين خفق " القاضي" للنور, أورثنا نبضه أمانةً ل" قاسملو" الشهيد,
في الحين الذي كنت أنت فيه تعدّ خيولك لعبور " آراس " وأنا في الجيب الداخلي لسترتك أبكي بخفوت ٍ في الحلم .

هل ستوقظني لنقتسم التفاحة ؟

*******

لم تكن الزهور قد أكتملت بعد حين بدأنا أنا وآذار " نوروز" هذا العام.
أسرفتُ في الخيال وفاتني أن أخبرك أن أطفال "زيوا " أيضا دخلوا منذ السابعة صباحاً إلى جريان الدم الكوردي, بشهادة شجرة الجوز العتيقة " جليلي جليل ", همس العتيق في أذني أن " كيو " ينقر أشراف "السليمانية" حرفاً حرفاً, يستظهر سطوة الجبال وفتنتها من تخوم القلب,
وأنا قلبي جامحٌ
غرير
ولم أستيقظ بعد منك.
هل تظنني عاشقة ؟

*******

- ومع ذلك ليس هذا ما أردتُ قوله لك .
أردتُ أن أقول لك أن أبي رغم البريسترويكا وصراع الحضارات وسيادةالقطب الواحد,بقيّ كوردستانياً حتى الجبال, لم يغيّر جهته مع أن ثلاثة ً من أبناء أخيه أختفوا من" زور آفا " مقيدين بشعارات " البعث" .
أحياء, أموات , عمي لا يعرف عنهم شيئاً.
يعود أبي من جنازة " فرهاد " , يجلس القرفصاء بجانب السور القديم للثكنة الفرنسية ,يكّر حبات مسبحته,وبصوته الرخيم يسأل جارنا " محمد لعله " :
هل تذكر ؟ كانت بنادق "البرنو " أطول من قاماتنا

و" الصبي
الذي ينقل الماء
إلى البيشمركة
يتمنى أن لا يقذفه لغم
إلى السماء
كما حدث لمن كان قبله". **

*******

- هل تظن أنه كان من الظلم أن أنهض منك لتمر بنا العجوز السويسرية بزهورهاالبرية وتترك لنا دهشة غريبين يستعيران جبلاً غريبا ليتذكرا الحجل ؟
هل تظن أننا يجب أن نذهب إلى متحف " حلبجة " ونسمع أنين التراب لتعلم أني أتألم ؟
" آمد " أيضاً شهدت عريك ولهاثك
آمد العاصمة
آمد القلب
آمد الخراب.
ربيعين شهد القرنفل خفقانك لي, وسترتك الجينز الفقيرة تلهفت لصفير شقاوتي من الجانب الآخر للقطار وجلدك يشهد أنك سرت لي حافياً والمجاز ينبض في دمك, حين أنا في لغتك الأنيقة ,
بحيرة من الألق الكوردي
بحيرة من " وان"
بحيرة من " أورمية "
قرأتني لمدة ٍ ماء
حين رفعت شفتيك عني
كانت امرأة ٌ أخرى تنمو تحت جلدك.

لماذا تعتقد أنني يجب أن أكون كل مدن كوردستان في كل مرة أصرح فيها أني أحبك ؟

سأزرع المسافة بالفراشات لوقتٍ سيتفتح على لسانكَ زهراً بدوخة الفودكا وأظافر الليمون.

هل صدقتني الآن ؟


* ترجمة قصيدةالشاعر أحمد الحسيني
** قصيدة للشاعر حسن سليفاني

الهوامش :

1. ديلانا : أنثى سليم بركات في " ديلانا وديرام".
2. ديرك : مسقط رأسي.
3. زور آفا : وتعني المبني بالصعب وهو حي الأكراد في أطراف دمشق ومبني في الجبل كعادة الكورد في اللجوء إليه حين تشتد الذئاب.
4. فرهاد : شاب كوردي قتل تحت التعذيب في سجن القامشلي.
5 . خالد: أحد معالم "ديرك" وهو المتفرد بين أهليها بجنون ٍ صحيح.
6.الهوامش تتسع لأكثر من اختصارها على هامش قصيدة وهي في الأصل المصادر ولهذا أكتفي بهذا القدر.

