ترجمة : أمين صالح
قبل خمسة عشر عاما (*)، وفيما كنت أدون على عجل ملاحظاتي بشأن المسودة الأولى من هذا الكتاب، وجدت نفسي أتساءل عن جدوى كتابته، ما هي ضرورته، ولماذا لا أكتفي بتحقيق فيلم تلو الآخر مكتشفا، عبر الممارسة، الحلول العملية لتلك المعضلات النظرية التي تنشأ أثناء صنع الفيلم ؟
لسنوات عديدة لم تكن سيرتي المهنية مثيرة للبهجة والغبطة، فالفترات الفاصلة بين الأفلام كانت طويلة وموجعة، ولهذا كان لدي الكثير من الوقت لأن أتأمل بدقة أهدافي الخاصة، وأدرس العوامل التي تميز السينما عن الفنون الأخرى، وأبحث في إمكانياتها الفريدة والفذة، وأكتشف إلى أي مدى يمكن مقارنة تجربتي مع تجارب وإنجازات زملائي الفنانين.
بقراءة، وإعادة قراءة، العديد من المؤلفات حول نظرية السينما، توصلت إلى نتيجة مؤسفة وهي أن هذه الكتب لم تقنعني ولم تشبع حاجتي، بل جعلتني أرغب في تقديم ومناقشة رؤيتي الخاصة لمعضلات صنع الفيلم وأهدافه. وبوجه عام، فقد توصلت إلى إدراك مبادئي الخاصة في العمل عبر استجواب النظرية السائدة، ومن خلال الرغبة في التعبير عن فهمي الخاص للقوانين الأساسية للشكل الفني الذي صار جزءا مني.
أيضا لقاءاتي المتكررة مع جمهور مختلف إلى حد كبير، جعلتني أشعر بضرورة تقديم بيان كامل ومفصل قدر الإمكان. الجمهور كان يرغب جديا في فهم كيفية وسبب تأثير السينما، وأفلامي بوجه خاص، وقدرتها على تحريك مشاعرهم. كانوا يبحثون عن أجوبة على أسئلة لا تحصى من أجل إيجاد نوع من المستوى أو القاسم المشترك لأفكارهم العشوائية والمضطربة بشان السينما والفن عموما.
ينبغي أن أعترف بأني أقرأ بعناية واهتمام فائقين كل الرسائل التي تصلني من أفراد شاهدوا أفلامي. بعضها كانت تثير في نفسي الأسى، وبعضها كانت مشجعة إلى حد كبير. وخلال سنوات عملي في روسيا تراكمت هذه الرسائل لتشكل حصيلة متنوعة ومؤثرة من الأمور التي كان الناس يرغبون في معرفتها، أو يشعرون بحيرة وارتباك إزاء فهمها.
أود هنا أن أستشهد بنماذج من تلك الرسائل لأوضح طبيعة الاتصال الذي تحقق بيني وبين جمهوري. . هذا الاتصال الذي يشوبه أحيانا عدم فهم كلي لما أفعله، خاصة بعد عرض فيلمي " المرآة ".
مهندسة مدنية من لينينغراد كتبت إلي تقول: " شاهدت فيلمك (المرآة). مكثت أمام الشاشة حتى نهايته، رغم أنني بعد نصف الساعة الأولى شعرت بصداع حاد نتيجة جهودي الصادقة لتحليله، أو لمجرد أن أمتلك فكرة عما يدور أمامي، عن علاقة ما بين الشخصيات والأحداث والذكريات (. . . ) نحن المتفرجون المساكين نشاهد أفلاما جيدة أو سيئة أو بالغة السوء أو عادية أو مبتكرة وأصيلة.. لكن يمكن للمرء أن يفهم هذه الأفلام، أن يستمتع بها أو يسأم منها. . أما فيلمك؟!" مهندس معدات من كالينين عبر أيضا في رسالته عن سخطه البالغ: " بعد نصف ساعة من مشاهدة ( المرآة ) غادرت الصالة (. . . ) أيها الرفيق المخرج، هل شاهدته؟ أظن أنه يحتوي على شيء ضار وغير صحي . . أتمنى لك كل النجاح في عملك، لكننا لا نحتاج إلى فيلم كهذا. "
مهندس آخر من سفردلوفسك كان غير قادر على كبح نفوره العميق: " كم هو مبتذل فيلمك! كم هو مقزز ! أي هراء وتفاهة ! فيلمك مجرد صور فارغة وعقيمة. على أية حال، هو لم يصل إلى الجمهور بالتأكيد، وهذا هو المهم. "
هنا الرجل يوبخ إدارة السينما ويشعر بضرورة إخضاعها للمساءلة: " ليس بوسع المرء إلا أن يندهش من تصرف أولئك المسؤولين عن توزيع الأفلام هنا، في الإتحاد السوفييتي، الذين يجيزون عرض مثل هذه السخافات. "
إنصافا لإدارة السينما يتعين علي أن أقول أن " مثل هذه السخافات " لا يسمح بعرضها إلا نادرا. . بمعدل مرة كل خمس سنوات.
عندما أتلقى رسائل كهذه أشعر بيأس شديد. فعلا، لمن أحقق أفلامي، ولماذا ؟
لكن هناك نوعاً آخر من الرسائل تمنحني بصيصا من الأمل. ربما هي تعكس الحيرة والارتباك، غير أنها تعبر أيضا عن رغبة صادقة في فهم ما شاهده كاتب الرسالة. على سبيل المثال:
" أنا واثق من أنني لست أول ولا آخر من يتجه إليك في ارتباك وتشوش ليطلب منك أن تساعده في تفسير وتوضيح فيلمك ( المرآة ). حقا الأجزاء بحد ذاتها مصورة بشكل جيد، لكن كيف يمكن للمرء أن يجد ما يوحدها ويجعلها متماسكة؟ "
امرأة من ليننغراد كتبت تقول: " الفيلم لا يشبه أي فيلم آخر شاهدته من قبل إلى حد أنني لا أعرف كيف أتحدث عنه أو أحدد فهمي سواء للشكل أو المحتوى. هل تستطيع أن تفسر ذلك ؟ ليس بسبب افتقاري إلى فهم السينما بشكل عام، فقد شاهدت أفلامك الأولى. . طفولة إيفان، أندريه روبليوف. . كانا واضحين تماما. لكن هذا الفيلم صعب وغامض. قبل عرض الفيلم ينبغي تقديم تعريف به إلى الجمهور. بعد مشاهدته يشعر المرء بتضارب مع ذاته لإحساسه بالعجز والبلادة. ومع احترامي، يا أندريه، إذا كنت لا تقدر أن ترد على رسالتي على نحو مفصل، فهل يمكنك على الأقل أن ترشدني إلى حيث أستطيع أن أقرأ شيئا عن الفيلم ؟ "
للأسف لم أستطع أن أدل صاحبة الرسالة على ما يشبع رغبتها، فلم تظهر مقالات عن فيلم " المرآة " باستثناء مقالة منشورة في مجلة " فن السينما " وكانت تؤيد الشجب العلني لفيلمي بوصفه " نخبويا " على نحو غير مقبول، وذلك في الملتقى الذي نظمه معهد السينما ونقابة السينمائيين.
إن ما جعلني اصمد أمام هذا الهجوم هو اقتناعي المتزايد بأن ثمة أفرادا يهتمون بأعمالي ويترقبون رؤيتها. لكن من الواضح أن أحدا لم يكن يرغب في تعزيز هذا الاتصال بجمهوري.
عضو في معهد الفيزياء بأكاديمية العلوم بعث إلي بتقرير موجز، منشور في جريدة الحائط بالمعهد، جاء فيه: " لقد أثار عرض فيلم تاركوفسكي ( المرآة ) اهتماما واسعا في المعهد كما في كل أنحاء موسكو. لسوء الحظ، لم يستطع أحد أن يلتقي بالمخرج، حتى كاتب هذه السطور. لا أحد منا يستطيع أن يفهم كيف نجح تاركوفسكي، بواسطة السينما، في إنتاج عمل يحوي أبعادا فلسفية عميقة. الجمهور الذي اعتاد على مشاهدة أفلام ذات بناء قصصي وحركة وشخصيات ونهاية سعيدة مألوفة، سوف يبحث عن هذه الأشياء في أفلام تاركوفسكي غير أنه لن يجدها، لذا غالبا ما يغادر الصالة في خيبة. عم يتحدث هذا الفيلم ؟ إنه عن إنسان . لا، ليس الإنسان الخاص الذي نسمع صوته خارج الشاشة وهو يروي. إنه الفيلم الذي يتحدث عنك، عن أبيك، عن جدك، عن شخص سوف يعيش بعدك ومع ذلك هو أنت. عن إنسان يعيش على هذه الأرض، هو جزء من الأرض والأرض جزء منه. عن حقيقة أن الإنسان مسؤول عن حياته أمام الماضي والمستقبل معا. يتعين عليك، ببساطة، أن تشاهد هذا الفيلم، وتصغي إلى موسيقى باخ وإلى قصائد أرسيني تاركوفسكي (1). شاهده مثلما تشاهد النجوم أو البحر أو أي منظر طبيعي. . بإعجاب غامر. ليس ثمة منطق رمزي، ذلك لأن الفيلم لا يستطيع أن يفسر كينونة الإنسان أو معنى حياته. "
أعترف أنه حين يطري النقاد المحترفون عملي، أشعر غالبا بعدم الرضا عن أفكارهم وملاحظاتهم النقدية. وغالبا ما يتكون لدي إحساس بأن هؤلاء النقاد لا يكترثون بعملي أو ليسوا مؤهلين للنقد. إنهم يستخدمون تعبيرات مستهلكة وشائعة، منتزعة من المجلات السينمائية الرائجة بدلا من التحدث عن تأثير الفيلم المباشر والحميمي على الجمهور. مع ذلك، فإنني ألتقي بأفراد مارس فيلمي تأثيرا عليهم، أو أتلقى منهم رسائل تبدو أشبه باعترافات خاصة وحميمة، عندئذ أفهم لماذا ولمن أحقق أفلامي، وأصبح مدركا لمهمتي: الإحساس بالواجب والمسؤولية تجاه الناس. (أبدا لا أستطيع أن أصدق بأن فنانا ما يمكن أن يعمل لنفسه فقط، إذا علم بأن أحدا لا يحتاج الى ما يفعله).
امرأة من جوركي كتبت الي تقول:"أشكرك على (المرآة). طفولتي كانت كذلك. تلك الريح والعاصفة الرعدية وجدتي تصيح:اخرجي القطة يا غالكا. . الغرفة كانت معتمة. . وأنا أنتظر عودة أمي. . إحساس مدهش كان يملأ روحي كلها. لكن كيف عرفت ذلك؟ كم هو جميل تصوير فيلمك ليقظة الوعي عند الطفل، لمشاعره وأفكاره. . يا إلهي، كم هو صادق. . نحن حقا ننسى وجوه أمهاتنا، لا نعود نميزها. وكم هو بسيط فيلمك. . أتعلم، في الصالة المظلمة، وأنا أنظر الى قطعة القماش (الشاشة) المضاءة بموهبتك، شعرت للمرة الأولى في حياتي بأنني لست وحيدة".
لقد قيل لي، لسنوات عديدة، أن أحدا لا يريد أو لا يفهم أفلامي. استجابة تلك المرأة أدفأت روحي كثيرا. لقد وهبت المعنى لما أفعله، وعززت قناعتي بأنني كنت على حق، وان اختياري للطريق الذي أسلكه لم يكن مصادفة.
عامل في احد مصانع ليننغراد، يتلقى دروسا مسائية، كتب يقول: "سبب كتابتي إليك هو (المرآة). . الفيلم الذي لا أستطيع أن أتحدث عنه لأنني أعيشه…ميزة عظيمة أن تكون قادرا على الإصغاء والفهم. ذلك هو، برغم كل شيء، المبدأ الأول للعلاقات الإنسانية: القدرة على أن تفهم الناس وتغفر أخطاءهم غير المقصودة، أخطاءهم الطبيعية".
الجمهور يدافع عني ويشجعني. . هذه رسالة أخرى:"أكتب بالنيابة عن، وبموافقة، مجموعة من المشاهدين ذوي المهن المختلفة، وجميعم أصدقاء أو معارف لي، لأقول لك بأننا نريد منك أن تعرف مباشرة أن المعجبين بموهبتك، والذين يتمنون لك الخير، والذين ينتظرون عرض كل فيلم تحققه، هم اكبر عددا مما تحاول أن تظهره إحصائيات جريدة "الشاشة السوفيتية". إن جميع معارفي يرتادون السينما، ليس كثيرا، لكنهم دائما يرغبون في مشاهدة أفلام تاركوفسكي، ومن المؤسف ألا نرى أفلاما كثيرة لك"
اعترف أنه مؤسف بالنسبة لي أيضاَ، لأن هناك الكثير مما أرغب في فعله وفي قوله، ومشاريع ارغب في إنجازها. . وواضح أن هذا الأمر لا يعنيني وحدي.
مدرس من نوفوسيبيرسك كتب يقول:" لم اكتب أبدا الى مبدع لأخبره عما أشعر به تجاه كتاب أو فيلم. لكن هذه حالة خاصة: الفيلم (المرآة) يساعد المرء على تحرير نفسه من حالات القلق والضغوطات التي تثقل كاهله. لقد حضرت إحدى المناقشات حول الفيلم، وكل من تكلم صرح قائلا: الفيلم يتحدث عني. "
رسالة أخرى:" هذه من رجل عجوز، محال الى التقاعد، ومهتم بالسينما. . وإن كانت مهنتي (مهندس إذاعي) بعيدة عن مجال الفن. لقد أذهلني فيلمك (المرآة). كنت مأخوذاً بقدرتك على النفاذ الى العالم العاطفي للبالغ والطفل، على جعل المرء يشعر بجمال العالم من حوله، عارضاً القيم الحقيقية-لا الزائفة- لذلك العالم، جاعلاً كل شيء يلعب دورا، محولاً كل جزء من الصورة إلى رمز، مجملا كل كادر بالشعر والموسيقى. . كل هذه الخاصيات نموذجية في أسلوبك. . أسلوبك وحدك. أود كثيرا أن اقرأ ملاحظاتك حول فيلمك. انه شئ يدعو للأسف انك نادرا ما تظهر في الصحافة. أنا واثق من أن لديك الكثير لتقوله. "
للأمانة، أنا أضع نفسي في فئة أولئك الذين، عبر الجدل والنقاش، يمنحون أفكارهم شكلا، وعبر الجدال يمكن الوصول الى الحقيقة. وفي تأمل المسألة وحدي فإني أميل إلى الاستغراق في حالة تأملية تتناسب مع النزوع الميتافيزيقي لشخصيتي دون أن يفضي ذلك الى عملية تفكير نشطة وخلاقة.
بطريقة أو أخرى، إنه الاتصال بالجمهور- الشخصي أو عن طريق الرسائل- الذي دفعني الى تأليف هذا الكتاب. وعلى أية حال، سوف لن ألوم أولئك الذين يرتابون في قراري بمباشرة العمل على معضلات تجريدية، كما لن أندهش لو وجدت استجابة حماسية من جانب قراء آخرين.
إمرأة عاملة من نوفوسيبيرسك كتبت:"شاهدت فيلمك (المرآة) أربع مرات في الأسبوع الماضي. لم أذهب لمجرد المشاهدة فقط، إنما لكي أعيش في ساعات قليلة حياةً حقيقية مع فنانين حقيقيين وأفراد حقيقيين. . إن كل ما يعذبني، كل ما لا املكه وأتوق اليه، كل ما يجعلني فقيرة أو مريضة، كل ما يخنقني، كل ما يمنحني إحساسا بالضياء و الدفء، كل ما يفتك بي. . كل ذلك موجود في فيلمك، أراه كما لو في مرآة. ولأول مرة في حياتي يصبح فيلم ما شيئا حقيقيا بالنسبة لي، ولهذا السبب ذهبت لمشاهدته: أردت أن أدخل فيه مباشرة لكي أشعر بأني حية فعلا. "
يقينا لا يمكن للمرء أن يرجو اعترافا بما يفعله أعظم من هذا. أمنيتي الأكثر اتقادا كانت دائما أن أكون قادرا على التعبير عن رأيي بحرية في أفلامي، أن أقول كل شي بصدق تام ودون أن افرض وجهة نظري الخاصة على الآخرين. لكن إذا وجدت رؤية الفيلم للعالم قبولاًً عند الآخرين بوصفها جزءا من رؤيتهم، من ذواتهم، فأي دافع أفضل من هذا يمكن أن يجده المرء لعمله.
ذات مرة بعثت إلي امرأة رسالة كتبتها إليها ابنتها، واعتقد أن كلمات الابنة الشابة هي بيان ملفت واستثنائي عن الإبداع الفني كشكل من أشكال الاتصال متعدد الجوانب على نحو لا متناه.
". . كم هي عدد الكلمات التي يعرفها الفرد؟كم كلمة يستخدمها في معجمه اليومي؟ مئة، مائتان، ثلاثمائة؟ إننا نغلف مشاعرنا بالكلمات، نحاول أن نعبر بالكلمات عن الحزن والفرح وتلك العواطف التي لا يمكن التعبير عنها. روميو كان يخاطب جولييت بكلمات جميلة، زاهية، معبرة، لكنها بالتأكيد لم تعبر حتى عن نصف ما كان يجعل قلبه يبدو كما لو سيثب خارج صدره، وما كان يحبس أنفاسه، وما كان يجعل جولييت تنسى كل شيء ما عدا حبها. هناك نوع أخر من اللغة، شكل أخر من الاتصال:بواسطة المشاعر والصور. ذلك هو الاتصال الذي يمنع الناس من الانفصال عن بعضهم البعض، الذي يحطم التخوم. الإرادة، الشعور، العاطفة. . هي التي تزيل الحواجز بين الأفراد الذين بدون هذا يقفون في اتجاهات معاكسة من المرآة، اتجاهات معاكسة من الباب. كادرات الشاشة تتحرك، والعالم الذي اعتاد أن يكون منقسما يأتي إلينا ويصبح شيئا حقيقيا. . وهذا لا يحدث من خلال أندريه الصغير، انه تاركو فسكي نفسه يخاطب الجمهور مباشرة فيما يجلسون في الجانب الأخر من الشاشة. ليس هناك موت، بل خلود. الزمن واحد وغير منقسم، وكما تقول إحدى القصائد. . حول المائدة يجلس الأسلاف والأحفاد. . بالفعل يا أمي، لقد أدركت الفيلم بأسره من زاوية عاطفية، لكنني واثقة من أن هناك طرقا مختلفة للنظر اليه. ماذا عنك أنت؟ أرجوك اكتبي إلي واخبريني. "
ليس الغرض من هذا الكتاب تعليم الآخرين أو فرض وجهه نظري عليهم. غايته الرئيسية أن يساعدني في إيجاد طريقي عبر متاهة من الإمكانيات والاحتمالات المتضمنة في هذا الشكل الفني الشاب والجميل- الذي لم يسبر جوهريا إلا في حدود ضيقة- ولكي أكون قادرا على إيجاد نفسي ضمنه. . على نحو كامل ومستقل.
الإبداع الفني، برغم كل شيء، ليس خاضعاً لقوانين مطلقة، سارية المفعول من عصر الى عصر. بما أنه متصل بالهدف العام، أي فهم العالم فهما كاملا ، فإن له عدداً لا متناهياً من الأوجه، ومن الصلات التي تربط الإنسان بنشاطه الحيوي. وحتى لو كان الطريق نحو المعرفة بلا نهاية، فإن أية خطوة تقرب الإنسان من الفهم الكلي لمعنى وجوده، لا يمكن أن تكون محدودة بحيث لا تؤخذ بعين الاعتبار. إن جسم النظرية المتصلة بالسينما لا يزال هزيلاً و واهياً، لذا فإن توضيح حتى النقاط الثانوية يمكن أن يساعد في إلقاء الضوء على قوانينها الأساسية.
أخيرا، يتعين علي أن أضيف بأن هذا الكتاب قد تألف من فصول مكتوبة، ملاحظات على شكل يوميات، محاضرات، ومناقشات مع أولجا سوركوفا التي تابعت تصوير فيلم"أندريه روبليوف" حين كانت تدرس تاريخ السينما في معهد السينما بموسكو، ثم أصبحت ناقدة محترفة، وتعاونت معنا عن قرب في السنوات التالية. وأنا مدين لها للعون الذي قدمته لي طوال كتابة هذا الكتاب.
الانتهاء من فيلم "طفولة إيفان" كان يشير الى نهاية مرحلة من حياتي، ونهاية عملية اعتبرتها نوعا من تقرير المصير. تلك المرحلة كانت تتألف من سنوات دراستي في معهد السينما، ثم تحقيق فيلم قصير لنيل شهادة دبلوم التخرج، ثم العمل لمدة ثمانية شهور في فيلمي الطويل الأول.
بمقدوري الآن أن أقيّم تجربة "طفولة إيفان"، وأن ألبي الحاجة لإيجاد - ولو مؤقتا- وضعي الخاص في جماليات السينما، وأهيئ نفسي لمعضلات يمكن حلها أثناء تحقيق فيلمي التالي. في كل هذا رأيت ثمرة تقدمي نحو أرض جديدة.
يمكن إنجاز العمل كله في ذهني. لكن ثمة خطراً مؤكدأ في عدم القيام بمحاولة للوصول الى قرارات نهائية: سهل جدا أن تكون راضيا بومضات من الحدس، وأن تفضل ذلك على التفكير العميق المتماسك. إن الرغبة في تجنب استهلاك أفكاري بمثل هذه الطريقة يسرت لي اختيار القلم والورقة.
ما الذي جذبني الى قصة بوجومولوف القصيرة"إيفان"؟
في البدء يتعين علي القول بأن ليس كل عمل نثري قابل للتحويل الى الشاشة. بعض الأعمال الأدبية ذات وحدة كاملة، تحتوي على صور أدبية أصيلة ودقيقة، والشخصيات مرسومة بحيث تحمل أعماقا لا يسبر غورها، وللتكوين قدرة استثنائية على الإفتان. الكتاب - في النهاية - هو كل لا يتجزأ، وعبر الصفحات توجد الذاتية الفذة والمدهشة للمؤلف. إن كتبا كهذه تعد تحفا فنية، وفقط ذاك الذي لا يبدي اكتراثا بالنثر الرفيع وبالسينما معا يمكن أن يتصور إمكانية تحويلها الى الشاشة.
من المهم هنا توكيد هذه النقطة لأن الوقت قد حان لفصل الأدب عن السينما نهائيا وعلى نحو حاسم.
بعض الأعمال النثرية مبنية بواسطة الأفكار، ووضوح ومتانة البناء، وجدة الموضوع. كتابة كهذه لا تبدو معنية بالتطور الجمالي للفكر الذي تتضمنه. واعتقد أن قصة بوجومولوف "إيفان" تندرج ضمن هذه الفئة.
من زاوية فنية خالصة، لم اشعر ألا بقليل من المتعة إزاء السرد المحايد، الشديد العناية بالتفاصيل، المتمهل باستطراداته الغنائية لعرض شخصية البطل. . الملازم جالتسيف. كان بوجومولوف يعلق أهمية كبيرة على دقة تسجيله للحياة العسكرية وعلى حقيقة أنه كان، أو حاول أن يبدو، شاهدا على كل أحداث قصته. كل هذا يسر لي أن أرى العمل كقطعة نثرية قابلة بسهولة لأن تصور سينمائيا.
علاوة على ذلك، فإن هذا التصوير يمكن أن يمنح القصة تلك الكثافة الجمالية في الإحساس الذي قد يحول فكرة القصة الى حقيقة تقرها الحياة.
بعد أن قرأت القصة، ظلت عالقة في ذهني طويلا، وثمة أشياء معينة أثرت فيّ بعمق. أولا، هناك مصير البطل الذي نتابعه حتى مماته. بالطبع هناك قصص عديدة تبني حبكاتها بهذه الطريقة، لكن لا يحدث دائما أن يكون حل العقدة، كما في حالة إيفان، متضمنا في صلب الفكرة العامة، وبسبب ضرورته الداخلية. لموت البطل هنا دلالة خاصة. في هذا الموضع تنتهي القصة، لا شئ يلي ذلك، في حين يلجأ المؤلفون الآخرون الى تخطي هذا الموضع ببعث تفاصيل جديدة معزية ومريحة وعادة، في مثل هذه الحالات، يكافئ المؤلف بطله على مآثره البطولية العسكرية. كل ما هو موجع وجارح يرتد الى الماضي ويصبح مجرد مرحلة مؤلمة في حياته. أما في قصة بوجو مولوف، فان هذه المرحلة، التي يفصلها الموت، تصبح هي الأخيرة والوحيدة. ضمنها يتركز المحتوى الكلي لحياة إيفان وقوتها المحركة المأساوية. ليس هناك حيز لأي شيء آخر:تلك هي الحقيقة المروعة التي تجعل المرء، على نحو حاد وغير متوقع، يدرك بشاعة الحرب.
الشئ الثاني الذي استوقفني وسحرني هو واقع أن حكاية الحرب القاسية هذه لم تكن عن المعارك الحربية العنيفة، أو بواطن وظواهر الأضداد في خط النار. وصف المآثر البطولية كان غائبا. مادة السرد لم تكن ملاحم العمليات الاستطلاعية، إنما الفترات الفاصلة بين العمليات. لقد قام المؤلف بشحن هذه الفترات بكثافة مقلقة ومكظومة شبيهة بالتوتر المتشنج لزنبرك ملفوف شد بإحكام حتى الحد الأقصى.
هذه الطريقة في تصوير الحرب كانت مقنعة بسبب إمكانيتها السينمائية المتوارية. إنها تكشف عن احتمالات لإعادة خلق الجو الحقيقي للحرب، الذي هو غير منظور على سطح الأحداث لكن يجعل نفسه محسوسا مثل دمدمة تحت الأرض.
الشيء الثالث الذي حرك مشاعري بعمق: شخصية الفتى إيفان، هذا الذي سحرني في الحال. إنها الشخصية التي دمرتها الحرب وغيرت مسارها. أشياء لا تحصى، بالأحرى كل خاصيات الطفولة، قد غادرت حياته ولم يعد بالإمكان استرجاعها. الشئ الذي اكتسبه، مثل هبة شريرة من الحرب، عوضا عن ذلك الذي كان يمتلكه، أصبح متركزا داخل ذاته.
لقد حركتني شخصية الفتى بخاصيتها الدرامية الكثيفة والتي وجدتها أكثر إقناعا من تلك الشخصيات التي تتكشف في العملية التدريجية للتطور الإنساني عبر حالات الصراع والتضارب في المبدأ.
في حالة التوتر المتواصلة، غير المتنامية، تبلغ الأهواء والانفعالات أعلى ذروة ممكنة، وتظهر نفسها على نحو أكثر حيوية وإقناعا مما في العملية التدريجية للتغيير. هذا النزوع لدي هو الذي يجعلني مولعا الى أبعد حد بدوستويفسكي. بالنسبة لي، الشخصيات الأكثر إثارة للاهتمام هي تلك التي تكون سكونية خارجيا لكنها داخليا تكون مشبعة بطاقة هائلة ولدتها عاطفة طاغية. وإيفان ينتمي الى هذا النوع من الشخصيات.
حين قرأت قصة بوجومولوف، استحوذت هذه الأمور على مخيلتي. وهذا كان أقصى ما استطعت الانسجام فيه مع المؤلف، فالنسيج العاطفي للقصة كان غريبا علي، والأحداث كانت مروية بأسلوب مكبوح على نحو متعمد، متخذا طابع التقرير الصحفي تقريباً، وما كان بمقدوري تحويل أسلوب كهذا الى الشاشة، لأن ذلك سيكون ضد مبادئي.
عندما تكون لدى الكاتب والمخرج نقط انطلاق جمالية مختلفة، فإن التسوية والوصول الى حل وسط سيكون مستحيلا. ذلك سوف يدمر الفكرة الحقيقية للفيلم، ولن يعود ممكنا تحقيق الفيلم.
حين يحدث تضارب كهذا، فسوف لن يكون هناك غير منفذ واحد:أن يتحول السيناريو الأدبي الى بنية جديدة والتي، عند مرحلة معينة من صنع الفيلم، سوف تدعى سيناريو التصوير. وفي أثناء العمل على هذا السيناريو، سيكون مؤلف الفيلم (وليس مؤلف السيناريو)مخولا لأن يوجه السيناريو الأدبي هذه الوجهة أو تلك كما يشاء. كل ما يهم هو أن رؤيته ينبغي أن تكون كاملة دون أي مساس بها، وأن تكون كل كلمة في السيناريو معبرة عما يريده ، وتمر عبر تجربته الإبداعية الخاصة. . ذلك لأن وسط أكوام من الصفحات المكتوبة، والممثلين، والأماكن المختارة كمواقع للتصوير، والحوار الأكثر براعة، والرسوم التخطيطية، هناك ينتصب شخص واحد فقط: المخرج. هو وحده، بوصفه"الفلتر"الأخير في العملية الإبداعية لصنع الفيلم.
عندما لا يكون كاتب السيناريو والمخرج شخصا واحدا، فعندئذ سوف نشهد تعارضا غير قابل للحل والذوبان، خاصة إذا كان كل منهما يتوهم الكمال. لهذا السبب كنت أنظر الى محتوى القصة كأساس ممكن فحسب، كجوهر حيوي ينبغي إعادة تأويله وتقديم تفسير جديد له في ضوء رؤيتي الخاصة للفيلم المنجز.
هنا نصل الى مسألة يثار حولها الجدل:إلى أي مدى يكون المخرج مخولا لأن يصير كاتب سيناريو؟
البعض، على نحو مطلق، يرفض أن يمنحه الحق في المشاركة في كتابة السيناريو. والمخرج الذي يميل الى كتابة السيناريو يتعرض للنقد بشكل لاذع وجارح، مع أن بعض الكتاب يشعرون أنهم بعيدون عن السينما. إن موقفا كهذا يبدو غريبا وشاذا، ولا يمكن فهم هذا المنطق الذي يفترض أن كل كاتب مؤهل لكتابة السيناريو بينما لا يعتبر المخرج مؤهلا لذلك، إنما يتعين عليه أن يقبل في خنوع النص المقترح عليه لينظمه ويحوله الى سيناريو تصوير.
بالعودة الى موضوعنا الأساسي، أجد أن الروابط الشعرية - منطق الشعر في السينما - هي مرضية على نحو رائع، إنها تبدو لي ملائمة على نحو مثالي لإمكانية السينما بوصفها أكثر الأشكال الفنية صدقا وشعرية. يقينا أشعر بالتوافق والانسجام معها أكثر مما أشعره مع الكتابة التقليدية المتكلفة التي تربط الصور من خلال التنامي الطولي، المنطقي على نحو صارم، للحبكة. هذه الطريقة المتفقة على نحو ضاج مع العرف في ربط الأحداث هي عادة تقتضي ضمنا فرض الأحداث، على نحو استبدادي، امتثالا لمفهوم نظري تجريدي بشأن الترتيب والنظام. حتى عندما لا يكون الأمر كذلك، حتى عندما تكون الحبكة محكومة وموجهة من قبل الشخصيات فإن المرء يكتشف بأن الروابط، التي توحدها وتجعلها متماسكة، تتكئ على تأويل سطحي لتعقيدات الحياة.
لكن مادة الفيلم يمكن أن تتزاوج معا بطريقة أخرى والتي تعمل، قبل كل شئ، على كشف منطق التفكير عند شخص ما. هذا هو الأساس المنطقي الذي سوف يملي تعاقب الأحداث، والمونتاج الذي يصوغها في وحدة كاملة. إن ولادة وتطور الفكر خاضعان لقوانين خاصة بهما، وأحيانا يقتضي ذلك أشكال تعبير مختلفة تماماً عن أنماط التأمل المنطقي.
في رأيي، الاستنباط الشعري هو أقرب الى القوانين التي بواسطتها يتطور الفكر، وبالتالي أقرب الى الحياة نفسها، من منطق الدراما التقليدية. مع ذلك فإن طرائق الدراما الكلاسيكية هي التي كان ينظر إليها باعتبارها النماذج الوحيدة، والتي لسنوات طويلة قد حددت الشكل الذي فيه يتم التعبير عن الصراع الدرامي.
من خلال الصلات الشعرية يتم تصعيد وتعميق الشعور، ويصير المتفرج فعالا أكثر. أنه يصبح مشاركا في عملية اكتشاف الحياة، بلا عون أو دعم من قبل الاستنتاجات الجاهزة من الحبكة أو من تلميحات المؤلف المتعذر مقاومتها. تحت تصرفه فقط ما يساعد على اختراق المعنى الأعمق للظواهر المركبة المعروضة أمامه. إن تعقيدات الفكر والرؤى الشعرية للعالم لا ينبغي أن تكون مقحمة في بنية ما هو واضح وجلي. المنطق المعتاد، منطق التعاقبية الطولية، هو على نحو غير مريح مثل إثبات نظرية هندسية. كمنهج هو، على نحو غير صالح للمقارنة، أقل خصوبة فنيا من الإمكانيات المتاحة من قبل الربط المتصل بالتداعي، والذي يبيح التقييم العاطفي والعقلاني معا. وكم هي مخطئة هذه السينما التي لا تستفيد إلا قليلا جدا من الإمكانيات المتاحة، والتي لديها الكثير منها لتقديمه. إنها تملك سلطة داخلية تتركز داخل الصورة وتعبر الى الجمهور في شكل مشاعر، محدثة توترا في استجابة مباشرة الى المنطق السردي للمؤلف.
المنهج الذي بواسطته يرغم الفنان الجمهور على أن يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة كاملة، وان يفكر أبعد مما هو مقرر له، هذا المنهج هو الوحيد الذي يضع الجمهور في مستوى متكافئ مع الفنان في إدراكه للفيلم . وعبر الاحترام المتبادل فقط يكون ذلك النوع من التبادل جديرا بالممارسة الفنية.
حين أتحدث عن الشعر فإنني لا أنظر اليه كنوع أدبي. الشعر هو الوعي بالعالم، طريقة خاصة للاتصال بالواقع. هكذا يصبح الشعر فلسفة ترشد الإنسان طوال حياته.
تأمل شخصية ومصير فنان مثل ألكسندر جرين (2) الذي كان على وشك الموت جوعا عندما خرج الى الجبال بقوس، صنعه بنفسه، وسهم ليشارك في مباراة في الرماية. إربط ذلك الحدث بالزمن الذي عاش فيه الرجل وسوف يكشف الربط عن المظهر التراجيدي لحالم.
أو تأمل مصير فان جوغ.
تأمل الشاعر ميخائيل بريشفين (3) الذي تنبثق كينونته الحقيقية في معالم الطبيعة الروسية التي وصفها بحب بالغ.
تأمل ماندلستام، باسترناك، شابلن، دوفجنكو، ميزوجوشي. . وسوف تدرك أية طاقة عاطفية هائلة حملها هؤلاء الأشخاص البارزون، الذين يحلقون فوق الأرض، والذين لا يظهر فيهم الفنان كمستكشف للحياة فحسب، إنما أيضا كمبدع للكنوز الروحية العظيمة، وخالق للجمال الخاص الذي ينتسب للشعر فقط. فنان كهذا يستطيع أن يتبين خطوط التصميم الشعري للوجود. وهو قادر على تخطي قيود المنطق المتماسك، وكشف التعقيد العميق وحقيقة الروابط غير المحسوسة وظواهر الحياة المخفية.
بدون مثل هذا الإدراك ونفاذ البصيرة، حتى العمل الذي يزعم أنه معبر بصدق عن الحياة سوف يبدو تبسيطيًا ومنتظما بشكل اصطناعي. قد ينجز الفنان وهماً ظاهرياً، مظهراً شبيهاً بالحياة، لكن ذلك يختلف تماماً عن سبر واستنطاق الحياة أسفل السطح. أظن أنه ما لم يوجد رابط عضوي بين الانطباعات الذاتية للمبدع وتصويره الموضوعي للواقع، فسوف لن يحقق حتى المصداقية الظاهرية، دعك من الموثوقية والصدق الداخلي.
أنت تستطيع أن تنجز مشهدا بدقة وثائقية، وأن تكسو الشخصيات بالملابس على نحو صحيح وواقعي جدا، وأن ترسم كل التفاصيل تماما كما في الحياة الحقيقية، مع ذلك فإن الصورة التي تنشأ نتيجة ذلك سوف لن تكون أبدا قريبة من الواقع، بل ستبدو متكلفة واصطناعية تماما، أي ليست أمينة للحياة، حتى لو كانت الاصطناعية هي بالضبط ما كان المبدع يحاول تفاديها.
من الملفت أن صفة "الاصطناعية" تطلق في الفن على ما ينتمي، بلا ريب، الى إدراكنا الاعتيادي واليومي للواقع. تفسير ذلك هو أن نمط الحياة شعري أكثر مما هو ممثل أو مصور أحيانا من قبل المدافعين بعزم عن الطبيعية. الكثير، مع ذلك، يبقى في أفكارنا وقلوبنا كاقتراحات غير متحققة. عوضا عن محاولة الإمساك بالفوارق الدقيقة التي لا تكاد تدرك، فإن أغلب الأفلام "الواقعية"، البسيطة، لا تتجاهل هذه الفوارق فحسب إنما تصر على استخدام صور حادة وصارخة ومبالغ فيها، والتي في أفضل الأحوال يمكنها فقط أن تجعل الصورة تبدو بعيدة الاحتمال. أنا، من جانبي، مؤيد تماما للسينما التي تكون قريبة قدر الإمكان من الحياة، حتى لو كنا نخفق أحيانا في إدراك كم هي جميلة حقا الحياة.
قلت في بداية هذا الفصل أنني سعيد لرؤية علامات تشير الى تشكل خط فاصل بين السينما والأدب اللذين يمارسان تأثيرا قويا ونافعا جدا على بعضهما البعض. واعتقد أن السينما، فيما تتطور، سوف تتحرك بعيدا ليس عن الأدب فحسب لكن أيضا عن بقية الأشكال الفنية المتاخمة، ومن ثم تصبح مستقلة بذاتها أكثر فأكثر. العملية لا تمضي بالسرعة التي قد يتمناها المرء، إنها تستغرق وقتا طويلا، ودرجة السرعة ليست ثابتة ومستمرة. هذا ما يفسر سبب احتفاظ السينما حتى الآن ببعض المبادئ والقواعد الملائمة لأشكال فنية أخرى، والتي على أساسها غالبا ما يبني المخرجون أنفسهم حين يحققون فيلما.
شيئا فشيئا تأتي هذه المبادئ لتعمل ككابح للسينما وكعائق أمام تحقيقها لشخصيتها المميزة الخاصة. إحدى النتائج أن السينما عندئذ تفقد شيئا من قدرتها على تجسيد الواقع مباشرة وبوسائلها الخاصة، كمقابل لتحويل الحياة بمساعدة الأدب أو الرسم أو المسرح.
هذا يمكن أن يُرى على سبيل المثال في التأثير الذي مارسته الفنون البصرية على السينما حين تكون هناك محاولات لتحويل الإطار التشكيلي الى الشاشة. في اغلب الأحوال، يتم نقل أو ترجمة المبادئ المعزولة، وسواء أكانت تتصل بالتكوين أو باللون، فإن التحقق الفني سوف لن يتسم بالخلق الأصيل، المبتكر، المستقل، بل يكون مشتقا فحسب.
إن محاولة تكييف مقومات الأشكال الفنية الأخرى مع الشاشة سوف تؤدي دائما الى تجريد الفيلم مما هو سينمائي على نحو مميز، وتضاعف من صعوبة معالجة المادة بطريقة تستفيد من الموارد الفعالة للسينما بوصفها فنا قائما بذاته. وقبل كل شئ، فإن إجراء كهذا يقيم حاجزا بين مؤلف الفيلم والحياة. المناهج أو الطرائق التي رسختها الأشكال الفنية الأكثر قدما تقحم نفسها، إنها تحديدا تحول دون إعادة خلق الحياة في السينما كما يشعرها ويراها الفرد: أي على نحو صادق.
إننا نصل الى نهاية اليوم: لنقل أنه خلال هذا اليوم حدث شئ هام، شئ ذو دلالة والذي يمكن أن يكون عاملا ملهما لفيلم ما، وقد يكون نتاجا لتعارض في الأفكار والذي يمكن أن يصبح حالة سينمائية. لكن كيف يدمغ هذا اليوم نفسه على ذاكرتنا؟
كشئ غير متبلور، غامض، بلا هيكل أو تصميم. مثل غيمة. فقط الحدث المركزي لذلك اليوم يصبح مركزاً ومكثفا، أشبه بتقرير مفصل واضح في معناه، ومحدد بجلاء. قبالة خلفية اليوم بأسره، ينتأ ذلك الحدث مثل شجرة في السديم (التشبيه بالطبع ليس دقيقا تماماً، إذ لا يوجد تجانس بين ما أسميه السديم والغيمة). الانطباعات المنفصلة عن اليوم قد أطلقت بواعث في داخلنا، وأثارت تداعيات. الأشياء والحالات قد مكثت في ذاكرتنا، لكن بلا خطوط محددة على نحو قاطع. إنها ناقصة وتصادفية. هل يمكن توصيل انطباعات الحياة هذه من خلال الفيلم؟ ذلك ممكن بلا شك. في الواقع، إنها من المزايا الاستثنائية للسينما، باعتبارها أكثر الفنون واقعية، أن تكون وسيلة لاتصال كهذا.
إن إعادة إنتاج أحاسيس حقيقية هي بالطبع ليست غاية بذاتها، لكن يمكن أن تكون – جماليا- ذات معنى. وبالتالي تصبح وسطا للتفكير الجاد والعميق.
لكي يكون العمل أمينا للحياة، صادقا جوهريا، يتعين عليه - بالنسبة لي- أن يكون بيانا حقيقيا ودقيقا، واتصالا صادقا للمشاعر في آن.