قامتي الرمح المزين بألف جديلة

- لا زلتُ كما تعرفني
جميلة ً وهادئة
أحب السير تحت المطر وحدي, أمتلأ بكَ دونك.
لازلتُ قادرة ً على ابتكار ضوء ٍ صغير والإدعاء أنكَ هنا.

- هكذا .....
رويداً ,رويداً
أستحضرك ِ من مجاهل الغياب, أستدعي خباياك ِ خدراً خدراً, فكل الأشياء منذ رأيتك ِ نصف والنصف الآخر أنتِ.
وهذه كأسي أغدقت ُ عليها من رقة الكرز دوخة أربعين عشق ٍ فترنحتْ, وترنحت ُ معها لأجلس إليك ِ في كامل بهائي
هكذا , أطمئن نفسي على هواجسها.

- سأفتح بوابة الدار لنسيم المساء المعطريحمل قدومكَ الجميل, في أكمامكَ رائحة الغابة
وصوتكَ وردٌ أتموجُ فيه. سيتوقف القلب هنيهة ً لقبلتك في كفي......
هاك ذراعيّ
ولنترك السماء تسيل علينا ,إبذل لقلبي الكسير حكاياتك الطيبة, أتمم نقصاني ,لأكون الحرير تنام فيه, وإيماءة اليد تموج المعنى.
كيف أكون الحرير في إيماءة اليد تموج المعنى ؟

- بداية التكوين ذوبتنيّ.
برهة ً توقف القلب وتاه حين سمت أبراج العاج وتجلت مفاتنكِ,أي حريق ٍ تعلنينه عليّ ؟. عسل ٌ مملح سال على ضفاف جرحكِ هلعاً من رائحة الغار والحليب يفوح من جسدك الطازج في انسيابك العذب لي.
أنا الذي أعطى لأقواسكِ مداها المطلق, لدوائركِ تكورها البديع, ولبراعمك الأولى بزغت شمس ٌ في شفتي فكنت ِ لي.

- هادئة ً على نحو ٍ ما
طافحة ً بالخصب
سكنتُ لقلبك
لتفيض الأنهار لي
تنقشني الغابة بالحفيف
وإضمامة يدكَ تدلني للمقاصد
فأفوح
قبل أن تخفت الأضواء
وأترك العتمة تجرك إليها.
أنفرط كل ما أعددته لكَ من جمال ٍ في نبرة صوتك المبتعدة للمكان الحريق. بدونكَ لم تعد
" ديرك " تأتيني عاشقة ً ولا السنونو يحدس أعشاشه في قلبي. لا يداي تنضجان
بالقصائد ولا ضلوعكَ تخفق بأنثى غيري.لا الجنوب تأهب لأجنحتك ولا الشمال أستتب خواءًَ من قلقي. وها أنا أشرب الليل في انهمار الكتابة ,أتصبب لغيابك

كإنما أنسياب العرق على صدري في الحمى, مداعبتكَ لي.

لا بد أنكَ تتنفس في هواء هذه المدينة وإلا فلماذا أرتعش ؟

- قطفتُ لك ِ من حديقتنا باقة نرجس, قرأتُ عليها اسمكِ ,نفخت فيها,امتلأ فضاء المدينة بشذى
أمسياتنا البعيدة.
تعالي......
نشعل اللهيب من جديد بشهيق ٍ مستديم لازفير فيه,وننسى سير السنين علينا.
تعالي .....
نعدل الميزان ليحتمل حلونا أيتها المترفة سحراً, وافردي للقلب أجنحة الخيال,فلا أوراقك ِ يابسة ٌ ولا غصني الأخضر منبتٌ للألم.

أيا ليتني الحمى ترتعشين فيها .

- عابرة ً شوارع المدينة,لازلتُ أشذب النار ذاتها,أتعلم احتمال حزني لوحدي,أترك " دلشاد " يحّز قلبي بقوسه النغم, أخزّن لكَ كل ما في ملاحم الكورد من عشق ٍ ولوعة , أهرقها على ذراعيك َ أنى أتيتني .
هكذا....
أكمل الحلم فيضاً ففيضاً,
أترك المساء يتلوني حزناً أوقد جناحيه للغياب
وأبتسم
إذ تهبّ عليّ مساءاتنا البعيدة.