إنك تسير في الشارع ونظراتك تلتقي فجأة بنظرات شخص يمر في محاذاتك. ثمة شئ مروع في نظرته يجعلك تجفل. النظرة تخلق لديك إحساسا بخوف من شئ مرتقب. وهذا الشخص يؤثر فيك سيكولوجيا، ويضعك في حالة نفسية معينة.
وإذا كان كل ما ستفعله هو أن تنسخ حالات ذلك اللقاء بدقة آلية، معتنيا بأزياء الممثلين ومنتقياً موضع التصوير بدقة وثائقية فإنك، مع ذلك، لن تحقق من سياق الفيلم الإحساس ذاته الذي انتابك بفعل ذلك اللقاء. ذلك لأنك حين صورت مشهد اللقاء فإنك تجاهلت العامل السيكولوجي والحالة الذهنية التي جعلت نظرة الغريب تؤثر فيك عبر انفعال خاص ومعين. ولكي تجفل نظرة الغريب الجمهور مثلما فعلت معك في تلك اللحظة، فإنه يتعين عليك أن تهيئ لها الظرف عن طريق بناء حالة مماثلة لحالتك في لحظة اللقاء الفعلي. هذا يعني بذل جهود إضافية من قبل المخرج وتعميق المادة السينمائية.
ثمة مقدار وافر من الكليشيهات والأفكار المستهلكة التي غذتها قرون من العمل المسرحي، قد وجدت- لسوء الحظ- مكانا في السينما تأوي اليه وتستريح فيه. لقد سبق أن طرحت ملاحظاتي بشأن الدراما ومنطق السرد السينمائي. ولكي أكون أكثر تحديدا وأوضح بدقة ما اقصده، فإنه يجدر النظر للحظة الى مفهوم "الميزانسين" (تنسيق محتويات المشهد) لأنني أعتقد أنه في معالجة الميزانسين يكون الاقتراب الشكلي، المجدب، من معضلة التعبير أكثر جلاء. وإذا هيأنا أنفسنا لمهمة عقد مقارنة بين الميزانسين في الفيلم وفي رؤية الكاتب، فإن بضع أمثلة ستكون وافية لإظهار الى أي مدى تؤثر الشكلانية في اتجاه الفيلم.
البعض يميل الى الاعتقاد بأن الميزانسين الفعال هو ببساطة ذلك الذي يعبر عن فكرة وغاية المشهد (ايزنشتاين نفسه كان مؤيداً لهذه النظرة). وهذا من المفترض أن يضمن بأن المشهد سوف يُمنح العمق الذي يقتضيه المعنى. موقف كهذا يبدو تبسيطياً، وقد أدى الى نشوء تقاليد عديدة لا علاقة لها بجوهر السينما، والتي تمارس تخريبا للنسيج الحي للصورة الفنية.
كما نعلم، الميزانسين هو مخطط أو تصميم مؤلف من تنظيم وتوزيع الممثلين في اتصالهم مع بعضهم البعض ومع المحيط أو المنظر. في الحياة الواقعية يمكن أن تسحرنا الطريقة التي بها يتخذ حدث ما "ميزانسين" يفضي الى درجة تعبيرية قصوى. لدى رؤيتنا للحدث ربما نهتف في ابتهاج "انه شيء يفوق التصوّر " لكن ما الذي نجده ملفتا للنظر الى هذا الحد؟ انه تنافر "التكوين" في اتصاله مع ما يحدث. في الواقع إنها لا معقولية الميزانسين التي تأسر مخيلتنا، لكن هذه اللا معقولية هي ظاهرية فحسب، إذ أنها تستر شيئا ذا دلالة كبيرة تمنح الميزانسين تلك الخاصية من الإقناع الكلي الذي يجعلنا نؤمن بالحدث.
ليس مفيداً تجنب العقبات وإنزال كل شيء الى مستوى تبسيطي، لذلك ينبغي على الميزانسين، بدلا من توضيح فكرة ما، أن يتبع الحياة والذاتية المميزة للشخصيات وحالتها السيكولوجية. لا يجب اختزال غايته الى مجرد توسيع معنى محادثة ما أو فعل ما. وظيفته هي أن تجعلنا نجفل إزاء مصداقية الأفعال وجمال وعمق الصور الفنية، وليس بالتوضيح المقحم للمعنى.
كما هو الحال غالبا، التوكيد المفرط على الأفكار يمكن أن يكبح خيال المتفرج، مكونا نوعا من سقف التفكير والذي وراء نطاقه لا يوجد غير خواء فاغر. إنه لا يصون تخوم التفكير، بل ببساطة يضاعف من صعوبة النفاذ الى أعماقه.
ليس عسيرا إيجاد الأمثلة، على المرء فقط أن يمعن النظر في الاسيجة والحواجز والنوافذ اللانهائية التي تفصل العشاق. ليس للميزانسين الحق في أن يتكرر تماماً مثلما لا يتشابه شخصان أبدا. حالما يتحول الميزانسين الى سمة، كليشيه، مفهوم (أيا كان نموذجه الأصلي) فإن كل شيء- الشخصيات، الأوضاع، الحالات السيكولوجية- يصبح عندئذ وهميا وزائفا.
تأمل خاتمة رواية دوستويفسكي "الأبله". أي صدق غامر يتصل بالشخصيات والحالات. فيما يجلس روجوزين وميشكين على كرسيين، متلاصقين، في تلك الغرفة الواسعة، يذهلنا تركيب الميزانسين المتنافر، والذي لا معنى له، ظاهريا مع الصدق التام لحالتهما الباطنية. إن رفض إرهاق المشهد بأفكار مقحمة هو ما يجعل المشهد يفرض نفسه بقوة، تماماً كما الحياة نفسها. مع ذلك يُنظر الى الميزانسين المركب دون أية فكرة واضحة باعتباره شكلانيا.
في أحوال كثيرة، يكون المخرج نفسه مثقلاً بالزهو الى حد انه يفقد أي إحساس بالاعتدال، ويتجاهل المعنى الحقيقي للفعل الإنساني، محولا إياه الى وعاء للفكرة التي يريد أن يؤكدها. لكن على المرء أن يرصد الحياة مباشرة لا أن يكتفي بما هو عادي وزائف إكراما للتمثيل ولتعبيرية الشاشة.
لو طلبنا من أصدقائنا إخبارنا، على سبيل المثال، عن حالات الموت التي شهدوها بأنفسهم، فأنا واثق بأننا سوف نشعر بالذهول إزاء تفاصيل تلك المشاهد، والاستجابات الفردية للمعنيين بالأمر، والتعارض بينها جميعا. إن رفضي الشخصي للميزانسين القائم على التعبير الزائف، يجعلني أفكر في حادثتين سمعت عنهما، ولا يمكن أن يكونا مختلقين لأنهما يمثلان الحقيقة نفسها، وهذا ما يميزهما بحدة عما يعرف بـ"التفكير بالصور".
مجموعة من الجنود يحكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص بتهمة الخيانة. إنهم ينتظرون تنفيذ الحكم بين البرك الصغيرة الآسنة عند سور مستشفى. كان ذلك في فصل الخريف. تصدر الأوامر بأن يخلعوا ستراتهم وأحذيتهم. أحدهم يقضي وقتا طويلا ماشيا بين البرك، مرتديا جواربه المليئة بالثقوب، باحثا عن موضع جاف يضع فيه السترة والجزمة. . أشياء سوف لن يعود بحاجة إليها بعد دقيقة.
الحادثة الأخرى: رجل تصطدم به شاحنة فتقطع ساقه. يحمله البعض ويسنده الى جدار منزل قريب. وبينما يجلس هناك منتظراً وصول سيارة الإسعاف، يشعر بنظرات الحشد الثاقبة والوقحة تحاصره. فجأة لا يستطيع الاحتمال أكثر، يخرج من جيبه منديلا ويضعه على الجزء المبتور من ساقه.
إنها بالطبع ليست مسالة جمع حوادث حقيقية من ذلك النوع الذي يروى في يوم ممطر، بل إننا نتحدث عما يعبّر بصدق عن حقيقة الشخصيات والحالات بعيدا عن الاحتكام السطحي الى التأويل"بالصور". وللأسف فإن ثمة عوائق تنشأ في أي بحث نظري في هذا المجال بسبب غزارة التعبيرات والنعوت التي تساهم في حجب معنى ما يقال وتضاعف التشوش في المجال النظري.
الصورة الفنية الصادقة هي دائما مبنية على الارتباط العضوي بين الفكرة والشكل. إن أي إختلال بينهما سوف يحول دون إبداع الصورة الفنية، ذلك لأن العمل سوف يبقى خارج حقل الفن.
عندما شرعت في تحقيق فيلمي"طفولة إيفان"، لم تكن مثل هذه الأفكار واردة في الذهن، إنها تتجلى كنتيجة للعمل في الفيلم. والكثير مما هو واضح لي الآن، كان خارج متناول إدراكي وقت شروعي في تصوير الفيلم.
وجهة نظري ذاتية بالطبع، ولا بد أن تكون كذلك في الفن. الفنان في عمله يفكك الواقع داخل منشور بصيرته وإدراكه، ويستخدم تقنية خاصة به، ليظهر جوانب مختلفة من الواقع.
التأكيد على الرؤية الذاتية للفنان وإدراكه الخاص للعالم، لا يعني تقديم ذريعة للتعامل الاعتباطي أو الفوضوي، فالمسألة تتصل بالنظرة إلى العالم، وبالمُثُل والغايات الأخلاقية.
الروائع الفنية تولد من نضال الفنان للتعبير عن مثله الأخلاقية. هذه المثل، في الواقع، هي التي تشكل مفاهيمه وحساسياته. إذا كان يحب الحياة، ويشعر بحاجة غامرة لأن يعرفها ويغيرها ويجعلها في صورة أفضل، أي إذا كان يسعى إلى المساهمة في تعزيز قيمة الحياة، عندئذ لن تكون هناك خطورة في مرور صورة الواقع عبر "فلتر" مفاهيمه الذاتية نظرا لأن عمله سوف يكون دائما محاولة روحية تتوق إلى جعل الإنسان أكثر كمالا:صورة للعالم تأسرنا بتناغمها في الشعور والتفكير.
إذا كنت تقف على أرضية أخلاقية صلبة فلن تكون هناك حاجة لأن تجفل من حريتك العظيمة في اختيار الوسيلة. علاوة على ذلك، فإن تلك الحرية لا تحتاج بالضرورة أن تكون مقصورة على خطة واضحة ترغمك على اختيار منهج معين. يتعين عليك أيضاً أن تثق بالحلول التي تعرض نفسها بتلقائية، لكن لا ينبغي لهذه الحلول أن تكون مفرطة في التعقيد بحيث تنفر الجمهور. مع ذلك فإن هذا ليس شيئا يتعين تقديره بالتشاور بشأن ما يمكن حظره أو السماح به من وسائل في فيلمك، إنما يتم هذا من خلال التجربة المكتسبة عن طريق فحص الزوائد التي تسللت الى نتاجاتك الأولى والتي يجب إزالتها بشكل طبيعي فيما تواصل عملية الإنتاج.
صراحة، في تحقيق فيلمي الأول كان يحركني هدف آخر: أن أثبت لنفسي ما إذا كنت قادرا أن أكون مخرجا، ومن أجل التوصل الى نتيجة محددة فقد أرخيت العنان. . إن جاز التعبير. حاولت ألا أكبح نفسي. فكرت، إذا ظهر الفيلم في صورة جيدة ومرضية، فسيكون لي الحق في العمل في السينما. فيلمي"طفولة إيفان، إذن، كان مهما بشكل خاص. . كان امتحان قبول، وعلي أن أثبت كفاءتي وأهليتي. لكن هذا لا يعني أنني حققت الفيلم كنوع من التمرين غير المنظم، وأنني حاولت فحسب ألا أكبح نفسي. لقد اكتشفت ضرورة الاعتماد على ذوقي الخاص، والإيمان بأهلية وجدارة اختياراتي الجمالية.
على أساس تحقيق هذا الفيلم كان علي أن أثبّت وأوطّد ما يمكن الاعتماد عليه في العمل المقبل، وأتفادى ما لا يمكن أن يصمد أمام الاختبار.
الآن، بالطبع، أحمل رؤى مختلفة بشأن أشياء عديدة. لقد أصبح جليا أن القليل مما اكتشفته كان ينبض بالحياة حقا، ومنذ ذلك الحين تخليت عن الكثير من الاستنتاجات التي توصلت إليها آنذاك.
أثناء صنع الفيلم كان مفيدا لنا، نحن المشاركين، استنباط النسيج الأسلوبي للمواقع والمناظر الطبيعية، محولين الأجزاء التي تخلو من الحوار في السيناريو الى موقع محدد للمشاهد والأحداث. الكاتب بوجومولوف كان يصف المحيط والأوضاع ببراعة يحسد عليها. . براعة شخص شهد تلك الأحداث التي تشكل الأساس للقصة . أحد المبادئ المرشدة للمؤلف كان إعادة بناء كل الأماكن، بالتفصيل، كما لو رآها بعينيه.
النتيجة كانت تبدو لي متشظية وبلا حياة:شجيرات على الضفة التي يحتلها العدو، مخبأ جالتسيف ذو الدعامات المصفوفة، موقع الإسعاف الأولي للكتيبة، خط النار الموحش في موازاة ضفة النهر، الخنادق. كل هذه الأماكن مرسومة بدقة شديدة لكنها لم تكن ملائمة لما أريده، كما أنها لم تثر فيّ أحاسيس جمالية. تلك البيئة لم توقظ انفعالات وعواطف تتلاءم مع قصة إيفان الكاملة كما تخيلتها. لقد شعرت طوال الوقت بأنه لكي يكون الفيلم ناجحا فإن نسيج المشهد والمناظر الطبيعية يجب أن يملأني بذكريات محددة وتداعيات شعرية.
الآن، بعد أكثر من عشرين عاما، أنا - على نحو راسخ - مقتنع بشيء واحد:إذا استطاع المنظر المختار أن يحرك مشاعر المبدع، ويستحضر ذكرياته، ويقترح تداعيات، حتى وإن كانت ذاتية، فإن هذا بدوره سوف يؤثر في الجمهور ويحرك مشاعره.
الأحلام الأربعة، في فيلم " إيفان"، كلها مبنية على أساس تداعيات خاصة تماما. الحلم الأول، على سبيل المثال، من بدايته الى نهايته، حتى هذه الجملة. . ”أمي، هناك وقواق"، نابع من ذكريات طفولتي المبكرة. كنت في الرابعة، حين بدأت للتو في التعرف على العالم من حولي.
بوجه عام، ذكريات الناس هي أثيرة بالنسبة لهم. وليس مصادفة أنها ملونة بالشعر. إن أجمل الذكريات هي تلك التي تنتسب الى الطفولة. الذاكرة، بالطبع، ينبغي أن تستثار قبل أن تصبح أساساً لإعادة البناء الفني للماضي. هنا من المهم عدم فقدان الجو العاطفي الخاص الذي بدونه لا تسبب الذكرى المستحضرة بكل تفاصيلها سوى الإحساس المرير بخيبة الأمل. ثمة اختلاف كبير، برغم كل شئ، بين الطريقة التي تتذكر بها البيت الذي ولدت فيه ولم تره لسنوات طويلة، والنظرة الفعلية للبيت بعد غياب مديد. عادة، شعرية الذاكرة تتعرض للتدمير عندما تجابه جذرها.
خطر لي آنذاك أنه من خاصيات الذاكرة يمكن أن ينشأ ويتجلى مبدأ عمل جديد، والذي عليه قد يُبنى فيلم مثير للاهتمام على نحو استثنائي. خارجيا، قد يلحق الاضطراب والتشوش بنمط الأحداث، وأفعال وسلوك البطل، ويكون الفيلم تعبيرا عن أفكار البطل وذكرياته وأحلامه. عندئذ، وبدون ظهور البطل تماما - على الأقل بالمعنى المسلم به للفيلم المكتوب على نحو تقليدي -سيكون ممكنا إنجاز شيء هام وذي دلالة: التعبير عن الشخصية الفردية للبطل والكشف عن عالمه الداخلي. هنا نجد صدى لصورة البطل الغنائي المتجسد في الأدب، وفي الشعر بطبيعة الحال. إنه غائب عن المشهد لكن ما يفكر فيه، وكيف يفكر فيه، يبني صورة له نابضة بالحياة ومحددة بوضوح. وهذا ما أصبح، فيما بعد، نقطة الانطلاق لفيلمي "المرآة ".
لكن الاتجاه الى هذا المنطق الشعري محفوف بالعداوة. المعارضة تنتظرك عند كل منعطف، على الرغم من حقيقة أن المبدأ المشار إليه هو شرعي تماما كما هو منطق الأدب أو الدراما. ذلك يحدث ببساطة لأن مكوّناً مختلفاً يصبح العنصر الرئيسي في البناء . إننا نتذكر هنا ما قاله هيرمان هيسه في أسى: متاح لك أن تكون شاعرا، لكن ليس مسموحا لك أن تصبح شاعرا. "
أثناء العمل في " طفولة إيفان" واجهنا احتجاجات كثيرة من السلطات المشرفة على إنتاج الفيلم كلما حاولنا أن نستبدل السببية السردية بمفاصل شعرية. مع ذلك كنا نتحرك بتردد وهدوء متلمسين طريقنا فحسب. لم يكن هناك مجال لتنقيح مبادئ العمل الأساسية لصنع الفيلم. وكلما أظهر البناء الدرامي أدنى علامة تشير الى نهوض شيء جديد، والتعامل مع الأساس المنطقي للحياة اليومية بحرية نسبيا، تعالت صيحات الاحتجاج وعدم الفهم. هذه الأصوات، في الغالب، تشير الى الجمهور وتتحدث نيابة عنه، قائلة بأن الجمهور يحتاج الى حبكة مكشوفة، واضحة وظاهرة للعيان، بلا انقطاع أو تغير مفاجئ في الاتجاه. وأن الجمهور غير قادر على متابعة الشاشة إذا لم يكن هناك خط قصصي قوي في الفيلم.
التباينات في فيلمنا - الانتقال من الأحلام إلى الواقع أو، عكسيا، من المشهد الأخير في السرداب الى يوم النصر في برلين - بدت غير مقبولة للكثيرين. لكنني شعرت بالسعادة حقا عندما علمت بأن الجمهور كان يفكر بشكل مختلف عن أولئك المسئولين.
هناك بعض المظاهر من الحياة الإنسانية لا يمكن تمثلها بأمانة إلا من خلال الشعر، لكن المخرجين غالبا ما يلجأون الى استخدام وسائل تحايل تقليدية، خرقاء، عوضا عن المنطق الشعري. أتكلم هنا عن التلاعبات البصرية والمؤثرات غير العادية في تصوير الأحلام والذكريات والتخيلات. الأحلام السينمائية تصبح في أحوال كثيرة مركبة من مجموعة من الحيل السينمائية البالية، ويكف الحلم أن يكون أحد ظواهر الحياة.
إزاء ضرورة تصوير الأحلام، علينا أن نقرر كيفية الاقتراب من شعرية الحلم الخاصة، كيف نعبر عنها، وبأي وسيلة. هذا شئ لا يمكن حسمه نظرياً. ففي بحثنا عن الإجابة، جربنا عدة احتمالات عملية، مستخدمين تداعيات وتخمينات غامضة. على نحو غير متوقع تماماً، خطر لنا أن نضع صورا سالبة في الحلم الثالث. لقد تخيلنا ضوء شمس يومض من خلال أشجار مكسوة بالثلج، ومطرا ينهمر متلألئا. إلتماعات البرق تدخل لتساعد تقنيا على الانتقال من الصورة الموجبة الى السالبة. لكن كل هذا خلق فحسب جواً من اللا واقع. ماذا عن المحتوى؟ ماذا عن منطق الحلم ؟ لقد تشكل ذلك من الذكريات. فقد تذكرت رؤيتي للعشب الندي، للشاحنة المحملة بالتفاح، للجياد المبللة بالمطر تحت أشعة الشمس. . هذه المادة جاءت من الحياة مباشرة لتجد طريقها الى الفيلم، وليس عبر فنون بصرية مجاورة. في بحثنا عن حلول بسيطة لمعضلة نقل لا واقعية الحلم، اكتشفنا بالمصادفة منظر الأشجار المتحركة في الصورة السالبة، وقبالة تلك الخلفية، نرى وجه الفتاة الصغيرة التي تعبر أمام الكاميرا ثلاث مرات، ومع كل ظهور لها تتغير تعبيرات وجهها. لقد أردنا أن نأسر في ذلك المشهد تنبوء الصبية بالمأساة الوشيكة. أما المشهد الأخير للحلم فقد كان مصورا على نحو مقصود بالقرب من المياه، على الشاطئ، من اجل ربطه بحلم إيفان الأخير.
رجوعا إلى مسألة اختيار الموقع، ينبغي القول أن إخفاقاتنا تكمن بالضبط في تلك المواضع من الفيلم حيث التداعيات، التي اقترحها اختبار أماكن معينة، كانت بفعل جزء من الحكاية أو نتيجة إتباع السيناريو بخنوع. ذلك ما حدث لمشهد الرجل العجوز المجنون والمبنى المتهدم المحترق. لا أعنى هنا محتوى المشهد إنما تحققه التشكيلي. في البداية كان المشهد متخيلا بشكل مختلف. لقد تصورنا حقلا مهجورا، مغمورا بالأمطار، يشقه طريق موحل ومشبع بالمياه، وعلى جانبي الطريق تنتصب أشجار الصفصاف الخريفية الشاحبة. لم يكن هناك مبنى محترق. فقط بعيدا في الأفق تنتصب مدخنة منعزلة. كان لابد من وجود إحساس بالوحدة يغمر كل ذلك. بقرة ضامرة كانت مشدودة الى العربة التي تحمل إيفان والعجوز المجنون. الديك كان جاثما على أرضية العربة، وثمة أشياء ثقيلة مغطاة بحصيرة وسخة. عندما تأتي سيارة الكولونيل، يركض إيفان هاربا عبر الحقل، متجها نحو الأفق، ويضطر خولين الى أن يقضي وقتا طويلا في مطاردته، وهو بالكاد ينجح في جذب جزمته من الوحل العالق. العجوز يبقى وحده. الريح ترفع حاشية الحصيرة في العربة لتظهر محراثا صدئا. كان يتعين تصوير المشهد في لقطات عامة وبطيئة بحيث يمتلك المشهد إيقاعا مختلفا تماما.
أنا لم أستقر على الخيار الآخر بسبب قوته التأثيرية. كل ما حدث انه كان هناك خياران للمشهد، ولم أدرك إلا في وقت متأخر إنني قد اخترت أقلهما جودة.
هناك مشاهد أخرى في الفيلم غير موفقة من النوع الذي ينشأ عادة حين لا تتوفر لحظة الإدراك لخالق العمل وبالتالي يفتقدها الجمهور أيضا. لقد تحدثت عن هذا سابقا فيما يتصل بشعرية الذاكرة. المثال على ذلك هو اللقطة التي فيها يسير إيفان عبر أرتال من الجنود ومركبات الجيش، وذلك عندما يهرب لينضم الى الأنصار (المقاومة). المشهد لا يوقظ في أي مشاعر، والجمهور كذلك لا يستطيع أن يختبر أي استجابة. وللسبب ذاته نجد بأن المحادثة بين إيفان والكولونيل في محطة الاستطلاع هي موفقة الى حدٍ ما. إن الموقع الداخلي محايد على الرغم من ديناميكية الاستثارة لدى الصبي. فقط اللقطة المتوسطة للجنود وهم يعملون أسفل النافذة تحمل عنصر الحياة ، وتصبح مادة للتداعيات ، للفكر الذي يتخطى ما هو معلن.
مشاهد كهذه، والتي لا تتضمن معنى متأصلا، والتي اخفق المؤلف في إضاءتها، تتطفل كشيء غريب ومغاير. هذه المشاهد تنفصل عن الشكل التركيبي للفيلم.
كل هذا يبرهن من جديد أن السينما، مثل أي فن آخر، هي من خلق مبدع الفيلم. ما يمكن أن يحصل عليه المخرج من زملائه أثناء تصوير العمل معا هو ثمين للغاية، مع ذلك فإن تصور المخرج وحده هو الذي في النهاية يعطي الفيلم تلك الوحدة والانسجام. إن ما يبقى من رؤية المبدع الذاتية هو فقط الذي سوف يصبح مادة الفن، وسوف يشكل ذلك العالم المميز والمركب، الذي يعكس صورة صادقة للواقع. من الطبيعي أن وضع المبدع الفريد والاستثنائي لا يقلل من القيمة الهائلة لمساهمات كل أفراد الفريق الفني. لكن حتى في هذا الاعتماد المتبادل فإن أفكار الآخرين لا تعزز العمل حقا إلا عندما يعرف المخرج كيف يختار من بين تلك الأفكار، وإلا فإن الوحدة الكلية للعمل سوف تتعرض للهدم.
النصيب الأكبر من مسؤولية نجاح فيلمنا يعود الى الممثلين، خصوصا كوليا بيرليافيف، فاليا ماليافينا، زينيا زاريكوف، فالنتين زوبكوف. . والعديد منهم لم يسبق لهم الظهور على الشاشة، لكنهم أدوا أدوارهم بجدية تامة.
لقد لفت نظري كوليا، الذي أدى دور إيفان، عندما كنت أدرس في المعهد. ولا أبالغ حين أقول بأن تعرفي عليه هو الذي حملني على اتخاذ قرار حاسم بشأن تصوير الفيلم. إن تحديد موعد نهائي صارم للتصوير قد حال دون أي بحث جاد عن ممثل يؤدي دور إيفان، وقد كنت مقيدا بميزانية محددة لأن فريقاً مختلفا قد باشر العمل في الفيلم على نحو غير مرض، وكان علينا العمل من جديد وبطريقة مغايرة. من جهة أخرى، كان علي أن أضمن مشاركة عناصر إبداعية أخرى لتحقيق الفيلم مثل المصور فاديم يوسوف، مؤلف الموسيقى فياشيسلاف أوفشينيكوف، ومصمم المناظر إيفجيني شيرنا ياييف. . هؤلاء جعلوني أواصل تصوير الفيلم بعزم وعناد.
كل ما يتصل بالممثلة فاليا ماليافينا كان متعارضا مع وصف الكاتب بوجومولوف للممرضة. في القصة هي فتاة سمينة، شقراء، ذات صدر ناهد وعينين زرقاوين. فاليا كانت نقيض تلك الصورة: فهي ذات شعر أسود، وعينين بلون البندق، وجذع صبياني. مع ذلك، كانت تمتلك شيئا خاصا، أصيلا، غير متوقع، والذي لم يكن موجودا في القصة. وهذا كان مهما أكثر، مركبا أكثر، ويمكن أن يفسر الكثير بشأن الشخصية.
أن نواة شخصية فاليا هي حساسيتها العالية وافتقارها الى الحصانة. إنها تبدو ساذجة، نقية، تثق بالآخرين، الى حد أنه كان جليا على الفور بأن ماشا (الممرضة) هي بلا دفاع وبلا حماية إزاء هذه الحرب التي لا علاقة لها بها. الحساسية وعدم حصانتها هي الحقيقة الأساسية لطبيعتها ولعمرها. كل ما هو عملي وفعال بشأنها، كل ما ينبغي أن يقرر موقفها من الحياة، كان لا يزال في حالة جنينية. هذا أتاح للعلاقة بينها وبين الكابتن خولين أن تنشأ وتتعزّز على نحو طبيعي لأن الكابتن كان أعزل أمام افتقارها الى الحصانة. والممثل زوبكوف، الذي أدى دور خولين، وجد نفسه معتمدا كليا على شريكته، بينما كان يمكن لسلوكه أن يبدو متكلفا لو كانت شريكته ممثلة أخرى غير فاليا.
هذه الملاحظات لا ينبغي أن تؤخذ كمنطق للفيلم. إنها مجرد محاولة لأن أفسر لنفسي الأفكار التي خطرت لي أثناء تحقيق الفيلم، وكيف أن هذه شكلت نفسها في نظام معين. إن تجربة العمل في فيلم "إيفان" ساعدتني على صياغة رؤاي التي تعززت لاحقا بكتابة سيناريو عن حياة أندريه روبليوف، والذي أنهيته في العام 1967.
بعد كتابة هذا السيناريو، كنت مرتابا جدا بشأن إمكانية إنتاج الفيلم. على أية حال، كنت متيقنا أنه لن يكون عملا تاريخيا أو سيرة ذاتية لفنان. كنت معنياً بشيء آخر: أن أستقصي طبيعة النبوغ الشعري للرسام الروسي العظيم.
لقد أردت أن أستخدم روبليوف كنموذج لسبر واستكشاف مسالة سيكولوجية الإبداع الفني، وأحلل ذهنية ووعي فنان أبدع كنوزا روحية ذات أهمية خالدة.
كان على الفيلم أن يُظهر كيف أن التوق القومي الى الإخاء، في زمن القتال الوحشي المهلك والاستعباد التتاري، قد أنتج رائعة روبليوف "الثالوث الأقدس" والتي تلخص المثل الأعلى للإخاء والحب والطهارة. ذلك كان الأساس الفني والفلسفي للسيناريو.
العمل كان مكتوبا في أجزاء منفصلة، كحكايات قصيرة، لا يظهر فيها روبليوف دائما، لكن حتى عندما لا يكون حاضراً فإن من الضروري إدراك الحياة التي عاشتها روحه، لابد من تنفس الجو الذي شكل علاقاته بالعالم. هذه الحكايات ليست متصلة بخط كرونولوجي (مرتب زمنيا) تقليدي، بل بواسطة المنطق الشعري الذي تستدعيه حاجة روبليوف لأن يرسم عمله الشهير "الثالوث الأقدس". الأجزاء، المستقلة كل منها بحبكتها وموضوعها الخاص، تستمد وحدتها من ذلك المنطق. إنها تتنامي في تفاعلها مع بعضها البعض، عبر التعارض الداخلي المتأصل في المنطق الشعري لتعاقب هذه الأجزاء في السيناريو: ضرب من التجلي البصري لتناقضات وتعقيدات الحياة والخلق الفني.
فيما يتعلق بالجانب التاريخي، أردنا أن نحقق الفيلم كما لو نتعامل مع الجانب المعاصر. بالتالي كان لابد من جعل الوقائع التاريخية، والناس، ونتاجات الإنسان، تبدو مرئية ليس كمواد تذكارية، إنما كأشياء حية، تتنفس، حتى في يومنا. لم نكن نرغب في النظر إلى الأثاث والأزياء والأدوات بعين مؤرخ أو عالم آثار أو عالم بالأعراق البشرية. على الكرسي أن يكون صالحا للاستعمال، شيئا يُجلس عليه، وليس تحفة نادرة. وكان على الممثلين أن يؤدوا الشخصيات بعد فهم عميق لها، وبإحساس من يتعامل مع شخصيات معاشة الآن. أردنا أن نتخلص نهائيا وعلى نحو حاسم من تقاليد التراجيديات التي عادة يتسلقها الممثل بمشقة في الفيلم التاريخي، والتي تتحول تدريجيا، وعلى نحو غير مدرك، الى ركائز. لقد شعرت بأن كل هذا كان أساسياً من أجل الوصول الى نتائج أفضل.
كنت مصمما على تحقيق هذا الفيلم مع الفريق ذاته الذي تعاون معي من قبل وكافح معي: المصور يوسوف، مهندس المناظر شيرناييف، والمؤلف الموسيقي أوفشينيكوف.
سوف أختتم هذا الفصل بإفشاء الغرض السري للكتاب: رجائي أن يصبح أولئك القراء الذين نجحت في إقناعهم، إن لم يكن كليا فعلى الأقل جزئيا، أرواحا شقيقة لروحي، حتى لو فقط في إدراك حقيقة أني لا أخفي أسرارا عنهم.
***
قبل الذهاب الى المعضلات الخاصة بطبيعة الفن السينمائي، أشعر أن من المهم تحديد فهمي للهدف الجوهري للفن في حد ذاته. لماذا يوجد الفن ؟ من يحتاجه ؟ وهل يحتاجه أحد بالفعل ؟ هذه أسئلة لا يطرحها الشاعر فحسب ، بل أيضا أي فرد يقدّر الفن ويدرك قيمته. . وحتى “المستهلك"، وفق التعبير الشائع الدال على العلاقة المعاصرة بين الفن وجمهوره.
الكثيرون يطرحون على أنفسهم تلك الأسئلة، وكل فرد متصل بالفن يقدم إجابته المستقلة الخاصة. الشاعر ألكسندر بلوك قال " الشاعر يخلق التناغم من حالة الفوضى". وبوشكين آمن بأن الشاعر موهوب بالنبوءة.
كل فنان محكوم بقوانينه الخاصة، لكن هذه القوانين ليست إلزامية أبدا لأي شخص آخر.
على أية حال، من الواضح تماما أن غاية الفنون كافة (إلا إذا كانت بالطبع موجهة إلى المستهلك مثل أية سلعة صالحة للبيع) هي أن تفسر للفنان نفسه، ولأولئك المحيطين به، معنى وجوده وما يعيش الإنسان لأجله ودفاعا عنه. أن تفسر للناس سبب ظهورهم على هذا الكوكب، وإذا كان التفسير أمرا غير وارد، فعلى الأقل أن تطرح الأسئلة.
انطلاقا من الرأي الأكثر شيوعا، يجدر القول أن الوظيفة العملية للفن تكمن، بلا جدال، في فكرة "المعرفة"، حيث يتجسد التأثير كصدمة، كتطهير.
منذ اللحظة الأولى، عندما أكلت حواء التفاحة من شجرة المعرفة، والجنس البشري محكوم عليه بأن يناضل، على نحو لا نهائي، في سبيل امتلاك الحقيقة. في بادئ الأمر، كما نعلم، اكتشف آدم وحواء أنهما عاريان فشعرا بالخجل. الخجل كان نابعاً من الفهم. عندئذ شرعا في التوجه نحو طريق المعرفة، معرفة أحدهما للآخر، المعرفة المفعمة بالبهجة. تلك كانت بداية الرحلة التي لا نهاية لها. وبوسع المرء أن يدرك مدى درامية تلك اللحظة بالنسبة لكائنين انبثقا للتو من حالة الجهالة ليجدا نفسيهما منفيين في أرض شاسعة، عدائية، ومتعذر تفسيرها. "بعرق جبينك سوف تحصل على خبزك. "
ذلك هو الإنسان، تاج الطبيعة، الذي جاء الى الأرض من أجل أن "يعرف" سبب مجيئه أو سبب إرساله. هذا الارتقاء سمي بالنشوء. وقد كان مصحوبا بوجع معرفة الذات.
بالمعنى الحقيقي، كل فرد يختبر لنفسه عملية معرفة الذات فيما هو يتوصل إلى معرفة الحياة ونفسه وأهدافه. بالطبع، كل شخص يستفيد من خلاصة المعرفة المتراكمة من قبل الجنس البشري، لكن مع ذلك فإن تجربة معرفة الذات الأخلاقية والمعنوية هي الغاية الوحيدة في الحياة لكل فرد. وذاتيا، هي مختبرة في كل مرة بوصفها شيئا جديدا . إن الإنسان يقيم، المرة تلو الأخرى، علاقة متبادلة بين نفسه والعالم، ويرهقه التوق الى إحراز، والتوحد مع، المثال الذي يكمن خارجه، والذي يفهمه كضرب من المبدأ الأول المدرك بالحدس. إن استحالة إحراز أو تحقيق ذلك التوحد، وعدم كفاية"أناه" الخاصة، هو المصدر الدائم لشعور الإنسان بالألم وعدم الإشباع.
هكذا فإن الفن، مثل العلم، وسيلة لاستيعاب العالم، واسطة لمعرفة العالم، أثناء رحلة الإنسان نحو ما يسمى "الحقيقة المطلقة". من جهة أخرى، ذلك يشكل نهاية أي تماثل بين هذين التجسيدين (الفن والعلم) للروح الإنسانية الخلاقة، التي فيها الإنسان لا يكتشف فحسب، بل يخلق. ومن المهم هنا ملاحظة التباعد، والاختلاف في المبدأ، بين هذين الشكلين من أشكال المعرفة: العلمية والجمالية.
بواسطة الفن، يسيطر الإنسان على الواقع من خلال التجربة الذاتية. في العلم، معرفة الإنسان للعالم تتجه صاعدة سلّماً لا نهائيا، وهي تُستبدل، على نحو متوال، بمعرفة جديدة، حيث كل اكتشاف غالبا ما يدحضه اكتشاف آخر من اجل بلوغ حقيقة موضوعية خاصة.
الاكتشاف الفني يحدث في كل مرة باعتباره صورة جديدة وفريدة للعالم، وتصورا مبهما للحقيقة المطلقة. إنه يظهر ككشف، كأمنية خاطفة ومتقدة للسيطرة حدسيا على كل قوانين هذا العالم: جماله وقبحه، وداعته وقسوته، لا تناهيه ومحدوديته.
الفنان يعبّر عن هذه الأشياء بخلق الصورة الكاشفة عن الجوهري، عن المطلق. من خلال الصورة يتعزز الوعي باللا متناهي: السرمدي ضمن النهائي، الروحاني ضمن المادة، واللا محدود يكتسب شكلا.
يمكن القول أن الفن رمز للكون، نظرا لأنه متصل بتلك الحقيقة الروحية المطلقة، المتوارية عنا في أنشطتنا الوضعية والذرائعية.
من اجل أن يكون الفرد مشاركا في أي نظام علمي، يتعين عليه أن يستفيد من عمليات التفكير المنطقية، وان يحرز فهما. . هذا الفهم الذي يقتضي، كنقطة انطلاق، نوعا خاصا من التعليم. أما الفن فيخاطب كل فرد على أمل أن يخلق انطباعا، أن يكون محسوسا، أن يسبب صدمة عاطفية، أن يكون مقبولا، أن يستهوي الناس ليس عن طريق البرهان العقلاني الذي لا جدال فيه، أنما من خلال الطاقة الروحية التي بها يشحن الفنان عمله.
الفن يولد ويرسخ حيثما يكون هناك توق نهم وأزلي إلى ما هو روحي، إلى المثال: ذلك التوق الذي يجتذب الناس الى الفن. والفن الحديث قد اتخذ اتجاها خاطئا عندما تخلى عن البحث عن معنى الوجود في سبيل توكيد قيمة الفرد لمصلحته الخاصة. لكن الذاتية، في الإبداع الفني، لا تفرض نفسها، بل تخدم فكرة أخرى أكثر سموا ومشاعية. الفنان خادم دائما، وهو على الدوام يحاول أن يدفع ثمن الموهبة الممنوحة له كما لو بفعل معجزة ما. من جهة أخرى، الإنسان المعاصر لا يريد أن يقوم بأية تضحية، رغم أن التوكيد الحقيقي للذات لا يمكن التعبير عنه إلا في التضحية. نحن نتغاضى عن ذلك شيئا فشيئا، وفي الوقت نفسه، وعلى نحو محتوم، نفقد كل إحساس بحاجتنا الإنسانية.
حين أتكلم عن التوق الى ما هو جميل، عن المثال كغاية أساسية للفن، والذي ينمو من الاشتياق الى ذلك المثال، فإنني لا أوحي على الإطلاق بوجوب أن ينأى الفن بنفسه عن "قذارة" العالم. على العكس تماماً، فالصورة الفنية هي دائما كناية، حيث يستعاض عن الشيء بشيء آخر. للكشف عن ما هو حي، يستخدم الفنان شيئا ميتا، وللحديث عن اللا متناهي، يعرض المحدود والمتناهي. ليس ممكنا تحويل اللا متناهي الى مادة، لكن بالإمكان خلق الوهم باللا متناهي: الصورة.
البشاعة والجمال متضمنان داخل بعضهما البعض. هذا التناقض الظاهري، الاستثنائي والمدهش، بكل لا معقوليته، ينشط الحياة نفسها، وفي الفن يحقق تلك الوحدة الكلية التي فيها يتحد التناسق والتوتر. الصورة تجعل الوحدة محسوسة وفيها تتجاور عناصر مختلفة ومتنوعة، وتتصل بعضها ببعض. بإمكان المرء أن يتحدث عن فكرة الصورة، أن يصف بالكلمات جوهرها، لكن وصفا كهذا سوف لن يكون وافيا بالمراد أبدا. الصورة يمكن خلقها، يمكن أن تجعل نفسها محسوسة، أن تكون مقبولة أو مرفوضة، لكن لاشيء من هذا يمكن أن يكون مفهوما بأي حس عقلي. فكرة اللا تناهي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات أو حتى بالوصف، لكن يمكن أن تكون مدركة من خلال الفن الذي يجعل اللا متناهي ملموسا. المطلق لا يمكن إحرازه أو بلوغه إلا عبر الإيمان وفي الفعل الإبداعي.
الشرط الوحيد للنضال من أجل حقك في الخلق هو الإيمان بمهمتك، الاستعداد لأن تخدم، ورفض التسوية. الإبداع الفني يقتضي من الفنان أن "يفنى" بكل ما تحمله هذه الكلمة من حس مأساوي. وبالتالي، إذا كان الفن يحمل في داخله تصورا مبهما عن الحقيقة المطلقة فإن هذا سوف يكون دائما صورة للعالم والتي تتجلى في العمل. وإذا كانت المعرفة العلمية الوضعية، الباردة، للعالم أشبه بصعود سلّم لانهائي، فإن المعرفة الفنية تقترح منظومة لا نهائية من العوالم التي قد يتمم أحدها الآخر أو يتناقض معه لكن لا يمكن، في أي ظرف، أن يلغي بعضه البعض، بل على العكس تماما، كل عالم يثري الآخر ويتجمع ليشكل كونا متعانقا ينمو في اللا تناهي.
الاتصال هو الوظيفة الرئيسية للفن نظرا لأن الفهم المشترك يمثل قوة قادرة على توحيد الناس، وروح المشاركة هي واحدة من أكثر المظاهر أهمية في الإبداع الفني.