- متعب ٌ يا حبيبتي وحزين
تحيد الدهشة عني
عائدٌ من الكهوف بذاكرة ٍ فاجعة,أسأل الجودي طيفك, أغمض عليه عينيّ, يتكاثف رحيلاً بعد رحيل. وحيدٌ لما تزال النار مشتعلة ً في داخلي.
كيف أدون المحرقة ثانية ؟ ما أنا طائر الفينيق ولا أنت العنقاء يا نرجستي الحزينة.

هنا تشتاقكِ أعشاب أيار المكتنزة , تروي لي رغبة ً أضمرتُها في مرورنا بها صيف ذاك العام, وهذا نبضك ِ يؤرق ليلي.

- هنا الوقت يا حبيبي صدفة
ولرحيلك َ شجون ٌ أورثتني العشق
ألمٌ تعاظم من الصرخة حتى الصمت
صمتٌ أختمرتُ فيه عذوبة ً بذخاً, أينع مشمشها في قامتي الرمح المزين بألف جديلة ٍ أهدينها لي عاشقاتك َ, فها أنت قد حللت أرضاً كلها أنا.
كوردية ٌ من نرجس أتقدم في الأسرار لأولي وجودي متاهة المعنى.أناديك بأعذب الأسماء في خفقة جناحيك خارج دائرتي. أسند قلبك كل مساء, وأظل كالشرانق أستسقي اللون في شهوة الحرير لتنضج لكَ كل نساء الأرض فيّ حين أنت لي .
وأنسى
أن أسير مستقيمة ً منذ علمتني الدوائر.

- قطيفة ٌ لما يزال الغروب في هذه المدينة اللاتينية, التي أعتقدت دوما أنها لا تختلف عن مدن ماركيز الخرافية. أفقنا "الجودي" والجنوب سهل ٌ مفتوح على الغامض. تقلقنا الخفقة الخافتة لأجنحة الطيور الكثيرة المغادرة هذه الأيام إلى جهة لاتعود منها أبدًا.
وأنت ِ لستِ في المنزل البعيد عني مسافة صرخةٍ من القلب لأرسل إليك ِ جيلاً جديداً من الرسل يدعونك ِ إلي ّ.

هل أنتِ الآن في البعيد أنت ِ ؟.

- تماماً في كمال الموتى, لا أحتاج حتى إلى ظلي.
لكنكَ تبقى متدثراً بملامحي, تهبني من قلبكَ البنفسج أضاميم أضاميم, ُتسبغ عليّ القمر الطالع من سماء مدينتنا, تذكّرني بطيفي الواقف بين النافذة والباب تنهض إليه واثقاً من " لا " تخفت بين ذراعيك لتصبح " نعم ".

كلنا كنا هناك قبل أن تتحيننا الجهة الخطأ ونجهل أين سيستيقظ صباحنا التالي. زمنٌ فقدناه عبثاً,إذ سعينا في فيض الألوان للبياض.

- بيني وبين الموت أنت ِ,
دموعي في الجمع المودع أنتِ.
الهاجس الذي يلح أنكِ دائمًا معي لن يغيبني كثيراً, فقط قليلاً , لأتأجج أكثر. ولأنك يا طفلتي التي لا تكبر أبداً هنا, يكون احتمال الرحيل هذه المرة أيضا أسهل و تبقين مسافة ً أخرى من الحلم وغبطة ً أتمرغ فيها.

- مررت َ بجانب بيتنا عصراً- أكاد أراك-, رفعتَ يدك َ للجمع الجالس, تمنيتَ أن أنهض إليك ملوحة ً,لكن ذراع والدي هي التي أرتفعت,
فالشمال أختارني إليه لأُرضع مساءه, شمالنا الذي صار جنوباً.

مذكرات زهرة الأوكاليبتوس
( Lawko heyran )

لدهوك...
لديرك التي في دهوك.

" لم يكن بالإمكان تدارك الأمر
كثيرون كانوا ينتظرون
هكذا بمبررٍ كبير ويبدو حقيقياً جداً, كان يجب أن أذهب. كل نوروزٍ آخر سيبدو محتملاً على نحوٍ ما, فمنذ الآن لن تلتفتي إلى أية جهةٍ قد تتوقعين أني أسعى إليك منها, وهكذا فأنا واثقٌ تماماً أني لم أترك لكِ أي تذكارٍ قد تشعرين أنك يجب أن تضغطي عليه في كفك كنوع ٍ من التأكد أني قلت لكِ " وداعاً " واضحة.
بإمكاني أيضاً أن أمرّ بالرفاق وأخبط الأرض قوياً وأردد اسمكِ صحيحاً لا ارتباك فيه, واثقاً من أن قلبك ينبض في الأمكنة التي لا تؤكد غيابي.
سلاماً يا خميلة الورد.
لم يكن بالإمكان تدارك الأمر........."

منذ قليل تنفستُ رسالتكَ وأدركتُ ما تضمره لي.
منذ الآن سيكون للموت نكهة الحب.
لقد هزتني رسالتك من الأعماق, ولطمت بي أمواج الذكريات. لم أعد قادرةً علىالتماسك أمام انهيالات الأسئلة والخيالات.أنا ورسالتك وكنيسة " دوم ", أنا ورسالتك والشيخ " معشوق " في الضوء الخافت لكنيسة " دوم" . أسراب قطا تطير من جوانحي في ابتهالات الزجاج المعشق ولهفة يده النور تدون اسمي.
الغرباء على قلب المدينة وأنا منذ الأمس أحتشد. ينهض " فرحان " ابن عمي من تراب" ديرك ", ينفض السرطان عن شبابه عتمة ًعتمة, يغشاني من أقطار البيت, يأخذني صوته من كل مكان,
يخلي بيني وبين الشعر لأدور على نفسي في وابل صفاتك وأخرج للنوروز بمحض رغبتي, لأسمع الشيخ في كورديته المُكَسَّرة, واقفاً على دم "صوريا " يقول :
- يا وحدنا...... يا وحدنا الذي لنا. سبعةٌ وتسعون حياتاُ هم كل سكان " صوريا " ذبحهم عسكر البعث ورموا بمهود الرضّع للخابور.
يذكرني " فرحان " :
- لازالت أمك تفاخر بأن مهدك من طيبة " زاخو " و " خابور " الغرقى. لازال الغرق وبكاءٌ خفي نديم صوتها كلما ترنمت لصغاركِ.
تمرق فيّ كالهواء,أحادث نفسي بك,أقول قد تمر من هنا, تبث اللحن سيرتي, تختزنني في صوتك وأنت تنحني على الطنبور لينفلت جسدي من أصابعك لحناً يحمله نوروز "عين ديوار" على الأكتاف
" والقمر يكاد يكمل دورته وفي دمي ألف hey lê gulê gula minê ;şérîna li ber dilê minê "
شيطانة تنصب لك دوائرها.
سأنشد لك نشيداً, إلهي نشيداً بأكمله سأنشده لك, فأنا في الشعر منذ أول الخمر,هاته على خلخلته ليدوخ الليل اكثر, علني أنضج في نوبة حزن.
آه
لو أن السرد يترك لي صدوعي!؟

كنتُ منهكمة ً في الكتابة إليكَ بحرارة, وقبل أن أنتهي هبّت نسمة ريح طيرت كل أوراقي فلم أعد أعرف إن كانت الرسالة وصلت إليك أم لا ؟ أصلاً لا أعرف ما الذي كتبته لك,أعرف فقط
– بالكاد أنزاحت تويجاتي عني - أني أرسلت إليكَ وردة......
رسالتكَ هزتني من الأعماق, حتى لم أعد قادرة على التماسك أمام انهيالات الأسئلة والخيالات, أنا ورسالتك وابراهيم الخليل, أنا ورسالتك و" أورديخان جليل " في بوابة ابراهيم الخليل نشم التين في جدائل "دلال".
- على صدري ملكٌ طاووسٌ وخفقة حلم,وفي أصابعي لوعةٌ لغبطة الألوان في خاتمكَ.
قال وريث التراث الكوردي ل "علي عوني" وهو يحرك رنين الشاي في ظهيرة ابراهيم الخليل الساهرة على فسق الحدود. قالها في مكرٍ حبيب وهو يضمر أن يهديه "علي " خاتمه المزين بالعلم الكوردي. قدم "علي" الخاتم إليه وهو يستدرجه إلى جدائل " دلال ".
- يقولون أن أشجار تين ٍ نبتت في الحجر القديم, دلني إلى الخرافة في جدائلها أيها الجليل
- كان الجرو يتقدمها فيلهج قلب الأب بالعرفان, تعود تسابقه فتسبقه, يذبل قلبه للفقدان, وطأت قدمها أول الفجر قبل شقاوة جروها فكان حتماً على البنائين أن يوصدوا على قامتها جسارة الحجر في اجتيازالماء.
" دلال " ابنة والي " زاخو" وقربان الجسر في تعويذة العرافين ليتوقف الحجر عن الحمى كلما رفعه البناؤون قامة.أول خطوة ٍ تصله في انبلاج الفجر يكون صاحبها أول عامودٍ في هذيان الجسر.ويح قلبه الذبيح والدها. ويح قلبه الذبيح فتاها.