الأعمال الفنية، بخلاف الأعمال العلمية، لا تملك أهدافا عملية بأي حس مادي. الفن لغة سامية تساعد الناس على تحقيق الاتصال فيما بينهم، وتفصح عن معلومات بشأن ذواتهم، كما تساعدهم على استيعاب أو تمثل تجارب الآخرين. مرة أخرى، ليس لهذا علاقة بالميزة العملية بل بادراك فكرة الحب، والذي معناه يوجد في التضحية: النقيض الفعلي للذرائعية.
شخصياً لا أستطيع أن أصدق بأن الفنان يعمل بقصد "التعبير عن الذات" فقط، فمثل هذا التعبير يصبح بلا معنى ما لم يلق استجابة من الآخرين. إن خلق رباط روحي مع الآخرين عملية موجعة ولا تحقق ربحا عمليا لأنها، جوهريا، فعل تضحية، لكنها يقينا لا يمكن أن تكون جديرة بالمحاولة إذا كان القصد فقط أن يستمع المرء الى صداه الخاص.
الحدس، بالطبع، يلعب دورا في العلم كما في الفن، وهذا ربما يكون عنصرا مشتركا في هذين الشكلين المتباينين من أشكال السيطرة على الواقع. مع ذلك، وبالرغم من أهميته الكبرى في كلتا الحالتين، فإن الحدس في الإبداع الشعري يختلف جوهريا عنه في البحث العلمي.
وبالمثل، فإن عبارة "الفهم" تعني أشياء مختلفة تماما في هذين الحقلين من حقول النشاط الخلاق. الفهم بالمعنى العلمي يعني الاتفاق على المستوى العقلي والمنطقي. إنه فعل عقلاني مماثل لعملية إثبات نظرية ما. أما فهم الصورة الفنية فيعني القبول الجمالي على المستوى العاطفي، أو حتى مستوى ما وراء العاطفة.
حدس العلماء، حتى وإن كان أشبه بإشراق أو إلهام، سوف يظل دائما شفرة تمثل استدلالا منطقيا. ومع أن الاكتشاف العلمي قد يبدو ثمرة إلهام، إلا أنه الإلهام الذي يختلف كليا عن إلهام الشاعر.
العملية التجريبية المتصلة بالإدراك العقلي لا تستطيع أن تفسر كيفية نشوء الصورة الفنية، التي هي فريدة، كلية ولا تتجزأ، متخلقة وموجودة على مستوى آخر غير مستوى الفكر. إنها مسألة اتفاق على المصطلحات الفنية.
في العلم، في لحظة الاكتشاف، يستعاض عن المنطق بالحدس. في الفن، كما في الدين، الحدس معادل للإقتناع، للإيمان. إنه حالة ذهنية وليس طريقة في التفكير. العلم تجريبي، في حين أن مفهوم الصور محكوم بفعالية الكشف أو الإلهام. إنها مسألة إلتماعات مفاجئة. . أشبه برقائق تنحدر من الأعين ، ليس في ما يتصل بالأجزاء بل بالكل ، باللا متناهي ، بما لا يتفق مع التفكير الواعي.
الفن لا يفكر على نحو منطقي، أو يصوغ منطقا للسلوك. إنه يعبّر عن تسليمه بالإيمان كمبدأ أساسي. إذا كان ممكنا، في العلم، أن تقيم الدليل على صحة قضية أو حجة شخص ما وتبرهنها منطقيا إلى خصومه، ففي الفن يستحيل إقناع أي شخص بأنك على حق إذا شعر بالفتور واللامبالاة إزاء الصور الفنية التي خلقتها، وإذا أخفقت هذه الصور في استمالته بحقيقة مكتشفة بطريقة جديدة عن العالم والإنسان، وإذا شعر هو، وجها لوجه مع العمل، بالضجر.
إذا أخذنا ليف تولستوي كمثال_خصوصا تلك الأعمال التي كان فيها عازما بوضوح على استقصاء تعبير دقيق ومنظم تماماً لأفكاره وايحاءاته الأخلاقية- فسوف نلاحظ بأن الصورة الفنية التي خلقها تعمل، في كل مرة، على تنحية تخومها الإيديولوجية جانبا، وترفض أن تنسجم مع البنية المفروض عليها من قبل مؤلفها. الصورة تتنازع مع هذه التخوم، حتى أنها أحيانا، وبحس شعري، تناقض نظامها المنطقي الخاص. والتحفة الفنية تستمر في العيش وفق قوانينها الخاصة، وتمارس تأثيرا عاطفيا وجماليا هائلا حتى عندما لا نتفق مع معتقدات المؤلف الجوهرية. ويحدث، في أحوال كثيرة، أن العمل الفني الرائع يولد من محاولات الفنان لقهر نقاط ضعفه، وهذا لا يعني التغلب على نقاط الضعف تلك وإقصاءها، ذلك لأن العمل الفني يوجد ويحيا على الرغم منها.
الفنان يفشي عالمه لنا، ويرغمنا على أن نؤمن بعالمه أو نرفضه لأنه غير مقنع ولا علاقة لنا به. في إبداعه للصورة، الفنان يقلل من أهمية تفكيره الخاص، والذي يصبح بلا شأن إزاء تلك الصورة للعالم، المدركة عاطفياً، والتي ظهرت أمامه مثل وحي. ذلك لأن التفكير وجيز بينما الصورة مطلقة. في حالة شخص متفتح روحيا، يكون ممكنا الحديث عن التشابه الجزئي بين التأثير الذي يحدثه العمل الفني وتأثير التجربة الدينية. الفن، قبل كل شيء، يمارس تأثيرا على النفس، ويشكل البنية الروحية.
للشاعر مخيلة ونفسية طفل، نظرا لأن انطباعاته عن العالم هي فورية ومباشرة، مهما كانت أفكاره بشأن العالم عميقة ومستعصية على الفهم. وبالطبع، يمكن القول بأن الطفل، أيضا، فيلسوف. . لكن فقط بالحس النسبي. والفن يتحدى المفاهيم الفلسفية. الشاعر لا يصف العالم، ذلك لأن له دور في خلقه.
لا يمكن للشخص أن يكون حساسا وسريع التأثر بالفن إلا حين يكون راغبا وقادرا على الثقة بالفنان وعلى تصديقه. لكن كم هو شاق وموجع أحيانا عبور عتبة اللا فهم الذي يفصلنا عن الصورة الشعرية. وبالطريقة ذاتها تماما، لأجل إيمان حقيقي بالله، أو حتى لأجل الشعور بالحاجة الى ذلك الإيمان، يتعين على المرء أن يمتلك إمكانية روحية خاصة.
بهذا الصدد، تنبثق من الذاكرة تلك المحادثة بين ستافروجين وشاتوف في رواية دوستويفسكي"الممسوسون":
] سأله وهو ينظر اليه متجهما وصارما:"لقد أردت أن أعرف فحسب. . . هل أنت تؤمن بالله أم لا تؤمن؟"
وشاتوف يبدأ في الغمغمة بيأس:
"أنا أؤمن بروسيا والارثوذكسية الروسية. . أؤمن بجسد المسيح. . أؤمن أن المجئ الثاني للمسيح سيحدث في روسيا. . أؤمن. . . . . "
"وبالله ؟ هل تؤمن بالله؟"
" أنا. . . . . . . سوف أؤمن بالله؟"[
ما الذي يمكن أن نضيفه هنا ؟ إنه استبصار رائع في الحالة المضطربة والمشوشة للروح، ذبولها وعدم كفايتها. . أعراض ستصبح كائنة ودائمة في الإنسان المعاصر، والذي يمكن تشخيصه بوصفه عاجزا روحيا.
الجمال محجوب عن أعين أولئك الذين لا يبحثون عن الحقيقة. لكن الافتقار العميق الى القيم الروحية عند أولئك الذين يرون الفن فيشجبونه، وواقع إنهم غير راغبين ولا مستعدين لتأمل معنى وهدف وجودهم بأي حس جدي، غالبا ما يكون مستترا أو متقنعاً بتلك الصيحة التبسيطية على نحو مبتذل والتي يواجهون بها العمل الفني: " أنا لا أحبه" أو " إنه مضجر".
وهذا ليس موضوعاً جديراً بالنقاش والجدل، إنما هو أشبه بكلام يلفظه رجل ولد كفيفا عندما يتحدثون إليه عن قوس قزح. إنه ببساطة يرفض الإصغاء إلى الألم الذي عاناه وتحمله الفنان في سبيل أن يشاطر الآخرين الحقيقة التي توصل إليها.
لكن ما هي الحقيقة؟
أعتقد أن احد المظاهر الأكثر إثارة للأسى في زمننا هو التدمير الشامل، في وعي الناس، لكل ما ينسجم مع الحس الواعي بالجمال. الثقافة الجماهيرية المعاصرة، الموجهة إلى "المستهلك"، حضارة الجراحة الترقيعية، تشل أرواح الناس وتقيم حواجز بين الإنسان والأسئلة الحاسمة بشأن وجوده ووعيه بذاته ككائن روحي. لكن الفنان لا يستطيع أن يسد أذنيه أمام نداء الحقيقة. هي وحدها تحدّد إرادته الخلاقة، تنظمها، وبالتالي تساعده على تمرير إيمانه إلى الآخرين. الفنان الذي يفتقر إلى الإيمان هو أشبه بالرسام الذي وُلد كفيفاً.
من الخطأ التحدث عن الفنان بوصفه "باحثاً عن" الموضوع. في الواقع، الموضوع ينمو بداخله مثل ثمرة، ويبدأ في المطالبة بالتعبير عنه أو صياغته. . ذلك أشبه بولادة طفل.
ليس لدى الشاعر ما يفتخر به: فهو ليس سيد الوضع، بل خادم. العمل الإبداعي هو الشكل الممكن الوحيد لوجوده، وكل عمل له أشبه بمأثرة لا سلطة له عليها فلا يستطيع إبطالها أو إلغاءها. ولكي يدرك بأن تعاقب مثل هذه المآثر مناسب وصائب، وبأن ذلك يكمن في طبيعة الأشياء، يتعين عليه أن يؤمن بالفكرة، ذلك لأن الإيمان وحده هو الذي يوشج نظام الصور (أو بالأحرى. . نظام الحياة).
وما هي لحظات الإشراق إن لم تكن الحقيقة المحسوسة كل لحظة ؟
إن معنى الحقيقة الدينية هو الأمل. الفلسفة تنشد الحقيقة، محددة معنى النشاط الإنساني، وحدود العقل البشري، ومعنى الوجود، حتى عندما يتوصل الفيلسوف الى استنتاج بأن الوجود بلا معنى وأن المسعى الإنساني عبث وغير ذي جدوى.
إن وظيفة الفن لا تكمن، كما يفترض غالبا، في ترجمة الأفكار بنجاح، أو نشر الفكر، أو تقديم العبرة والمثال، بل أن هدف الفن هو تهيئة الفرد للموت، حرث روحه وتمهيدها، وجعلها قادرة على التوجه إلى الخير.
الفرد، عندما تحرك مشاعره رائعة فنية، فإنه يسمع في داخله نداء الحقيقة ذاته الذي حث الفنان على تحقيق الفعل الخلاق. حين يتأسس الرابط بين العمل والمتلقى، فإن هذا الأخير يختبر صدمة كبيرة ومطهرة. ضمن تلك الهالة التي توحد الروائع الفنية والجمهور، نبدأ في التعرف على الجوانب الأفضل من أنفسنا، والتي نتمنى لها أن تتحرر.
في تلك اللحظات نحن نتعرف على أنفسنا ونكتشفها، نكتشف أعماق الكامن فينا والتي لا يُسبر غورها، وتلك المراكز الأبعد من أحاسيسنا.
باستثناء العبارات الأكثر شيوعا فيما يتصل بالإحساس، بالتناغم، فإننا نجد مشقة في التحدث عن عمل عظيم، كما لو أن هناك جهاز قياس ثابت لتعيين التحف الفنية وتمييزها أو فرزها من بين الظواهر المحيطة. علاوة على ذلك، فإن قيمة العمل الفني هي نسبية من وجهة نظر أولئك الذين يكنون له التقدير. التحفة الفنية هي محاكمة عقلية للواقع، منتهية ومكتملة، وبارتكاز على ذلك الواقع. إن قيمتها تكمن في إعطاء تعبير كلي للشخصية الإنسانية في تفاعل مع الروح. غالبا ما يُعتقد بأن دلالة العمل الفني سوف تكون جلية عن طريق إحداث اتصال مباشر بينه وبين المجتمع. قد يكون هذا صحيحا من الوجهة العامة لكن التناقض الظاهري يكمن في أن العمل الفني يصبح معتمدا كليا على أولئك الذين يتلقونه، أولئك القادرين على الإحساس به، بتلك الخيوط التي تربط بين العمل والعالم ككل أولاً، وبين العمل والذات الإنسانية في علاقتها بالواقع ثانيا. غوته كان محقا تماماً حين قال بأن "مشقة قراءة كتاب جيد تضاهي مشقة كتابته". إنه ليس من المفيد تصور أن وجهة نظر المرء وتقييمه الخاص يتخذ صفة الموضوعية. من خلال تنوع التأويلات الشخصية فقط ينشأ نوع من التقييم الموضوعي نسبيا. إن الترتيب الهرمي للجدارة التي تتخذها الأعمال الفنية في نظر العامة، الأكثرية، يحدث في الأغلب كنتيجة لمصادفة محضة.
الأعمال النقدية تميل إلى التعامل مع الموضوع من أجل توضيح فكرة معينة. ولسوء الحظ، غالبا ما تنطلق من التأثير المباشر، العاطفي والانفعالي، الذي يمارسه العمل الفني. من أجل إدراك واضح، غير غائم، يتعين عليك أن تمتلك قدرة استثنائية على إصدار حكم مبتكر، مستقل، و"بريء". بوجه عام، الناس يبحثون عن أمثلة مألوفة ونماذج أولية لتأكيد وتعزيز رأيهم، والعمل الفني تتحدّد أهميته وقيمته وفق، أو بالتماثل مع، طموحاتهم الخاصة أو مواقفهم الشخصية. من جهة أخرى، في تعددية الأحكام الصادرة عليه، العمل الفني بدوره يتبنى حياة خاصة به هي متحولة ومتعددة الأوجه، ووجوده يتعزز ويزداد رحابه.
يقول ثورو في كتابه الرائع والمدهش Walden:
" الجنس البشري لم يقرأ بعد أعمال الشعراء العظام، ذلك لأن الشعراء العظام وحدهم يستطيعون قراءتها. إنها مقروءة فحسب كما تقرأ العامة النجوم. . على نحو تنجيمي في الغالب وليس على نحو فلكي. معظم البشر تعلموا القراءة لخدمة أغراض معينة مثلما تعلموا استعمال الأرقام من أجل ضبط الحسابات ولكي لا يتعرضوا للغش والاحتيال في التجارة. لكن القراءة كممارسة فكرية، رفيعة ونبيلة، فإنهم لا يعرفون شيئا عنها أو يعرفون القليل. القراءة، بالمعنى السامي، ليست تلك التي تهدهدنا كوسيلة ترفيه، وتدع الملكات العقلية تهجع فترة، لكن تلك التي يتعين علينا أن نقف على رؤوس الأصابع لقراءتها، ونكرس لها ساعات من اليقظة والسهر".
شيء واحد مؤكد: التحفة الفنية لا تولد إلا حين يكون الفنان صادقاً تماماً في معالجته لمادته. الأحجار الكريمة لا توجد في التربة السوداء، بل ينبغي البحث عنها قرب البراكين. الفنان لا يمكن أن يكون صادقا جزئيا كذلك الفن لا يمكن أن يكون تقديراً تقريبياً للجمال. الفن هو الشكل المطلق للجميل، للمثال. الجميل والمنجز في الفن - ما هو مناسب للتحفة الفنية- أراه حيثما يصبح من المستحيل تمييز أو تفضيل أي عنصر، سواء في المحتوى أو في الشكل، دون أن يسبب ذلك أذى أو ضررا للوحدة الكلية للعمل، ذلك لأن في التحفة الفنية لا يوجد عنصر متقدم على غيره في الأهمية. إنك لا تستطيع أن تلحق بالفنان في لعبته الخاصة، وأن تصوغ له أهدافه وغاياته الأساسية. فقد كتب أوفيد: "الفن يتألف مما هو غير ملحوظ أو غير مرئي". وصرح إنجلز بأن: " كلما كانت أراء المؤلف متوارية ومخفية، كان ذلك أفضل للعمل الفني".
العمل الفني يعيش وينمو، مثل أي كائن حي آخر، عبر صراع المبادئ المتعارضة. الأضداد تتصل فيما بينها ضمن العمل الفني آخذة الفكرة نحو اللا متناهي. إن فكرة العمل، تلك التي تحدده، هي متوارية في توازن المبادئ المتعارضة التي تتضمنها. . بالتالي فإن "الانتصار" على عمل فني ( أي التأويل الأحادي الجانب لفكرته وغرضه ) يصبح مستحيلا. لهذا السبب لاحظ غوته بأن " كلما كان العمل أقل انفتاحا على الفكر، صار أعظم"
التحفة الفنية هي فضاء منغلق على نفسه، والجمال يكمن في توازن الأجزاء. المفارقة أنه كلما كان العمل متكاملا شعر المرء، بوضوح أكثر، بغياب أي تداعيات يولدها العمل. أو ربما أن العمل قادر على توليد عدد لامتناه من التداعيات والذي، جوهريا، يعني الشيء نفسه.
فياشيسلاف إيفانوف (4) سجل بعض الملاحظات الذكية والثاقبة على نحو رائع حين كتب عن كلية الصورة الفنية ( التي يسميها الرمز ): " الرمز لا يصير رمزا حقيقيا إلا حين يكون مطلقا ولا ينضب في معناه، حين يعبّر في لغته السرية ( الكهنوتية والسحرية )، ذات الإشارات الخفية والتلميحات، عن شيء لا يمكن توضيحه ولا ينسجم مع الكلمات. إن للمرء وجوها عديدة وأفكاراً عديدة، وفي أعماقه الأبعد يظل غامضا وملغزا (. . )
إنه يتشكل بواسطة عملية عضوية، مثل البلور (. . ) إنه وحدة عضوية بالتأكيد، لذلك يختلف الرمز بنيويا عن المجازات والحكايات الرمزية والتشبيهات المركبة والمختزلة (. . ) الرموز لا يمكن تعيينها أو تفسيرها. وفي مواجهة معناها السري بكل شموليتها، نكون بلا حول ".
كم هي اعتباطية واستبدادية أحكام نقاد الفن على أهمية أو تفوق عمل فني ما. وبدون الإيحاء للحظةٍ بأن حكمي موضوعي، فإنني أود أن أضرب بعض الأمثلة من تاريخ الفن التشكيلي، عصر النهضة الإيطالية تحديدا. كم هي عديدة التقييمات المسلم بها عموما، والتي تملؤني بالدهشة.
أي ناقد لم يكتب عن رافاييل ولوحته “SISTINE MADONNA” التي تصور مريم العذراء ؟. . . مثال الإنسان، الذي أحرز أخيرا وجوده الخاص لحما ودما، الذي اكتشف العالم والله في ذاته وحوله بعد قرون من عبادة إله العصور الوسطي، والذي عليه تركزت تحديقته بثبات الى حد أنه استنزف قوته المعنوية. . كل هذا - كما يقال- وجد تجسده المثالي، المتماسك، والنهائي في تلك اللوحة التي رسمها العبقري رافاييل.
قد يكون هذا صحيحا بطريقة ما، لأن مريم العذراء - في تصوير الفنان- هي مواطنة عادية، وحالتها النفسية، كما هي منعكسة في اللوحة، لها أساس في الحياة الواقعية: إنها خائفة على مصير إبنها الذي سوف يوهب للناس قربانا. ومع أن هذا يحدث باسم خلاصهم، هو نفسه يكون مستسلما في الصراع ضد الإغواء لحمايته منهم.
كل هذا مكتوب حقا بحيوية داخل اللوحة. . بحيوية مفرطة من وجهة نظري، ذلك لأن فكر الفنان موجود هناك لقراءته: كل شيء واضح جدا، غير ملتبس، ومحدد جيدا. والمرء يشعر بالسخط بسبب النزوع المجازي عند الرسام، هذا النزوع البائس الذي يهدد الشكل ويحجب الخاصيات التشكيلية في اللوحة. لقد ركز الفنان إرادته ومشيئته على وضوح الفكر، على المفهوم الفكري لعمله، والنتيجة أن اللوحة تبدو مترهلة وبلا نكهة.
إنني أتحدث عن الإرادة والطاقة، وقانون الكثافة الذي يبدو لي أنه شرط من شروط اللوحة. إني أجد هذا القانون حاضرا في عمل احد معاصري رافاييل. . فنان من فينيسيا يدعى كارباشيو. في رسوماته يحل المعضلات الأخلاقية التي تكتنف أبناء عصر النهضة، المبهورين بواقع ملئ بالأشياء، بالناس، بالقضايا. إنه يحلها بوسائل تشكيلية، مختلفة تماما عن المعالجة شبه الأدبية التي تمنح لوحة رافاييل نبرتها الوعظية، القصصية. إن كارباشيو يعبّر عن العلاقة الجديدة بين الفرد والواقع الخارجي بشجاعة ونبالة، ولا يقع أبدا في النزعة العاطفية المفرطة، عارفا كيف يحجب نزعته أو انحيازه.
في رسالة كتبها جوجول الى الشاعر والمترجم زوكوفسكي في يناير 1848، قال:"ليست مهمتي أن أعظ. والفن، على أية حال، عظة دينية. مهمتي أن أعبّر بالصور الحية لا بالبراهين والجدل. يجب أن اظهر الوجه الكامل للحياة، لا أن أناقش الحياة".
كم هو صحيح هذا. . وإلا فإن الفنان يفرض أفكاره على جمهوره. ومن يزعم أن الفنان أكثر ذكاء من الجمهور في صالة السينما، أو من القارئ الذي يحمل كتابا، أو من المتفرج في المسرح؟
الشاعر ببساطة يفكر بواسطة الصور، وهو بخلاف الجمهور، يستطيع أن يعبّر بالصور عن رؤيته للعالم. ومن الجليّ بأن الفن لا يستطيع أن يعلّم أحدا أي شئ، فمنذ أربعة آلاف سنة لم يتعلم البشر شيئا على الإطلاق.
كنا سنصبح ملائكة منذ زمن طويل لو كانت لدينا القابلية للإهتمام بتجربة الفن، والسماح لأنفسنا بأن نتغير وفقا للمثل العليا التي يعبر عنها. الفن يمتلك القدرة، عبر الصدمة والتطهير، على جعل النفس الإنسانية منفتحة على الخير. من السخف الاعتقاد بإمكانية تعليم الناس كيف يكونون أخيارا وصالحين. الفن يستطيع فقط أن يمنح الغذاء- الصدمة- للتجربة النفسية، العقلية.
لكن بالعودة إلى فينيسيا في عصر النهضة، نجد بأن تكوينات كارباشيو المكتظة ذات جمال مذهل وخارق، وقد أجازف بتسميته: جمال الفكرة. فيما تقف أمامها، ينتابك إحساس مقلق بأن المتعذر تفسيره هو على وشك أن يكون قابلا للتفسير. من المستحيل أن تفهم ما يخلق المجال السيكولوجي الذي تجد نفسك فيه، غير قادر على الإفلات من سحر اللوحة التي تشل كيانك الى درجة الخوف. ساعات عديدة قد تنقضي قبل أن تبدأ في الإحساس بمبدأ التناغم في لوحة كارباشيو. وما إن تفهمها حتى تظل إلى الأبد أسير سحر جمالها، وأسير نشوتك الأولى.
حين تحلل المبدأ، يكون بسيطا على نحو استثنائي، ويعبّر عن الأساس الإنساني لفن النهضة. . أكثر، في رأيي، مما تفعله لوحة رافاييل. إن كل شخصية في تكوين كارباشيو المكتظ هي محورية. لو ركزت في أي شكل أو شخصية فسوف ترى بوضوح أن كل شيء آخر هو مجرد محيط، خلفية، مبنية كنوع من الأساس أو القاعدة لهذه الشخصية الثانوية. الدائرة تنغلق. وفيما أنت تحدق في لوحة كارباشيو تكتشف بأن إرادتك تتبع، على نحو غير متعمد، المجرى المنطقي للإحساس الذي يقصده الفنان، بادئا أولا من شكل ما، تائه ظاهريا وسط الحشد، ثم تنتقل إلى الشكل التالي.
ليس في نيتي على الإطلاق أن اقنع القراء بأهمية آرائي الخاصة بشأن إثنين من الفنانين العظام، ولا أن أحابي كارباشيو على حساب رافاييل. كل ما أريد قوله هو أنه، على الرغم من أن كل فن هو في الأخير متحيز وذو نزعة أو هدف معين إلى حد أن حتى الأسلوب يكون ملتزما، فإن الغرض ذاته يمكن استيعابه في المكامن التي لا يسبر غورها للصور الفنية والتي تمنحها شكلا، أو يمكن للمغالاة في إظهار الغرض كما في الملصق، كما في لوحة رافاييل. حتى ماركس قال بأن الغرض في الفن لابد أن يكون متواريا بحيث لا ينتأ مثل زنبرك في الأريكة.
طبعا كل فكرة يتم التعبير عنها على نحو مستقل هي ثمينة بوصفها إحدى القطع الوافرة من الفسيفساء التي تتكون معا لتشكل نمطا عاما للطريقة التي بها ينظر الإنسان الخلاق إلى الواقع.
لو اتجهنا الآن، من أجل توضيح فكرتي، إلى أعمال واحد من المخرجين السينمائيين الذين أشعر أنهم الأقرب إليّ، لويس بونويل، فسوف نجد أن القوة المحركة لأفلامه تكمن دائما في مقاومة الامتثال والخضوع. . إنها ضد الإمتثالية. واحتجاجه- الغاضب، العنيد، والموجع- يجد تعبيره، قبل كل شيء في النسيج الحسي للفيلم، وهو معدٍ عاطفيا. هذا الاحتجاج ليس مدروسا، ليس عقليا، ليس معدا وفق صيغة فكرية. لدى بونويل الكثير من حاسة التمييز الفني التي تحول دون وقوعه في شرك الإيحاء السياسي، والذي هو في رأيي دائما زائف حين يتجسد على نحو صريح في العمل الفني. من جهة أخرى فإن الاحتجاج السياسي والاجتماعي المعبر عنه في أفلامه سيكون كافيا لعدة مخرجين من ذوي المكانة الأقل شأنا.
بونويل هو، قبل أي شيء آخر، حامل الوعي الشعري. إنه يعرف بأن البنية الجمالية لا تحتاج الى بيانات بالأهداف والدوافع، وأن قوة الفن لا تكمن هناك بل في القدرة على الإقناع العاطفي، في طاقة الحياة الفذة التي ذكرها جوجول في الرسالة الواردة أنفا.
أعمال بونويل متجذرة بعمق في الثقافة الكلاسيكية في أسبانيا، المرء لا يستطيع أن يتخيله بدون ارتباطه الملهم بسرفانتس وإل جريكو، لوركا وبيكاسو، سلفادور دالي وارابال. إن أعمالهم المشحونة بالعاطفة المتقدة، بالغضب والرقة، بالتوتر والتحدي، هي من جهة وليدة حب عميق للوطن، ومن جهة أخرى نتاج كراهية شديدة للبنى الميتة، وللاستنزاف الوحشي، الموجع، للأدمغة. إن مجال رؤيتهم، المتقلص بفعل الكراهية والازدراء، يستوعب فقط ما هو متقد وزاخر بالتعاطف الإنساني، والوميض السماوي، والمعاناة الإنسانية المألوفة. . وتلك الأشياء التي لقرون قد تسربت في الأرض الأسبانية الصخرية، الحارة.
إن القوة المتمردة، المتوترة، لمناظر إل جريكو الطبيعية، التقشف الورع لأشكاله البشرية، ديناميكية النسب والأحجام الممدودة، وألوانه الباردة بوحشية، التي هي غير مألوفة في زمنه بل مألوفة بالأحرى عند محبي الفن الحديث. . كل هذا قد ساهم في خلق الأسطورة التي تقول بأن إل جريكو كان مصابا باللا بؤرية (5)، وان هذا يفسر نزوعه الى تشويه نسب الأشياء والحيز. . وأظن أن هذا التفسير ساذج جدا.
دون كيشوت، الذي أبدعه سرفانتس، أصبح رمزا للنبل، السخاء، الإخلاص، إنكار الذات. وأصبح سانشو بانزا رمزا للفطرة السليمة الموثوقة. لكن سرفانتس نفسه لم يكن أكثر إخلاصا لبطله من إخلاص البطل لامرأته دولسينيا. في السجن، في نوبة غضب شديد بدافع الغيرة لأن محتالا قام على نحو غير مشروع بنشر جزء ثان من مغامرات دون كيشوت، والذي كان مهيناً للمودة الخالصة، الصادقة، التي يكنها المؤلف لإبنه، قام سرفانتس بكتابة الجزء الثاني للرواية الأصلية وقد أنهاها بموت البطل حتى لا يفكر شخص آخر في تشويه الذكرى المقدسة للفارس السوداوي.
وحده، من غير مساعدة ومن غير عون من أحد، تحدى جويا سلطة الملك الوحشية و العقيمة، ووقف في وجه محاكم التفتيش. إن لوحته “Caprichos” أصبحت مثالا لقوى الظلام التي تتقاذفه من الحقد الضاري الى الرعب الحيواني، من الازدراء الشديد الى معركة دون كيشوتيه ضد الجنون والظلامية.
إن قدر العبقري في منظومة المعرفة الإنسانية هو مذهل حقا. هؤلاء المعذبون الذين اصطفاهم الله، والذين قُدّر لهم أن يهدموا باسم الحركة وإعادة البناء، يجدون أنفسهم في حالة متناقضة ظاهريا من التوازن غير المستقر، المتقلب بين التوق الى السعادة والإيمان الراسخ بأن السعادة، بوصفها واقعا أو حالة محتملة، هي غير موجودة. فالسعادة مفهوم تجريدي، معنوي. السعادة الحقيقية، السعادة السعيدة، تكمن كما نعلم في التوق إلى تلك السعادة التي لا بد وأن تكون مطلقة: ذلك المطلق الذي نتعطش اليه.
لنتخيل للحظة بأن الناس قد أحرزوا السعادة: حالة من حرية الإرادة الإنسانية الكاملة بالمعنى الأشمل. في تلك اللحظة بالذات تتعرض الهوية الشخصية، أو الخصائص الذاتية للفرد، للتدمير. الإنسان يصبح وحيدا، منعزلا مثل الشيطان. الصلة بين الكائنات الاجتماعية تنقطع مثل الحبل السري لطفل وُلد حديثا. وبالنتيجة يتفكك المجتمع وينهار. ومع إزالة قوة الجاذبية تصبح الأشياء طافية في الفضاء. (ربما يقول البعض بأنه ينبغي تدمير المجتمع من أجل بناء شيء جديد وعادل على أنقاضه. . لا أدري، لست مدمرا )
المثل الأعلى، المكتسب والمقبول، بالكاد يمكن أن يسمى سعادة. ويتعين عليك فحسب أن تتمعن بدقة في الروائع الفنية، مخترقا قوتها المنعشة والغامضة لأجل أن تصبح معانيها، التي هي مزدوجة ومقدسة في آن، واضحة. إنها تقف في طريق الإنسان مثل إشارات تحذيرية عن كارثة ما: خطر، ممنوع الدخول.
إنها تصطف في مواقع الزلازل التاريخية، المحتملة أو الوشيكة، مثل لافتات تحذير على حافة الجرف أو المستنقعات. إنها تحدد وتحول الحالة الجنينية الجدلية للخطر الذي يهدد المجتمع، وتصبح دائما نذيرا للتصادم بين القديم والجديد. إنه دور نبيل لكن كئيب.
الشعراء ميزوا باكرا حاجز الخطر ذاك وعلى نحو أسرع من معاصريهم. وكلما أسرعوا في فعل ذلك صاروا أكثر قربا من العبقرية. وهكذا غالبا هم يظلون غامضين أو يصعب فهمهم طالما أن التعارض الهيجلي ( نسبة إلى فردريك هيجل ) ينضج داخل رحم التاريخ. عندما يحدث التعارض أخيرا، يقوم معاصروهم، المصدومين والمستثارة مشاعرهم، ببناء نصب تذكاري للإنسان الذي أعطى تعبيرا، حين كان هذا التعبير لا يزال جديدا وحيويا ومليئا بالأمل، لهذه القوة التي أحدثت التعارض والذي أصبح الآن الرمز الجلي، الذي لا لبس فيه، للحركة التقدمية المنتصرة.
عندئذ يصبح الفنان والمفكر هو المدافع عن زمنه، المحفز على التغيير المحتوم. إن عظمة وغموض الفن لا يكمن في الإثبات والتفسير والإجابة على الأسئلة حتى عندما يرفع عبارات تحذيرية مثل:"تحذير. . إشعاع. . خطر. " إن تأثيره يتصل بالجيشان المعنوي والأخلاقي. وأولئك الذين يظلون غير مبالين إزاء براهينة العاطفية، ويخفقون في تصديقها، يجازفون بالتعرض للتلوث الإشعاعي، شيئا فشيئا، دون أن يعلموا بذلك، وبابتسامة بلهاء على وجه عريض ورابط الجأش لرجل مقتنع بأن العالم مسطح مثل فطيرة محلاة ويتكئ على ثلاثة حيتان.
الروائع الفنية، التي ليست دائما مميزة أو قابلة للتمييز بين كل الأعمال الطامحة إلى النبوغ، تتبعثر هنا وهناك في أرجاء العالم مثل إشارات تحذيرية في حقل ألغام، والحظ وحده هو الذي ينقذنا من الانفجار. لكن هذا الحظ يفضي إلى إنكار الخطر وعدم تصديقه، ويسمح بنمو التفاؤلية الزائفة الحمقاء. عندما يكون ذلك النوع من الرؤية التفاؤلية سائدا، يصبح الفن مثيرا للسخط مثل المشعوذ أو الخيميائي في القرون الوسطى. الفن يبدو خطيرا لأنه مقلق ومشوش.
يتذكر المرء كيف أن لويس بونويل، حين عرض فيلمه " كلب أندلسي " لأول مرة، أضطر الى الاختباء عن البورجوازيين المحافظين والحانقين، وكان يضع مسدسا في جيبه الخلفي كلما غادر منزله. تلك كانت البداية. الرجل في الشارع، والذي اعتاد لتوه على السينما بوصفها ترفيها وتسلية وهبتها له الحضارة، إرتعد في رعب عند رؤيته الصور والرموز التي تلفح الروح، والتي يصعب حقا تحملها أو إدراك معناها. لكن حتى هنا، ظل بونويل فنانا يخاطب جمهوره ليس بلغة ملصق الإعلانات، بل بلغة الفن المعدية عاطفيا. وكم هي ملائمة على نحو رائع ملاحظة تولستوي في يومياته بتاريخ 21 مارس 1858 حين قال:" السياسي ليس منسجما مع الفني، لأن السياسي، من أجل أن يبرهن، يتعين عليه أن يكون أحادي الجانب ومتحيزا".
فعلا، الصورة الفنية لا يمكن أن تكون متحيزة وأحادية الجانب، فمن أجل أن تعتبر صادقة تماما، يتعين عليها أن توحد داخل نفسها ظواهر متناقضة على نحو جدلي.
إن من الطبيعي إذن ألا نجد حتى بين النقاد المتخصصين من لديه رهافة اللمسة الفنية المطلوبة للتشريح من أجل تحليل فكرة العمل الفني وصوره الشعرية. ذلك لأن الفكرة لا توجد إلا في الصور التي تعطيها شكلا، والصورة توجد كنوع من إدراك الواقع بواسطة الإرادة، التي يتعهدها الفنان وفقا لرغباته وميوله الخاصة وخاصيات رؤيته للعالم.
في طفولتي اقترحت أمي أن أقرأ " الحرب والسلام" للمرة الأولى، ولسنوات طويلة بعد ذلك كانت أمي غالبا ما تستشهد بمقاطع من الرواية ملفتة نظري الى دقة وبراعة تولستوي في كتابة النص الأدبي، وبالتالي صارت رواية " الحرب والسلام" بالنسبة لي مثل مدرسة للفن، ومعيارا للذوق والعمق الفني. . . بعدها لم يعد ممكنا أن أقرأ أي عمل تافه لأنه سوف يولّد لديّ إحساساً حاداً بالنفور.
ديمتري ميريزكوفسكي (شاعر، روائي، ناقد ) في كتابه عن تولستوي ودوستويفسكي انتقد تلك المقاطع التي فيها تنهمك شخصيات تولستوي في مناقشات فلسفية من خلالها تستنبط أفكارها النهائية عن الحياة. ومع أنني أتفق تماما بأن فكرة العمل الشعري لا ينبغي تركيبها على نحو فكري محض، إلا أنه يتعين علي أن أقول بأننا نتحدث عن أهمية الفرد في العمل الأدبي، حيث صدق تعبيره عن الذات هو الضمان الوحيد لقيمته. ورغم أنني أظن بأن نقد ميريزكوفسكي مبني على حجج متينة وسليمة تماما، فإن هذا لا يمنعني من أن أعشق " الحرب والسلام" حتى مع وجود تلك المقاطع التي تعتبر نقطة ضعف. . ذلك لأن العبقري لا يتم الكشف عنه في الكمال المطلق للعمل الفني إنما في الإخلاص المطلق لذاته ، في الالتزام بعاطفته الخاصة . إن التوق المتقد للفنان الى الحقيقة، إلى معرفة العالم وذاته في العالم، يمنح معنى خاصا حتى للمقاطع الغامضة الى حد ما، أو كما يطلق عليها " الأقل نجاحا " في أعماله.
وقد يمضي المرء أبعد من ذلك، فأنا لا أعرف تحفة فنية واحدة تخلو من نقاط الضعف أو تكون متحررة تماما من الشوائب، ذلك لأن النزعة الفردانية التي تخلق العبقري، وفرادة الغاية التي تعزز عمله، هي ليست مصدر عظمة التحفة الفنية فحسب، بل أيضا مصدر هفواتها.
مرة أخرى، هل يمكن للهفوات أن تكون الصفة المناسبة لشيء هو عضويا جزء من الاستشراف الكامل للعالم؟ العبقري ليس حرا. وكما قال توماس مان:" اللامبالاة وحدها تكون حرة. ما هو مميز لا يكون حراً أبدا، إنه مدموغ بختمه الخاص، مشروط ومكبل".
***
| ستافروجين: في سفر الرؤيا، يقسم الملاك بأنه لن يعود هناك زمن. كيريلوف: أعرف ذلك. وهو صحيح تماما. لقد قيل هذا بدقة وبوضوح تام. عندما يحرز البشر السعادة، فسوف لن يكون هناك أي زمن، لان أحدا لن يحتاجه. . هذا صحيح تماما. ستافروجين: إذن أين سوف يضعون الزمن ؟ كيريلوف: لن يضعوه في أي مكان. الزمن ليس شيئا، إنه مجرد فكرة. وسوف يتلاشى في الذهن. (دوستويفسكي - الممسوسون) |
الزمن شرط لوجود "الأنا" لدى كل إنسان. إنه أشبه بالوسيط الثقافي الذي يتعرض للتدمير حين لا تعود هناك حاجة إليه، وحالما تكون الروابط صارمة بين الهوية الفردية وشروط الوجود. لحظة الموت أيضا موت للزمن الخاص، الفردي: إن حياة الكائن البشري تصبح غير منفتحة على مشاعر أولئك الذين يظلون أحياء، وهو يصبح ميتا بالنسبة لأولئك المحيطين به.
الزمن ضروري للإنسان فمن خلاله قد يكون قادرا على إدراك نفسه كشخصية. لكنني لا أفكر في الزمن الطولي، أعني إمكانية إنجاز شيء ما، واجتراح فعل ما. الفعل هو نتيجة، لكن الذي آخذه بعين الاعتبار هو السبب الذي يجعل الإنسان يتجسد في حس أخلاقي.
التاريخ ليس هو الزمن ولا هو النشوء. . كلاهما نتائج. الزمن حالة: إنه اللهب الذي فيه يعيش سمندر النفس البشرية.
الزمن والذاكرة يندمجان في بعضهما البعض. إنهما أشبه بوجهي العملة. وواضح تماما أنه بدون الزمن، الذاكرة أيضا لا يمكن أن توجد. لكن الذاكرة شيء معقد جدا الى حد أن أي بيان بخاصياتها وصفاتها المميزة لا يمكن أن يحدد مجموع الانطباعات التي من خلالها تؤثر فينا الذاكرة. الذاكرة مفهوم روحي. على سبيل المثال، لو أخبرنا شخص ما عن انطباعاته بشأن الطفولة، فإننا نستطيع أن نقول بثقة أنه ستكون لدينا مادة وافية لتكوين صورة كاملة عن ذلك الشخص. أما المحروم من الذاكرة فيصبح سجين وجود وهمي أو خادع. وبوقوعه خارج الزمن يكون عاجزا عن فهم صلته الخاصة بالعالم الخارجي. . وبتعبير آخر، يكون محكوما عليه بالجنون.
بوصفه كائنا أخلاقيا، الإنسان موهوب بذاكرة تثير فيه الإحساس بالاستياء وعدم الرضا، إنها تجعلنا سريعي التأثر، وعرضة للألم.
عندما يدرس الباحثون والنقاد الزمن، كما يبدو في الأدب أو الموسيقى أو الرسم، فإنهم يتحدثون عن "طرائق" تسجيله. في دراسة جويس أو بروست، على سبيل المثال، سوف يستنطقون التقنيات الجمالية للوجود في استعادةٍ للأعمال الفنية، والطريقة التي يدوّن بها الفرد الذي يتذكر تجربته، سوف يدرسون الأشكال المستخدمة في الفن لإعطاء الزمن شكلا ثابتا، في حين أنني مهتم هنا بالخاصيات الباطنية، المعنوية، المتأصلة جوهريا في الزمن نفسه.