لقد أحترتُ في أمري, فمنذ قليل كنتُ منهمكةً في الكتابة إليكَ بحرارة – لقد تفتحت بتلاتي بشكلٍ ملفت وصار بإمكاني ان أتأمل لوني بزهو - وقبل أن أنتهي هبت نسمة ريح طيرت كل أوراقي فلم أعد أعرف إن كانت رسالتي وصلت إليك أم لا ؟ أصلاً لا أعرف ما الذي كتبته لك, أعرف فقط أني أرسلت إليك وردة......
لقد هزتني رسالتك من الأعماق, حتى لم أعد قادرة على التماسك أمام انهيالات الأسئلة والخيالات,
ليس الأمر أني متوجسةٌ جداً, لكن الأمور تبدو في مواضعها تماماً,وليس من عادة الوقت أن يمّر على احتشادي بكل هذا الإنتظام. ومع أن الغرباء على قلب المدينة, إلا أن آذار هذا العام مرّ بإحتفاءٍ كامل وكان بإمكاني أن أماطل الأرق وأنام قليلاً, قبل أن أعلم أن " قامشلو " وحدها تذكرت شهدائها.
منذ أكثر من عامين وأطياف ثلاثة أطفال ٍ مدهوسين واقفةٌ في مدخل انتفاضة " قامشلو", ينتظرون أن أردّ إليهم أسمائهم التي ضاعت في جنازات شهداء ٍكبار. تقيحت طفولتهم , تخثر الدم في أجوافهم الصغيرة المهتوكة.
أنجدني بأسمائهم لأضم طفولتهم إلى قلبي الأم.
لا تتوجس كثيراً من سكينتي المفاجئة.إن أنا إلا عادةٌ كورديةٌ قديمة في طرق الحجرحتى تنبجس الشمس وليس للأمر علاقةُ بأني متوجسة من اختفاء الشيخ " معشوق " منذ عشرة أيام, وأن ثلاثاء المشفى العسكري في" دمشق " كان مكتظاً بالأمن, ولا بأن أشجار الزيتون تستعد لعلمٍ كبيرٍ مخنوق والطوفان أغرق " الجودي " ولا حمام.........