الزمن الذي يعيش فيه المرء يمنحه الفرصة لمعرفة نفسه ككائن أخلاقي، مشغول بالبحث عن الحقيقة. مع ذك فإن هذه المنحة الموضوعة بين يديه هي مبهجة ومريرة في آن. والحياة ليست أكثر من المدة المخصصة له، والتي فيها هو لابد أن يكيف روحه وفقا لفهمه الخاص لهدف الوجود الإنساني. والضمير الإنساني يعتمد على الزمن في وجوده.
يقال أن الزمن غير قابل للإلغاء، وهذا صحيح تماماً إذا كان يتصل بالماضي، بمعنى أنك " لا تستطيع أن تعيد الماضي " كما يقولون. لكن ما هو هذا "الماضي" بالضبط ؟ هل هو ما قد مضى ؟ وما الذي يعنيه "مضى" للشخص حين يكون الماضي، بالنسبة لكل واحد منا، هو الحامل لكل ما هو مستمر في واقع الحاضر، لكل لحظة جارية ؟ بمعنى ما، الماضي أكثر حقيقية، أكثر رسوخا واستقرارا، أكثر مرونة من الحاضر. الحاضر ينزلق ويتلاشى كالرمل بين الأصابع، محرزا ثقلا ماديا فقط في تذكره. إن خواتم الملك سليمان كانت تحمل هذا الكلام المنقوش " الكل سوف يمضي". بالتباين مع هذا، أريد أن أوجه الانتباه الى كيفية ارتداد الزمن وعودته الى الوراء. لا يمكن للزمن أن يزول بلا أثر، نظرا لأنه مفهوم ذاتي، روحي. الزمن الذي عشناه يستقر في روحنا كتجربة موضوعة داخل الزمن.
السبب والنتيجة يعتمدان على بعضهما، وكل منهما يتبع الآخر. أحدهما يولّد الآخر بضرورة مقدرة على نحو عنيد، والتي ستكون حاسمة لنا لو كنا قادرين على اكتشاف كل الصلات في وقت واحد. الرابط بين السبب والنتيجة، أو الانتقال من حالة الى أخرى، هو أيضا الشكل الذي فيه يوجد الزمن، الوسيلة التي بها يتجسد الزمن، في ممارسة يومية. لكن السبب، وقد حقق نتيجته، لا يكون منبوذاً آنئذ مثل منصة صاروخ مستعمله. عند حصولنا على أي نتيجة، نحن باستمرار نعود الى مصدرها، أسبابها. بتعبير آخر، نكون كما لو نعيد الزمن إلى الوراء. السبب والنتيجة يمكن، بالمعنى الأخلاقي، ربطهما على نحو ارتجاعي، وعندئذ يعود الفرد الى ماضيه.
في تقريره عن اليابان، كتب الصحفي أوفشينيكوف:
" هنا يُعتقد بأن الزمن، بذاته، يساعد في إدراك جوهر الأشياء. اليابانيون بالتالي يرون سحرا خاصا في أي أمارة للشيخوخة. إنهم ينجذبون إلى درجة اللون القاتم لشجرة هرمة، أو تخدد حجر، أو حتى المظهر البائس لصورة فوتوغرافية لمس حوافها عدد كبير من الناس. لكل علامات القِدم هذه يطلق اليابانيون تسمية SABA عليها، والتي تعني حرفيا (صدأ). SABA، إذن، هي حالة الصدأ الطبيعي، فتنة الأيام الغابرة، ختم الزمن. SABA ، كعنصر جمال ، تجسد الرابط بين الفن والطبيعة. "
هنا يتذكر المرء، على نحو محتوم، ما قاله بروست عن جدته:
" حتى عندما كان يتعين عليها أن تهيئ لشخص ما هدية عملية، عندما يتعين عليها أن تهب كرسيا أو عكازاً فإنها سوف تختار بعد الغربلة والموازنة أشياء قديمة كما لو أن هذه الأشياء، المهجورة والمهملة لفترة طويلة، قادرة على أن تخبرنا كيف عاش الناس في الأزمنة الماضية أكثر مما تفي بحاجاتنا العصرية ".
بروست أيضا تحدث عن تشييد "صرح ضخم للذكريات"، وذلك كما يبدو لي هو ما ينبغي على السينماأن تفعله. السينما يمكن أن تكون التجلي المثالي للمفهوم الياباني عن " الصدأ" (SABA)، ذلك لأن السينما، إذ تسيطر على هذه المادة الجديدة تماما- أي الزمن- فإنها تصبح، بالمعنى الأكمل، مصدرا جديدا للتأمل.
أنا لا أرغب في فرض آرائي في السينما على أي شخص. كل ما ارجوه هو أن كل شخص أخاطبه ( وتحديدا كل من يعرف ويحب السينما) لديه أفكاره الخاصة ونظرته المستقلة بشأن المبادئ الفنية لصنع الفيلم والنقد السينمائي.
إن عدداً كبيراً من الأفكار المتصورة سلفاً توجد حول المهنة. تلك الطرق المبتذلة في التفكير، الكليشيهات، التي تنمو حول التقاليد وتدريجيا تستحوذ عليها. وأنت لا تستطيع أن تنجز شيئا في الفن ما لم تكن حرا من الأفكار المسلم بها. عليك أن تحقق وضعك الخاص، وجهة نظرك المستقلة - التي هي دوماً رهن بالفطرة السليمة- وتحتفظ بهذا أمامك، مثل بؤبؤ عينك، وأنت تعمل.
الإخراج لا يبدأ بعد مناقشة السيناريو مع الكاتب، أو أثناء العمل مع الممثل أو مع المؤلف الموسيقي، بل في الوقت الذي ( أمام التحديقة الباطنية للشخص الذي يحقق الفيلم ويسمى المخرج) تنبثق فكرة الفيلم أو صورة الفيلم: قد يكون هذا عبارة عن سلسلة من الأجزاء المرسومة بالتفصيل، أو ربما الوعي بالنسيج الجمالي والمناخ العاطفي، والذي ينبغي أن يتجسد على الشاشة. يجب على المخرج أن يمتلك فكرة واضحة عن غاياته، وأن يعمل من البداية إلى النهاية مع فريقه لتحقيق هدفهم الكامل والمحدد. لكن كل هذا ليس أكثر من خبرة تقنية. ومع أن ذلك يتضمن العديد من الشروط الضرورية للفن، إلا أن الخبرة بذاتها، وبمعزل عن الأشياء الأخرى، ليست كافية لأن تجعل المخرج يستحق لقب الفنان. فالمخرج لا يكون فنانا إلا في اللحظة التي يبدأ نظامه المميز الخاص بالصور في التشكل، ويكون الجمهور مدعوا ليحكم عليه وليشارك في أحلامه الأكثر خصوصية وسرية. فقط حين يدلي بوجهة نظره الخاصة، وحين يصبح فيلسوفا، فإنه يظهر كفنان، ويُنظر إلى السينما بوصفها فنا. (بالطبع هو فيلسوف بالمعنى النسبي فحسب. وكما لاحظ بول فاليري فإن:الشعراء فلاسفة. ويمكن بالمثل أن تشبّه رسام المناظر البحرية بربان سفينة).
كل شكل فني يولد ويعيش وفقا لقوانينه الخاصة، المستقلة. عندما يتحدث البعض عن معايير أو قواعد محددة للسينما، فإنهم عادة يضعونها في تجاور مع الأدب. وفي رأيي من المهم سبر التفاعل بين السينما والأدب وكشفه كليا قدر المستطاع، بحيث يمكن أخيرا فصلهما عن بعضهما البعض وعدم الخلط بينهما مرة أخرى. . بأي النواحي يتماثل الأدب والسينما ويتصلان ؟ ما الذي يربط بينهما ؟
قبل كل شيء هناك تلك الحرية الاستثنائية، الفريدة، التي يتمتع بها أصحاب المهنة، في كلا الحقلين، في اختيار ما يريدونه مما يقدمه لهم العالم الحقيقي، وتنظيمه في تعاقب وتسلسل. هذا التعريف قد يبدو واسعا وعاما أكثر مما ينبغي لكن يبدو لي أنه يستوعب كل ما هو مشترك بين السينما والأدب. وراء ذلك تكمن الاختلافات المتضاربة الناجمة عن التباين الجوهري بين الكلمة والصورة المعروضة على الشاشة، ذلك لأن الاختلاف الأساسي هو أن الأدب يستخدم الكلمات لوصف العالم، بينما لا يتعين على الفيلم أن يستخدم الكلمات. . فالعالم يُظهر نفسه لنا بشكل مباشر.
في كل هذه السنوات لم يُعثر على تحديد واحد ملزم للسمة الخاصة بالسينما. العديد من الآراء توجد إما في تعارض مع بعضها البعض أو - وهذا أسوأ - تتشابك في نوع من التشوش الانتقائي. كل فنان في عالم السينما سوف يرى ويطرح ويحل المعضلة بطريقته الخاصة.
على أية حال، لابد أن يكون هناك تحديد واضح إذا تعين على المرء أن يعمل بوعي كامل لما يفعله، ذلك لأنه ليس ممكنا العمل بدون إدراك أو تمييز قوانين الشكل الفني الذي يمارسه المرء.
ما هي العوامل الحاسمة في السينما، وماذا ينبثق منها ؟ ما الكامن فيها، وما هي معانيها وصورها. . ليس شكليا فقط، بل حتى روحيا ؟ وبأي مادة يعمل المخرج؟
حتى الآن لا أستطيع أن أنسى ذلك العمل الذي هو نتاج عبقري، والذي عرض في أواخر القرن 19، الفيلم الذي به بدأت السينما. . "وصول القطار الى المحطة".
هذا الفيلم الذي صوره أوجست لوميير كان ببساطة ثمرة اختراع الكاميرا والفيلم وجهاز العرض. المشهد، الذي يدوم نصف دقيقة فقط، يظهر جانبا من رصيف في محطة للسكة الحديدية، مغمور بضوء الشمس، وعدد من الرجال والنساء يتمشون هنا وهناك، والقطار يأتي منطلقا من أعماق الكادر، متوجها مباشرة نحو الكاميرا. وفيما القطار يدنو، يدب الذعر في صالة السينما: المتفرجون يجفلون ويغادرون مقاعدهم هاربين.
تلك كانت اللحظة التي ولدت فيها السينما. إنها لم تكن ببساطة مسألة تقنية أو مجرد طريقة جديدة لإعادة إنتاج العالم. ما تخلق كان مبدأ جماليا جديدا.
للمرة الأولى في تاريخ الفنون، في تاريخ الثقافة، وجد الإنسان وسيلة للإمساك بالزمن وطبعه. وعلى نحو متزامن، إمكانية نسخ ذلك الزمن على الشاشة قدر ما يشاء المرء. . أن يكرره ويعود إليه مرة أخرى. لقد اكتسب الإنسان منبتا للزمن الفعلي. بعد رؤية الزمن وتسجيله، صار بالإمكان الاحتفاظ به في علب معدنية لفترة طويلة ( إلى الأبد. . نظريا ).
بذلك الحس، كانت أفلام الأخوين لوميير الأولى التي تضمنت بذرة مبدأ جمالي جديد. لكن سرعان ما انحرفت السينما عن الفن وانعطفت شاقة طريقها في المسار الذي كان أكثر أمانا من وجهة نظر المصلحة والربح الماديين. في غضون العقدين التاليين، تم نقل عالم الأدب كله تقريبا إلى الشاشة، إضافة الى العدد الهائل من الحبكات المسرحية. لقد استغلت السينما لأجل غاية صريحة ومغرية، وهي تدوين الأداء المسرحي. لقد اتخذ الفيلم اتجاها خاطئا، وعلينا أن نقبل بواقع أن النتائج المشؤومة لتلك الخطوة لا تزال حاضرة. والأسوأ من هذا ليس، في رأيي، اختزال السينما الى مجرد صورة إيضاحية، بل الأسوأ بكثير كان الإخفاق فنياً في استثمار إحدى الإمكانيات الثمينة للسينما: إمكانية طبع فعلية الزمن على الشريط السينمائي.
في أي شكل تطبع السينما الزمن ؟ دعونا نحدد الزمن بوصفه "واقعيا". الواقعة يمكن أن تتألف من حدث ما، أو شخص يتحرك، أو أي شيء مادي. وعلاوة على ذلك، فإن الشئ يمكن عرضه بوصفه ساكنا وغير متحول، بقدر ما يوجد ذلك الثبات والجمود ضمن المجرى الفعلي للزمن.
في ذلك الموضع ينبغي البحث عن جذور الصفة المميزة للسينما. طبعا في الموسيقى أيضا معضلة الزمن هي رئيسية. هنا، في الموسيقى، الحل مختلف تماما: طاقة الموسيقى متجسدة على حافة التلاشي التام للموسيقى. بينما فعالية السينما تكمن في أنها تستولي على الزمن، كاملا مع ذلك الواقع المادي الذي إليه الزمن مقيد على نحو سرمدي، لا فكاك منه، والذي يطوقنا يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة.
الزمن، المطبوع في أشكاله وتجلياته الواقعية: تلك هي الفكرة الأسمى للسينما بوصفها فنا، والتي تقودنا إلى التفكير في ثراء الموارد في الفيلم.
لم يذهب الناس إلى السينما ؟ ما الذي يأخذهم إلى مكان مظلم حيث، لمدة ساعتين، يشاهدون تلاعب الظلال على القماش ؟ هل هو بحث عن التسلية والترفيه ؟ الحاجة إلى نوع من المخدر؟
في العالم كله هناك، بالفعل، هيئات ومنظمات للترفيه تستثمر السينما والتلفزيون وغيرهما من أشكال العرض. لكن نقطة انطلاقتنا لا ينبغي أن تكون هناك بل في المبادئ الأساسية للسينما، والتي لها علاقة بالحاجة الإنسانية لمعرفة وفهم العالم. أظن أن الشئ الذي لأجله يذهب الفرد عادة إلى السينما هو الزمن: الزمن الضائع أو المبدد. الفرد يرتاد السينما ليرى تجربه حية، ذلك لأن السينما، بخلاف أي فن آخر، توسع وتعزز وتكثف تجربة الفرد. . لا تعززها فحسب بل تمددها أيضا. في هذا تكمن قوة السينما. . لا النجوم ولا الحبكات القصصية ولا عنصر الترفيه له علاقة بهذه القوة.
ما هو أساس عمل المخرج؟ نستطيع أن نحدد هذا العمل باعتباره نحتاً في الزمن. مثلما يأخذ النحات كتلة من الرخام ويزيل كل ما هو ليس جزءا منه، واعيا لأشكال عمله المنجز، كذلك يفعل صانع الفيلم. . من "كتلة الزمن" المتشكلة من مجموعة صلبة، متينة، وضخمة من الوقائع الحية، هو يقطع ويرمي كل ما لا يحتاجه، محتفظا فقط بما ينبغي أن يكون عنصرا للفيلم المنجز، وبما سوف يثبت أنه متمم للصورة السينمائية.
قيل بأن السينما فن مركب، مبني على تشابك عدد من الأشكال الفنية المتجاورة: الدراما، النثر، التمثيل، الرسم، الموسيقى. في الواقع، إن تشابك أو اتصال هذه الأشكال الفنية يمكن، كما ثبت في النهاية، أن يسئ على نحو خطير إلى السينما بحيث يحيلها إلى أشياء مختلطة ببعضها أو - في أفضل الأحوال - إلى مجرد مظهر خارجي فيه تتناسق الأجزاء لكن لا يمكن العثور فيه على لب السينما، لأن في تلك الحالات بالذات يكف ذلك اللب عن الوجود. ولا بد من التوضيح هنا، نهائيا وعلى نحو حاسم، بأن السينما - إذا كانت فناً- لا يمكن ببساطة أن تكون مزيجا من مبادئ أو عناصر أشكال فنية مجاورة أخرى. بفعل ذلك فقط نستطيع أن نتجه إلى قضية طبيعة الفيلم المركبة. إن التشكيلة المتجانسة من الفكرة الأدبية والصيغة التشكيلية سوف لن تشكل صورة سينمائية. يمكن فقط أن تنتج هجينا عقيما أو مدعيا.
كذلك لا يجب استبدال قوانين الحركة ونظام الزمن في الفيلم بقوانين الزمن في المسرح. الزمن في صيغة الواقعة: مرة أخرى أعود الى هذا الموضوع. إني أرى في عرض الأحداث وفقا للتسلسل الزمني هو الذي يشكل السينما. . ليس في طريقة تصوير الفيلم بل في إعادة بناء الحياة ، إعادة خلقها.
ذات مرة سجلت على شريط حوارا عرضيا. . بضعة أشخاص كانوا يتحدثون دون أن يعلموا بأن أصواتهم مسجلة. بعدئذ استمعت الى الشريط واكتشفت مدى تألق هذا الحوار الذي بدا كما لو أنه "مكتوب" و"مؤدى" على نحو رائع. وكم كان حقيقيا وملموسا منطق حركات الشخصيات والمشاعر والطاقة. وكم كانت الأصوات رخيمة وعذبة، ولحظات الصمت القصيرة جميلة. . حتى ستانيسلافسكي لا يستطيع أن يجد تبريرا للحظات الصمت تلك، وأسلوبية همنجواي تبدو طنانة وساذجة بالمقارنة مع الأسلوب الذي بُني به ذلك الحوار المسجل عرضاً ومن غير قصد.
هكذا أفهم الجزء المثالي من تصوير الفيلم: المبدع يلتقط ملايين الأمتار من الفيلم، والذي عليه يمكن متابعة وتسجيل حياة إنسان، على سبيل المثال، منذ ولادته وحتى وفاته، وذلك على نحو نظامي، يوما بعد يوم، عاما بعد عام. ومن كل ذلك يمكن الحصول على 2500 متر، أو تسعين دقيقة من الزمن السينمائي.. (من المثير للفضول أن نتخيل تلك الملايين من الأمتار وهي تمر بين أيدي عدد من المخرجين ليحقق كل منهم فيلمه الخاص. . كم سيكون مختلفا كل عمل عن الآخر).
وحتى لو لم يكن ممكنا حيازة تلك الملايين من الأمتار، فإن شروط العمل"المثالية" لن تكون غير حقيقية بل ينبغي أن تكون ما نطمح اليه. بأي معنى؟ الغاية هي أن تختار وتربط معا أجزاء من الواقعة المتعاقبة، وأن تعرف وترى وتسمع بدقة ما يقع بينها وأي نوع من القيود توحدها وتجعلها متماسكة. هذه هي السينما. . وإلا فإننا نستطيع بسهولة أن ننزلق نحو الطريق المألوف في الكتابة المسرحية، حيث نشيد بناء للحبكة منطلقا من شخصيات معينة. على السينما أن تكون حرة في اختيار وربط وقائع مأخوذة من "كتلة الزمن" من أي عرض أو طول. ولا أظن أن من الضروري تعقب فرد معين. على الشاشة يمكن لمنطق سلوك الفرد أن ينتقل إلى أساس منطقي لوقائع وظواهر مختلفة تماما، غير متصلة بالموضوع ظاهريا، والفرد الذي بدأت معه يمكن أن يغيب من الشاشة، مستبدلاً بشئ مختلف تماماً، إذا كان ذلك ما يقتضيه المبدأ الموجه للمؤلف. على سبيل المثال، من الممكن تحقيق فيلم لا توجد فيه شخصية بطل واحد يظهر طوال الفيلم، لكن كل شيء يتحدد بالتأثير الخاص لرؤية شخص واحد للحياة.
السينما قادرة على الاشتغال على أي واقعة منتشرة في الزمن، وبإمكانها أن تتناول أي شيء على الإطلاق من الحياة. ما يمكن أن يكون للأدب احتمالا عرضيا وحالة معزولة (كمثال، توليد مادة وثائقية من مجموعة همنجواي القصصية "في زمننا") هو بالنسبة للسينما تشغيل لقوانينها الفنية الأساسية.
وضع فرد ما في محيط غير محدود ولا نهائي، مقارنته مع عدد لا يحصى من الأفراد المارين على مقربة منه أو بعيدا عنه، وربط هذا الفرد بالعالم كله: ذاك هو معنى السينما.
ثمة تعبير أصبح الآن مألوفا وشائعا: السينما الشعرية. وهذا التعبير يعني السينما التي تبتعد بجسارة، في صورها، عما هو واقعي ومادي متماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية، وفي الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة. لكن ثمة خطراُ متوارياً يواجه السينما في ابتعادها عن نفسها. "السينما الشعرية" عادة تلد رموزا، مجازات، ومظاهر أخرى. . أي أشياء لا علاقة لها باللغة الطبيعية الملائمة للسينما.
هنا أشعر بأن ثمة نقطة أخرى تحتاج الى توضيح. إذا الزمن يبدو في السينما في هيئة واقعة، فإن الواقعة هي محددة في شكل ملاحظة بسيطة ومباشرة. إن العنصر الأساسي للسينما هو الملاحظة.
نحن جميعا نعرف النوع التقليدي للشعر الياباني القديم. . الهايكو. إيزنشتاين أورد بعض الأمثلة أو النماذج:
قمر يضئ في وهن، قرب الدير القديم ذئب يعوي. | صمت في الحقل فراشة كانت تطير ثم استغرقت في النوم. |
لقد رأى ايزنشتاين في هذه المقاطع الشعرية، ذات الأبيات الثلاثة، المثال الذي يوضح كيف أن تركيب ثلاثة عناصر منفصلة يخلق شيئا مختلفا في النوع أو الطبيعة عن أي عنصر منها. وبما أن هذا المبدأ كان موجودا سابقا في الهايكو ، فإنه ليس مقتصرا على السينما.
ما يجذبني في الهايكو هو رصدها للحياة. . هذا الرصد الذي هو خالص، صاف، دقيق، ومتحد مع موضوعه. .
فيما هو يمر البدر بالكاد يمس الشصوص في المياه. | الندى قد تساقط، وعلى كل عناقيد البرقوق تتدلى قطرات صغيرة. |
هذا رصد صرف، خالص. دقته وإتقانه سوف تجعل أي شخص، مهما كان فجاً في التلقي، يشعر بقوة الشعر ويدرك الصورة الحية التي أقتنصها الشاعر.
ومع إنني حذر جدا في عقد مقارنات مع أشكال فنية أخرى، فإن هذا النموذج الخاص من الشعر يبدو لي أقرب إلى حقيقة السينما، مع فارق أن النثر والشعر يستخدمان الكلمات تحديدا، بينما الفيلم يولد من رصد مباشر للحياة. ذلك، في رأيي ، هو المبدأ الرئيسي للشعر في السينما . . . إذ أن الصورة السينمائية هي جوهرياً رصد لظاهرة تمر عبر الزمن.
ثمة فيلم لا يمكن أن يكون بعيدا جدا عن مبدأ الرصد المباشر، وهو فيلم ايزنشتاين "إيفان الرهيب". ليس فقط أن الفيلم بأسره هو من النوع الهيروغليفي، إنه يتألف من سلسلة متتالية من الهيروغليفية. . الرئيسية، الثانوية، والدقيقة جدا. ليس ثمة جزء أو تفصيلة واحدة لا يتخللها قصد المخرج. (سمعت أن ايزنشتاين نفسه قد تحدث ذات مرة في محاضرة له عن هذه الهيروغليفية والمعاني الملغزة: على درع إيفان صورة للشمس، وعلى درع كوربسكي صورة للقمر، بما أن جوهر كوربسكي هو أنه " يتألق بضوء منعكس" ) مع ذلك فإن الفيلم قوي على نحو مدهش ببنيته الموسيقية والإيقاعية. كل ما يتصل به- المونتاج وانتقالات اللقطة والتزامن- يتنامى ببراعة ودقة وانضباط. لهذا السبب يفرض الفيلم نفسه بالقوة. بالنسبة لي، فإن إيقاع فيلم"إيفان الرهيب" كان في الحقيقة ساحرا. لكن تصوير الشخصيات، والتكوين المتناسق للصور، والجو. . كل هذا يأخذ الفيلم قريبا جدا من المسرح (المسرح الموسيقي)، إلى حد انه يكف تقريبا- في رأيي ومن الوجهة النظرية المحضة - أن يكون عملا سينمائيا. . (أوبرا نهارية. . كما وصف ايزنشتاين ذات مرة فيلما لزميل له). الأفلام التي حققها ايزنشتاين في العشرينات، وفي مقدمتها "المدرعة بوتمكين"، كانت مختلفة جدا، كانت حافلة بالحياة والشعر.
الصورة السينمائية، إذن، هي أساسا رصد لوقائع الحياة داخل الزمن، وهي منظمة وفقا لنمط الحياة نفسها، وراصدة لقوانين الزمن فيها. الرصد هو انتقائي: نحن نترك على الفيلم فقط ما هو مبرر بوصفه مكملا للصورة. وهذا لا يعني أن الصورة السينمائية يمكن أن تكون منقسمة ومجزأة ضد طبيعتها الزمنية، فالزمن الجاري لا يمكن أن يكون منزوعا عنها. والصورة تصبح سينمائية على نحو حقيقي ليس فقط عندما تعيش ضمن الزمن، لكن أيضا عندما يعيش الزمن داخلها. . بل حتى ضمن كل كادر منفصل.
لا شيء"جامد"- طاولة، كرسي، كأس- مصور في الكادر في عزلة عن كل الأشياء الأخرى، يمكن عرضه خارج الزمن العابر، كما لو من وجهة نظر غياب الزمن.
يتعين عليك فحسب أن تتجنب هذا الوضع لتجعل استعارة أي عدد من خاصيات إحدى الفنون المجاورة أمرا ممكنا. وبمساعدتها تستطيع بالفعل أن تحقق أفلاما مؤثرة جدا. فقط من وجهة نظر الشكل السينمائي، ستكون هذه الأفلام متعارضة مع التطور الحقيقي لطبيعة وجوهر وإمكانية السينما.
لا يوجد فن آخر قادر أن يضاهي السينما في القوة والدقة والوضوح والصرامة التي بها توصل السينما الوعي بالوقائع والبني الجمالية الكائنة والمتغيرة ضمن الزمن. بالتالي أجدها مثيرة للسخط إدعاءات "السينما الشعرية"الحديثة، والتي تشمل تعطيل الاتصال مع الواقعة ومع واقعية الزمن، وتندفع إلى الإفراط في التكلف والتصنع.
السينما المعاصرة تحتوي على خطوط أساسية عديدة من التطور الشكلي، لكن ليس مصادفة أن الخط أو الاتجاه الذي يبرز ويصمد ويحرز اهتماما هو النزوع الى عرض الأحداث وفق التسلسل الزمني أو على أساس زمني، وهذا مهم جدا وغني جدا، وعرضة لمحاولات عديدة من المحاكاة. لكن التسجيل الأمين، التأريخ الحقيقي، لا يمكن أن يتحقق عن طريق التصوير بكاميرا محمولة باليد، بكاميرا متمايلة، وحتى بجعل اللقطات ضبابية، كما لو أن المصور لم يستطع أن يركز البؤرة بدقة. إنها ليست كيفية التصوير التي سوف توصل الشكل المحدد والفريد للواقعة المتجلية. في أحوال كثيرة نجد أن اللقطات التي يفهم منها ظاهرياً أنها عرضية واتفاقية هي في الحقيقة مرسومة ومدعية تماماً مثل كادرات " السينما الشعرية" المرسومة بدقة برمزيتها الجوفاء العقيمة. في كلا الحالتين، المحتوى المادي، الحي، العاطفي للشئ المصور هو معزول.
ينبغي أيضا أن نحلل التقاليد الفنية، ذلك لأن ليس كل هذه التقاليد شرعية. بعضها لا تتصل بأي علاقة، ويمكن أن تكون مجرد أفكار متصورة سلفاً. من جهة، هناك تقاليد لها علاقة بطبيعة الشكل الفني.. كمثال، اهتمام الرسام الدائم باللون والعلاقات اللونية على سطح القماش. من جهة أخرى، هناك التقاليد الخادعة، الموهمة، التي نشأت خارج شئ عابر، ربما من فهم ناقص لجوهر السينما، أو تقييد طارئ على وسيلة تعبير، أو بحكم العادة والقبول بالتنميط والقولبة، أو من الاتصال النظري بالفن. أنظر إلى الأعراف السطحية التي تساوي بين كادرات لقطة وكادرات كانفاس: هكذا تنشأ الأفكار المتصورة سلفاً.
أحد الشروط الملزمة والثابتة للسينما هو أن الأفعال على الشاشة ينبغي أن تتجلى وتتنامى على نحو متعاقب بصرف النظر عن واقع كونها تحدث على نحو متزامن أو ارتجاعي عند استعادة الأحداث الماضية. من أجل أن تعرض حدثين أو أكثر بوصفها متزامنة أو متوازية، يتعين عليك بالضرورة أن تظهرها حدثاً بعد الآخر، وينبغي أن تكون في مونتاج متتابع. ليس ثمة طريقة أخرى. في الفيلم الصامت "الأرض" الذي أخرجه دوفجنكو، يلقي البطل مصرعه على يد الكولاك (مالكي الأرض)، وفي سبيل توصيل حادثة إطلاق النار، نرى البطل يخر صريعاً، ثم لقطة لحقل ما حيث الخيول المجفلة ترفع رؤوسها، ثم تعود الكاميرا إلى مسرح الجريمة ثانية. بالنسبة للجمهور فإن رؤوس الخيول المرفوعة تعبّر عن دويّ الطلقة التي تسمع في الأرجاء. لكن مع مجيء الفيلم الناطق وإدخال الصوت، لم تعد هناك أية حاجة لذلك النوع من المونتاج. ولم يعد مفيداً أو مقنعاً الرجوع إلى لقطات دوفجنكو الرائعة من أجل تسويغ الخفة التي بها يتم التوظيف المجاني للقطع المتبادل في السينما الحديثة، كأن تجعل شخصاً ما يسقط في المياه ثم في اللقطة التالية تجعل شخصية أخرى تراقب. ليس هناك حاجة إلى هذا على الإطلاق، فمثل هذه اللقطات تبدو ذا أثر متخلف من شعرية الفيلم الصامت. التقليد الذي أملته أو فرضته الضرورة قد تحول إلى فكرة متصورة سلفاً، تحول إلى كليشيه.
في السنوات الأخيرة رأينا أن التطورات في تقنية الفيلم قد نتج عنها (أو تفسخت إلى) انحراف معين: الشاشة العريضة صارت تنقسم إلى جزئين أو أكثر، والتي فيها يمكن عرض حدثين أو أكثر وهي تقع في تواز في الوقت نفسه. في رأيي، هذا الابتكار متصور على نحو سيء. هكذا يتم اختراع أو تلفيق تقاليد زائفة والتي هي، عضويا، ليست جزءاً من السينما، وبالتالي هي عقيمة.
بعض النقاد يتلهفون بشدة لرؤية مشهد من فيلم وهو يُعرض في وقت واحد على عدة - حتى لو بلغت ست- شاشات. لكن حركة كادر الفيلم ذات طبيعة خاصة لا تشبه طبيعة النوتة الموسيقية. سينما "الشاشة المتعددة" لا ينبغي أن تقارن مع النغمات المتآلفة أو الهارموني أو تعدد الأصوات، بل بالأحرى مع الأصوات التي تحدثها عدة أور كسترات تعزف مقطوعات موسيقية مختلفة في الوقت نفسه.
النتيجة الوحيدة ستكون اختلاطا أو تشوشا كاملا، وقوانين الإدراك الحسي سوف تتعرض للانتهاك، ومؤلف الفيلم المتعدد الشاشات سوف يتواجه حتما مع مهمة إخضاع التزامن، بطريقة أو بأخرى، الى تعاقب. . سيكون هذا أشبه بالالتفاف حول نقطة معينة بدلا من الذهاب إليها مباشرة وفي خط مستقيم. أليس من الأفضل التسليم، نهائيا وعلى نحو حاسم، بالشرط البسيط والملزم للسينما بوصفها سلسلة متعاقبة من المرئيات، والعمل من نقطة الانطلاق تلك؟ الفرد، ببساطة تامة، غير مؤهل وغير قادر على مشاهدة عدة أفعال وأحداث في وقت واحد. . إن ذلك وراء متناول بنيته الفسيولوجية والنفسية.
لابد من القيام بتمييز بين تلك الشروط الطبيعية التي هي متأصلة في جوهر الشكل الفني –والذي يحدد الاختلاف بين الحياة الواقعية والقيود الخاصة بذلك الشكل الفني –والشروط الوهمية، الاصطناعية، التي لا تتصل بالمبادئ الأساسية بل بالتسليم الصاغر للأفكار القادمة من الخارج، أو تبني معتقدات أشكال فنية أخرى.
إن أحد مظاهر العجز للسينما هو واقع أن الصورة لا يمكن تحققها إلا في أشكال واقعية، طبيعية، من الحياة المرئية والمسموعة. على الصورة أن تكون طبيعية، وأنا لا أستخدم التعبير هنا في دلالته الأدبية المسلم بها، كما هي مرتبطة –على سبيل المثال-بالكاتب إميل زولا. . فما أعنيه هو أننا ندرك شكل الصورة السينمائية عن طريق الحواس.
قد يتساءل المرء، ماذا عن تخيلات مبدع الفيلم، ماذا عن العالم الداخلي للخيال الفردي، كيف يكون ممكنا إعادة إنتاج ما يراه الفرد داخل نفسه، وكل أحلامه. . أحلام النوم واليقظة معا؟
هذا ممكن شريطة أن تكون الأحلام على الشاشة مؤلفة تماما من أشكال الحياة الطبيعية، الأشكال المرئية ذاتها. أحيانا يصور المخرجون في درجة عالية من حساسية الفيلم للضوء، أو عبر حجاب سديمي، أو يستخدمون حيلة قديمة بالية أو يلجأون الى مؤثرات موسيقية.
والجمهور المدرب جيدا سوف يتفاعل فورا:آه، إنه يتذكر". . أو "هي تحلم". لكن ذلك التضبيب الملغز ليس هو السبيل لإنجاز انطباع سينمائي حقيقي عن الأحلام أو الذكريات. السينما ليست ولا يجب أن تكون معنية باستعارة مؤثرات من المسرح. إذن ما الذي نحتاجه؟ قبل كل شيء نحن نحتاج أن نعرف أي نوع من الحلم يراه بطلنا. نحتاج أن نعرف وقائع الحلم الفعلية و المادية: أن نرى كل عناصر الواقع التي هي منعكسة في تلك الطبقة من الوعي التي بقيت يقظة طوال الليل (أو التي بها يعمل المرء حين يرى صورة ما في مخيلته). ونحن نحتاج أن نوصل كل ذلك على الشاشة بدقة، لا أن نجعله معتما أو غير واضح، ولا أن نستخدم حيلا مدروسة و معقدة.
ومرة أخرى، إذا سئلت، ماذا عن غموض و لا شفافية و غرابة الحلم؟ فسوف أجيب بأن في السينما، اللاشفافية ومالا يوصف، لا يعني صورة غامضة، بل الانطباع الخاص الذي يخلقه منطق الحلم: تركيبات غير عادية وغير متوقعه من (و تعارضات بين) عناصر واقعية تماما.
هذه يجب أن تعرض بدقة أكبر. السينما، بطبيعتها الفعلية، يجب أن تكشف الواقع لا أن تجعله غائما أو ضبابيا. . في الواقع، أكثر الأحلام إثارة للاهتمام أو التشويق أو الإرعاب هي تلك التي تتذكر فيها كل شيء. . حتى أدق التفاصيل.
أريد أن أشير مرة أخرى الى أن في الفيلم، في كل مرة، العنصر الأساسي الأول في أي تكوين تشكيلي، معياره الضروري والنهائي، هو ما إذا كان صادقا، محددا و حقيقيا. . إذ أن ذلك ما يجعل الفيلم فذا أو استثنائيا. بالتعارض مع ذلك، الرموز تولد وبسرعة تنتقل إلى الاستخدام العام لتصبح كليشيهات، عندما يكتشف المخرج بالمصادفة تكوينا تشكيليا معينا، ويربطه باتجاه ما غامض وخاص به، ويشحنه بمعنى غريب وغير جوهري.
أن نقاء السينما، قوتها المتأصلة، لا يظهر في الميل الرمزي للصور (مهما كانت جريئة) بل في قدرة تلك الصور على التعبير عن واقعة فعلية، فريدة، محددة.
في فيلم بونويل nazarin هناك سلسلة من الأحداث تدور في قرية موبوءة بالطاعون. إنها جافة، صخرية، مبنية من حجر الجير. ما الذي يفعله المخرج لخلق انطباع بمكان مجرد من الورثة ؟ نحن نرى الطريق المغبر، مصور في مجال البؤرة العميق، و صفين من البيوت تمتد في البعد. الشارع يمضي صعدا بحيث لا تكون السماء مرئية. الجانب الأيمن من الشارع يكون في الظل، والأيسر مضاء بأشعة الشمس. الشارع خال تماما، في منتصف الطريق، من أعماق الكادر، نرى طفلا يسير مباشرة نحو الكاميرا، ساحبا خلفه ملاءة بيضاء. . ناصعة البياض. الكاميرا تتحرك pan على مهل، وفي اللحظة الأخيرة، مباشرة قبل الانتقال إلى اللقطة التالية، يتغطى فجأة مجال الكادر. . مرة أخرى بقماش ابيض و الذي يومض في ضوء الشمس. قد يتساءل المرء، من أين يمكن أن يأتي هذا. . هل يمكن أن يكون قماشاً جافاً على حبل غسيل ؟ بعدئذ، وبكثافة مدهشة، أنت تشعر ب(نفحة الطاعون) مأسورة بهذه الطريقة الرائعة، الاستثنائية، مثل حقيقة طبية.
وهناك مشهد من فيلم كيروساوا (الساموراي السبعة). قرية يابانية تعود إلى القرون الوسطى. ثمة معركة دائرة بين بعض الفرسان والساموراي المترجلين. المطر يهطل بغزارة. الوحل في كل مكان. الساموراي يرتدون ثيابا يابانية قديمة والتي تترك الجزء الأكبر من الساق عاريا، فنرى سيقانهم ملطخة بالوحل. وحين يخر أحد الساموراي ميتا، نرى المطر يغسل الوحل وساقه تصبح بيضاء، بيضاء كالرخام. رجل ميت.. تلك هي الصورة التي تبدو حقيقية. إنها بريئة من الرمزية. . مجرد صورة. لكن ربما حدث ذلك مصادفة. . الممثل كان يركض ثم سقط أرضا، والمطر غسل الوحل. وهنا نحن نقبل بهذا ككشف من قبل صانع الفيلم.
كلمة أخرى عن الميزانسين. ميزانسين الفيلم، كما نعرف، يعني تنسيق وحركة الأشياء المنتقاة في علاقتها بمجال الكادر. أي غرض يؤديه الميزانسين؟ في اغلب الأحوال، يخبرونك بأنه يفيد في التعبير عن معنى ما يحدث. . وهذا كل شيء. لكن أن تعين ذلك بوصفه الحد الأقصى للميزانسين يعني أن تنطلق في طريق والذي يفضى إلى اتجاه واحد فقط: نحو التجريد.
في المشهد الختامي من فيلم (زوج لأنا جياسيا) يضع المخرج دي سانتيس بطله وبطلته على جانبي بوابة معدنية. . متقابلين لكن يفصلهما هذا الحاجز. البوابة تقرر في وضوح: الاثنان الآن منفصلان وسوف لن يكونا سعيدين أبدا، والاتصال مستحيل. هكذا يتحول الحدث الشخصي، الاستثنائي، إلى شيء مبتذل تماما، لأنه اجبر على تبني شكل عادي ومستهلك. والمتفرج مباشرة يخبط برأسه على سقف ما يسمى تفكير المخرج. الخلل يكمن في أن عددا كبيرا من الجمهور يستمتعون بمثل هذه الخبطات. . إنها تجعلهم يشعرون بالأمان: ليس لأنها مثيرة ومهيجة فحسب، لكن لأن الفكرة تكون جلية وليس ثمة حاجة لإجهاد الدماغ أو العين، ولا حاجة لرؤية أي شيء محدد في ما يحدث. . وعلى ذلك النوع من الحمية، يبدأ الجمهور في الانحلال. مع ذلك فإن البوابات والأسيجة والحواجز المتشابهة قد تكررت كثيرا عدة مرات و في العديد من الأفلام ودائما تعني الشيء نفسه.
إذن ما هو الميزانسين ؟ لنتوجه إلى أفضل الأعمال الأدبية و دعونا نعود إلى شيء كنت قد كتبت عنه من قبل. . المقطع الختامي من رواية ( دوستويفسكي) "الأبله"، عندما يدخل الأمير ميشكين الحجرة مع روجوزين، ومن خلال المدخل يريان جثة ناستاسيا ممددة. الاثنان يجلسان متواجهين على كرسيين في منتصف الحجرة الواسعة، قريبين جدا من بعضهما إلى حد أن ركبهما تتلامس. حين تتصور ذلك فإنه يبدو مرعبا. هنا الميزانسين ينشأ من الحالة السيكولوجية لشخصيات معينة في لحظة خاصة كبيان فريد عن تعقد العلاقة. المخرج عندئذ، لكي يبني الميزانسين، يجب أن يعمل انطلاقا من الحالة السيكولوجية للشخصين، من خلال الديناميكية الباطنية لحالة الوضع ويعيدها كلها إلى حقيقة الحدث الملحوظ بشكل مباشر، ونسيجه الفريد. عندئذ فقط سوف يحرز الميزانسين الأهمية و الدلالة المحددة، المتعددة الأوجه للحقيقة الفعلية.
يقال أحيانا بأن موضع الممثلين لا يسبب أي اختلاف، سواء جعلتهم يقفون هنا قرب الجدار ويتحدثون أو أخذت الممثل في لقطة قريبة ثم لقطة أخرى للممثلة وبعدئذ تجعلهما يفترقان. لكن بالطبع الشيء الأكثر أهمية لا يكون موضع تأمل. المسألة لا تتعلق بالمخرج فقط بل أيضا وفي أحوال كثيرة بكاتب السيناريو.
إذا تجاهل المرء حقيقة أن السيناريو معد ليكون فيلما ما ( وبذلك المعنى هو نتاج نصف منجز. . ليس أكثر، لكن ليس اقل أيضا ) فإنه سوف لن يكون ممكنا تحقيق فيلم جيد. قد يكون ممكناً تحقيق شيء آخر، شيء جديد، ويمكن أن يكون حسنا، لكن سوف يشعر كاتب السيناريو بالاستياء من المخرج. اتهام المخرج بأنه "أفسد فكرة جيدة" ليس دائما مبرراً.
الفكرة غالبا ما تكون أدبية - وهي مثيرة للاهتمام فقط لأنها كذلك- إلى حد أن المخرج مجبر على تحويلها وتغيير اتجاهها في سبيل تحقيق الفيلم. في أفضل الأحوال، الجانب الأدبي للسيناريو (بصرف النظر عن الحوار) يمكن أن يكون نافعا للمخرج كمؤشر إلى المحتوى العاطفي لحدث ما أو مشهد ما أو حتى للفيلم كله. . (على سبيل المثال فريدريك جور نشتاين كتب في إحدى سيناريوهاته أن الغرفة تفوح منها رائحة غبار وزهور ميتة وحبر جاف: أحب ذلك كثيرا لأنني أستطيع أن اشرع في تصور كيف يبدو ذلك الموقع الداخلي، وان اشعر "بروحه"، وإذا تعين على مصمم المناظر أن يقدم اسكتشاته فسوف أكون قادرا في الحال أن أميز بين ما هو مناسب وما هو غير مناسب. مع ذلك، فإن مثل هذه الإرشادات ليست كافية لتشكيل أساسٍ للصور الرئيسية في الفيلم. عادة هي ببساطة تساعد على إيجاد المناخ) بأية حال السيناريو الحقيقي بالنسبة لي هو الذي ليس مطلوبا منه، بذاته وبمعزل عن الأشياء الأخرى، أن يؤثر في القارئ بأي طريقة تامة ونهائية، لكنه المعد كليا لأن يتحول إلى فيلم، وهكذا فقط يحرز شكله النهائي.
كتاب السيناريو، من جهة أخرى، يؤدون وظيفة مهمة، والتي تقتضي موهبة أدبية حقيقية في ما يتصل بالاستبصار السيكولوجي. هنا ، في هذا الموضع، يحدث الأدب تأثيرا على السينما والذي هو مفيد وضروري معا ، فلا يخنق السينما ولا يشوهها . لا شيء في السينما، في الوقت الحاضر، أكثر عرضة للإهمال أو الاستخفاف أو التسطيح من السيكولوجيا. إنني أتكلم عن فهم وكشف الحقيقة الضمنية بشأن حالات الشخصيات الذهنية.. هذا شئ يتم تجاهله على نحو واسع. ومع ذلك فإن هذا بالضبط هو الذي يجعل رجلا يقفز من نافذة في الطابق الخامس.
لكل حالة فردية، السينما تقتضي من المخرج وكاتب السيناريو معاً معرفة هائلة، وبالتالي يتعين على مبدع الفيلم أن يمتلك شيئاً مشتركاً مع كاتب السيناريو – العالم السيكولوجي، وأيضا مع الطبيب النفساني، ذلك لأن التكوين التشكيلي للفيلم يتوقف إلى حد كبير، على نحو حاسم غالبا، على الحالة الخاصة للشخصية في ظروف معينة. وكاتب السيناريو يستطيع، وفي الواقع يجب، أن يقدم للمخرج معرفته الخاصة بالحقيقة الكاملة بشأن تلك الحالة الداخلية، حتى إلى درجة إعلامه كيف يبني الميزانسين. بإمكان المرء أن يكتب ببساطة: "الشخصيات تتوقف قرب الجدار" ثم ينصرف إلى كتابة الحوار بينهم. لكن ما هو الشيء الخاص والاستثنائي بشأن الكلمات التي تقال، وهل هي تنسجم مع الوقوف عند الجدار ؟ إن معنى المشهد لا يمكن تركيزه أو تكثيفه ضمن الكلمات التي تنطقها الشخصيات. "كلمات. . كلمات. . كلمات. ." في الحياة الواقعية هذه الكلمات هي في الغالب أشبه بالمياه. نادرا ولبرهة وجيزة، تستطيع أن تلاحظ الانسجام المثالي، التام، بين الكلمة والإيماءة، الكلمة والفعل، الكلمة والمعنى. عادة، كلمات الشخص وحالته الداخلية وحركته الجسمانية تتجلى على مستويات مختلفة. هي ربما تكمل أو أحيانا، وإلى درجة معينة تردد كالصدى إحداها الأخرى. في أحوال كثيرة هي تكون في تناقض وأحيانا في تباين حاد هي تعري بعضها البعض. وفقط بمعرفة ما يحدث وسبب حدوثه - على نحو دقيق، ومتزامن، وعلى كل مستوى من تلك المستويات - نستطيع أن نحرز القوة الصادقة والفريدة لتلك الواقعة التي تحدثت عنها. وفي ما يتعلق بالميزانسين، حين يتوافق بدقة مع الكلمة المنطوقة، حين يكون هناك تفاعل، نقطة التقاء بينها، عندئذ تولد تلك الصورة التي سميتها صورة الرصد، الصرفة والمحددة. لهذا السبب يتعين على كاتب السيناريو أن يكون كاتبا حقيقيا.
حين يستلم المخرج السيناريو، ويبدأ في الاشتغال عليه، يحدث دائما أن السيناريو- مهما كانت فكرته العامة عميقة، وهدفه محدداً بإحكام- يخضع على نحو محتوم إلى نوع من التغيير. إنه لا يتجسد أبدا على الشاشة حرفيا، كلمة كلمة، صورة صورة، بل ثمة دائما تعديلات. بناء على ذلك، فإن التعاون بين كاتب السيناريو والمخرج يتجه إلى أن يكون مكتنفا بالصعوبة والخلاف. الفيلم الفعال يمكن أن يتحقق حتى عندما تتهشم وتتدمر الفكرة العامة أثناء عملهما (المخرج والكاتب) معاُ، فمن الدمار تنبثق فكرة جديدة، كينونة جديدة. عموما فإن التفريق بين وظائف المخرج وكاتب السيناريو يصبح أكثر صعوبة. وكما هو مألوف في السينما اليوم، المخرجون يميلون أكثر فأكثر إلى تأليف أفلامهم، بينما يتوقع من كتاب السيناريو أن يكون لديهم إدراك أكثر شمولية في الإخراج من أي وقت مضى. ربما لذلك ينبغي علينا أن نعتبر من الطبيعي للفكرة العامة أن تتنامى على نحو كامل بدلا من أن تتهشم أو تتشوه. . بمعنى أخر، من الطبيعي لصانع الفيلم أن يكتب السيناريو بنفسه، أو على نحو معاكس، أن يكون كاتب السيناريو مسؤولا أيضا عن الإخراج.
هنا لابد من توكيد نقطة معينة. أن عمل المبدع ينبع من تفكيره، من هدفه، من الحاجة إلى تقديم بيان عن شيء مهم. هذا جلي ولا يمكن أن يتحقق بغير هذه الطريقة. بالطبع يمكن للمبدع، بادئا من حل معضلات شكلية صرفه ( وهناك الكثير من الأمثلة لهذا في الفنون الأخرى) أن يواجه حاجزا اكبر، ثم يجد نفسه يرى أشياء من زاوية جديدة. . لكن مع ذلك هذا يحدث فقط حين تخطر له فكرة ما على نحو غير متوقع، في شكل خاص، فارضة نفسها على موضوعه، على الفكر الذي - بوعي أو بلا وعي- كان يحمله معه لمدة طويلة(إن لم أكن مخطئا، فان فيلم جودار "على آخر نفس" هو مثال على ذلك).
الشيء الأصعب بالنسبة للفنان العامل هو أن يخلق مفهومه الخاص، وأن يتابعه، غير خائف من القيود التي يفرضها المفهوم، مهما كانت صارمة. الأكثر سهولة هو أن تكون انتقائيا، أن تتبع الأنماط الروتينية، المبتذلة، التي تعج بها مخازننا المهنية: مصدر إزعاج اقل للمخرج وللجمهور. ولكن ثمة خطر هنا في أن تصبح واقعا في الشرك على نحو يائس. إني أرى ذلك كدليل أوضح على النبوغ، على الروح المميزة، حين يتبع الفنان مفهومه، فكرته، مبدأه، على نحو مباشر ودونما انحراف بحيث يكون ممتلكا لحقيقته التي هي دائما تحت سيطرته، لا يدعها أبدا تفلت حتى من اجل متعته الخاصة في عمله.
هناك قلة من ذوي النبوغ في السينما: أنظر إلى بريسون، ميزوجوشي، دوفجنكو، برادجانوف، بونويل. . لا يمكن أبدا الخلط بين أحدهم والآخر. إن فنانا من ذلك الوزن والمكانة يتبع خطا مستقيما واحدا، وان يكن بكلفة عالية، ليس بلا مواطن ضعف، أو حتى تكلف أحيانا، لكن دائما باسم الفكرة الواحدة، المفهوم الواحد. في السينما العالمية كانت هناك محاولات عديدة لإبداع مفهوم جديد في الفيلم، دائما مع الهدف العام لجعل الفيلم قريبا جدا إلى الحياة، إلى الحقيقة. لهذا السبب ظهرت أفلام مثل: " ظلال" لجون كازافيتيس "الصلة" لشيرلي كلارك "أحداث صيف ما " لجان روش. هذه الأفلام البارزة موسومة، بصرف النظر عن أي شئ آخر، بالافتقار إلى الالتزام. من واجب الفنان أن يكون هادئا. ليس له الحق في إظهار انفعاله، استغراقه، وان يسكب كل أحاسيسه على الجمهور. إن أي استثارة بسبب موضوع ما يجب تهذيبها في هدوء جليل. تلك هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الفنان أن يعبّر عن الأشياء التي تثيره. إني أتذكر كيف عملنا في فيلم "أندريه روبليوف".
تدور أحداث الفيلم في القرن الخامس عشر، وقد اتضح أن من الصعوبة، على نحو موجع، تصور " كيف كانت تبدو الأشياء في الماضي ". كان علينا أن نستخدم كل ما بحوزتنا من مصادر: فن العمارة، الكلمة المكتوبة، الأيقونات. لو أننا حاولنا إعادة بناء التقليد التصويري للعالم في تلك الأزمنة لكانت النتيجة عالما روسيا قديما، تقليديا وذا أسلوب معين، من ذلك النوع الذي - في أفضل الأحوال- يذكرنا بأيقونات أو منمنمات تلك المرحلة. لكن بالنسبة للسينما، فان ذلك ليس المنحى الأمثل والأنسب. أنا لم افهم أبدا، على سبيل المثال، محاولات بناء ميزانسين من لوحة ما. إن كل ما سوف تفعله، في هذه الحالة، هو إحياء اللوحة من جديد، وعندئذ سوف تكافأ بإطراء سطحي من نوع " آه، لقد منحنا الإحساس بالجو العام للمرحلة" أو " آه، يا لهم من أفراد مهذبين". لكنك في المقابل سوف تقتل السينما.
إذن كان أحد أهداف عملنا هو إعادة بناء العالم الحقيقي في القرن الخامس عشر للجمهور المعاصر، أي تقديم ذلك العالم بطريقة لا يمكن فيها للملابس واللغة و أسلوب الحياة و العمارة أن تمنح الجمهور أي إحساس بالأثر القديم، بالندرة، بالأشياء الأثرية. من اجل إحراز صدق الملاحظة المباشرة، ما يمكن للمرء أن يدعوه الحقيقة الفيسيولوجية، كان علينا أن نبتعد عن صدق الأركيولوجيا ( علم الآثار ) و الأثنوغرافيا (الأنثروبولوجيا الوضعية ).
على نحو يتعذر اجتنابه، كان هناك عنصر من الاصطناعية، لكن هذا كان النقيض لتلك الاصطناعية في اللوحة المستعادة ذهنيا.
لو أن شخصاً من القرن الخامس عشر ظهر فجأة ليشهد ذلك، فلربما وجد في المادة المصورة سينمائيا مشهدا غريبا تماما، ولكن ليس أكثر غرابة منا ومن عالمنا الخاص.
ولأننا نعيش في القرن العشرين فإننا لا نملك إمكانية تحقيق فيلم مستمد مباشرة من مادة عمرها 600 سنة. مع ذلك، فإنني لازلت مقتنعا بأن من الممكن بلوغ أهدافنا، حتى في الظروف الصعبة، شريطة أن نسلك الدرب كله، دون انحراف، في الطريق الذي اخترناه بالرغم من الجهد الخارق الذي يقتضيه ضمنا.
نحن لا نستطيع أن نعيد بناء القرن الخامس عشر بدقة تامة، مع ذلك فقد درسنا على نحو شامل كل الأشياء التي ظلت باقية من ذلك القرن. إن إدراكنا لذلك الزمن مختلف تماما عن أدراك أولئك الذين عاشوا آنذاك. كذلك رؤيتنا للوحة روبليوف "الثالوث الأقدس" مختلفة عن رؤية معاصريه، مع ذلك فإن هذا العمل الفني قد استمر في البقاء عبر القرون. إنه حي الآن مثلما كان في الماضي، وهو الذي يشكل حلقة الوصل بين أناس ذلك القرن وهذا القرن. "الثالوث الأقدس" يمكن النظر إليه ببساطة كأيقونة، أو كقطعة أثرية رائعة، أو ربما كنموذج لأسلوب مميز في الرسم في ذلك العهد.
لكن هذه الأيقونة، هذا التذكار، يمكن أن يُرى بطريقة أو من زاوية أخرى: بوسعنا أن نتوجه إلى المعنى الإنساني، الروحي، لهذا العمل الفني. المعنى الذي هو حي وقابل للإدراك بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في النصف الثاني من القرن العشرين.
هكذا اقتربنا من الواقع الذي أنتج "الثالوث الأقدس". ومثل هذا الاقتراب جعلنا نقدم، على نحو مقصود، عناصر قادرة على تبديد أي انطباع بالأساليب القديمة المهجورة، وبإعادة بناء شئ أثري.
السيناريو الأصلي يتضمن جزءاً فيه يتسلق قروي كاتدرائية، وقد صنع لنفسه جناحين، ثم يقفز محاولا التحليق غير انه يهوي ويرتطم بالأرض ليلقى حتفه. لقد أعدنا بناء هذا الجزء متفحصين عنصره السيكولوجي الجوهري. انه يعبر بوضوح عن حالة رجل كان يفكر طوال حياته بالطيران، بأن يرى نفسه محلقا في الفضاء. لكن كيف يمكن أن يحدث هذا حقا ؟ الناس كانوا يركضون خلفه، وهو يجري سريعا ثم يقفز. ما الذي رآه هذا الرجل وشعر به فيما كان يحلّق للمرة الأولى ؟ يقينا لم يكن لديه الوقت ليرى شيئا، فقد هوى وتحطم في لمحة. إن أقصى ما كان بوسعه معرفته هو حقيقة السقوط الرهيب، المرعب، وغير المتوقع. لقد تم إقصاء ما أوحى له بالطيران، ورمزيته، لأن المعنى كان مباشرا وصريحا، ومتصلا بالتداعيات التي هي مألوفة تماما بالنسبة لنا. كان على الشاشة أن تظهر قرويا عاديا ومتسخا، ثم سقوطه و تحطمه و موته.
هذا حدث مادي، مأساة بشرية، مرصودة من قبل مشاهدين يتفرجون على المشهد مثلما يحدث الآن، في الواقع، عندما نرى شخصا ينقذف بقوة وعنف لسبب ما أمام سيارة وينتهي بالتمدد على الإسفلت مهشما.
لقد أمضينا وقتا طويلا ونحن نبحث في كيفية تدمير الرمز التشكيلي الذي عليه بني هذا الجزء، وتوصلنا إلى استنتاج بأن جذر المشكلة يكمن في الجناحين. ومن اجل تبديد فكرة ايكاروس (6) قررنا استخدام البالون، والذي هو شيء غير متقن الصنع، مؤلف من جلود وحبال و اسمال بالية، وقد شعرنا بأن هذا سوف يحرر الجزء، المشهد، من البلاغة الزائفة ويحوله إلى حدث فريد.
الشيء الأساسي هو أن تصف الحدث وليس موقفك تجاهه. الموقف لابد أن يتضح بواسطة الفيلم ككل حين يكون طرفا في التأثير الكلي. ذلك أشبه بالفسيفساء. حيث كل قطعة منفصلة ذات لون خاص ومعين: ازرق، ابيض، احمر. إنها مختلفة. وبعد ذلك تنظر إلى اللوحة الكاملة وترى ما كان يفكر فيه المؤلف.
أنا أحب السينما. و لا يزال هناك الكثير مما لا اعرفه: على أي شيء سوف اشتغل، ما الذي سأفعله فيما بعد، كيف يتشكل كل شيء، هل سوف يتوافق عملي مع المبادئ التي التزم بها الآن ؟
هناك العديد من الإغراءات في كل جانب: الأنماط، الأفكار المتصورة سلفا، الأشياء المألوفة، الأفكار الغنية العامة. وفي الواقع، من السهل جدا أن تصور مشهدا على نحو جميل من اجل التأثير على الآخرين و إحراز الإعجاب. . لكن ما إن تقوم بخطوة واحدة فقط في ذلك الاتجاه حتى تضيع.
ينبغي أن تكون السينما وسيلة لسبر المعضلات الأكثر تعقيدا في زمننا، والتي هي حيوية كما تلك المعضلات التي لقرون كانت موضوعا للأدب و الموسيقى والرسم. إنها مسألة بحث، في كل مرة تبحث من جديد عن الطريق، المجرى، الذي ينبغي أن تسلكه السينما. أنا مقتنع، بالنسبة لأي واحد منا، بأن عملنا السينمائي سوف يصبح عقيما، غير مجد، وميئوسا منه، لو أخفقنا في إدراك – بدقة وعلى نحو جلي لا لبس فيه – السمة أو الخاصية المميزة للسينما، ولو أخفقنا في إيجاد، داخل أنفسنا، مفتاحنا الخاص بالعمل السينمائي
****
لكل فن معناه الشعري الخاص، و السينما ليست استثناء. إن لها دورا خاصا، قدرا خاصا.
لقد نشأت السينما من اجل أن تعبّر عن مجال معين من الحياة التي معناها، حتى ذلك الوقت، لم يجد تعبيره في أي شكل فني قائم. كل شيء جديد في الفن انبثق استجابة لحاجة روحية، ووظيفته أن يطرح تلك الأسئلة التي هي متصلة على نحو بارز ورفيع بزمننا.
بهذا الخصوص، أتذكر ملاحظة ملفتة للنظر طرحها الأب بافل فلورنسكي (7) في كتابه "الفاصل الأيقوني"، حيث يقول بأن المنظور المعكوس في أعمال تلك المرحلة لم يكن نتيجة عدم إدراك رسامي الأيقونات الروس للقوانين البصرية التي كانت مفهومة جيدا في عصر النهضة الإيطالية، بعد تطورها في إيطاليا على يد ليون باتيستا ألبرتي (8) لقد حاول فلورنسكي أن يبرهن، على نحو مقنع، بأنه لم يكن ممكنا رصد الطبيعة بدون اكتشاف المنظور، هذا المنظور الذي سوف يلاحظ بلا شك. إن المنظور المعكوس في الرسم الروسي القديم، الذي هو إنكار لمنظور عصر النهضة، يعبر عن الحاجة إلى تسليط الضوء على مشكلات روحية معينة أخذها الرسامون الروس على عاتقهم بخلاف معاصريهم الإيطاليين. وهناك رواية تقول بأن أندريه روبليوف قد زار فينيسيا فعلا. وبأية حال، لابد وانه كان واعيا لما يفعله الرسامون الإيطاليون بالمنظور.
السينما عاصرت القرن العشرين، ذلك لم يكن مصادفة. السينما كانت الشكل الفني الأول الذي نشأ كنتيجة لاختراع تكنولوجي، و استجابة لحاجة حيوية أساسية. إنها الأداة التي كان على البشرية أن تملكها في سبيل مضاعفة سيطرتها على العالم الحقيقي، نظرا لأن حقل أي شكل فني مقصور على مظهر واحد من اكتشافنا الروحي والعاطفي للواقع المحيط بنا.
إن المتفرج، فيما يشتري تذكرته، يبدو كما لو كان يلتمس سد النقص، أو إكمال الفجوات، في تجربته الخاصة، رامياً نفسه في بحث عن "زمن مفقود". بتعبير آخر، هو يسعى إلى ملء ذلك الخواء الروحي الذي تشكل نتيجة الشروط الخاصة لهذه الكينونة الحديثة: نشاط متواصل، تقليص الاتصال الإنساني، والنزعة المادية للتربية العصرية.
طبعا بإمكان المرء أن يقول بأن عدم كفاية تجربة الفرد الروحية ربما تكون أيضا محققة عبر الفنون الأخرى وعبر الأدب. (حالما يفكر المرء في البحث عن الزمن الضائع، يتذكر بالطبع عنوان رواية بروست) لكن أيا من الفنون المعروفة و"المحترمة" لا تملك هذه الجماهيرية الهائلة كما السينما. ربما الإيقاع، الطريقة التي بها توصل السينما إلى جمهورها تلك التجربة المكثفة التي يريد مبدع الفيلم أن يتقاسمها معهم، ينسجم - هذا الإيقاع- إلى حد بعيد مع إيقاعات الحياة الحديثة. ربما يكون صحيحا القول بأن الجمهور قد علق مفتونا بديناميكية السينما ولم تجرفه فحسب الإثارة التي تحدثها السينما. ( شيء واحد، مع ذلك، مؤكد: الجمهور العريض متفاوت، وتلك الشرائح الخاملة، غير الفعالة، من الجمهور هي التي تتأثر بسهولة أكثر بفعل الاستثارة والجدة). إن استجابات الجمهور المعاصر تجاه أي فيلم هي مختلفة من حيث المبدأ عن الانطباعات التي أحدثتها أعمال سنوات العشرينات والثلاثينات. عندما ذهب الآلاف من الناس في روسيا لمشاهدة شاباييف (9)، على سبيل المثال، فأن الانطباع، أو بالأحرى الإلهام، الذي أحدثه الفيلم كان متلائما تماما، كما بدا آنذاك، مع خاصيته: لقد قُدم إلى الجمهور عمل فني، لكن هذا العمل جذبهم قبل كل شيء لأنه كان نموذجا لنوع جديد وغير مألوف.
نحن الآن نعيش وضعا حيث الجمهور في أحوال كثيرة يفضل عملا تجاريا تافها على فيلم بيرجمان ( الفراولة البرية) أو فيلم انتونيوني (الخسوف). المشتغلون بالمهنة يهزون أكتافهم بلا مبالاة، و يتوقعون بأن الأعمال الجادة الهامة سوف لن تحرز النجاح مع الجمهور العام.
ما هو تفسير ذلك ؟ انحطاط في الذوق أم فقر في الأعمال ؟ لا هذا ولا ذاك .
ذلك ببساطة لأن السينما الآن توجد وتنمو ضمن شروط جديدة. الانطباع الآسر، الشامل، الذي غمر ذات مرة جماهير سنوات الثلاثينات، وجد تفسيره في البهجة العامة، العالمية، لأولئك الذين كانوا يشهدون بفرح بالغ ولادة شكل فني جديد والذي، علاوة على ذلك، أضيف إليه الصوت مؤخرا. عبر الواقع الفعلي لوجود هذا الفن الجديد الذي اظهر نوعا جديدا من الوحدة الكاملة، نوعا جديدا من الصورة و كشف عن مجالات من الواقع غير مستكشفة، عبر كل هذا استطاع الفن الجديد أن يذهل جمهوره ويحولهم الى معجبين متحمسين بالفيلم. اقل من عشرين سنة الآن تفصلنا عن القرن الواحد و العشرين. خلال وجودها، وعبر قممها وأغوارها، سلكت السينما طريقا طويلا و متعرجا. العلاقة التي نمت بين الأفلام الفنية و السينما التجارية ليست سهلة و سلسلة، و الفجوة بينهما تصبح أوسع كل يوم. مع ذلك، فإن الأفلام يتم تحقيقها طوال الوقت والتي هي، يقينا، علامات في تاريخ السينما. الجمهور أصبح أكثر فطنة و إدراكا في موقفهم من الأفلام. و السينما، في حد ذاتها، قد كفت منذ زمن طويل عن إدهاشهم بوصفها ظاهرة جديدة و أصيلة، و في الوقت نفسه يتوقع منها أن تلبي مدى أوسع من الحاجات الفردية. لقد كشف الجمهور عن ما يميلون إليه و مالا يحبونه، ذلك يعني أن صانع الفيلم بدوره له جمهور ثابت، له دائرته الخاصة. أن اختلاف الذوق عند الجمهور يمكن أن يكون شديدا، لكن هذا لا يدعو إلى الأسف أو ينذر بخطر، فحقيقة أن الناس لديهم مقاييسم الجمالية الخاصة يدل على نمو الوعي الذاتي.
المخرجون يمضون عميقا نحو المجالات التي تعنيهم. هناك جمهور مخلص ومخرجون مفضلون، لذا ليس ثمة مجال للتفكير بلغة النجاح التام مع الجمهور، إذا تحدث المرء عن السينما بوصفها فنا وليس ترفيها. الشعبية الجماهيرية تقترح ما يعرف بالثقافة الجماهيرية وليس الفن.
نقاد السينما السوفيتية يؤكدون أن الثقافة الجماهيرية تعيش و تزدهر في الغرب، في حين أن الفنانين السوفييت مطالبين بمواصلة التأرجح على مقولة "الفن الحقيقي للشعب".
في الواقع هم مهتمون بتحقيق أفلام ذات جاذبية جماهيرية، وبينما يتحدثون على نحو طنان عن تطوير "التقاليد الواقعية الحقيقية" للسينما السوفيتية، هم في الواقع، باطمئنان و دماثه، يعطون الضوء الأخضر لأفلام بعيدة تماما عن العالم الحقيقي وعن تلك المشاكل التي يعيشها و يعانيها الشعب فعلا. و في إشارتهم إلى نجاح السينما السوفيتية في الثلاثينات، هم يحلمون بالجماهير الآن وحالا، باذلين أقصى ما يمكن في التظاهر بأن شيئا لم يتغير في العلاقة بين الفيلم و الجمهور منذ ذلك الوقت.
لكن الماضي – على نحو رحيم – لا يمكن استعادته. الوعي الفردي بالذات ومنزلة الرؤى الذاتية عن الحياة تصبح مهمة أكثر. و بسبب ذلك تتطور السينما، شكلها يصبح مركبا أكثر، براهينها تصبح أعمق. إنها تسبر القضايا التي تجلب معا أناسا متباعدين أكثر ذوي تواريخ مختلفة، شخصيات متباينة و حساسيات غير متماثلة. المرء لا يعود يستطيع أن يتخيل رد فعل متفق عليه بالإجماع تجاه عمل فني حتى لو كان اقل إثارة للجدل أوالخلاف، و أيا كان عمقه أو حيويته. الوعي الجمعي المتوالد بواسطة الأيديولوجية الاشتراكية الجديدة قد أرغمته ضغوطات الحياة الواقعية أن يفسح المجال للوعي الذاتي. الفرصة الآن سانحة لصانع الفيلم و للجمهور من اجل المشاركة في حوار بناء وهادف من النوع الذي يرغب فيه و يحتاجه كلا الطرفين. المخرج والمتفرج متحدان بفعل الاهتمامات و الميول و الأهواء المشتركة، إضافة إلى حميمية الموقف و حتى القرابة الروحية. بدون هذه الأشياء، حتى الأفراد الأكثر إثارة للاهتمام عرضة لأن يثيروا ضجر بعضهم البعض، وإيقاظ تعارض غريزي أو كراهية فطرية أو سخط متبادل. ذلك طبيعي، ومن الواضح أن حتى الأعمال الكلاسيكية لا تحتل مكانا مماثلا في التجربة الذاتية لكل شخص.
أي فرد مؤهل لتقدير و إدراك الفن سوف يحصر، على نحو طبيعي، نطاق الأعمال المفضلة لديه وفقا لأهوائه وميوله الأعمق. والمؤهل لإصدار الأحكام و تحديد اختياراته الخاصة ليس بالضرورة قادرا على هضم كل شيء بنهم. وحتى بالنسبة لشخص ذي حس جمالي متطور، لا يمكن أن يكون هناك أي قولبة و أي تقييم "موضوعي" ( من يكونون هؤلاء القضاة الذين وضعوا أنفسهم فوق العالم لغرض إصدار أحكام "موضوعية" ؟)
من جهة أخرى، العلاقة الحاضرة بين الفنان والجمهور هي برهان على الاهتمام الشخصي بالفن لنطاق عريض جدا من الناس.
في السينما، الأعمال الفنية تسعى إلى تشكيل نوع من التكثيف للتجربة التي يجسدها الفنان في فيلمه: وهْم الحقيقة، صورتها. . إن جاز التعبير. إن ذاتية المخرج المميزة تحدد نمط علاقته بالعالم و تحصر ارتباطاته معه. و اختياره لهذه الروابط يجعل العالم ذاتيا أكثر.
إحراز حقيقة الصورة السينمائية: هذه مجرد كلمات، صفة حلم، تعبير عن هدف و الذي في كل مرة يتحقق يصبح إثباتا لما هو خاص و مميز في اختيار المخرج، و إظهاراً لما هو فريد و استثنائي في وضعه و موقعه. بحث المرء عن حقيقته الخاصة (ولا يمكن أن تكون هناك أي حقيقة أخرى، أي حقيقة مشتركة) يعني البحث عن لغته الخاصة. إن نظام التعبير مقدر له أن يمنح شكلا لأفكار المرء الخاصة. فقط بجمع أفلام مخرجين مختلفين معا نحن نتوصل إلى رؤية صورة واضحة عن العالم الحديث، والتي هي واقعية تقريبا و تطالب باعتبارها بيانا عما يهم ويثير ويحير معاصرينا: تجسيد، في الواقع، لتلك التجربة المعممة التي يفتقدها الإنسان الحديث و التي يعيشها فن السينما ليجعلها مجسمة.
ينبغي أن اعترف بأني قبل ظهور فيلمي الطويل الأول "طفولة إيفان" لم أكن اشعر بأنني مخرج سينمائي، و لم تكن للسينما أي معرفة طفيفة بوجودي. فقط بعد ( إيفان ) أدركت أن علي أن اعمل في السينما. حتى ذلك الحين كانت السينما عالما مغلقا بالنسبة لي إلى حد أنني لم أكن املك أية فكرة واضحة عن الدور الذي هيأه لي أستاذي ميخائيل روم (10).
كان ذلك أشبه بالسفر عبر مسالك متوازية والتي أبدا لا تحاذي ولا تؤثر في بعضها البعض. المستقبل لم يمس الحاضر. لم يكن جليا بالنسبة لي، في المستوى الأعمق، ما الذي ستكون عليه وظيفتي. حتى الآن لا أستطيع أن أرى ذلك الهدف الذي لا يمكن بلوغه إلا من خلال صراع المرء مع نفسه، و الذي يعني موقفا صريحا، مصاغا لكل زمان. ذلك الهدف سوف يظل ثابتا إلى الأبد- مع أن الوسائل المستخدمة في ملاحقة الهدف يمكن أن تتغير- ذلك لأنه يعين وظيفة الفرد الأخلاقية.
كان ذلك في الوقت الذي، على نحو احترافي، كنت أوجد لنفسي ذخيرة من التقنيات التعبيرية، و في الوقت نفسه كنت ابحث عن أسلاف، عن آباء، عن مجرى واحد من التقاليد و الذي سوف لن يتعرض للانتهاك من قبل جهلي و أميتي. كنت قد بدأت في معرفة السينما عمليا: الحقل الذي تعين علي أن اعمل فيه.
إن تجربتي توضح بأن تعلم شخص ما في معهد للسينما لا يخلق منه فنانا. و أن تصبح فنانا لا يعني تعلم شيء ما، و اكتساب تقنيات و مناهج مهنية فحسب. في الواقع، و كما قال أحدهم، لكي تكتب جيدا ينبغي أن تنسى القواعد.
أي شخص يقرر أن يصبح مخرجا فإنه يختار المجازفة، وهو وحده المسؤول عن قراره. ولا بد أن يكون قراراً واعياً ويتخذه شخص ناضج. المجموعة الهائلة من المدرسين، الذين يحاولون إعداد الشخص ليصبح فنانا، ليس بوسعهم تعويض الذين يخفقون عن كل السنوات التي ضحوا بها و فقدوها في المعهد. هؤلاء يأتون مباشرة من المدرسة. أن اختيار الطلبة لمعاهد من هذا النوع لا ينبغي أن يتم على نحو عملي، ذرائعي، ذلك لأنه يتضمن بعدا أخلاقيا: ثمانون في المئة من الذين درسوا ليصبحوا مخرجين أو ممثلين شكلوا صفوفا من غير المؤهلين مهنيا و الذين امضوا بقية حياتهم يدورون حول السينما. الغالبية منهم تنقصهم المقدرة على الانسحاب من مجال السينما و الانتقال إلى مهنة أخرى. بعد تكريس ست سنوات في دراسة السينما، يبدو من الصعب للبعض أن يتخلى عن أوهامه.
الجيل الأول من صانعي الأفلام السوفييت شكلوا ظاهرة عضوية متناسقة الأجزاء. لقد ظهروا استجابة لنداء القلب و الروح. إن ما فعلوه كان مدهشا حقا لكن كان أيضا طبيعيا بالنسبة لزمنهم. . وهي الحقيقة التي يخفق الكثيرون الآن في إدراكها وتقديرها.
القصد هو أن السينما السوفيتية الكلاسيكية كانت نتاجات مجموعة من الشبان، الفتيان تقريبا، و الذين عرفوا – مع ذلك – ما تعنيه أعمالهم و لم يترددوا في تحمل المسؤولية.
مع ذلك، فإن السنوات التي قضيناها في معهد السينما كانت سنوات تعليم و تثقيف، وقد مهدت السبيل، شيئا فشيئا، لتقييم أو لتحديد أهمية ذلك التدريب اليوم. و كما يقول هيرمان هيسه في "لعبة الكريات الزجاجية" الحقيقة ينبغي أن تعاش، لا أن تدرس.
الحركة تصبح صادقة، أي قادرة على تحويل التعاليم إلى طاقة اجتماعية، فقط تكون الطريقة التي بها تنمو و تتغير متوافقة مع المنطق الموضوعي لتطور المجتمع.
إن كلمات هيسه تصلح في الواقع لأن تتصدر فيلم "أندريه روبليوف".
تشكيل الأساس لمفهوم شخصية أندريه روبليوف هو المخطط للعودة إلى البداية، و أرجو أن ينبثق هذا في الفيلم كتعاقب طبيعي و عضوي للتدفق الحر لحياة مبتدعة على الشاشة. بالنسبة لنا قصة روبليوف هي في الواقع قصة مفهوم ملقن أو مفروض و الذي يتوهج في مناخ واقع حي لينهض ثانية من الرماد كحقيقة طرية ومكتشفة من جديد.
أندريه، الذي تدرب في دير الثالوث الأقدس و سانت سيرجيو، تحت وصاية و تأثير سيرجي رادونيجسكي، و الذي عاش ناسكا و لم تمسه الحياة، قد استوعب البديهية الأساسية: الحب، الأخوة، وحدة الجماعة. في تلك الفترة من الصراعات الأهلية و الاقتتال الدموي بين الأخوة، و انسحاق البلاد تحت أقدام الغزاة التتار، كان شعار سيرجي – المستلهم من الواقع و من نفاذ بصيرته السياسية – يلخص الحاجة إلى الوحدة، إلى التمركز، في وجه التحالف المنغولي – التتاري، كوسيلة وحيدة لضمان البقاء والمحافظة على الكرامة وإحراز الاستقلال الوطني و الديني.
أندريه الشاب تلقى هذه الأفكار ذهنيا و فكريا. . تربى عليها و جعلها تنطبع في ذهنه. و ما إن غادر أسوار الدير حتى واجه واقعا غريبا، غير مألوف وغير متوقع، لكنه مرعب أيضا. إن الطبيعة التراجيدية لذلك الزمن يمكن تأويلها فقط من زاوية بلوغ ذروة الحاجة للتغيير.
من السهل رؤية إلى أي مدى كان أندريه اعزلا و غير مهيأ بشكل فعال لهذه المجابهة مع الحياة بعد أن كان محميا منها داخل تخوم الدير السرية حيث تكونت لديه رؤية محرفة للحياة التي تمتد بعيدا وراء الدير. فقط بعد اجتيازه دوائر الألم و المعاناة، متحدا مع مصير شعبه، و فاقدا إيمانه بفكرة الخير التي لا يمكن أن تتصالح مع الواقع، يعود أندريه إلى تلك النقطة التي بدأ منها: إلى فكرة الحب، الخير، الأخوة. . لكن بعد أن اختبر بنفسه الحقيقة السامية، الجليلة، لتلك الفكرة بوصفها تعبيرا عن طموحات شعبه المعذب.
الحقائق التقليدية تظل حقائق فقط حين تكون محمية من قبل التجربة الشخصية. عندما أفكر في السنوات التي أمضيتها كطالب في معهد السينما، حين كنت استعد لدخول المهنة التي كان من المقدر لي أن امكث فيها بقية حياتي، وفي ضوء حياتي العملية اليوم، فإن تجربة سنوات الدراسة تلك تبدو فاترة، غريبة إلى حد ما.
كنا نعمل كثيرا في الموقع و نحن نتدرب على الإخراج أو تأويل الأداء أمام جمهور من الطلبة، وكنا نكتب كثيرا، ونعد سيناريوهات لأنفسنا من مادة التدريس. لم نكن نشاهد أفلاما كافية ( والآن، حسب علمي، يشاهد طلبة المعهد عددا اقل من الأفلام ) لأن الأساتذة و الإدارة كانوا خائفين من التأثير المهلك للأفلام الغربية، و التي قد يتلقاها الطلبة "على نحو نقدي" اقل مما ينبغي. بالطبع هذا مناف للعقل: كيف يمكن لأي شخص أن يتجاهل أو يتجنب السينما العالمية المعاصرة و يريد مع ذلك، أن يمارس هذه المهنة ؟ هل يستطيع المرء أن يتصور رساما لا يرتاد المتاحف أو لا يذهب إلى مراسم زملائه، أو كاتبا لا يقرأ الكتب، أو مصورا سينمائيا لا يشاهد أفلا ما ؟ . . نعم، انه هناك، الطالب في معهد السينما عندنا، الذي هو فعليا محروم من مشاهدة إنجازات السينما العالمية فيما هو يدرس في المعهد.
لازلت اذكر الفيلم الأول الذي تمكنت من مشاهدته في المعهد عشية امتحانات الدخول.. فيلم جان رينوار (الحضيض ) المأخوذ عن مسرحية مكسيم جوركي. وقد ترك فيّ الفيلم انطباعا غريبا و مربكاً، إحساسا بشيء محرم، سري، وغير طبيعي.
في عامي الرابع في المعهد، حالة التأمل الميتافيزيقي عندي أفسح المجال فجأة لتفجر الحيوية. طاقاتنا كانت تشق مجراها نحو تدريبات عملية أولا ثم نحو تحقيق فيلم قبل التخرج، وهو الفيلم الذي أخرجته بالتعاون مع ألكسندر جور دون الذي كان ضمن دفعتي. كان فيلما طويلا نسبيا، أنتجه المعهد و استوديوهات التلفزيون المركزي التي وفرت لنا التسهيلات، وهو عن خبراء متفجرات يعطلون قنبلة كانت موضوعة في متجر أسلحة ألماني ترك مهجورا بسبب الحرب.
كان السيناريو الذي كتبته بنفسي عقيماً تماماً. و بعد تصويره لم اشعر مطلقا بأني كنت اقترب من فهم ما يسمونها السينما. الأمور صارت أسوأ بسبب واقع أننا كنا طوال فترة التصوير نتوق إلى تحقيق فيلم درامي طويل، أو فيلم حقيقي كما تخيلنا على نحو خاطئ.
في الواقع، أن تحقيق فيلم قصير هو تقريبا أصعب من تحقيق فيلم طويل: انه يقتضي إحساسا لا يخطئ بالشكل. لكن في تلك الأيام كنا قد تدربنا قبل كل شيء على أفكار طموحة عن الإنتاج و التنظيم، بينما مفهوم الفيلم كعمل فني هو مراوغ و يفوتنا إدراكه على نحو متماسك. بالنتيجة، كنا عاجزين عن الاستفادة من عملنا في الفيلم القصير من اجل تعيين أهدافنا الجمالية الخاصة. مع ذلك، حتى الآن لم افقد الأمل في تحقيق فيلم قصير يوما ما: حتى إنني كتبت مخططات تمهيدية في دفتر ملاحظاتي.. إحداها عبارة عن معالجة سينمائية لقصيدة كتبها والدي أرسيني الكسندروفيتش تاركو فسكي، بحيث يلقيها هو بصوته. و قد استخدمت هذه القصيدة في فيلمي ( نوستالجيا ):
ذات يوم، و أنا طفل، وقـعــت مريضا
بسبب الجوع و الخوف. من شفتي انتزعت
قشورا جافة، و لعقت شفتي.
لازلت اذكر المذاق، مالح بعض الشيء و فاتر.