في الحقيقة لم أعد أعرف, لقد كنتُ منهمكةً في الكتابة إليكَ بحرارة – لقد صرتُ ناضجة ً الآن وبإمكاني أن أتحسس أعضائي - فرسالتك هزتني من الأعماق وقد أرسلتُ إليك وردة, لكن الريح طيرت كل أوراقي. لم أعد قادرةً علىالتماسك أمام انهيالات الأسئلة والخيالات.
أنا ورسالتك وليل "زيورخ ", أنا ورسالتك في لجة الألعاب النارية لعيد الربيع في نيسان " زيورخ ", ورائحةٌ عنيفة لحريق عظام "هويري عيسى" الثمانيني وتسع وعشرون أمرأةً وسبعة وثلاثون طفلاً أحرقهم البعث أحياءً في قرية " داكا" في نواحي " الموصل.
كان الصباح لايزال رياناً, تدحرجت قطرة ندى إلى فمي – صار لغيابكَ هيئةٌ كاملة _, للحال تذكرت المرأة التي قلتَ أنك تحبها وأدهشك أنها تحب التعرق في رائحتي.
" حريق, حريقٌ تنهمك ساعة الأوكاليبتوس في عد دقائقه الخمس عشر بينما أراقب قطرات العرق وهي تسيل على صدري,تملأ سرتي وتسيل.....
في تتالي التعرق إزددتُ يقيناً بأن لي صلة ما بتكوين الورد, ثمة صفحةٌ مشتركة بيننا في الغيب البعيد,أعجبني أني أبدو كبتلة ورد حين يتدحرج عليها ندى الصباح. ليست بشرتي هي التي أعجبتني, لكن المنظر ذاته, أعني بتلة الورد حين تتقطر في الندى الصباحي. كانت الحرارة مرتفعة جداً وصراخ "داكا" يلهب أحشائي وأنا أحاول إلتقاط الهواء من السخونة الحارقة التي تفوح بالأوكاليبتوس. لم يكن سهلاً تذكركَ هناك, ولا مراقبة القطر يسيل على جلدي دون أن أعتقد ان لي صلة ما بتكوين الورد. هل تعتقد أني أهذي ؟
وماذا إذاً ؟
لم أستطع الإحتمال ريثما تنهي الساعة الرملية المعلقة على جدار الأوكاليبتوس عد دقائقهاالخمس عشر, خرجتُ كأنما من حريق ٍ سعيتُ إليه. اللمسة الأولى للماء البارد! سالت الدهشة على جسدي, سرى خدرٌ يشبه الموت, كان بإمكاني أن أسمعكَ بوضوحٍ تام, أن أسمع قلبي نبضةً نبضة, لخمس دقائق كاملة, إنه أنت إذاً ثانيةً.
خمس دقائق أخرى وتنجلي الدهشة, يستعيد دمي سماكته فأستعد لدورة أخرى من الحريق, منك.
لم أسألك قط,هل ثمة قرابةٌ بينك وبين الأوكاليبتوس ؟ أقصد هل مررت من هناك حين كنتُ, أنا فيه ؟ "
تماماً هكذا جاء في رسالتها التي مررتها إلي.
هو المساء إذاً يحتضنني برفقٍ وحنو, وأنت من مكان ٍ بعيد............
كيف أدلكَ إلى الغور مني ؟

لقد طيرت الريح أوراقي.لكني لم أعد قادرةً على التماسك أمام انهيالات الأسئلة والخيالات – أعتقد أن ثمة تغييرات كبيرة تحدث في تكويني, أستطيع أن أشعر بالشهد يتقطر في داخلي – وقد أرسلت إليكَ وردة, فرسالتك هزتني من الأعماق ولطمت بي أمواج الذكريات. أنا الآن في بيتكم,أنام إلى جانبك,لا أنا لست نائمة, نحن لسنا نائمين,أنا وأنت نتحدث, كلماتنا غير مترابطة, كلمة من " ديرك " ,كلمة من " دهوك " وأخرى من " زيورخ ", ول " ناهد الحسيني " حصةٌ في حديثنا. هي تنشد القصائد لليل "دهوك", تغني: قبلني, قبلني يا حبيبي. تكسر زجاج الشرف,تشرب عين الشيطان, فهذه ليلة الشعر والعشق والشراب. أستمع لأنفاسك خلفي......
كأنكَ السحاب يغمرني وحبور الحكاية في خيطها الرهيف,لأعماقي طقوس الزهور في تفتحها ولعشقكَ براعة الربيع في بث الفَراش, والرمان فاكهة الخريف ينضج على صدري ممهلاً الريح نشوة العبور, تأنى على الورد , أغدقه عليّ مسكاً وتهادى في تألقك, أمهلني بعض الموج , لأنوّر كزهر اللوز.
سأبقى معك حتى الصباح - نأكل الشعر,نناقش النبيذ, نقيس أركان الليل بالشوق ونرميه بحصانٍ على شكل مكعب الزهر - أترقبك حتى الصباح, وأنت ترتدي قميصك وتوزع هواء الحوش المنعش عن بعضه, أهشُّ ينابيعي لقلبك, أشرع حقولي لتتبعك أشجاري, أشَفُ لكَ وعليكَ حد التهمة, فلا تغلق من خلفك بهاء الغياب.
أنت لن تتركني في البكاء هذه المرة أيضاً وتمضي, أليس كذلك ؟