و طوال الوقت كنت امشي و امشي و امشي.
جلست على الأدراج الأمامية لأدفئ نفسي،
فقد اجتزت طريقي الطائش كما لو ارقص
على أنغام آسر الفئران، في اتجاه النهر.
جلست لأتدفأ على الأدراج، مرتجفا
و أمي تقف هناك مومئة، تبدو كما لو إنها قريبة،
لكني لا أستطيع أن اصعد إليها:
أتحرك نحوها، هي واقفة على بعد سبع خطوات، تومئ إلي..
أتحرك نحوها، هي واقفة
على بعد سبع خطوات و تومئ إليَّ
شعرت بحرارة عالية
فككت زر ياقتي و استلقيت،
عندئذ سمعت أصوات أبواق تدوي،
طرق خفيف على جفوني، خيول تعدو،
و أمي كانت تحلّق فوق الطريق،
أومأت إليّ و حلقت بعيداً..
و الآن حلمي عن المستشفى ،
بياض تحت أشجار التفاح،
وملاءة بيضاء تحت ذقني،
و طبيب ابيض يطل علي،
و ممرضة بيضاء واقفة عند قدمي.. بجناحين يخفقان.
هناك مكثوا..
و أمي جاءت، و أومأت إليّ..
ثم حلقت بعيدا.
لهذه القصيدة فكرت، منذ مدة، في استخدام المشاهد المتتابعة التالية:
المشهد (1): لقطة عامة. منظر جوي لبلدة ما. انه الخريف أو بداية الشتاء zoom in بطيء إلى شجرة منتصبة قرب جدار دير مكسو بالجص .
المشهد (2) : لقطة قريبة . من زاوية أسفل، zoom in إلى برك صغيرة جدا نشأت من تجمع مياه الأمطار ، أعشاب ، طحالب .. مصورة عن قرب لإعطاء الانطباع بالمنظر الطبيعي. في اللقطة الأولى يمكن سماع ضوضاء البلدة – مزعجة و لحوحة – و التي تتلاشى كليا مع نهاية اللقطة الثانية.
المشهد (3): لقطة قريبة. نار مضرمة في الهواء الطلق. يد شخص تمتد حاملة ظرفا قديما، مدعوكاً، نحو لهب يخمد. النار تندلع فجأة. الكاميرا تتحرك لتظهر من أسفل الأب الشاعر (مؤلف القصيدة) الواقف قرب الشجرة ناظرا إلى النار. ثم ينحني ليتولى النار بعنايته. اللقطة تتوسع لتشمل المنظر الطبيعي الخريفي، الفسيح. السماء ملبدة بالغيوم. على مبعدة، النار تتوهج في منتصف الحقل. الأب يحرك الجمرات لإذكاء النار. هو يعتدل في وقفته، يستدير، ويسير مبتعدا عن الكاميرا على طول الحقل.
زوم بطيء من الخلف لتصبح اللقطة متوسطة. الأب يواصل السيرطوال الوقت عدسات الزوم تظهره بالحجم ذاته. بعدئذ ، هو تدريجيا يستدير حتى يظهر في لقطة جانبية . الأب يختفي بين الأشجار.
من بين الأشجار يخرج الابن، و يسير في طريق الأب ذاته.
Zoom in تدريجي إلى وجه الابن ، الذي مع نهاية اللقطة يكون مباشرة أمام الكاميرا.
المشهد (4): من وجهة نظر الابن. لقطة من أعلى و zoom in: طرقات، برك من مياه الأمطار، عشب ذابل. ريش ابيض يهبط دائريا ليسقط في إحدى البرك ( وقد استخدمت الريش في فيلم نوستالجيا )
المشهد (5): لقطة قريبة. الابن ينظر إلى الريش الساقط ثم يرفع بصره ناظرا إلى السماء، ينحني ثم يعتدل، ويسير خارجا من الكادر. لقطة عامة: الابن يلتقط الريش و يواصل السير. يختفي بين الأشجار و التي منها يظهر حفيد الشاعر سائرا في الاتجاه نفسه، في يده ريش ابيض. الغسق يهبط. الحفيد يسير عبر الحقل. Zoom in إلى لقطة قريبة جانبيه للحفيد. فجأة يلاحظ شيئا خارج الكادر، فيتوقف. حركة Pan في اتجاه تحديقته .
لقطة عامة لملاك واقف عند حافة الغابة المظلمة. الغسق يهبط. الظلمة تحل، فيما البؤرة تصبح ضبابية.
يمكن سماع القصيدة من بداية اللقطة الثالثة وحتى نهاية اللقطة الرابعة.. بين النار المضرمة في الهواء الطلق و الريش الساقط. تقريبا في لحظة انتهاء القصيدة، و ربما قبل هذا بقليل، يمكننا سماع نهاية الجزء الأخير من ( سيمفونية الوداع ) لهايدن، و التي تنتهي فيما الظلمة تهبط.
لو تعين علي أن أحقق الفيلم، فعلى الأرجح سوف لن يكون تنفيذا حرفيا لما هو مكتوب في دفتر الملاحظات. و أنا لا أستطيع أن اتفق مع رأي رينيه كلير القائل بأن ما أن تتكون لديك فكرة عن الفيلم فلا يبقى لك إلا أن تصوره. إنها طريقة مختلفة تماما عن تلك التي أحقق بها السيناريو على الشاشة. ليس ذلك لأنني أجد نفسي أقوم بتغييرات أساسية للفكرة الأصلية للفيلم، فالباعث الأولي للفيلم يظل كما هو دون تغيير وينبغي تحققه في العمل المنجز. لكن، من ناحية ثانية، أثناء التصوير والمونتاج وإعداد التسجيل الصوتي، الفكرة تثابر في التبلور في أشكال دقيقة، وبناء الصورة لا يكون محسوما إلا في الدقيقة الأخيرة. إن عملية إنتاج أي عمل فني تعني الصراع مع المادة، إحكام السيطرة عليها من أجل التحقيق الكامل والمثالي للمفهوم الذي يظل حيا في تأثير الفنان المباشر.
مهما يحدث فإن غاية الفيلم، الشيء الذي أعطى المرء الفكرة في المقام الأول، لا ينبغي أن تكون "مسفوكة" أثناء العمل بما أن الفكرة العامة تصبح متجسدة من خلال وسط السينما: أعني استخدام صور الواقع نفسه..ذلك لأنها يجب أن تصبح حية في جسد الفيلم عبر الاتصال المباشر بالعالم الحقيقي، المادي.
إنه خطأ فادح، بل يمكن أن أقول، خطأ مهلك، أن تحاول تحقيق فيلم يتطابق تماما، وعلى نحو دقيق، مع ما هو مكتوب على الورق. وأن تنقل إلى الشاشة بنى وتراكيب تم التفكير فيها سلفا، وعلى نحو فكري محض، فإن هذه العملية البسيطة يمكن أن يقوم بها أي مهني محترف. ولأن الإبداع الفني عملية حية ومتقدة فإنه يقتضي القدرة على الرصد المباشر للعالم المادي، المتغير على الدوام، والذي هو باستمرار في حالة حركة.
الرسام بعون من الألوان، الكاتب بعون من الكلمات، الموسيقار بعون من الأصوات، جميعهم مشغولون في صراع لا يلين للسيطرة على المادة التي على أساسها يبنون أعمالهم. السينما نشأت كوسيلة لتسجيل حركة الواقع نفسها.. الحقيقية، المحددة، داخل الزمن..وكوسيلة لإعادة إنتاج اللحظة المرة تلو الأخرى في تحولها المرن والرشيق..تلك اللحظة التي بواسطتها نجد أنفسنا قادرين على إحراز السيطرة عن طريق طبع اللحظة على الفيلم.ذلك هو ما يحدد وسط السينما.إن مفهوم المبدع يصبح شهادة إنسانية، حية، تستطيع أن تثير وتأسر الجمهور فقط عندما نكون قادرين على غمرها في تيار الواقع المتدفق الذي نحاول تثبيته بإحكام في كل لحظة مادية وملموسة نرسمها أو نصورها..الوحيدة والفريدة في البنية كما في الشعور، وإلا فإن الفيلم يكون محكوما عليه بالإخفاق.. سوف يموت قبل أن يولد.
بعد أن أنهيت "طفولة إيفان" شعرت بأنني في مكان ما على حافة السينما.إنه شبيه بما يحدث في تلك اللعبة، حين يكون في إمكانك أن تشعر بحضور شخص ما في غرفة مظلمة حتى لو كان هذا الشخص حابسا أنفاسه.لقد كانت السينما في مكان ما قريبة جدا مني. الإثارة التي شعرتها جعلتني أدرك ذلك بوضوح..مثل تململ كلب صيد إلتقط رائحة ما أو تعرف إلى أثر ما. وقد حدثت المعجزة.. الفيلم حقق نجاحا. الآن صرت مطالبا بشيء آخر: عليّ أن افهم ما هي السينما.
كان ذلك حين خطرت لي فكرة "الزمن المطبوع".. الفكرة التي أتاحت لي أن انمي مبدأ، مع نقاط إسناد(أو مرجع) والتي سوف تبقي خيالي الجامح تحت السيطرة فيما ابحث عن شكل، عن سبل لمعالجة الصور، هذا المبدأ الذي سوف يطلق يدي، ويجعل من الممكن نزع كل ما هو غير ضروري أو مخالف أو غير متصل بالموضوع، بحيث أن مسالة ما يحتاج إليه الفيلم، وما يجب أن يتجنبه، سوف تكون محلوله من نفسها. اعرف الآن مخرجين اثنين اشتغلا بكوابح صارمة، ومفروضة ذاتيا، لمساعدتهما في خلق شكل حقيقي لتحقيق فكرتهما: دوفجنكو(مع فيلمه: الأرض) وبريسون (مع فيلمه: يوميات قسيس ريفي).. لكن بريسون هو ربما الرجل الوحيد في السينما الذي أحرز الالتحام الكلي للعمل المنجز مع مفهوم تم استنباطه نظريا سلفا. لا اعرف فنانا آخر متناغما مع نفسه في هذه الناحية مثل بريسون. إن مبدأه الهادي كان إزالة ما يعرف ب " التعبيرية"، بمعنى انه أراد أن يلغي التخم بين الصورة والحياة الفعلية، أن يجعل الحياة نفسها نابضة ومعبرة. لا تغذية خاصة للمادة، لا شيء معالج بتفصيل مفرط، لا شيء فيه نكهة تعميم مقصود.
بول فاليري كان كما لو يعبر عن بريسون حين كتب: " الكمال لا يمكن إحرازه إلا بتفادي كل ما يتسم بالمبالغة الواعية". أي لا أكثر من رصد متواضع وبسيط للحياة.
للمبدأ شيء مشترك مع فن الزن ZEN (النفاذ إلى طبيعة الحقيقة عن طريق التأمل) حيث الرصد الدقيق للحياة ينتقل في صورة مجازية فنية. عند بوشكين نجد أن العلاقة بين الشكل والمحتوى هي سحرية، عضوية، هبة إلهية. لكن بوشكين مثل موزارت كان يخلق مثلما يتنفس، دون أن يضطر إلى تشييد مبادئ عمل. وفي شعرية الفيلم، كان بريسون، أكثر من أي شخص آخر، قد وحّد النظرية والتطبيق في عمله مع فردية الغاية.. على نحو متناغم ومنتظم.أن رؤية واضحة ورزينة لشروط عمل المرء تسهل عملية إيجاد شكل ملائم تماما لأفكار ومشاعر المرء دون اللجوء إلى التجريب.
لاشيء يمكن أن يكون خاليا من المعنى أكثر من كلمة "بحث" عند تطبيقه على عمل فني. إنها تغطية للعجز، الخواء الداخلي، الافتقار إلى الوعي الخلاق الحقيقي، الغرور وضيق الأفق. "فنان يبحث" هذه الكلمات مجرد ستار لقبول أي عمل رديء أو اقل قيمة. الفن ليس علما، والمرء لا يستطيع أن يشرع في القيام بتجارب كما الحال مع التجربة العلمية. حين يظل التجريب على مستوى التجريب، وليس مرحلة في عملية إنتاج العمل المكتمل الذي قام به الفنان سرا، عندئذ لا يكون هدف الفن متحققا.
مرة أخرى لدى بول فاليري ملاحظته المثيرة للاهتمام على هذا في مقالته " ديجا، الرقص، التصميم الفني":
" لقد نجحوا (11) في الخلط بين التمرين والقطعة الموسيقية، ونظروا إلى ما ينبغي أن يكون مجرد وسيلة على إنها غاية. لكي يكون عمل ما منجزاً أو كاملا، فإن كل ما يفشي أو يوحي بالاختلاف فيه، ينبغي أن يكون خفياً. الفنان يجب أن يظهر نفسه فقط في أسلوبه، ويجب أن يواصل جهوده حتى يمحو عمله أي أثر لجهده. رغم ذلك، وفيما يتعلق بالفرد وباللحظة التي جاءت تدريجيا لتتغلب على الاهتمام بالعمل نفسه وديمومته، فإن شرط الإنجاز أو الاكتمال ذاك لا يبدو عقيما ومضجرا فحسب بل هو في الحقيقة على تعارض مع الصدق والحساسية وتجلي النبوغ.الذاتية أصبحت أكثر أهمية حتى بالنسبة للجمهور.الاسكتش إكتسب أهمية وقيمة اللوحة."
في فن النصف الثاني من القرن العشرين، صار اللغز مهملا أو منسيا. اليوم يريد الفنانون اهتماما خاصا واعترافا فوريا وشاملا.. مكافأة عاجلة مقابل شيء يحدث في حقل الروح.في هذه النقطة، تكون شخصية كافكا بارزة. طوال حياته لم يطبع أياً من كتبه، وفي وصيته أمر منفذ الوصية بأن يحرق كل ما كتبه. ذهنيا، كافكا كان ينتسب إلى الماضي، ولأنه لم يكن متناغما مع زمنه فقد كابد وعانى كثيرا.
ما يحسبه الناس فناً اليوم هو في أغلب الأحوال قصة خيالية، والافتراض بأن المنهج يمكن أن يصبح معنى الفن وهدفه هو افتراض خاطئ. مع ذلك، أغلب الفنانين المعاصرين يبددون وقتهم في شرح وإثبات المنهج في انغماس ذاتي.
مسألة الطليعية برمتها هي خاصة بالقرن العشرين، بالزمن الذي فقد فيه الفن - على نحو مطرد- قيمه الروحية. والوضع أسوأ في الفنون البصرية التي هي اليوم تكاد تكون مجردة تماما من الروحانية. الرأي المسلم به هو أن هذا الوضع يعكس حالة المجتمع المناقضة للقيم الروحية. وبالطبع، على مستوى الرصد البسيط للتراجيديا، فأنني اتفق مع هذا الرأي: ذلك هو ما يعكسه، لكن الفن يجب أن يرصد وان يتخطى أيضا. إن دوره هو أن يقدم رؤية روحية تتصل بالواقع كما فعل دوستويفسكي: أول من عبر بوضوح، وعلى نحو ملهم، عن مرض العصر.
المفهوم الكلي للطليعية في الفن هو مفهوم خال من المعنى. أستطيع أن افهم ما تعنيه عند تطبيقه على الرياضة مثلا، لكن تطبيقه على الفن يعني أن نقبل ونقر فكرة التقدم في الفن. ومع أن للتقدم موضع جلي في التكنولوجيا- آلات كاملة أكثر قادرة على القيام بوظائفها على نحو أفضل وأكثر دقة- فكيف يمكن لأي شخص أن يكون أكثر تقدما في الفن؟ وهل نستطيع أن نقول أن توماس مان أفضل من شكسبير ؟ ينزع الناس إلى الحديث عن التجريب والبحث، قبل كل شيء، في ما يتعلق بالطليعية.. لكن ما الذي يعنيه ذلك ؟ كيف يمكنك أن تجرب في الفن ؟ هل تقوم بمحاولة أو تجربة ثم ترى كيف تنتهي أو كيف ستكون النتيجة ؟لكن إذا لم تنجح المحاولة فعندئذ سوف لن يكون هناك شيء لرؤيته غير المعضلة الخاصة بالشخص الذي أخفق.العمل الفني يحمل بداخله جمالية مكملة ووحدة فلسفية..إنه كائن حي، يعيش ويتطور وفقا لقوانينه الخاصة.هل يمكن الحديث عن التجريب في ما يتعلق بولادة طفل ؟ ذلك عبث وغير أخلاقي.
هل هذا لأن الذين بدأوا في الحديث عن الطليعية هم أولئك الذين يعجزون عن فصل الحنطة عن أي عنصر غير مرغوب فيه ؟ الذين تربكهم البنى الجمالية الجديدة ،أولئك التائهين الذين تعوزهم الثقة بالنفس إزاء الاكتشافات والإنجازات الحقيقية ،غير قادرين على إيجاد أي معايير خاصة بهم ،والذين يضعون ضمن المنبع الواحد للطليعية كل ما هو غير مألوف وغير مفهوم بسهولة ..-فقط لئلا يقال عنهم أنهم مخطئون ؟
إني أتفق مع بيكاسو الذي، عندما سئل عن " بحثه"، أجاب بذكاء (ويبدو واضحا أن السؤال قد أزعجه): "أنا لا أبحث، أنا أجد".
وهل يمكن أن ينطبق البحث حقا على شخص عظيم مثل ليف تولستوي ؟هذا الرجل العجوز، هل كان "يبحث" حقا؟ هذا سخف.. مع أن ذلك هو ما يقوله بعض النقاد السوفييت مشيرين إلى أنه قد ضل طريقه "ببحثه عن الله" و"مقاومته الشر وفقا لمبدأ اللاعنف".. وبالتالي فإنه لم يكن يبحث في الموضع الصحيح.
إن التأثير الذي يمارسه البحث فيما يتصل بالعمل المكتمل مماثل للعلاقة بين التجول عبر الغابة حاملا سلة وباحثا عن الفطر، وبين السلة الملأى بالفطر. السلة المليئة هي العمل الفني (المحتويات حقيقية وتامة )، بينما التجول عبر الغابة يبقى شأنا خاصا لشخص يستمتع بالمشي والهواء النقي.على هذا المستوى يصبح الخداع نية شريرة... العادة السيئة في الخلط بين الكناية والكشف، بين المجاز والبرهان، بين فيض من الكلمات والمعرفة الجوهرية، بين الذات والنبوغ.. ذلك هو الشر الذي يكون معنا حين نولد ...هكذا يلاحظ فاليري، مرة أخرى ، وعلى نحو تهكمي، في "مدخل إلى نظام ليوناردو دافنشي .
في السينما، "البحث" و"التجريب" يكشف عن صعوبات وعوائق أكثر. إنهم يعطونك بعض العلب من الفيلم الخام، ومعدات، وعليك أن تعطي الشيء شكلا ثابتا وأن تضع في الفيلم ما يهمك وما تريد أن تقوله، والذي من اجله صورت الفيلم. إن فكرة وهدف الفيلم ينبغي أن يكون واضحا للمخرج من البداية.. بصرف النظر عن حقيقة أن أحدا سوف لن يدفع له مالاً من اجل أن يقوم بتجارب مبهمة. أي شيء يحدث، لا يهم إلى أي مدى يبحث الفنان - وهذا يبقى شانا خاصا، شخصيا على نحو خالص- من اللحظة التي يتم فيها تثبيت تلك البحوثات على الفيلم(إعادة تصوير اللقطات أو المشاهد بعد إنجاز الفيلم هي نادرة الحدوث، حتى إذا توفر فيها خلل أو عيوب) أي من اللحظة التي تصبح الفكرة مدركة بالحواس، على المرء أن يفترض بان الفنان قد وجد في ذلك الحين الشيء الذي يريده، ويريد أن يخبر الجمهور عنه عبر السينما، والفنان هنا لا يعود يهيم في الظلام.
في الفصل التالي سوف ننظر بالتفصيل إلى الأشكال التي فيها تصبح الفكرة متجسدة في فيلم ما. الآن أريد أن أقول بضع كلمات عن السرعة التي بها الأفلام تصبح متخلفة عن العصر، الظاهرة التي ينظر إليها كواحدة من خاصياتها الأساسية، وفي الواقع لها علاقة بالهدف الأخلاقي للفيلم.
سيكون من السخف التحدث، على سبيل المثال، عن "الكوميديا الإلهية" بوصفها متخلفة عن العصر. مع ذلك فإن الأفلام التي كانت تبدو قبل سنوات قليلة أحداثا هامة انتهت إلى أن تكون، على نحو غير متوقع، مجرد محاولات ضعيفة، غير فعالة، غير بارعة. لم ذلك؟ السبب الأساسي كما أراه هو أن عمل صانع الفيلم عادة ليس فعلا إبداعيا بالنسبة له شخصيا، ليس مشروعا متطلبا أخلاقيا، وذا أهمية حيوية له. العمل يصبح متخلفا نتيجة الجهد الواعي الذي يبذله خالقه لأن يكون معبرا ومعاصرا. ان مثل هذه الأشياء لا ينبغي إحرازها، بل لابد أن تكون موجودة في الفنان.
في تلك الفنون التي يقدّر وجودها بعشرات القرون، الفنان يرى نفسه على نحو طبيعي وبلا ارتياب، بوصفه أكثر من مجرد راو أو مفسر: قبل كل شيء، هو فرد قرر أن يصوغ للآخرين، بصدق تام، الحقيقة من منظوره الخاص بشأن العالم.. صانعو الأفلام، من جهة أخرى، لديهم إحساس قوي بأنهم فنانون من الدرجة الثانية، وهذا هو سبب تحطم آمالهم ومعنوياتهم. في الواقع أستطيع أن افهم السبب. السينما لا تزال تبحث عن لغتها، وهي الآن فقط بدأت تقترب من إمكانية الإمساك بهذه اللغة. إن تقدم السينما نحو الوعي بالذات كان دائما يتعثر بواسطة الوضع الملتبس للسينما وتأرجحها بين الفن والصناعة: الخطيئة الأصلية لنشوئها في السوق.
إن مسألة ما يؤلف لغة السينما هي ليست بسيطة، كما إنها ليست واضحة حتى بالنسبة للمحترفين. في كل مرة نتحدث عن لغة السينما، الحديثة أو غيرها، ننزع إلى إحلال مجموعة من المناهج أو الطرائق الدارجة اليوم، والمستعارة من الفنون المجاورة. نحن بالتالي نقع أسرى الافتراضات الزائلة و التصادفية التي تخترعها اللحظة أو المرحلة الراهنة. انه يصبح ممكنا القول، على سبيل المثال، بان" الفلاش باك، اليوم، هو ذروة السينما أو كلمة السينما الأخيرة " ثم نأتي في الغد لنعلن بكل جرأة ووقاحة أن " أي تشويش للزمن في السينما مكتوب عليه الفشل، وان النزوع اليوم هو نحو التنامي الكلاسيكي للحبكة".
يقينا ليس هناك منهج قادر بذاته أن يكون متخلفا أو ملائما لروح الزمن. الشيء الأول الذي ينبغي تأسيسه لابد أن يكون ما يعنيه مبدع الفيلم، عندئذ فقط نتساءل لماذا هو استخدم هذا الشكل أو ذاك. بالطبع نحن لا نناقش التبني بالجملة لمناهج مبتذلة.. ذلك يحدث نتيجة المحاكاة والحرفية الآلية، بالتالي هذا لا يعد مشكلة فنية. مناهج الفيلم تتغير مثل مناهج أي شكل فني آخر. وقد ذكرت سابقا كيف هرب أول جمهور سينمائي من الصالة في ذعر لدى رؤيتهم القطار وهو يندفع نحوهم قادما من الشاشة، و كيف صاحوا في رعب حين ظنوا أن اللقطة القريبة كانت تُظهر رأسا مقطوعا. اليوم، هذه الطرائق بذاتها لا تثير أي انفعال عند أي شخص. ونحن نستخدم كنقاط أو فواصل، مسلم بها عموما، ما كان بالأمس يرى كاكتشاف صادم.. ولم يخطر في بال أي شخص أن يزعم بأن اللقطة القريبة هي اكتشاف قديم ومتخلف.
قبل انتقالها و تداولها ضمن الاستخدام العام و السائد، فإن مكتشفات المناهج و الوسائل لابد و أن تحدث بوصفها الطريقة الطبيعية و الوحيدة للفنان، مستخدما لغته الخاصة، لتوصيل إدراكه الخاص للعالم. الفنان لا يبحث أبدا عن المناهج في حد ذاتها إكراما لعلم الجمال. انه مجبر، على نحو موجع، على ابتكارها كوسيلة للإفصاح بإخلاص و أمانة عن رؤيته للواقع.
المهندس يخترع الآلات، ترشده حاجات الناس اليومية. انه يريد أن يجعل العمل، و بالتالي الحياة، أكثر يسراً وراحة لهم. مع ذلك، ليس بالخبز وحده... الفنان يوسع و يمدد مجاله في سبيل أن يعزز الاتصال، أن يساعد الناس على فهم بعضهم البعض على ارفع مستوى فكري و عاطفي وسيكولوجي و فلسفي. بالتالي فإن جهود الفنان، أيضا، موجهة نحو جعل الحياة أفضل، أكثر كمالا، و أكثر يسرا للناس من اجل فهم بعضهم البعض.
هذا لا يعني أن الفنان هو بالضرورة بسيط وواضح في تفسيره لنفسه أو لأفكاره بشأن الحياة، فهذا يمكن أن يكون صعب الفهم حقا. لكن الاتصال دائما يقتضي جهدا وبدونه، بدون الالتزام العميق، ليس ممكنا لشخص ما أن يفهم الآخر.
وهكذا فإن اكتشاف منهج ما يصبح اكتشافا لشخص اكتسب هبة الكلام.وعند ذلك الموضع، ربما بإمكاننا أن نتحدث عن ولادة صورة ما، أي عن إلهام. وتلك الوسائل التي كانت بالأمس فقط مبتكرة لتوصيل حقيقة تم إحرازها عبر الألم والكدح، وفي الغد سوف تصبح نمطا موثوقا إلى حد بعيد.
لو أن شخصا حرفيا ماهرا إستخدم وسيلة حديثة متطورة جدا للتحدث عن موضوع لا يمسه ولا يحرك مشاعره هو شخصيا، فإنه يستطيع لبعض الوقت أن يستحوذ على جمهوره أو يخدعه، لكن سرعان ما يتضح أن فيلمه لا يملك تلك الأهمية والقيمة الدائمة.عاجلا أو آجلا سوف يفضح الزمن، بلا هوادة، خواء أي عمل لا يعبر عن رؤية شخصية وفريدة للعالم. الخلق الفني ليس مجرد وسيلة لصياغة معلومات توجد على نحو موضوعي وتتطلب فحسب بضع مهارات حرفية.
في النهاية، العمل الفني هو الشكل الفعلي لوجود الفنان، وسيلته الوحيدة للتعبير، التي تنتسب إليه وحده.
****
" لنعّبر عن ذلك على هذا النحو: الظاهرة الروحية
– أي ذات الشأن والدلالة- هي هامة لأنها تحديدا تتخطى
حدودها الخاصة، وتفيد كتعبير ورمز لشئ أرحب روحياً
وأشمل كونياً.. عالم كامل من المشاعر و الأفكار متجسدة
بداخله في سعادة أكبر أو أقل.. ذلك هو حجم دلالته"
(توماس مان- الجبل السحري)
من الصعب تخيل أن مفهوماً مثل "الصورة السينمائية" يمكن التعبير عنه، في أي وقت، بفرضية محددة ودقيقة، وفي صياغة سهلة وقابلة للفهم. هذا ليس ممكناً، ولا يتمنى المرء أن يكون الأمر كذلك. فقط أستطيع أن أقول بأن الصورة تتمدد نحو اللاتناهي، وتقود إلى المطلق. وحتى ما هو معروف بوصفه "فكرة" الصورة، المتعددة الأبعاد و المعاني، لا يمكن – في الجوهر الفعلي للأشياء- ترجمتها أو التعبير عنها في كلمات. لكنها تجد التعبير في الفن. حين تكون الفكرة متجسدة في صورة فنية، فإن ذلك يعني العثور على شكل دقيق لها.. الشكل الذي يصبح هو الأقرب لتوصيل عالم المبدع، لتجسيد توقه إلى المثال.
ما أريد أن أحاوله هنا هو أن أحدد مقاييس نظامٍ ممكن لما يسمى – على وجه التعميم- صوراً، نظام معه أستطيع أن أشعر بأني حر وعفوي.
إذا أنت ألقيت نظرة سريعة، خاطفة، على الماضي، على الحياة التي تمتد وراءك، حتى دون أن تتذكر لحظاتها الأكثر إشراقا وحيوية، فسوف تلفت نظرك – في كل مرة- تلك الخصوصية في الأحداث التي شاركت فيها، والفردانية الاستثنائية للشخصيات التي التقيت بها. هذه الخصوصية أشبه بالسمة الغالبة لكل لحظة من لحظات الوجود.
في كل لحظة من لحظات الحياة يكون مبدأ الحياة نفسه فريدا واستثنائياً. بالتالي فان الفنان يحاول أن يدرك ذلك المبدأ ويجعله يتحقق، يجعله جديدا في كل مرة.. وكل مرة هو يرجو، ولو عبثاً، أن يحرز صورة شاملة لحقيقة الوجود الإنساني. إن خاصية الجمال تكمن في حقيقة الحياة التي استوعبها وتمثلها و أفصح عنها الفنان بطريقة جديدة، وفي إخلاص وانسجام مع رؤيته الشخصية.
أي شخص حاذق سوف يميز، في سلوك الأفراد، بين الصدق والتلفيق، الإخلاص و التظاهر، الاستقامة و التصنع. من تجربة الحياة ينشأ نوع من الفلتر في الإدراك الحسي لمنعنا من الاعتماد على ظواهر فيها يتحطم النمط البنائي، سواء على نحو مقصود أو غير مقصود، من خلال عدم الكفاءة أو البراعة.
ثمة أفراد غير قادرين على الكذب. آخرون يكذبون مع كل شهقة وعلى نحو مقنع. آخرون لا يعرفون كيف يكذبون لكنهم غير قادرين على عدم الكذب، ويفعلون ذلك على نحو رتيب ويائس. ضمن نطاق صلاحيتنا – أي الرصد الدقيق لمنطق الحياة- فقط الفئة الثانية تكشف نبض الصدق وبوسعها تتبع الانعطافات المزاجية للحياة بدقة هندسية تقريباً.
الصورة مراوغة وغير قابلة للانقسام، وهي تعتمد على وعينا وعلى العالم الحقيقي الذي تسعى إلى تجسيده. إذا العالم غامض فان الصورة ستكون كذلك. انه نوع من التوازن الذي يعبر عن التعالق بين الصدق والإدراك الإنساني. نحن لا نستطيع أن نفهم كلية الكون لكن الصورة الشعرية قادرة على التعبير عن تلك الكلية.
الصورة هي انطباع عن الصدق، وميض من الصدق متاح لنا في حالة العمى التي نعيشها، الصورة المجسدة سوف تكون أمينة حين تكون مفاصلها، على نحو واضح وملموس، تعبيراً عن الصدق، وحين يجعلونها فريدة واستثنائية كما هي الحياة نفسها، حتى في تجلياتها الأكثر بساطة.
الصورة، بوصفها رصداُ دقيقاً للحياة، تعيدنا مباشرة إلى الشعر الياباني، إن ما يأسرني هنا هو رفض حتى التلميح إلى معنى الصورة النهائي والذي يمكن فك مغالقه شيئا فشيئاً مثل تمثيلية تحزيرية. إن قصيدة الهايكو تصقل صورها، وتتعهدها بعناية، بطريقة تجعلها لا تعني شيئاً وراء نطاق نفسها، و في الوقت ذاته تعبر عن الكثير إلى حد انه ليس ممكناً الإمساك بمعناها النهائي. وكلما كانت الصورة منسجمة إلى حد بعيد مع وظيفتها، صار من المستحيل القبض عليها ضمن صيغة فكرية واضحة. لذا يتعين على قارئ شعر الهايكو أن يكون مستغرقاً في القصيدة مثل استغراقه في الطبيعة، أن يغوص ويفقد نفسه في لجها مثلما يفعل في الكون حيث لا قاع هناك ولا سقف.
تأمل قصائد الهايكو هذه التي كتبها (باشو):
البركة العتيقة كانت ساكنة
الضفدعة وثبت في المياه
صوت الرشاش كان مسموعاً
***
قطعوا القصب كي يسقفوا البيت
الأجذال الباقية تنتصب الآن منسية
مرقشة بثلج رقيق.
***
لم هذا السبات؟
انهم بالكاد ينجحون في إيقاظي
المطر الربيعي يجري خفيفاً.
كم هي الحياة هنا مرصودة بوضوح وبساطة ودقة!! يا له من ذهن منضبط، وخيال فخم ونبيل. الأبيات جميلة لأن اللحظة – المنتقاة و المتبلورة- هي فريدة، وتقع في اللاتناهي.
الشعراء اليابانيون عرفوا كيف يعبرون عن رؤيتهم للواقع في ثلاثة أبيات من الرصد و الملاحظة. وهم لم يكتفوا بالرصد فحسب بل بحثوا – في هدوء بالغ و رصانة مهيبة- عن المعنى السرمدي. وكلما كان الرصد دقيقاً ومحدداً بإحكام، صار اقرب إلى أن يكون فذاً، و أن يكون بالتالي صورة. وكما قال دوستويفسكي، باستبصار رائع، "الحياة أكثر غرابة من أي قصة".
في السينما، الرصد هو المبدأ الأول للصورة، التي هي على الدوام متلازمة وغير منفصلة عن التسجيل الفوتوغرافي. الصورة السينمائية تصير مجسدة، مرئية ورباعية الأبعاد. لكن ليس كل لقطة من الفيلم تطمح إلى أن تكون صورة للعالم، إنها تظهر فحسب مظهرا محدداً. الوقائع المسجلة على نحو طبيعي هي، في ذاتها، غير وافية تماماً لخلق الصورة السينمائية. الصورة في السينما مبنية على قدرة المرء على إبداء إدراكه الخاص تجاه شئ ما.
لنضرب مثالا من الأدب: نهاية قصة تولستوي "موت إيفان ايليتش" تتحدث عن كيف أن رجلاً ضيق الأفق، فظأً، قاسياً، و الذي يحتضر لإصابته بالسرطان، ولديه زوجة بغيضة وابنة تافهة، يرغب في أن يطلب منهما المغفرة قبل أن يموت. في تلك اللحظة، وعلى نحو غير متوقع تماماً، هو يكون ممتلئاً بإحساس بالغ بالطيبة والخير إلى حد أن عائلته، المستغرقة كليا في شؤونها الذاتية، المهتمة فقط بالملابس و الحفلات الراقصة، والتي تفتقر إلى الحساسية و التفكير السليم، فجأة تبدو له تعيسة للغاية و تستحق كل الشفقة و الرأفة. عندئذ، في لحظة الموت، يشعر بأنه يزحف ببطء في ماسورة مظلمة ورخوة وطويلة.. وفي نقطة نائية يبدو هناك بصيص من الضوء، و هو يواصل الزحف لكنه لا يقدر أن يبلغ النهاية، لا يستطيع أن يقهر ذلك الحاجز الأخير الذي يفصل الحياة عن الموت. زوجته وابنته تقفان على مقربة من سريره، وهو يريد أن يقول " اصفحا عني" (بالروسية: Prosteete )، لكن عوضاً عن ذلك، و في اللحظة الأخيرة، يقول: "دعوني أمر" (بالروسية: Propoosteete ).
تلك الصورة، التي تهز كينونتنا حتى الأعماق، لا يمكن تأويلها من ناحية واحدة فقط. إن تداعياتها تمتد بعيداً نحو مشاعرنا الأعمق، الأكثر إيغالا، وتذكرنا ببعض الذكريات الغامضة والتجارب المغمورة الخاصة بنا، وتدهشنا وتحرك أرواحنا مثل وحي. إنها تشبه الحياة، مثل حقيقة كنا نحزرها، إلى حد أنها يمكن أن تجاري حالات سبق أن عرفناها أو تخيلناها سراً. إلى أي مدى يصبح هذا الشئ عميقاً ومتعدد الأبعاد فذلك يتوقف على روح وعقل القارئ.
لننظر إلى اللوحة التي رسمها ليوناردو بعنوان " امرأة شابة وشجرة العرعر"، التي استخدمناها في فيلم "المرآة" لمشهد اللقاء القصير بين الأب وأبنائه حين يعود إلى البيت في فترة الإجازة.
ثمة شيئان ملفتان للنظر بشأن هذه اللوحة.. أحدهما، قدرة الفنان المذهلة على استنطاق الشئ من الخارج، ناظرا من فوق العالم: سمة يتميز بها فنانون مثل باخ وتولستوي. والآخر، هو حقيقة أن اللوحة تؤثر فينا وتحرك مشاعرنا، على نحو متزامن، في حالتين متعارضتين، انه ليس ممكناً التأكد من الانطباع أو التأثير الذي تمارسه اللوحة علينا في النهاية.. حتى أنه ليس ممكناً القول، على نحو محدد ويقيني، ما إذا كنا نميل إلى المرأة أم لا، ما إذا هي مغرية أم بغيضة. ذلك لأنها جذابة ومنفرة في آن. ثمة شئ جميل -على نحو لا يمكن وصفه- يتصل بها، وفي الوقت نفسه هو منفر وشيطاني.. شيطاني ليس أبدا بالمعنى الرومانسي، للكلمة، بل بالأحرى.. وراء نطاق الخير والشر. الفتنة بسمة سلبية. إنها تحتوي على شئ من التفسخ وشئ من الجمال. في فيلم "المرآة" كنا نحتاج إلى اللوحة من أجل إيلاج عنصر سرمدي في اللحظات التي تلي كل منها الأخرى أمام أعيننا، وفي الوقت ذاته لوضع اللوحة في تجاور مع البطلة بحيث نؤكد في الشخصية وفي الممثلة، مرجريتا تيريكوفا، تلك الخاصية.. القدرة ذاتها على الإفتان و التنفير في آن.
إذا حاولت أن تحلل لوحة ليوناردو، بحيث تفرز البورتريه إلى مكوناته أو عناصره الأساسية، فسوف تخفق حتما. وعلى أية حال، فإنها سوف لن تفسر شيئاً، نظرا لأن التأثير العاطفي الذي تمارسه علينا المرأة في اللوحة هو قوي وفعال لأنه يتعذر أن تعثر فيها على أي شئ نستطيع تفضيله على نحو محدد، و أن تميز أي جزء عن الكل، و أن تفضل أي انطباع خاطف على آخر وجعله خاصاُ بنا، وأن نحقق توازناً في الطريقة التي بها نحن ننظر إلى الصورة المعروضة علينا. وهكذا سوف تنفتح أمامنا إمكانية التفاعل مع اللاتناهي، ذلك لأن الوظيفة الرفيعة للصورة الفنية هي أن تكون نوعاً من الكاشف اللامتناهي .. الذي نحوه تمضي أسبابنا ومشاعرنا محلقة، وعلى عجل مثير ومبهج.
مثل هذا الشعور يوقظه كمال الصورة: إنها تؤثر فينا، تحرك مشاعرنا، عن طريق هذه الحقيقة عينها، أي تعذر تقطيع أوصالها. في حالة العزل، كل جزء مكون سيكون ميتاً – أو ربما على العكس، عند تفكيك عناصرها البالغة الصغر سوف تعرض الصفات المميزة نفسها كما العمل المنجز، المكتمل. وهذه الصفات، أو الخصائص، ينتجها تفاعل المبادئ المتعارضة، التي معناها، كما في الأواني المستطرقة، يتدفق من آنية إلى أخرى: وجه المرأة الذي رسمه ليوناردو مفعم بالحيوية، ومتحرك بواسطة فكرة مكثفة، وفي الوقت نفسه قد يبدو غادراً وعرضة لأهواء دنيئة. انه ممكن بالنسبة لنا أن نرى أي عدد من الأشياء في اللوحة، وفيما نحن نحاول الإمساك بجوهرها، سوف نهيم عبر متاهات لانهاية لها ولن نجد أبداً المخرج. إننا سوف نستمد متعة عميقة من الإدراك بأننا لا نستطيع استنزافها، أو نرى إلى نهايتها. الصورة الفنية الحقيقية تمنح الناظر تجربة متزامنة من المشاعر الأكثر تعقيداً وتناقضاً.
ليس ممكنا اسر اللحظة التي عندها يمضي الايجابي نحو نقيضه، أوحين يشرع السلبي في التحرك نحو الايجابي. اللامتناهي هو وثيق الصلة، متأصل في بنية الصورة ذاتها. لكن في التطبيق، وعلى نحو ثابت، يفضل المرء شيئاً على آخر. إنه ينتقي، يلتمس ما يتوافق مع هواه، يضع العمل الفني في سياق تجربته الذاتية. وبما أن كل شخص لديه ميولاً وأهدافاً معينة في كل ما يفعله، ويؤكد حقيقته الخاصة في الأمور الكبيرة كما في الصغيرة، فيما هو يكيف الفن وفق حاجاته اليومية، فانه سوف يؤول الصورة الفنية بحسب "مصلحته أو فائدته" الخاصة. انه يضع العمل في سياق حياته ويسيجه بالحكم أو الأمثال التي يؤمن بها.. ذلك لأن التحف الفنية متناقضة وتبيح نفسها لتأويلات مختلفة جداً.
إني دوما اشعر بالغثيان عندما يقوم فنان ما بدعم نظامه الخاص بالصور عبر التزامه بأيديولوجيا معينة أو بالتحيز المقصود.أنا ضد أن يسمح الفنان لطرائقه أو مناهجه بأن تكون قابلة لأن تُرى أو تُدرك. وشخصياً، شعرت بالندم لأنني سمحت لبعض اللقطات أن تبقى في أفلامي، إذ تبدو لي الآن كالبرهان على تنازل معين قدمته ووجد طريقه في أفلامي. لو كان الأمر ممكناً الآن لحذفت، بسعادة بالغة، من فيلم "المرآة" ذلك المشهد الذي يجمع بين الأم والديك، رغم أن المشهد مارس تأثيراً عميقاً على العديد من المتفرجين.. لكن ذلك لأنني كنت أقايض الجمهور بأن أعطيهم شيئاً مقابل شئ.
عندما يتعين على البطلة المتعبة، وهي على شفا الإغماء، أن تقرر ما إذا عليها أن تقطع رأس الديك الصغير أو لا تفعل، فقد صورناها في لقطة قريبة، وفي سرعة عالية جداً، وبإضاءة غير طبيعية على نحو جلي. بما أن اللقطة، على الشاشة، تظهر في حركة بطيئة، فإنها تعطي الانطباع بتمدد البنية أو الإطار الزمني. أردنا أن نغمر المتفرج في حالة البطلة، فارضين نوعاً من الكبح على تلك اللحظة، مسلطين ضوءاُ قوياً عليها... وهذا أمر سيئ وزائف، لأن اللقطة تبدأ في امتلاك أو تضمن معنى أدبياً محضاً. إننا هنا نشوه وجه الممثلة على نحو مستقل عنها، إذا جاز التعبيير. كنا نؤدي الدور نيابة عنها، نؤدي الانفعال الذي نريده، نعصره بواسطة وسيلتنا الخاصة.. وسيلة المخرج. إن حالتها، بالتالي، تصبح واضحة أكثر مما ينبغي، مقروءة بسهولة تامة. وفي تأويل حالة الشخصية الذهنية، لابد على الدوام من ترك شئ ما في العتمة.. غامضاً وسرياً.
سنورد هنا مثالاً أكثر نجاحاً لمنهج مماثل من فيلم "المرآة" أيضاً: كادرات قليلة من المشهد الذي يدور في المطبعة مصورة أيضاً بالحركة البطيئة، لكن في هذه الحالة هي - أي الحركة- بالكاد يمكن ملاحظتها أو إدراكها. لقد اخترنا أن نفعل ذلك برهافة شديدة وبعناية فائقة بحيث أن الجمهور سوف لن يعي ذلك على نحو مباشر أو فوري، بل سوف ينتابه إحساس غامض بشئ غريب حدث أمامه فجأة. هنا نحن لم نكن نحاول أن نؤكد فكرة معينة باستخدام الحركة البطيئة بل أن نظهر حالة ذهنية من خلال وسيلة أخرى غير التمثيل.
في فيلم كوروساوا " عرش الدم" المأخوذ عن ماكبث نجد مثالاً خالصاً. في المشهد الذي يظهر ضياع ماكبث في الغابة، مخرج أقل شأنا سوف يجعل الممثلين يتعثرون ويمشون باضطراب في الضباب، مرتطمين بالأشجار، بحثاً عن الاتجاه الصحيح. لكن ما الذي يفعله العبقري كوروساوا؟
انه يجد موضعاً فيه شجرة مميزة، بارزة، ويجعل الفرسان يدورون في حلقة، ثلاث مرات، بحيث أن منظر الشجرة ذاتها يوضح لنا في آخر الأمر أنهم يستمرون في الدوران حول الموضع نفسه دون أن يتمكنوا من تجاوزه. والفرسان أنفسهم لا يدركون بأنهم ضلوا طريقهم منذ وقت طويل.
في معالجته لمفهوم المكان، كوروساوا هنا يظهر التعامل الشعري الأكثر حذقاً وبراعة، معبراً عن نفسه بدون أدنى تلميح إلى طريقة مميزة في الأسلوب أو إلى التكلف و الادعاء.. إذ ما الذي يمكن أن يكون أكثر بساطة من وضع الكاميرا في موقع معين ومتابعة الشخصيات وهي تدور ثلاث مرات؟
خلاصة القول، أن الصور ليست ذات معنى محدد، يعبّر عنه المخرج، بل عالم كامل منعكس كما في قطرة ماء.
ليست هناك معضلات تقنية للتعبير في السينما ما إن تعرف بالضبط ما الذي تريد قوله، و إذا كنت ترى كل خلية من فيلمك من الداخل، وتستطيع أن تشعر بها على نحو صحيح ودقيق. على سبيل المثال، في فيلم " "المرآة" وتحديدا في مشهد اللقاء مصادفة بين البطلة والرجل الغريب (الذي يؤدي دوره أنا تولي سولونينسين) كان مهما، بعد مغادرة الرجل، إظهار خيط ما لربط هذين الشخصين اللذين يبدو إنهما التقيا مصادفة. لو انه التفت فيما هو يسير مبتعدا، و ألقى نظرة سريعة خلفه، موجهاً نحوها نظرة معبرة، فسوف يبدو ذلك زائفا ومضللاً. عندئذ فكرنا في هبوب مفاجئ للريح في الحقل.. هذا الهبوب الذي يلفت انتباه الغريب لأنه غير متوقع تماما: لهذا السبب هو يلتفت. في هذه الحالة ليس هناك مجال، إن جاز التعبير، " لإدراك مبدع العمل في لعبته الخاصة".
حين يكون الجمهور غير مدرك للأسباب التي جعلت المخرج يستخدم منهجا أو طريقة معينة، فانه ينزع إلى تصديق واقع ما يحدث على الشاشة، ويؤمن بالحياة التي يرصدها الفنان. لكن عندما يدرك الجمهور مقصد المخرج وتقنيته، عارفا بدقة لماذا كان المخرج يقوم بحيلة" تعبيرية" معينة، فان هذا الجمهور سوف لن يعود يتعاطف مع ما يحدث، وما يراه سوف لن يستحوذ على مشاعره، وقد يبدأ في محاكمة غاية المشهد وطريقة إنجازه. وظيفة الصورة، كما قال جوجول، هي أن تعبر عن الحياة نفسها، وليس الأفكار أو البراهين بشأن الحياة. الصورة لا تدل على الحياة أو ترمز إليها، إنما تجسدها، تظهر فرادتها. إذن ما هو الأساسي بالنسبة للنموذج، وكيف يرتبط به ما هو أصيل وفريد في الفن؟ المفارقة هنا أن العنصر الفريد في الصورة الفنية يصبح نموذجيا على نحو خفي وغامض، ذلك لأن النموذجي ينتهي به الأمر لأن يكون في تعالق مباشر مع ماهو فردي، خصوصي، بخلاف أي شي آخر.
يتعين على المرء أن يتذكر فقط بان الصورة الفنية يجب ألا تثير أي تداعيات غير تلك التي تعبّر عن الصدق. (هنا نحن نتحدث عن الفنان الذي يبدع الصورة أكثر من الجمهور الذي يراها). وفيما الفنان يشرع في العمل، يتعين عليه أن يؤمن بأنه الشخص الأول الذي يعطي شكلا لظاهرة معينة.
الصورة الفنية هي فذة واستثنائية، بينما ظواهر الحياة قد تكون عادية ومبتذلة تماما. ومرة أخرى نعود إلى الهايكو:
لا، ليس إلى بيتي.
تلك المظلة الوحيدة المهرولة
ذهبت إلى بيت جاري.
بذاته وبمعزل عن الأشياء الأخرى، عابر السبيل الذي يحمل مظلة، والذي ربما رأيته أو صادفته ذات مرة في حياتك، هو لا يعني شيئا جديدا. إنه مجرد واحد من الناس يعدو بخطى سريعة تحت المطر ويقي نفسه من البلل. لكن ضمن شروط أو حدود الصورة الفنية التي كنا نتأملها، فإن لحظة من الحياة، لحظة واحدة وفريدة بالنسبة للمبدع، هي مسجلة في شكل مثالي وبسيط. الأبيات الثلاثة كافية لجعلنا نشعر بحالته النفسية: عزلته، الطقس الماطر الكئيب خارج النافذة، الترقب اللا مجدي لمجيء شخص ما – والذي بفضل معجزة ما – قد يعرج على منزله المنعزل، الذي هجره الله. الحالة المسجلة بدقة تحرز تعبيرا ممتدا على نحو واسع، ورحيبا على نحو مدهش.
في بداية هذه الملاحظات نحن تجاهلنا عن عمد ما يعرف بصورة الشخصية. وفي هذا الموضع قد يكون من المفيد تضمين شيء عن هذا. لنأخذ شخصية باشماشكين (12) و أونيجين. كنماذج أدبية هي من جهة تجسد قوانين اجتماعية معينة، والتي هي شرط مسبق لوجودها. ومن جهة أخرى، هي تمتلك سمات إنسانية كونية.
الشخصية في الأدب قد تصبح نموذجية إذا كانت تعكس أنماطا راهنة تشكلت نتيجة لقوانين التطور العامة. ونظراً لكون باشماشكين وأونيجين نماذج، فقد كان لهما الكثير من النظائر في الحياة الواقعية. لكن بوصفهما صوراً فنية، فإنهما، برغم ذلك، وحيدان وفريدان تماما. وهما متماسكان أيضا، وضخمان من وجهة نظر خالقيهما، ويحملان وجهة نظر مؤلفيهما على نحو كامل، وذلك لكي نقدر أن نقول:" نعم، أونيجين، إنه يشبه جاري تماما". إن عدمية راسكولنيكوف، ضمن شروط تاريخية واجتماعية، هي بالطبع نموذجية، لكن في شروط شخصية وخاصة فإن راسكولنيكوف يقف وحيدا. هاملت هو بلا شك نموذج أيضا، لكن أين -في شروط عادية- سبق وأن رأيت هاملت ؟
نحن إزاء مفارقة:الصورة تدل على التعبير الممكن، الكامل، لما هو نموذجي.. وكلما تعبّر عنه على نحو أكثر اكتمالا، يصبح النموذجي أكثر فردانية، أكثر أصالة. إنها شيء رائع واستثنائي، هذه الصورة . ومن بعض النواحي، هي أكثر غنى من الحياة نفسها. . ربما لأنها تعبر بدقة عن فكرة الحقيقة المطلقة.
هل يعني ليوناردو أو باخ أي شيء ضمن شروط مهنية ؟لا. . إنهما لا يعنيان شيئا على الإطلاق وراء نطاق المعنى الخاص بهما. إنهما ينظران إلى العالم كما لو للمرة الأولى. . بلا أي تجربة ترهق كاهلهما. إنهما ينظران إلى العالم بحرية واستقلالية أفراد وصلوا منذ لحظات فقط.
كل عمل إبداعي يجاهد من أجل البساطة، من أجل تعبير بسيط على نحو خالص، وهذا يعني بلوغ الأعماق الأبعد لإعادة خلق الحياة. لكن هذا هو الجزء الأكثر إيلاما في العمل الإبداعي:العثور على الطريق الأقصر بين ما تريد أن تقوله أو تعبر عنه وإعادة الإنتاج النهائي له في الصورة المنجزة. الصراع من أجل البساطة هو البحث الموجع عن شكل ملائم للصدق الذي أمسكت به. إنك تتوق إلى أن تكون قادرا على إحراز أشياء عظيمة في حين تقتصد في الوسائل.
النضال لبلوغ الكمال يؤدي بالفنان إلى القيام باكتشافات روحية، إلى بذل الجهد المعنوي الأكبر. الطموح إلى المطلق هو القوة المحركة في تطور الجنس البشري. وبالنسبة لي، فإن فكرة الواقعية في الفن مرتبطة بتلك القوة. الفن يكون واقعيا حين يجاهد ليعبّر عن المثال الأخلاقي. الواقعية تناضل من أجل الحقيقة، والحقيقة جميلة دائما. . الجمالي هنا يتزامن مع الأخلاقي.
بالانتقال الآن إلى الصورة السينمائية في حد ذاتها، أريد في الحال أن أبدد الفكرة المسلم بها على نحو واسع والتي تقول بأن الصورة "مركبة" جوهريا. هذا المفهوم يبدو لي خاطئا لأنه يدل ضمنا على أن السينما مؤسسة على خاصيات تابعة لأشكال فنية شقيقة، ولا تملك على الإطلاق شيئا خاصا بها، وهذا يعني إنكار حقيقة أن السينما فن.
العامل الغالب، الفعال تماما، للصورة السينمائية هو الإيقاع، الذي يعبر عن جريان الزمن ضمن الكادر. الانتقال الفعلي للزمن يتجلى أيضا في سلوك الشخصيات، في المعالجة البصرية، وفي الصوت. . لكن هذه كلها مقومات مصاحبة والتي غيابها، نظريا، سوف لن يؤثر بأية حال في كينونة الفيلم. المرء لا يستطيع أن يتخيل عملا سينمائيا بدون أي إحساس بمرور الزمن من خلال اللقطة، لكن المرء يستطيع بسهولة أن يتخيل فيلما بدون ممثلين أو موسيقى أو ديكور أو حتى مونتاج. فيلم الأخوين لوميير "وصول القطار"، الذي أشرنا إليه سابقا، كان كذلك. أيضا فيلم أو فيلمان من حركة" الاندرجراوند" الأمريكية: أحدهما يظهر رجلا نائما، بعد ذلك يصحو.. والسينما، عن طريق قوتها السحرية الخاصة، تمنح تلك اللحظة تأثيراً جماليا فاتنا وغير متوقع.
أو فيلم الفرنسي باسكال اوبير الذي تستغرق مدته عشر دقائق ويتألف من لقطة واحدة فقط. في البداية، يعرض الفيلم حياة الطبيعة المهيبة، غير الصاخبة، اللامبالية تجاه الأهواء البشرية والأنشطة الصاخبة. بعد ذلك تتحرك الكاميرا، الموجهة بمهارة وبراعة فنان، لتصور نقطة صغيرة جدا: شخص راقد، لكن بالكاد يُرى، على ارض معشوشبة، عند سفح هضبة. الذروة الدرامية تلي مباشرة، فمرور الزمن يبدو متسارعا، يحثه فضولنا: انه كما لو ننسل بحذر صوب الشخص برفقة الكاميرا. وفيما نقترب، ندرك بان الرجل ميت. وفي اللحظة التالية نحصل على معلومة إضافية: انه ليس ميتا فحسب، بل كان مقتولا.. متمرد مات متأثراً بجراحه، وهو الآن مرئي في خلفية طبيعة لا مبالية. إن ذكرياتنا ترمينا بقوة نحو أحداث تهز عالم اليوم.
سوف تتذكر بان الفيلم لا يحتوي على تمثيل أو ديكور أو مونتاج، لكن إيقاع حركة الزمن حاضر هناك ضمن الكادر، بوصفه القوة المنظمة الوحيدة للتنامي الدرامي.. المركّب تماما.
لا يوجد عنصر أو مكوّن واحد من الفيلم يمكن أن يتضمن أي معنى في عزلته عن المكونات الأخرى. . الفيلم كله هو الذي يشكل العمل الفني. ونحن نستطيع فحسب أن نتحدث عن مكوناته على نحو اعتباطي إلى حد ما، مقسمينها على نحو متكلف من أجل مناقشتها نظريا.
أيضا لا أستطيع أن أقبل بفكرة أن المونتاج هو العنصر المكون الأساسي للفيلم، كما أكد –في سنوات العشرينات –أنصار سينما المونتاج، أتباع كوليشوف وايزنشتاين. . كما لو أن الفيلم يتحقق على طاولة المونتاج.
غالبا ما يشيرون، وهذا صحيح تماما، إلى أن كل شكل فني يتضمن المونتاج، بمعنى الانتقاء والموازنة، تعديل أو ضبط الأجزاء والقطع. الصورة السينمائية تنشأ أثناء التصوير، وتوجد ضمن الكادر، أثناء التصوير، ولذلك أنا أركز على سير الزمن في الكادر من أجل إعادة إنتاجه وتسجيله. المونتاج يجلب معا لقطات هي مليئة بالزمن قبل ذلك الحين، وينظم البناء الحي الموحد، المتأصل في الفيلم. . والزمن الذي ينبض عبر شرايين الفيلم، والذي يجعله حيا ومتقدا، ذو ثقل إيقاعي متنوع.
فكرة"سينما المونتاج"، أي أن المونتاج يجلب معا مفهومين وبالتالي يولّد مفهوماً ثالثا جديدا، تبدو لي، مرة أخرى، متنافرة مع طبيعة السينما. الفن لا يمكن أبدا أن يجعل من تفاعل المفاهيم غايته الأساسية أو النهائية. الصورة مرتبطة بالملموس والمادي، مع ذلك تمتد عبر الطرق الخفية والغامضة إلى أقاليم توجد وراء الروح. .
في اختيار المخرج للمادة وتسجيلها، فإن كادرا واحدا يكفي لإثبات ما إذا كان المخرج موهوبا، وما إذا كان يمتلك رؤية سينمائية. المونتاج، في النهاية، ما هو إلا تجميع للقطات عبر تنوع مثالي، والذي يتضمن بالضرورة داخل المادة الموضوعة في قرص الفيلم. إن مونتاج الصورة على نحو صحيح و واف يعني السماح للمشاهد واللقطات المنفصلة أن تتشكل معا تلقائيا نظرا لأنها، من بعض النواحي، تولّف نفسها. إنها تتحد وفقا للمثال الجوهري الخاص بها. إنها ببساطة مسألة التسليم بهذا المثال أو النمط ومتابعته أثناء الربط و القطع. ليس من السهل دائما الإحساس بنمط العلاقات، والمفاصل بين اللقطات، خصوصا إذا صور المشهد على نحو غير صحيح. عندئذ سوف لن يتعين عليك أن تلصق الأجزاء على نحو منطقي وطبيعي على طاولة المونتاج فحسب، بل أن تنشد جاهدا المبدأ الأساسي للمفاصل. شيئا فشيئا، وعلى مهل، سوف تجد الوحدة الأساسية المتضمنة في المادة تنبثق وتصبح أكثر وضوحا. أن البناء المنظم ذاتيا يتخذ شكلا معيناً أثناء المونتاج بسبب الخاصيات المميزة الممنوحة للمادة أثناء التصوير. الطبيعة الأساسية للمادة المصورة تتجلى في أسلوب المونتاج.
بالرجوع مرة أخرى إلى تجربتي الخاصة، ينبغي أن أقول إن كماً هائلاً من العمل احتجنا في مونتاج فيلم "المرآة". كان هناك عشرون شكلا مختلفا أو أكثر . لا أعني فقط التغييرات في ترتيب لقطات معينة، بل التعديلات الرئيسية في البناء الفعلي، في سياق الأحداث. في لحظات معينة، كان الفيلم يبدو كما لو أنه يستحيل توليفه، والذي يعني بأن هفوات غير مقبولة حدثت أثناء التصوير. الفيلم لم تتماسك أجزاؤه، لم يصمد بل انهار فيما نحن نراقب. . ولم يكن يملك تلك الوحدة والانسجام، ذلك الارتباط الداخلي الضروري، ذلك المنطق. ثم، وفي يوم رائق وجميل، حين نجحنا - بطريقة ما- في القيام بعملية يائسة وأخيرة من إعادة الترتيب والتنسيق، تخلق الفيلم فجأة، وعادت المادة إلى الحياة. الأجزاء باشرت في العمل على نحو متبادل كما لو كانت متصلة بمجرى دم. وفيما تلك المحاولة اليائسة الأخيرة معروضة على الشاشة، ولد الفيلم أمام أعيننا المجردة. ولفترة طويلة لم أستطع أن أصدق المعجزة:الفيلم وقد تماسكت أجزاؤه.
كان ذلك اختبارا جديا للمدى الذي كان فيه تصويرنا جيدا. من الواضح أن الأجزاء تشكلت معا بسبب النزوع المتضمن في المادة والذي نشأ حتما أثناء تصوير الفيلم. ولأننا لم نضلل أنفسنا بشأن وجوده هناك، على الرغم من كل الصعوبات والعوائق، فلم يكن بوسع الفيلم إلا أن يتشكل، إذ أن ذلك كان متأصلا في الجوهر الفعلي للأشياء. كان عليه أن يحدث، على نحو شرعي وتلقائي، ما إن أدركنا معنى اللقطات ومصدر حياتها.
وحين يحدث ذلك، حمدا لله، تعم الفرحة ويسود الارتياح بين الجميع. الزمن نفسه، الدائر عبر اللقطات، قد اتحد واتصل من غير انقطاع. كان فيلم ”المرآة" يتضمن حوالي 200 لقطة، وهي قليلة جدا، إذ أن فيلما بهذا الطول يحتوي عادة 500 لقطة. . لكن العدد القليل كان بسبب طول اللقطات. ومع أن تجمع اللقطات هو المسؤول عن بنية الفيلم، إلا أنه - بخلاف ما هو مفترض عموما- لا يخلق إيقاع الفيلم. الزمن المميز، الممتد عبر اللقطات، يخلق إيقاع الفيلم. الإيقاع لا يقرره طول الأجزاء بعد تعرضها للمونتاج بل يحدده ضغط أو ثقل الزمن الذي ينزلق عبر هذه الأجزاء. المونتاج لا يمكن أن يقرر الإيقاع ( إنه في هذه الناحية، يمكن أن يكون مجرد مقوّم للأسلوب).
الزمن، في الواقع، يجري عبر الفيلم على الرغم من المونتاج و ليس بسببه. إن مجرى الزمن، المسجل في الكادر، هو ما يتعين على المخرج أن يأسره و يثبته في الأجزاء الموضوعة على طاولة المونتاج.
الزمن، المطبوع في الكادر، يملي مبدأ المونتاج الخاص. و الأجزاء التي تقاوم المونتاج – التي لا يمكن أن تكون متصلة أو متحدة كما ينبغي – هي تلك التي تسجل نوعا من الزمن مختلفاً جذرياً. المرء لا يستطيع، على سبيل المثال، أن يركّب زمنا فعليا مع زمن تصوري، مثلما لا يستطيع المرء أن يوصل أنابيب مياه ذات سمك أو قطر متفاوت. إن تماسك الزمن الذي يجري عبر اللقطة، كثافته أو انزلاقه، يمكن أن يدعى " ثقل الزمن ": عندئذ يمكن رؤية المونتاج كتجميع أو تركيب للأجزاء على أساس ثقل الزمن داخل تلك الأجزاء. المحافظة على الضغط الفعال، أو القوة الدافعة، سوف يوحد تأثير اللقطات المختلفة.
كيف يجعل الزمن نفسه محسوسا في اللقطة؟ انه يصبح ملموسا و حقيقيا عندما تشعر بشيء ما هام، صادق، ذي معنى، و يستمر إلى ما بعد الأحداث على الشاشة. . و عندما تدرك، على نحو واع تماما، بأن ما تراه في الكادر ليس محدداً بتصويره البصري بل يشير إلى شيء يتمدد وراء الكادر و نحو أللا تناهي، يشير إلى الحياة. ومثل لا نهائية الصورة التي تحدثنا عنها سابقاً، الفيلم هو اكبر مما يكونه. . إذا كان حقيقيا على الأقل. والفيلم دائما ينتهي بأن يمتلك أفكارا و أهدافا هي أكثر من تلك التي صاغها مبدع الفيلم بوعي. و كما أن الحياة، التي تتحرك و تتغير باستمرار، تتيح لكل شخص أن يفسر و يشعر بكل لحظة منفصلة و مستقلة بطريقته الخاصة، كذلك الفيلم الحقيقي الذي، بإخلاص و أمانة، يسجل الزمن الذي يتدفق وراء تخوم الكادر، و يعيش ضمن الزمن إذا عاش الزمن ضمنه. هذه العملية المتبادلة هي عامل حاسم في السينما.
آنذاك يصبح الفيلم شيئا وراء نطاق كينونته الظاهرية كشريط في علبة. . مكشوف و خاضع للمونتاج، أو بوصفه قصة أو حبكة. ما إن يحقق الفيلم اتصاله المباشر بالفرد الذي يشاهده، حتى ينفصل الفيلم عن خالقه ويشرع في ممارسة حياته الخاصة، خاضعا لتغيرات في الشكل و المعنى.
أنا ارفض مبادئ " سينما المونتاج " لأنها لا تتيح للفيلم أن يستمر و يمتد وراء حدود الشاشة: إنها لا تتيح للجمهور أن يخلق ذلك الاتصال بين التجربة الشخصية و ما يوجد أمامهم على الشاشة. " سينما المونتاج" تقدم إلى الجمهور أحاجى وألغازا، تجعلهم يحاولون حل شفرة الرموز، و يجدون متعة في التعرف على المجازات والاستعارات، محتكمين طوال الوقت إلى تجربتهم العقلية، الفكرية. مع ذلك، فإن كل لغز من هذه الألغاز يتضمن الحل الصحيح والدقيق، بالتالي فأنا اشعر بأن ايزنشتاين يمنع الجمهور من السماح لمشاعرهم بأن تتأثر حسب تفاعلهم الخاص تجاه ما يشاهدونه. في فيلمه " أكتوبر"، عندما يجاور الآلة الموسيقية – البالالايكة – مع شخصية كيرينسكي، فإن منهجه يصبح هدفه، بالطريقة التي قصدها فاليري. إن بناء الصورة يصبح غاية بذاته، وخالق العمل يباشر في شن هجوم شامل على الجمهور، فارضا عليهم موقفه الخاص تجاه ما يحدث.
لو يقارن المرء بين السينما وفنون مبنية على أساس الزمن، مثل الباليه أو الموسيقى، فإن السينما تبرز بوصفها الفن الذي يعطي الزمن شكلا مرئيا و حقيقيا. ما إن يتم تسجيل الزمن على الفيلم حتى تكون الظاهرة موجودة هناك.. محددة، ثابتة، وغير قابلة للتغيير. . حتى عندما يكون الزمن ذاتيا على نحو مكثف.
الفنانون ينقسمون إلى فئتين: أولئك الذي يخلقون عالمهم الداخلي الخاص، وأولئك الذين يعيدون خلق الواقع. يقينا، أنا انتمي إلى الفئة الأولى. . لكن ذلك لا يغير شيئا. إن عالمي الداخلي قد يكون ذا فائدة و أهمية للبعض، و قد يسبب للبعض الآخر الفتور و اللامبالاة أو حتى السخط. القصد هو أن العالم الداخلي الذي تخلقه الوسيلة السينمائية ينبغي قبوله أو إدراكه بوصفه الواقع، حيث انه مؤسس على نحو موضوعي في مباشرية اللحظة المسجلة.
المقطوعة الموسيقية يمكن عزفها بطرق مختلفة، ويمكن أن تدوم لفترات زمنية متفاوتة. هنا، في الموسيقى، الزمن هو ببساطة حالة من الأسباب و النتائج المعلنة في نظام معين. إن لها صفة فلسفية، تجريدية. السينما، من جهة أخرى، قادرة على تسجيل الزمن في علامات ظاهرية و منظورة، يمكن أن تميزها المشاعر. هكذا يصبح الزمن الأساس الفعلي للسينما: كما الصوت في الموسيقى، و اللون في الرسم، والشخصية في الدراما.
الإيقاع، اذن، ليس هو التعاقب القياسي، الموزون، للأجزاء. إن حركة الزمن ضمن الكادرات هي التي تخلق الإيقاع. و أنا مقتنع بأن الإيقاع و ليس المونتاج، كما يعتقد البعض، هو العنصر المكون الرئيسي للسينما.
المونتاج يوجد في كل شكل فني، بما أن المادة ينبغي أن تكون دائما منتقاة و متصلة ببعضها. ما هو مختلف بشأن المونتاج السينمائي هو انه يقدم الزمن على نحو متصل، مطبوعا في أجزاء الفيلم. المونتاج يستلزم جمع و تركيب أجزاء صغيرة و أخرى كبيرة، كل منها تنطوي على زمن مختلف. . و هذا التجميع و التركيب يخلق إدراكا جديدا لوجود ذلك الزمن، المنبثق كنتيجة للفواصل، لما هو محذوف، للمنحوت في المعالجة. . لكن الصفة المميزة للتجميع و التركيب، كما قلنا سابقا، هي حاضرة قبل الآن في الأجزاء. المونتاج لا يولّد، لا يعيد خلق نوعية جديدة، انه يظهر خاصية سبق و أن كانت متضمنة في الكادرات التي يربطها و يوحدها. المونتاج متوقع أثناء التصوير. انه مفترض سلفا في سمة ما هو مصور، و مبرمج من البداية. المونتاج له علاقة بامتدادات الزمن، ودرجة الكثافة التي بها توجد، كما تسجلها الكاميرا، و ليس برموز تجريدية أو تكوينات منظمة بعناية، و ليس بمفهومين متشابهين و اللذين من اتحادهما ينتج – كما يقال لنا – " معنى ثالث".
أعمال ايزنشتاين نفسه تثبت فرضيتي. لو خذله حدسه، و اخفق في تضمين الأجزاء الخاضعة للمونتاج ضغط الزمن الذي يقتضيه ذلك التركيب، عندئذ سوف يُظهر الإيقاع – الذي يُعتبر شيئا يعتمد مباشرة على المونتاج – مواطن الضعف في مفاهيمه النظرية. خذ كمثال مشهد المعركة على الجليد في فيلم "الكسندر نيفسكي": متجاهلا الحاجة لشحن الكادرات بالثقل الزمني المناسب، يحاول ايزنشتاين أن يحرز الديناميكية الداخلية للمعركة من خلال تتابع اللقطات القصيرة عبر المونتاج.. وهي أحيانا قصيرة على نحو مفرط. مع ذلك، وعلى الرغم من السرعة الخاطفة في تغير الكادرات، إلا أن الجمهور ( ومن بينهم أولئك الذين يأتون بذهنية منفتحة دون التأثر بفكرة أن هذا الفيلم " كلاسيكي " وانه مثال " كلاسيكي" للمونتاج كما يدرس في معهد السينما) يلازمهم الشعور بأن ما يحدث على الشاشة راكد، بليد، ومتكلف. و ذلك لعدم توفر الصدق الزمني في الكادرات المستقلة. . التي هي، بذاتها، كادرات ساكنة و غير ممتعة. بالتالي هناك تناقض محتوم بين الكادر نفسه، المجرد من مرور محدد للزمن، وأسلوب المونتاج المفاجئ، الذي هو اعتباطي و ظاهري لأنه لا يحتوي على أي علاقة بأي زمن داخل اللقطات. الإحساس الذي كان المخرج يعول عليه لا يصل أبدا إلى الجمهور لأنه لم يقلق نفسه بملء الكادر بالحس الزمني الحقيقي للمعركة الأسطورية. الحدث لم يُخلق من جديد بل تم تركيبه بطريقة مألوفة.
الإيقاع في السينما يتم توصيله بواسطة حياة الشيء المسجل على نحو منظور في الكادر. ومثلما تستطيع أن تقرر، من اهتزاز قصبة، أي نوع من التيار المائي و أي ضغط يوجد هناك في النهر، كذلك، وبالطريقة نفسها، نعرف حركة الزمن من تدفق عملية الحياة المعاد إنتاجها في اللقطة.
انه، قبل كل شيء، من خلال الإحساس بالزمن، من خلال الإيقاع، يكشف المخرج عن شخصيته المستقلة، عن فرادته. الإيقاع يلون العمل بعلامات وسمات أسلوبية. الإيقاع ليس نتاج تفكير أو تأمل، و ليس مركبا على أساس نظري واعتباطي، بل ينشأ تلقائيا في الفيلم استجابة للوعي الفطري بالحياة عند المخرج، و "بحثه عن الزمن". ويبدو لي بأن الزمن في اللقطة ينبغي أن يتدفق على نحو مستقل و بوقار، عندئذ سوف تجد الأفكار مكانها في الزمن بلا جلبة ولا اهتياج و لا تهور. الإحساس بإيقاعية اللقطة هو بالأحرى أشبه بالإحساس بالكلمة الصادقة في الأدب. الكلمة غير الصحيحة في الكتابة، مثل الإيقاع غير الصحيح في الفيلم، تدمر صحة و صدق العمل.
لكن سيكون لدينا هنا معضلة يتعذر اجتنابها. لنقل بأنني أريد أن يكون هناك زمن يتدفق عبر الكادر في وقار و استقلالية بحيث لا أحد من الجمهور سوف يشعر بأن إدراكه الحسي موضع إكراه، و بحيث يسمح لنفسه بأن يؤخذ أسيرا، طوعا و عن طيب خاطر، من قبل الفنان، فيما يبدأ هو في التسليم بمادة الفيلم كما لو انها مادته، مستوعبا و هاضما هذه المادة، و جاذبا إياها داخل نفسه بوصفها تجربة جديدة و شخصية جدا. مع ذلك، لا يزال هناك انقسام جلي: إذ أن إحساس المخرج بالزمن يصل دائما إلى نوع من إكراه الجمهور. الشخص الذي يشاهد إما أن ينسجم مع إيقاعك ( عالمك ) و يصبح حليفا لك، أو لا ينسجم. . و في هذه الحالة لا يحدث أي اتصال. هكذا، البعض يصبحون " أشقاء " لك، و البعض الآخر يظلون غرباء. و أنا لا أظن بأن هذا ليس طبيعيا تماما فحسب، بل محتوما و متعذراً اجتنابه.
عندئذ أرى أن من عملي المهني هو أن اخلق جريان الزمن المميز، الخاص بي، و أواصل في اللقطة الإحساس بحركة الزمن.. من الحركة الكسولة و البطيئة إلى الحركة العاصفة و الرشيقة.
التركيب، المونتاج، يقاطع مرور الزمن، يعترضه، و على نحو متزامن يمنحه شيئا جديدا. إن تحريف الزمن يمكن أن يكون وسيلة لإعطائه تعبيرا إيقاعيا.
النحت في الزمن.
لكن الربط المدروس للقطات ذات الضغط الزمني المتفاوت لا يجب تقديمه عرضا و اتفاقا، ينبغي أن يأتي هذا من الضرورة الداخلية، من العملية العضوية الجارية في المادة ككل. في اللحظة التي تتشوش فيها العملية العضوية للمقاطع الانتقالية، فإن توكيد المونتاج (الذي يريد المخرج أن يواريه ) يبدأ في البروز إلى العيان، يتكشف ويثب نحو العين. إذا تباطأ الزمن أو تسارع على نحو متكلف وليس استجابة لنمو باطني، وإذا كان تغير الإيقاع خاطئا، فإن النتيجة ستكون زائفة وحادة.
إن ضم أجزاء ذات قيمة زمنية غير متكافئة يحطم بالضرورة الإيقاع. لكن، لو أن هذا التحطيم تعززه قوى فعالة ضمن الكادرات المركبة، فعندئذ قد يكون عاملاً أساسياً في نحت التصميم الإيقاعي الملائم. أن نأخذ ضغوطات الزمن العديدة المتنوعة - التي يمكننا تعيينها وتصنيفها مجازيا كغدير، فيضان، نهر، شلال، محيط - ونضمها معا، فإن ذلك يولّد ذلك التصميم الإيقاعي الفريد الذي هو إحساس مبدع العمل بالزمن، والمتخلق ككينونة متشكلة من جديد.
بقدر ما يكون الإحساس بالزمن وثيق الصلة بإدراك المخرج الفطري للحياة، و المونتاج تمليه الضغوطات الإيقاعية في أجزاء الفيلم، فإن بصمة المخرج ينبغي أن تكون مرئية في مونتاجه. إنه يعبّر عن موقفه تجاه مفهوم الفيلم، وهو التجسيد الجوهري لفلسفته في الحياة. وأظن أن صانع الفيلم الذي يركب أفلامه بسهولة، وبطرق مختلفة، لابد وأن تبدو أعماله سطحية، وبلا عمق. . بعكس مونتاج بيرجمان أو بريسون أو كيرو ساوا أو أنتونيوني. . الذي يمكن تمييزه والتعرف عليه دائما. لا يمكن أبدا الخلط بين واحد من هؤلاء وبين شخص آخر، ذلك لأن إدراك كل منهم للزمن، كما هو منعكس في إيقاع أفلامه، هو نفسه دائما.
طبعا يتعين عليك أن تعرف قوانين المونتاج، تماما مثلما يتعين عليك أن تعرف كل قوانين مهنتك الأخرى. لكن الخلق الفني يبدأ في النقطة التي تلتوي فيها هذه القوانين أو تتعرض للنقض والانتهاك.
مع أن ليف تولستوي لم يكن صاحب أسلوب خال من الأخطاء مثل إيفان بونين (13)، ورواياته تفتقر إلى الأناقة والكمال اللذين تتسم بهما قصص بونين، إلا أنه لا يمكن اعتبار بونين أعظم من تولستوي. إنك تغفر لتولستوي تأويلاته الأخلاقية المضجرة، وغير الضرورية غالبا، وتغفر له الجمل الخرقاء، غير المصقولة. . وليس هذا فحسب، بل أنك تشعر بالولع تجاه أخطائه بوصفها سمة تميز الرجل. ففي حضور شخص بارز وعظيم حقا، أنت تقبله بكل "نقاط ضعفه" أو نقائصه، والتي تصبح سمات مميزة لخصائصه الجمالية.
إذا أنت انتزعت أوصاف دوستويفسكي لشخصياته من سياق أعماله، فإنك سوف تجدها مخيبة. . فهو يصف شخصياته على النحو التالي: جميلة، بشفتين رائعتين، وجوه شاحبة .. وهكذا. لكن ذلك لا يهم، وليس ذا شأن، لأننا لا نتحدث هنا عن شخص يمارس حرفة ما، بل عن فنان وفيلسوف. إيفان بونين، الذي كان يكنّ احتراما مطلقاً، غير محدود، لتولستوي، إعتقد بأن رواية "أنا كارنينا" مكتوبة على نحو رديء، وحاول أن يعيد كتابتها لكن أخفق في ذلك. فالأعمال الفنية تتشكل عبر معالجة عضوية، متناسقة الأجزاء، وسواء أكانت جيدة أم سيئة فإنها كائنات حية ذات نظام ( (systemخاص لا يجب أن يتعرض للإفساد أو التشويش.
الشيء نفسه ينطبق على المونتاج: إنها ليست مسألة التضلع في التقنية وفهمها ببراعة مثل عالم أو باحث، بل هي حاجة أساسية وحيوية للتعبير الفردي الخاص والمتميز. يتعين عليك قبل كل شيء، أن تعرف ما الذي اجتذبك إلى السينما وجعلك تفضلها على أي فرع فني آخر، وأن تعرف ما تريد أن تقوله بواسطة شعرية السينما.
بالمصادفة، في السنوات الأخيرة، يلتقي المرء أكثر فأكثر بشبان يأتون إلى معاهد السينما مهيئين لفعل "ما يتعين عليك فعله" في روسيا، أو "ما تحصل عليه أكثر" في الغرب. هذا مأساوي. مشاكل التقنية هي لعب أطفال. . تستطيع أن تتعلم أية لعبة بسهولة. لكن التفكير على نحو مستقل، بكفاءة، ليس مثل تعلم فعل شيء ما. لا أحد قادر أن يرغمك على حمل عبء ثقيل، والذي لا يكون صعبا فحسب، بل أحيانا يستحيل حمله. . لكن ليس ثمة سبيل آخر. . إما كل شيء أو لاشيء.
الرجل الذي سرق من أجل أن لا يسرق مرة أخرى يظل لصا. لا أحد خان يوماً مبادئه يستطيع أن يملك علاقة نقية مع الحياة. بالتالي، عندما يقول صانع الفيلم بأنه سوف ينتج عملا يدر له ربحا ماديا لكي يهب نفسه القوة والسند والوسيلة لتحقيق الفيلم الذي يحلم به، فإن في ذلك الكثير من الخداع والتضليل. . أو ما هو أسوأ، خداع الذات. وهو سوف لن يحقق فيلم أحلامه أبدا.
****
بين المراحل الأولى والأخيرة لصنع فيلم ما، يتعين على المخرج أن يتعامل مع عدد ضخم من الأفراد، والكثير من المشكلات المختلفة التي يصعب حل بعضها أو تذليلها، إلى درجة يبدو الأمر معها كما لو أن الظروف قد تجمعت على نحو مقصود لجعل المخرج ينسى السبب الذي من أجله هو باشر العمل في الفيلم.
بالنسبة لي، يتعين علي القول بأن الصعوبات المتصلة على وجه الخصوص بمفهوم الفيلم لها علاقة واهنه باستلهامه البدئي، والمشكلة كانت دائما في محاولة إبقائه سليما، بكرا، وخالصا كحافز للعمل. ثمة دائما خطورة للمفهوم الأصلي في أن ينحل أثناء الاضطراب الذي يشوب إنتاج الفيلم أو يتعرض للتشوه والتدمير في عملية تحقيق الفيلم.
إن تقدم الفيلم من المفهوم أو التصور الأوليّ إلى الطبع النهائي هو محفوف بكل أنواع المجازفة و المصادفة. . وهذا ليس بسبب المشكلات التقنية فحسب، بل أيضا لوجود ذلك العدد الهائل من الأفراد العاملين في إنتاج الفيلم.
إذا أخفق المخرج في أن يبيّن للممثل كيف يرى الشخصية، وكيف ينبغي تأويل تلك الشخصية، فإن مفهومه سوف يبدأ على الفور في الجنوح. وإذا لم يفهم المصور مهمته على نحو تام فالفيلم عندئذ، حتى لو صور على نحو رائع ومثير للإعجاب بصريا وشكليا، سوف لا يعود يدور حول محور فكرته الخاصة، والفيلم في النهاية سوف يفتقر إلى التماسك.
بإمكانك أن تشيّد مناظر رائعة وفاتنة تكون مصدر فخر وزهو لمصمم المناظر، لكن إذا لم تكن هذه المناظر مستوحاة من فكرة المخرج الأصلية، فإنها عندئذ يمكن أن تشكل عائقا أمام الفيلم. وإذا المؤلف الموسيقي لم يكن خاضعا لتوجيه المخرج، ويؤلف موسيقاه وفق أفكاره الخاصة، فإن النتيجة قد تكون رائعة ومدهشة، لكن إذا لم تكن هذه الموسيقى ضرورية أو مطلوبة للفيلم، فإن المفهوم، مرة أخرى، سوف لن يتحقق وفق رؤية المخرج.