لقد أختلط علي الأمر يا أبي,فقد كنتُ أكتب لكَ بحرارة وقبل أن أنتهي طيرت الريح أوراقي, لم أعد أعرف هل وصلتك الرسالة أم لا ؟
منذ وقتٍ طويل لم تصلني رسالةٌ منك.منذ آخر ضيوف ٍ وصلوا إليك من اغترابي, وغدروا. هاهي صورهم.
هؤلاء ضيوفك ياأبي, أضمرتَ لهم محبتي وسَقَيتهم حكايات التوت. هكذا لفرط كرامتك أجازوا لأنفسهم النكران وتوعدوني إن أنا حزنت على حنانك المسفوح للطفهم المداور.
شيوخٌ تدوخ الدفوف في تكياتهم وأدوخ يا أبي من غدرهم, فلا رضاعة التين واتت طيبتي ولا نمنمة التوت أجارت إستسلام قلبي للمدائح.
هؤلاء ضيوفك يا أبي, قدّوا من جموح الحنين بعض مساءاتي, ونصبوا لرمان الحوش حيلة الصور,أضمرتَ من كلماتهم لوعة اغترابي ونضحتَ لهم بكل ما في دارنا من هديل وحكايا, فبذلوا لي النكران وذبحوا كل عصافيري قبل أن يجف كرمك عن شواربهم.
قدمت أمي لهم معقود المشمش وبيض دجاجتنا المدللة, وقدموا لي تصنيفات مبتذلة عن مراتب الحب وأنذروني بالخيانة, فبكيت يا أبي ولازال إهدائك السلام إلي رطباً في أحداقهم ولازالت نبرتك الشوق في آذانهم ندية.
هؤلاء كانوا ضيوفي يا أبي, لا أخجلهم سيط آبائهم ولا نفور الهواء من رائحة الغدر في مهاتفاتهم إلي.
لا تأبه لألمي كثيراً, ولا تشعر بالخيبة والخسران أن خبزكَ نزل جوفاً غدر بروح الله فيه. الغدر كان دائماً كثيراً في تاريخنا.ومن يخن الخبز يخن الوطن أيضاً يا أبي.

أظن أنني البارحة وبسبب انهيالات الأسئلة والخيالات بعد رسالتك التي هزتني من الأعماق, تركت أوراقي للريح, فطارت الوردة التي كنت سأرسلها إليك. ويبدو أني بكيتُ كثيراً وكتبتُ رسالة لأبي لهذا لم تصلك وردتي............
سأتحدث إليك متكئة ً فأنا متعبة
البارحة مرّت بي نحلة, لم تُسلِم علي,انهمكت في لثم بتلاتي لفرط اللون المنهمر,كانت عطشى وتفوح من وبرها رائحة الميموزا.الميموزا تنمو على ضفتي "صابلاخ " الذي يمر قرب مهاباد حسب سليم بركات في أنقاض الجمهورية المنحورة. وأنا رأيت من الأعلى – حين كنتُ بذرة – نَهْدَ بحيرة أورمية وأمواج ملحها المتمرد على منح الحياة في مكانٍ له هذا الجرح الكبير. كاد الأفق يقلب خيال البحيرة علينا_ كنا نطير جماعة_.ملحٌ كبير لجرحٍ كبير, هكذا تكون المعادلة صحيحة لمكان ٍ لازال منذ أنقاض
" دمدم " يغسل قلبه في النبع الفخور بأن " الخان ذو الكف الذهبية " غرف منه وعيناه تتخيران مكان القلعة- دون توقفٍ نمتحن الجبال_. نبعٌ آخر لازال يغسل الخديعة عن حجارته منذ حصار الروم لرسالة الخان إلى العشائر الكوردية بالغوث.كتابةٌ مسمارية في الطور الأعلى تتقصدها يد التخريب والحجر الأزرق الناطق بالميدين هُجّرَ إلى المجهول المعمم بالجبروت.
كان بإمكاني أيضاً أن أرى في فسيفساء عينيها هيبة " كودو". كودو الأسطورة والخيال المرئي الذي تسعني ذراعاه في إغماء شوق.
_ ستغيب ثانية إذاً _.
منذ قليل حطت عليّ فراشة قالت أنها قادمة من مفرق " شيف شيرين" حيث توزع كوردستان جهاتها. ومع أنك قلت لي مرةً " لم أحرثك ِ, فلماذا تصرين على أخذي بجريرة حبي عليكِ, ولم أملأ مياسمك لتكيلي إليّ بهاءك " إلا أنه خطر لي أن أسألها عن السمسم الذي يزرعه لحلوى عرسنا ألف بيتٍ يزيدي في " مهتا ". هذا ما قاله لي الحاج " عبد الله " البيشمركة منذ العام 1968 في تلك الشمس الطازجة بين دهوك وديانا – كنت ُ لا أزال شتلة – في ما بعد أشار إلى الجانب الأيسر من الطريق وقال :هناك تنمو " آلقوش " وقرى الأب " حنا قاشا " المذبوح في " صوريا " الدم الكوردستاني.
كنتُ لا أزال حائرةً في الأجزاء الخضراء التي يتفتق عنها غصني, أفرحني في ما بعد أني أستطيع بها ملامسة الجهات التي تأتي بها الريح. يومها تحدث الحاج كثيراً عن الأشجار البرية التي تنمو في جبال كوردستان, كل نوع بعينه وفائدته, أسهب في الحديث عن شجر يشبه الحلم اسمه " ديندار" قال أنه يحترق جيداً. حلم يحترق جيداً. كان في حديثه عن شجر " الجنار" بريقٌ شهي, توقٌ إلى أنثى فاتنة وخصبة,هي تنمو حيث يكون الماء, قال الحاج ودندن لحناً عن " الجنار " والماء.
جسر " الحسينية " الذي مرت عليه سيارتنا كان يقوم على قاعٍ جاف من الحصى.كيف ينمو هذا الجسر بدون ماء قلت لنفسي وأنا أتحسس رطوبة التراب المحيط بجذوري.
- إنهم يزرعون الرز هناك في الأعلى, في الشتاء يكون الماء هداراً هنا, يجرف كل ظلٍ يسقط فيه.
و" ديرك" التي تنام في صوت أمي سهلاً – حيث نفضتني بذرة – هي هنا واد ٍ يُزرع فيه الرز وبساتين الخضار. " ديرك " هنا إذاً ؟!
إذا رشفتني الفراشة في رفق سأسمح لها بقضاء الليل بين بتلاتي ...............