ليس من المبالغة القول بأن المخرج، عند كل منعطف، يحدق به خطر أن يصبح مجرد شاهد، يراقب مؤلف السيناريو وهو يكتب، مصمم المناظر وهو يرسم ويشيّد المناظر، الممثل وهو يؤدي، والمونتير وهو يقطع ويركّب. ذلك في الواقع هو ما يحدث في الأعمال التجارية:مهمة المخرج هي مجرد أن ينسق الوظائف المهنية لمجموعات مختلفة من فريق العمل. خلاصة القول، إن من الصعب جدا أن تصر على فيلم "المؤلف" أو المبدع، حين تكون كل مساعيك متركزة على عدم ترك الفكرة تنشطر وتتجزأ حتى لا يظل هناك شيء متروكا منها فيما أنت تناضل بشروط العمل الطبيعية في تحقيق الفيلم. بإمكان المرء فقط أن يأمل في نتيجة مرضية إذا ظل المفهوم أو التصور الأصلي طازجاً وحيوياً.
ينبغي أن أقول في الحال بأنني لا أنظر إلى السيناريو بوصفه نوعا أدبيا. في الواقع، كلما كان السيناريو سينمائيا أكثر، قلّت إمكانية مطالبته باحتلال منزلة أدبية بحكم حقه الشخصي، وبالطريقة التي تزعمها المسرحية في أغلب الأحوال. ونحن نعرف أنه في التطبيق، السيناريو لا يبلغ مستوى الأدب.
أنا لا أفهم لماذا يرغب شخص ذو موهبة أدبية في أن يكون كاتب سيناريو. . بصرف النظر عن الأسباب المادية. على الكاتب أن يكتب، وعلى الشخص الذي يفكر بواسطة الصور السينمائية أن يمتهن الإخراج. إن فكرة وغاية الفيلم، وتحققهما، ينبغي في النهاية أن تكون مسؤولية المخرج. المبدع ،وإلا فإنه لا يستطيع أن يمارس سيطرة حقيقية وفعالة على التصوير.
بالطبع، يستطيع المخرج، وهو في الواقع يفعل ذلك غالباً، أن يلجأ إلى كاتب يتفق أن يكون له روحا شقيقة. الكاتب، في قدرته وأهليته ككاتب سيناريو، يصبح عندئذ مشاركا في التأليف. الأساس الأدبي للفيلم يوجد بالتعاون معه. لكن في تلك الحالة هو يجب أن يشارك في تصور المخرج، أن يكون مهيأً لأن يرشده ذلك التصور في كل مرحلة، ويكون مؤهلا وقادرا على العمل على نحو خلاق لتنمية وتعزيز ذلك التصور عند الاقتضاء.
إذا كان السيناريو قطعة أدبية رائعة، فمن الأفضل له أن يبقى كنص أدبي. وإذا المخرج لا يزال يرغب في تحقيق فيلم عن هذا السيناريو، فإن الشيء الأول الذي ينبغي فعله هو تحويله إلى سيناريو يمكن أن يكون أساسا شرعيا وفعالا لعمله. في تلك النقطة سوف يكون سيناريو جديدا، والذي فيه تُستبدل الصور الأدبية بمرادفات سينمائية.
إذا أظهر السيناريو أنه مجرد خطة مفصلة للفيلم، وإذا تضمن فقط ما سوف يكون قابلا للتصوير وكيفية تصويره أو إنجازه، عندئذ سيكون لدينا ما يمكن أن نعتبره نسخة ذات بصيرة للفيلم المنجز، والذي لا علاقة له بالأدب. ما إن يتم تعديل النسخة الأصلية أثناء التصوير (كما يحدث دائما في أفلامي ) ويفقد بناءه حتى يصبح ذا فائدة وذا أهمية فقط للاختصاصي المهتم بتاريخ فيلم معين. هذه النسخ المتغيرة باستمرار قد تروق لأولئك الذين يرغبون في سبر واستكشاف طبيعة فن صانع الفيلم، لكن لا يمكن اعتبارها أدبا.
السيناريو ذو الخاصيات الأدبية نافع فقط كوسيلة لإقناع أولئك الذين عليهم يتوقف الإنتاج. السيناريو نفسه لا يضمن جودة العمل المنجز: نعرف أن هناك عشرات الأمثلة عن أفلام سيئة كانت سيناريوهاتها جيدة والعكس بالعكس. وليس سرا أن الاشتغال الحقيقي على السيناريو لا يبدأ إلا بعد الموافقة عليه وشرائه. . وأن هذا العمل سوف يستلزم من المخرج نفسه المشاركة في الكتابة، أو العمل في تعاون وثيق مع زملائه الكتاب الذين يوجهون مهاراتهم في الاتجاه الذي يحتاجه. أنا بالطبع أتكلم عما يعرف بسينما المؤلف.
في عملية تطوير السيناريو، اعتدت دائما أن أحاول امتلاك صورة دقيقة للفيلم في ذهني، بما فيها المواقع والمناظر، الآن أنا أكثر ميلا إلى رسم مشهد ما أو لقطة ما بطريقة عامة جدا بحيث تنبثق تلقائيا أثناء التصوير. . ذلك لأن الحياة في الموقع الخارجي، جو الموقع، حالات الممثل. . كل هذا يمكن أن يحث المرء على إتباع خطط استراتيجية جديدة، فجائية وغير متوقعة. الخيال أقل ثراء من الحياة. وهذه الأيام أشعر بقوة أكثر فأكثر أن الأفكار والحالات لا ينبغي أن تكون كلها مفروضة سلفا. ينبغي على المرء أن يكون قادرا على الاعتماد على الجو العام للمشهد، ومباشرة العمل في الموقع بذهن مفتوح. في السابق لم أكن أستطيع البدء بالتصوير دون استنباط تصميم كامل للحدث، لكنني الآن أجد أن مثل هذا التصميم، أو هذه الخطة تجريدية، و تقيد المخيلة.
عندما أنهيت تصوير فيلمي "المرآة"، تلاشت فجأة ذكريات الطفولة التي ظلت لسنوات تقلقني وتسلب مني الطمأنينة. لقد ذابت هذه الذكريات ولم أعد أحلم بالبيت الذي عشت فيه قبل سنوات طويلة.
قبل أعوام من صنع الفيلم، كنت قد قررت أن أدون على الورق الذكريات التي عذبتني، ولم أكن أفكر وقتذاك في تحقيق فيلم عنها، بل أن أكتب رواية قصيرة عن النزوح في زمن الحرب، وكان الموجه العسكري في مدرستي هو محور الحبكة. لكنني وجدت الموضوع واهيا وغير قابل للتنامي في شكل روائي، لذا صرفت النظر عن كتابة الرواية. غير أن الحدث، والذي كان له تأثير عميق علي كطفل، استمر في تعذيبي وسكن في ذاكرتي حتى أصبح جزءا ثانويا من الفيلم.
حين أكملت المسودة الأولى من سيناريو "المرآة"، وكان في الأصل بعنوان "يوم أبيض، أبيض" 0 أدركت أن التصور - سينمائياً- لم يكن واضحاً تماماً.. مجرد قطعة بسيطة من التذكر مليئة بالحزن و الحنين الى طفولتي، و لم أكن أريد هذا. شئ ما كان مفقودا من السيناريو، شيء حاسم. حتى في المرحلة التالية من كتابة السيناريو، لم تأت روح الفيلم لتقطن في الجسد. كنت واعيا بشكل حاد للحاجة الى إيجاد فكرة رئيسية قادرة أن ترفعه فوق مستوى التذكر الغنائي.
ثم كتبت المسودة الثانية من السيناريو. أردت أن أرصع أجزاء الطفولة بشظايا من حوار مباشر مع أمي، أي أن أجاور ادراكين للماضي (إدراك الأم و الراوي) واللذين قد يتشكلان للمتفرج في تفاعل تصورين مختلفين لذلك الماضي في ذاكرة شخصين قريبين جدا من بعضهما البعض لكن ينتسبان الى جيلين مختلفين. و كان يمكن لتلك الطريقة أن تقودنا الى نتائج مثيرة للاهتمام و لا يمكن التنبوء بها.
مع ذلك، فأنا لست نادما على اضطراري، فيما بعد، الى التخلي أيضا عن ذلك البناء، الذي هو مباشر جدا و غير مصقول، و استبدال كل المقابلات المقترحة مع الأم بمشاهد تمثيلية. في الواقع، لم أشعر أبدا بأن العناصر الممثلة و الوثائقية توجد معا على نحو ديناميكي. إنها تتعارض و تتناقض مع بعضها البعض، ووضعها معا يمكن أن يكون ممارسة شكلية، عقلانية، في المونتاج: وحدة زائفة مؤسسة على مفاهيم عامة. العنصران كانا يحملان الكتل المركزة، المختلفة تماما، من المادة والأزمنة. من جهة هناك الزمن الحقيقي، الوثائقي، الصارم للمقابلات. و من جهة أخرى، زمن الراوي في التذكر و الذي يعاد خلقه من خلال التمثيل. و هذا يذكرنا، الى حد ما، بسينما الحقيقة و أعمال جان روش. . ولم أكن أريد ذلك على الإطلاق.
الانتقالات بين الزمن القصصي، الذاتي، و الزمن الوثائقي الحقيقي، بدت لي - فجأة- غير مقنعة، متكلفة، ورتيبة.. أشبه بلعبة كرة الطاولة.
قراري بعدم توليف فيلم مصور على مستويين زمنيين مختلفين، لا يعني أبدا أن المادة الممثلة و المادة الوثائقية لا يمكن أن يتحدا معا. في الواقع، أعتقد أن المشاهد الممثلة و الأشرطة الإخبارية، في فيلم "المرآة"، تشكلت معا على نحو طبيعي تماما، الى حد أن البعض اعتقد بأن الأشرطة الإخبارية قد أعيد بناءها أو تنظيمها على نحو مقصود و بشكل مدروس لتعطي الانطباع بأنها أشرطة إخبارية حقيقية:الوثائقي أصبح جزءا عضويا من الفيلم.
هذه النتيجة كانت ناشئة من عثوري على مادة رائعة. كان يتعين عليّ أن أفحص بعناية آلاف الأمتار من الأشرطة السينمائية قبل العثور على سلسلة من اللقطات المتعاقبة للجيش السوفيتي و هو يعبر البحيرة. . وقد صعقتني مشاهدة ذلك. أبدا لم أصادف شيئا كهذا. عادة، يواجه المرء أفلاما ذات نوعية فقيرة، أو نتفاً قصيرة تسجل الحياة في الجيش يوما بعد يوم، أو أجزاء استعراضية تتسم بالكثير من التخطيط و القليل جدا من الصدق. كان اليأس قد تمكن مني عندما وقع بصري فجأة على شريط إخباري لم اسمع عنه من قبل. . ها هنا تسجيل لإحدى اللحظات الأكثر درامية في التاريخ السوفيتي في 1943. لقد كانت قطعة فذة و استثنائية. وكان صعبا علي أن أصدق بأن شريطا هائلا كهذا تم استخدامه خصيصا لتوثيق حدث واحد مرصود على نحو متواصل. كان جليا أن من صور الشريط هو مصور موهوب على نحو رائع. عندما ظهر أمامي على الشاشة هؤلاء الأفراد، كما لو كانوا قادمين من العدم، هؤلاء الذين حطمتهم تلك المحاولة اللا إنسانية، المخيفة، في تلك اللحظة التراجيدية من التاريخ، أدركت بأن على هذا الجزء أن يصبح المركز، الجوهر الفعلي، القلب، العصب، لهذا الفيلم الذي كان قد انطلق فحسب من ذكرياتي الغنائية الحميمة.
على الشاشة ظهرت صورة ذات قوة درامية غامرة. . و كانت تلك خاصة بي، ملكي. . كما لو كنت أنا الذي حمل ذلك العبء والوجع(وهذا الجزء هو الذي اعترض عليه المسؤول عن شئون السينما و طلب مني أن أحذفه من الفيلم ). كان المشهد يعبر عن تلك المعاناة والمكابدة التي هي ثمن ما يعرف بالتقدم التاريخي، ويعبر عن عدد لا يحصى من الضحايا الذين هم، منذ زمن سحيق، وقود لذلك التقدم. كان مستحيلا التصديق للحظة بأن معاناة كهذه هي فارغة و لا معنى لها. الصور كانت تتحدث عن الخلود، وقصائد والدي أرسيني تاركو فسكي كانت إكمالا لذلك الجزء لأنها منحت صوتا للمعنى الجوهري فيه. كان للشريط الإخباري خاصيات جمالية مركبة حتى الذروة الاستثنائية ذات الكثافة العاطفية. ما إن انطبع ذلك على الفيلم، حتى كفت الحقيقة المدونة في هذا الحدث المتسلسل زمنيا بدقة أن تكون مثل الحياة. فجأة، أصبحت صورة للتضحية البطولية و ثمن تلك التضحية.
الفيلم الوثائقي يحرك مشاعرك بحدة موجعة، ثاقبة، لأن في اللقطات هناك ببساطة أفراد. . أفراد يسحبون أنفسهم، حيث الركبة غائصة في الوحل، عبر مستنقع يمتد الى ما وراء الأفق تحت سماء مستوية و ضاربة الى البياض. لا أحد منهم قد نجا. المنظور اللانهائي لهذه اللحظات الموثقة قد خلق تأثيراً قريباً من التنفيس. فيما بعد، علمت أن مصور الجيش الذي قام بتصوير الفيلم، باختراق استثنائي نحو الأحداث التي وقعت حوله، قد لقي مصرعه في ذلك اليوم نفسه.
حتى عندما صورنا أغلب مشاهد الفيلم و لم يبق لدينا سوى 400 متر من الفيلم، أي حوالي 13 دقيقة من الزمن السينمائي، شعرنا بأن الفيلم لم يحقق وجوده بعد. لقد حسمنا أحلام طفولة الراوي وصورناها، لكن حتى هذه لم تمنح الفيلم البنية الموحدة التي كنا نصبو إليها.
الفيلم في شكله الحالي لم تتشكل كينونته إلا بعد إدخال زوجة الراوي في بنية السرد. هي لم تكن مرسومة لا في التخطيط الأولي و لا في السيناريو. و الممثلة مرجريتا تريكوفا كانت رائعة في دور الأم لكننا شعرنا طوال الوقت بأن الدور المكتوب لها في السيناريو لم يكن كافيا لإظهار، أو الاستفادة من، إمكانياتها الهائلة. عندئذ قررنا - أنا وشريكي الرائع الكسندر ميشارين- أن نكتب أجزاء إضافية وأن نسند لها دور الزوجة أيضا. بعد ذلك خطرت لنا فكرة نثر أجزاء من ماضي و حاضر الراوي في المونتاج.
السيناريو، بالنسبة لي، بناء حي، هش، متغير دائما. و الفيلم لا يأخذ شكله النهائي إلا لحظة اكتمال العمل. السيناريو مجرد قاعدة، نقطة انطلاق، منها يبدأ الفنان في السبر و الاستكشاف. و طوال الوقت الذي يستغرقه اشتغالي في فيلم ما، كان ينتابني باستمرار قلق شديد من جراء التفكير بأن العمل قد لا يثمر شيئا.
فيلم"المرآة" يقترح مثالا جليا للكيفية التي بها تصل بعض مبادئي في العمل، بخصوص السيناريو، الى استنتاجها المنطقي.
أشياء كثيرة لا يمكن توقعها و صياغتها و بناءها إلا أثناء التصوير. سيناريوهات أفلامي الأولى كانت مبنية بشكل واضح، لكن حين بدأنا العمل في" المرآة"، قررنا على نحو متعمد ألا نجعل الفيلم يتحقق و يكتمل مسبقا قبل تصوير المادة. كان مهما بالنسبة لنا أن نرى كيف، و تحت أية شروط و حالات، يمكن للفيلم أن يتشكل بذاته: و ذلك بالاعتماد على اللقطات، على الاتصال بالممثلين، و من خلال بناء المواقع و الطريقة التي بها يتكيف الفيلم مع الأماكن المختارة كمواقع. .
لم نرسم تصميمات توجيهية للمشاهد أو الأجزاء بوصفها كينونات بصرية مكتملة و نهائية. لقد اشتغلنا على الإحساس الحاد بالجو و التقمص العاطفي مع الشخصيات، والذي اقتضى - في الموقع ذاته- تحققا تشكيلياً دقيقاً. لو رأيتُ شيئا قبل التصوير، لو تخيلتُ شيئا، فان هذا الشيء يصبح عندئذ الحالة الداخلية، والتوتر الداخلي المميز للمشاهد التي ينبغي تصويرها، والحالة السيكولوجية للشخصيات. إنني اذهب الى الموقع من اجل أن أفهم بأية وسيلة يمكن التعبير عن تلك الحالة في الفيلم، وما إن افهمها حتى أشرع في تصويرها.
فيلم" المرآة" هو أيضا قصة البيت القديم الذي أمضى فيه الراوي طفولته. وتلك المزرعة التي شهدت ولادته، و فيها عاش أبوه وأمه. ذلك المبنى، البيت، والذي مع مرور السنين تحول الى أنقاض، استطعنا بناءه من جديد، بعثه كما كان، وذلك انطلاقا من الصور الفوتوغرافية القديمة، وعلى الأسس التي ظلت محافظة على بقائها. هكذا انتصب المبنى في الموقع ذاته و تماما كما كان قبل أربعين عاما. فيما بعد، عندما أخذنا أمي الى هناك، الى ذلك المكان و ذلك البيت الذي أمضت فيه شبابها، تجاوز رد فعلها، لدى رؤيتها للبيت، كل توقعاتي. في لحظات قصيرة عادت سنوات الى الوراء، الى ماضيها، وعندئذ عرفت أننا نتحرك في الاتجاه الصحيح. لقد أيقظ البيت بداخلها تلك المشاعر التي ينوي الفيلم أن يعبر عنها.
أمام البيت كان هناك حقل. و أذكر أن الحنطة السوداء كانت تنمو بين البيت و الطريق الذي يفضي الى القرية المجاورة. الحقل كان يبدو جميلا جدا حين يزهر. تلك الزهور البيضاء، التي تعطي الانطباع بأن الحقل مكسو بالثلج، قد مكثت في ذاكرتي كإحدى التفاصيل المميزة و الأساسية لطفولتي. لكن حين وصلنا لنقرر أين يمكننا أن نصور، لم تعد الحنطة السوداء موجودة على مدى البصر. لسنوات كانت المزرعة التعاونية تزرع الشوفان و البرسيم في الحقل. حين طلبنا منهم أن يزرعوا الحنطة السوداء من أجل الفيلم، أصروا على إقناعنا بأن الحنطة سوف لن تنبت هناك لأن التربة غير صالحة تماما. على الرغم من ذلك، قمنا باستئجار الحقل وزراعته بالحنطة على مسؤوليتنا الشخصية. العاملون في المزرعة التعاونية لم يستطيعوا إخفاء دهشتهم وذهولهم حين شاهدوا الحنطة تنمو. أما نحن فقد اعتبرنا ذلك النجاح فالاً حسناً، يظهر لنا شيئا عن الخاصية الاستثنائية لذاكرتنا. . عن قدرتها على النفاذ الى ما وراء الحجب التي يسدلها الزمن، وهذا بالضبط ما كان يتعين على الفيلم أن يتحدث عنه: تلك هي فكرته المنوية.
لا أعرف ماذا كان سيحدث للفيلم لو أن الحنطة لم تنبت. . سوف لن أنسى أبدا اللحظة التي بدأت تزهر.
عندما بدأت العمل في "المرآة" وجدت نفسي أتأمل، ليتضح لي بأنك إذا كنت جاداً بشأن عملك فان الفيلم عندئذ لن يكون مجرد المادة التالية في مسيرتك الفنية، بل هو الفعل الذي سوف يؤثر في حياتك كلها. في هذا الفيلم، وللمرة الأولى، قررت أن أوظف وسائل السينما للتحدث عن الأثير و النفيس بالنسبة لي، و أن أفعل ذلك على نحو مباشر، و بدون اللجوء الى الحيل و الخدع البصرية.
لقد واجهت صعوبة فائقة في إقناع الآخرين بأن، في الفيلم، ليس هناك معنى خفياً، سرياً. . لا شيء غير الرغبة في قول الحقيقة. وغالبا ما تثير توكيداتي الريبة و حتى الخيبة. واضح أن البعض يريد شيئا أخر، إنهم يحتاجون الى رموز سرية و معان خفية، ذلك لأنهم لم يعتادوا على شعرية الصورة السينمائية. و بدوري كنت أشعر بخيبة الأمل. مثل هذه الاستجابة صادرة من الطرف المعارض من الجمهور، أما عن زملائي السينمائيين، فقد شنوا هجوما عنيفا ضدي موجهين إلي تهمة التعالي و الادعاء و الرغبة في تحقيق فيلم عن ذاتي.
في النهاية لم ينقذنا سوى شيء واحد: الإيمان. بما أن عملنا مهم جدا بالنسبة لنا، فلابد أن يكون مهما بالنسبة للجمهور. الفيلم كان يهدف الى إعادة بناء حياة الأفراد الذين أحببتهم كثيرا و عرفتهم جيدا. أردت أن أروي قصة الألم الذي عاناه رجل لأنه يشعر بأنه لا يستطيع أن يعوض عائلته مقابل كل ما منحوه و بذلوه له، يشعر بأنه لم يحبهم بدرجة كافية.. وهذه الفكرة تعذبه وتعصر قلبه. ما إن تبدأ في التحدث عن أشياء أثيرة الى نفسك، فانك على الفور تشعر بالقلق حيال كيفية تفاعل الآخرين تجاه ما تقوله، و أنت ترغب في حماية هذه الأشياء، أن تدافع عنها ضد حالة اللافهم أو عدم الإدراك. كنا قلقين بشأن كيفية استقبال جمهور المستقبل للفيلم، لكن في الوقت نفسه كنا واثقين، في عناد شديد، بأن الآخرين سوف يصغون إلينا. و الرسائل الواردة في بداية هذا الكتاب تفسر شيئا مما حدث و أنا لم أكن آمل أكثر من هذا المستوى الرفيع من الفهم، من هذا التفاعل من الجمهور. . و الذي هو مهم جدا بالنسبة لي.
فيلم"المرآة" لم يكن محاولة للتحدث عن نفسي على الإطلاق. انه عن مشاعري تجاه الأفراد الذين أحببتهم، عن علاقتي بهم، إشفاقي الدائم عليهم، و كذلك عن إحساسي بالواجب الذي لم استطع تأديته.
الأجزاء التي فيها يتذكر الراوي، في لحظة بالغة من الأزمة، تسبب له وجعا حتى اللحظة الأخيرة. . تملؤه بالحزن و القلق.
عندما تقرأ مسرحية ما فإنك تستطيع أن تدرك ما تعنيه، حتى لو كانت قابلة للتأويل على نحو مختلف مع تعدد و اختلاف عروضها. و منذ البداية تملك المسرحية هويتها، في حين أن هوية الفيلم يستحيل إدراكها أو تمييزها من قراءة السيناريو. السيناريو يموت في الفيلم. السينما قد تستعير الحوار من الأدب، وهذا كل شيء. إنها لا تحمل أي علاقة جوهرية بالأدب على الإطلاق. المسرحية تصبح جزءا من الأدب لأن الأفكار و الشخصيات التي يتم التعبير عنها بالحوار تشكل جوهر وماهية المسرحية، و الحوار هو دائما أدبي. لكن في السينما، الحوار مجرد أحد مكونات أو عناصر النسيج المادي للفيلم. أي شيء في السيناريو، له مطمح أدبي، يجب من حيث المبدأ أن يتم هضمه وامتصاصه وتكييفه أثناء تحقيق الفيلم. العنصر الأدبي في الفيلم هو منصهر، ويكف أن يكون أدبا حالما يتخلق الفيلم.
ما إن يتم تنفيذ العمل، حتى نجد أن المتروك ما هو إلا النسخة المكتوبة من سيناريو التصوير و الذي لا يمكن إن يعتبر أدبا بأي تعريف.
هام جدا، وفي الوقت ذاته شاق جداً، أن تحول مصمم المناظر والمصور (وأي عامل آخر في الفيلم)إلى شركاء متعاونين في مشروعك. وهو شئ أساسي ألا يكون هؤلاء مجرد موظفين، بل ينبغي أن يشاركوا في العمل كفنانين مبدعين كل في مجاله، وان يتاح لهم المشاركة في كل أحاسيسك وأفكارك. من جهة أخرى ، أن تجعل من المصور حليفا وشقيقا ، فذلك قد يستلزم دبلوماسية معينة ، حتى الى حد حجب المخرج بعض أفكاره الجوهرية وأهدافه الأساسية في سبيل بلوغ تحققها الأمثل في معالجة المصور . أحيانا، وعند الاقتضاء، ألجأ الى إخفاء فكرة الفيلم تماما لكي اجعل المصور يعالج الفكرة بالطريقة الملائمة.
ما حدث بيني وبين المصور فاديم يوسوف يوضح ما اعنيه. يوسوف هو الذي قام بتصوير كل أفلامي، من "طفولة إيفان" الى "سولاريس". عندما قرأ يوسوف سيناريو "المرآة "، رفض أن يصوره قائلا بأنه وجد في الطابع الذاتي (المتعلق بالسيرة الذاتية) للعمل، على نحو صريح، أمرا بغيضاً من وجهة نظر أخلاقية. لقد شعر بالحرج والانزعاج إزاء النبرة الغنائية، الذاتية بإفراط، وإزاء رغبة المخرج في التحدث حصراً عن نفسه(وقد نوهت سابقا الى أن مثل هذا الموقف قد اتخذه أيضا زملاء لي من الفنانين). يوسوف بالطبع كان صريحا وصادقا، وهو شعر، على نحو خال من الرياء والتكلف، بأنني كنت اقل تواضعا .
فيما بعد، بعد أن صور الفيلم جورجي ريربرج، اعترف لي يوسوف يوما قائلا:اكره أن اضطر الى قول هذا، يا أندريه، لكنه أفضل أفلامك. "هذه الملاحظة كانت نزيهة تماماً.
لأنني اعرف فاديم يوسوف جيدا، فقد كان علي أن أكون أكثر مكرا. . فبدلا من أن أطلعه على كل أفكاري من البداية، كان ينبغي أن أقدم له السيناريو في أجزاء. . لا ادري، لست بارعا في التظاهر، ولا أستطيع أن ألعب دور الدبلوماسي مع أصدقائي. على أية حال، وفي كل أفلامي التي حققتها حتى الآن، كنت دائما انظر الى المصور كمشارك في التأليف، في الإبداع. الاتصال الحميمي بين العاملين في الفيلم ليس كافيا بذاته. شي من الحيلة، التي أشرت إليها لتوي، ضروري حقا لكن لكي أكون صريحا، أقول أنني دائماً أتوصل الى النتيجة على نحو نظري. في الممارسة، لم أكن اخفي أية أسرار عن زملائي. . على العكس تماما، طوال تصوير الفيلم كان الفريق كله يعمل دائما كرجل واحد. ليس بالا مكان تحقيق فيلم حقيقي ما لم نتصل بواسطة الأوردة والأعصاب، وما لم تتدفق دماؤنا وتدور في الجسم ذاته.
طوال الوقت الذي كنا فيه نحقق "المرآة"، كنا نقضي كل لحظة ممكنة معا، و نتحدث عن ما يعرفه وما يحبه كل واحد منا، عن الأشياء التي نعتز بها والأشياء التي نكرهها. . ونتبادل الآراء والأفكار بشأن فيلمنا. كل فرد في الفريق، أيا كان عمله، هو عنصر هام وأساسي. على سبيل المثال، ادوارد ارتيمييف ألف أجزاء قليلة من الموسيقى للفيلم لكن، بحكم حقه الشخصي، هو مهم تماماً مثل أي عامل آخر، لأنه بدون مشاركة كل واحد منهم في الفيلم ما كان بالامكان أن يتحقق كما هو.
عندما شيدنا الموقع على أسس البيت المتهدم، كنا جميعا –العاملون في الفيلم – نمضي الى هناك في الصباح الباكر، منتظرين الفجر، مختبرين بأنفسنا خصوصية المكان، متأملين المكان في ظروف مناخية مختلفة، ناظرين اليه في أوقات مختلفة من النهار.
كنا نريد أن نغمر أنفسنا في أحاسيس الأفراد الذين عاشوا ذات مرة في ذلك البيت، وشاهدوا - قبل أربعين عاما تقريبا - الشروق والغروب ذاته، الأمطار ذاتها والسديم ذاته. وقد أصابتنا جميعا عدوى التذكر، وإحساسنا بالمشاركة كان مقدسا. إن انتهاءنا من العمل جاء بمثابة الأسى الموجع، كما لو أنها اللحظة التي عندها ينبغي أن ننطلق:وفي ذلك الوقت أصبح كل واحد منا جزءا من الآخر.
روح التآلف والتناغم في الفريق أصبحت مهمة جدا الى حد انه في لحظات الأزمة –العديدة والمختلفة-حيث التضارب الشديد، وحين كف كل واحد منا - أنا والمصور- عن فهم بعضنا البعض، شعرت باليأس والضياع تماماً. كل شيء انزلق من يدي، ولعدة أيام لم نكن في حالة تسمح لنا بالاستمرار في التصوير. فقط حين وجدنا وسيلة للاتصال مرة أخرى، استعدنا التوازن واستأنفنا التصوير. بمعنى آخر، ليس الانضباط وجدول الأعمال هو ما ينظم ويتحكم في العملية الإبداعية بل المناخ النفسي السائد بين أفراد الفريق. فضلا عن ذلك، فقد انهينا التصوير قبل الوقت المحدد.
تحقيق الفيلم، مثل أي إبداع فني آخر، ينبغي أن يكون في المقام الأول خاضعا لحاجات باطنية ملحة، وليس لمتطلبات خارجية يفرضها الانضباط والعملية الإنتاجية، هذه المتطلبات التي يمكن أن تدمر إيقاع العمل إذا زادت عن الحد. يمكن تحريك الجبال حين يعمل الأفراد معاً لتحقيق فكرة الفيلم كلٌ بشخصيته الخاصة، بمزاجه وحساسيته وعمره وتاريخه و تجربة حياته التي تختلف عن الأخر. . وحين يتحدون كعائلة واحدة و يتوهجون بعاطفة واحدة.
إذا أمكن إيجاد و تعزيز المناخ الإبداعي، على نحو حقيقي وصادق، ضمن المجموعة العاملة في الفيلم، فعندئذ لا يعود مهماً معرفة من المسؤول عن هذه الفكرة أو تلك، و من فكر بتلك الطريقة في تنفيذ اللقطة القريبة أو البانورامية، و من هو أول من استنبط تباين الإضاءة أو زاوية الكاميرا.
آنذاك لا يعود ممكنا تقرير وظيفة من هي الأكثر أهمية: المصور أم المخرج أم مصمم المناظر. المشهد يصبح بنية حية فعالة، والتي فيها لا شيء يكون قسريا أو متكلفا، وليس ثمة تلميح الى أي غرور.
في حالة فيلم"المرآة"، بوسعك أن تتخيل الى أي مدى كان يتعين على جميع أفراد الفريق أن يكونوا ذا حساسية عالية لكي يقبلوا فكرة- كما لو كانت فكرة خاصة بهم- والتي لم تنبع من شخص آخر فحسب، بل كانت شخصية بعمق. و كم كان شاقا وعسيرا بالنسبة لي أن أتقاسم هذه الفكرة مع زملائي، ربما حتى أكثر مشقة مما لو تقاسمتها مع الجمهور. . فالجمهور، رغم كل شيء، يظل فكرة تجريدية حتى يحين العرض الأول للفيلم.
كان يتعين علينا التغلب على عوائق عديدة قبل بلوغنا ذلك الموضع الذي عنده تبنّى زملائي فكرتي كما لو كانت فكرتهم. من ناحية أخرى، ما إن انتهينا من فيلم "المرآة" حتى لم يعد ممكنا التفكير فيه بوصفه قصة عائلتي فقط، ذلك لأن مجموعة متنوعة من الأفراد صاروا الآن مشاركين فيها. . كما لو أن عائلتي قد كبرت وازداد أفرادها.
بمثل هذا التعاون الكلي و المثالي بين أفراد المجموعة ضمرت المشكلات التقنية الصرفة، بطريقة أو بأخرى. المصور و مصمم المناظر و غيرهما لم يكونوا ينفذون فحسب الأشياء التي يعرفون كيف ينفذونها، و ما يطلب منهم فعلها، بل في كل حالة جديدة كانوا يوسعون تخوم قدراتهم المهنية الى مدى أبعد قليلا. لم تكن واردة مسألة تقييد أنفسهم بما "يستطيعون" فعله، بل فعل كل ما كان مطلوبا وضروريا. عندما ينتقي المصور من اقتراحات المخرج فقط ما يقدر على تنفيذه تقنيا، فان ذلك يتجاوز التعامل الاحترافي المقبول.
ما ينبغي إنجازه وإحرازه هو تلك الدرجة من الصدق والموثوقية التي تجعل الجمهور يقتنع بأن داخل أسوار ذلك الموقع هناك تعيش أرواح إنسانية.
أحد أكبر الصعوبات في التحقيق التصويري لفيلم ما هو، بالطبع، اللون. المفارقة أن اللون يشكل عائقا رئيسيا في خلق الإحساس الحقيقي بالصدق على الشاشة. وفي الوقت الحاضر، اللون صار ضرورة تجارية أكثر منها إمكانية جمالية. وأنه لأمر ذي دلالة أن يكون هناك الآن توجه نحو تحقيق أفلام بالأسود والأبيض أكثر من ذي قبل.
إن إدراك اللون هو ظاهرة فسيولوجية و سيكولوجية والتي، عادة، لا أحد يوجه إليها اهتماما خاصا. السمة الفاتنة للقطة ما، والناشئة غالبا عن جودة الفيلم، هي عنصر اصطناعي مقحم على الصورة، و ينبغي فعل شيء لتحييده إذا أراد الفنان أن يكون أمينا للحياة. هنا يتعين عليه أن يقوم بمحاولة لتحييد اللون و تخفيف تأثيره على الجمهور.
لهذا السبب، في الوقت الحاضر، يكتشف المرء في أحوال كثيرة أن الفيلم المتوسط القيمة، و المنفذ بمهارة تقنية، يشبه في فتنته و جاذبيته المجلة الصقيلة، المزينة بصور فخمة و منمقة.
ربما ينبغي تحييد تأثير اللون يجعل اللون و اللقطات المتتالية ذات اللون الأحادي تتعاقب بحيث أن الانطباع الذي يحدثه الطيف الكامل يكون ملطفا و أقل حدة. لكن إذا كان كل ما تفعله الكاميرا هو تسجيل الحياة الحقيقية على الفيلم، فلماذا ينبغي أن تبدو اللقطة الملونة زائفة على نحو بشع وعلى نحو لا يصدق؟ بلا شك التفسير المقنع سيكون أن اللون، المستخرج آليا، يفتقر الى لمسة يد الفنان. في هذا المجال، يفقد الفنان وظيفته المنظمة و لا تكون لديه وسيلة انتقاء ما يريده. العملية التكنولوجية هي التي تتحكم في الطبيعة اللونية للصور. . لا المخرج. كما أنه يصبح من المستحيل للمخرج أن ينتقي و يعيد تقييم عناصر اللون في العالم من حوله. وحتى لو كان العالم ملونا، فإن الصورة المأخوذة بالأسود والأبيض تكون أقرب الى الصدق السيكولوجي، الطبيعي، للفن.
حين أحقق فيلما، أكون - جوهريا- مسؤولاً عن كل شيء. . حتى أداء الممثلين. في المسرح، مسؤولية الممثل تجاه إنجازاته و إخفاقاته تكون أكبر على نحو لا يقاس.
أحياناً يمكن أن يكون عائقا خطيرا للممثل أن يعرف خطة المخرج جيدا في بداية التصوير. المخرج هو الذي يبني الدور ثم يعطي الممثل حرية تامة في كل جزء منفصل. . الحرية التي لا يمكن أن تتوفر في المسرح. إذا راح الممثل السينمائي يشيّد وحده دوره الخاص، فانه سوف يضيع فرصة تقديم أداء تلقائي ولا إرادي ضمن الشروط التي يضعها الفيلم في تصميمه و هدفه. يتعين على المخرج أن يستحث الحالة الذهنية الملائمة في الممثل، ثم يتيقن من أنها مغذاة ومعززة باستمرار. و يمكن جلب الممثل الى هذه الحالة الذهنية الملائمة بوسائل متعددة. . إن ذلك يتوقف على ظروف الموقع ، و على شخصية الممثل الذي يعمل معه المخرج. ينبغي على الممثل أن يكون في حالة سيكولوجية يستحيل اختلاقها أو التظاهر بها. السينما تقتضي صدق الحالة الذهنية التي لا يمكن حجبها.
بالطبع يمكن تقاسم الوظائف: بوسع المخرج أن ينظم أجزاء من انفعالات الشخصيات، وبوسع الممثلين التعبير عنها- أو بالأحرى، يجدون أنفسهم بداخلها- أثناء التصوير. لكن الممثل لا يستطيع أن يفعل الشيئين معاً في الموقع. على خشبة المسرح، يجد الممثل نفسه مجبرا على فعل الشيئين في آن بينما هو يشتغل على دوره.
أمام الكاميرا، يتعين على الممثل أن يوجد، على نحو صادق و فوري، في الحالة التي تحددها الظروف الدرامية. ثم يأتي المخرج، ما إن تتوفر بين يديه اللقطات المتتالية والأجزاء واللقطات المعادة التي صورتها الكاميرا، و منها يشرع في المونتاج وفقاً لغاياته الفنية الخاصة، ويبني المنطق الداخلي للفعل.
السينما لا تملك شيئا من سحر الاتصال المباشر بين الممثل والصالة، والذي هو قوي وفعال جدا في المسرح. بالتالي فإن السينما سوف لن تحل محل المسرح. السينما تحيا بواسطة قدرتها على بعث الحدث ذاته على الشاشة المرة تلو الأخرى. في المسرح، من جهة أخرى، المسرحية تحيا وتتنامى وتبني صلة ما. . إنها وسيلة مختلفة من وسائل إدراك الذات بالنسبة للروح الخلاقة.
المخرج السينمائي هو بالأحرى مثل جامع اللوحات. . معروضاته هي كادراته، التي تؤلف الحياة، المسجلة مرة والى الأبد بعدد وافر من التفاصيل و الأجزاء والشظايا، حيث الممثل، الشخصية، يكون طرفاً فيها أو لا يكون.
في المسرح، كما لاحظ كليست KLEIST)) ذات مرة بعمق، التمثيل أشبه بنحت في الثلج.
لكن الممثل يحرز السعادة من جراء الاتصال بالجمهور في لحظات الخلق. ليس هناك أكثر سموا من ذلك الانسجام بين الممثل والجمهور وهم يخلقون الفن معا:الأداء يوجد فقط مادام الممثل موجودا هناك كخالق، حين يكون حاضرا، حين يكون حيا جسمانياً وروحياً. عدم وجود الممثل يعني عدم وجود المسرح.
بخلاف الممثل السينمائي، كل ممثل مسرحي يتعين عليه أن يبني دوره الخاص داخل ذاته، من البداية إلى النهاية، تحت توجيه من المخرج. عليه أن يرسم خريطة أو ما يشبه الرسم البياني لمشاعره والتي هي خاضعة للتصور الإجمالي للمسرحية. في السينما، مثل هذا البناء الاستبطاني للشخصية لا يمكن أن يكون مقبولا أبدا.
ليس من مهمة الممثل أن يتخذ قرارات بشأن تأويله للدور، ذلك لأنه لا يستطيع أن يعرف كل المكونات والعناصر الأساسية التي سوف تفضي الى تشكيل الفيلم. مهمته أن يحيا فحسب. . وأن يثق بالمخرج.
المخرج ينتقي للممثل لحظات من وجوده والتي تعبر عن مفهوم الفيلم على نحو أكثر صحة ودقة. لا يجب أن يضع الممثل قيودا على نفسه، لا يجب أن يتجاهل حريته التي وهبها له الله، والتي لا تضاهى.
حين احقق فيلما أحاول ألا أرهق الممثلين بالنقاش لكنني حريص الى درجة العناد على ضرورة إجهاض أي محاولة يقوم بها الممثل لربط الجزء الذي يؤديه بالكل أو حتى أحيانا بالمشاهد السابقة أو اللاحقة مباشرة. على سبيل المثال ، في احد مشاهد فيلم "المرآة" ، تنتظر البطلة زوجها وهي جالسة على السياج تدخن سيجارة . ولقد آثرت ألا تعرف الممثلة مرجريتا تريكوفا الحبكة، ألا تعرف ما إذا سوف يعود إليها زوجها. لم ندعها تطلّع على القصة لكي لا تستجيب إليها على مستوى اللاشعور بل تعيش طوال تلك اللحظة تماماً كما عاشتها أمي (الشخصية الحقيقية) بدون معرفة مسبقة لمصيرها ومسار حياتها.
لا شك أن سلوكها في هذا المشهد سيكون مختلفا لو أنها كانت تعرف كيف ستكون علاقتها بزوجها في المستقبل. . ليس مختلفا فحسب، بل مزيفا نتيجة هذه المعرفة المسبقة للنتائج. الإحساس بان العلاقة محكوم عليها بالإخفاق لابد وان يلوّن أداء الممثلة في تلك المرحلة المبكرة من القصة: ففي نقطة معينة - ربما على نحو لا إرادي ودون رغبة منها- قد تكشف إحساسا بعبث انتظارها ولا جدواه، ونحن بدورنا سوف نشعر بذلك، في حين أن ما ينبغي أن نشعره هنا هو خصوصية وفرادة تلك اللحظة الخاصة وليس اتصالها ببقية حياتها.
(يتبع ... قسم 2 )