مع أنني منهكةٌ جداً من انهيالات الأسئلة والخيالات ولم أعد أعرف ماالذي كتبته لك حقاً في الرسالة التي تركتُ الريح تطيرها إلا أن هناك ما هو من الجدير قوله لك بعد رسالتك التي هزتني من الأعماق.
إنه الخريف – هاهي يرقة تزحف على غصني,أكاد أرى ألوان أجنحتها غداً. إن مسدت رطوبتها كياني وهزّ ملمسها مكامن الغبطة فيّ, فسأهبها بعضاً من طلع " هلكورد" الذي تركه يعسوب
البارحة – لم يكن بإمكاني تحسس لهفة خرطومه الدقيق وهو يندس بين مياسمي, لقد أمتص رحيقي فوراً, وفي دفعةٍ واحدةٍ قوية كادت أن تفقدني صوابي قبل أن أتمكن من تخمين الحقول التي مرّ بها _ ليكون لأجنحتها شكيمة الكورد وأول استعادة الغابة لعافيتها في الجبل الأب.
من الصوت الحاد للطائر الذي حط على فرع جارتي شجرة اللوز, بدا لي واضحاً أنه التقط حباتٍ من السماق الذي ينمو في جبل " شيرين" المحيط ب "بارزان ", ومن الغبار الأحمر الخفيف على ريشه عرفتُ مؤكداً أنه قادمٌ من هناك. يا الله كم قادم ٍ من تلك الأنحاء حدثني عن " آميدي " التي في الأعلى, "آميدي" التي نبتت في عش الرخ " كارا". ماتمنيت يوماً أن أكون غير زهرة إلا لأستطيع رؤية بيضة المستحيل هذه. وربما أيضاً لأرى " رواندوز" التي انفلقت الأرض من حولها لترتفع بيوتها على حافة الفلق. "رواندوز" التي تنام مستكينة ً إلى حِمى الهاوية _ وقد تساقطت بتلاتي كلها , لكني لست حزينة مطلقاً, فقد نَضَجَتْ في مكامني أكثر من بذرة لها نكهة أكثر من جهةٍ بعيدة, وهكذا حين أبدأ بالكتابة إليك في الربيع القادم سأكون أغنى ذاكرة ً وأذكى عطراً. الآن – أعلم أنك ذاهب – وقبل أن أخلد للعتمة التي ستأهبني للإثمار
سأهديك بذرة................
كما يليق بأيلول ٍ ينضح بالحب.
أنتَ.

أقرأ أيضاً: