في السينما، غالبا ما يلتزم المخرج بأشياء قد تتعارض مع رغبات الممثل.في المسرح، ينبغي أن نكون واعين في كل مشهد للأفكار التي تفضي إلى بناء الشخصية..وتلك هي الطريقة الوحيدة الصحيحة والطبيعية، ففي المسرح لا يتم إنجاز الأشياء وفق نظام ما.
المسرح يعمل من خلال المجاز، الإيقاع، التناغم.. من خلال شعريته.
هنا أردنا من الممثلة تريكوفا أن تختبر تلك اللحظات تماما كما يمكن أن تختبرها في حياتها الخاصة، وليس كما هو وارد في السيناريو..عندئذ من المحتمل أن تتسلح بالأمل ثم تفقد الأمل ثم تبدأ بالتشبث بالأمل من جديد. ضمن الهيكل المحدد لانتظار زوجها، يتعين على الممثلة أن تعيش الجزء الغامض من الحياة جاهلة بالمكان الذي يمكن أن تمضي إليه.
الشئ الوحيد الذي يتعين على الممثل السينمائي أن يفعله هو أن يعبّر في ظروف معينة عن حالة سيكولوجية خاصة به وحده، وأن يفعل ذلك على نحو طبيعي، منسجم مع بنيته العاطفية والفكرية، وبالشكل الملائم له فقط. أنا لا يهمني على الإطلاق كيف يفعل الممثل ذلك، أوأية وسيلة يستخدمها.لا اشعر بأن لي الحق في أن أملي أو افرض شكل التعبير الذي ينبغي أن تتبناه حالته السيكولوجية الفردية.. ذلك لأن كلاً منا يختبر كل حالة أو وضع معين بطريقته الخاصة، والتي هي شخصية تماما.البعض، عندما يكونون في حالة حزن أو كآبة، فانهم يتوقون الى تعرية ذواتهم والكشف عن أنفسهم والانفتاح.آخرون يرغبون في العزلة وان يُتركوا وحيدين مع تعاستهم..إنهم يرغبون في الانغلاق على ذواتهم وتحاشي أي اتصال بالآخرين.
في أحوال كثيرة كنت أرى الممثلين وهم يحاكون إيماءات وسلوك مخرجيهم.لقد لاحظت بأن فاسيلي شوكشين (14) كان يحاكي سيرجي جيراسيموف (15) (الذي تأثر به بعمق)، وان كورافليوف كان يحاكي شوكشين (عندما تحول الى الإخراج). شخصيا، يستحيل أن اجعل ممثلا يتبنى رسمي وتخطيطي، لدوره. إني أريده أن يمتلك حرية كاملة حالما يتضح لي، قبل أن يبدأ التصوير، بأنه متصل تماما بالفكرة العامة للفيلم.
من أجل جلب الممثل الى الحالة الذهنية المطلوبة، يتعين على المخرج أن يجعله يتقمص الشخصية عاطفيا. ليست هناك طريقة أخرى لإيجاد الطابع الملائم للأداء.انك لا تستطيع، على سبيل المثال، أن تدخل بيتا لا تعرفه و تبدأ تصوير مشهد تدربت عليه في مكان آخر.انه بيت غير مألوف، مسكون بأفراد غرباء، ومن الطبيعي تماما أنه لن يستطيع مساعدة الشخصية القادمة من عالم مختلف على التعبير عن نفسها. إن مهمة المخرج الأولى و المحددة جدا، في كل مشهد، هي أن يوصل الى الممثل الحقيقة الكاملة بشأن الحالة الذهنية التي ينبغي بلوغها.
في الواقع، ينبغي على المخرج التعامل مع كل ممثل بطريقة مختلفة عن الممثل الآخر.تريكوفا لم تطلّع على السيناريو كله بل أدت دورها في أجزاء منفصلة . حين اكتشفت للمرة الأولى بأنني سوف لن أخبرها عن الحبكة أو أشرح لها دورها كله، شعرت بالارتباك والاضطراب الى أبعد حد. الأجزاء
المختلفة التي مثلتها هي (وأنا ركّبتها فيما بعد مثل الفسيفساء لتشكيل صورة واحدة) كانت ثمرة حدسها. في البداية لم يكن من السهل علينا أن نعمل معا. هي وجدت صعوبة في تصديق إنني قادر - بالنيابة عنها - على توقع ما سيكون عليه دورها في النهاية وكيف سيتشكل.. باختصار ، هي لم تستطع أن تثق بي.
لقد التقيت بعدد من الممثلين الذين، منذ البداية وحتى النهاية، واجهوا صعوبة في الثقة كليا بقراءتي لأدوارهم، ولسبب ما أجهدوا أنفسهم في إدارة أدوارهم بأنفسهم، منتزعين الدور الى خارج سياق الفيلم. هذا النوع من الممثلين أعتبرهم الأقل احترافية.
الممثل السينمائي الحقيقي، في تصوري، هو القادر على قبول أي قانون من قوانين اللعبة التي توضع أمامه.. بسهولة وعلى نحو طبيعي، ودون أية بادرة إجهاد أو انفعال، وأن يظل تلقائيا في ردود فعله تجاه أي وضع مرتجل. أنا لست راغبا في العمل مع أي صنف آخر من الممثلين، ذلك لأنهم سوف لن يؤدوا أي شيء يقع خارج نطاق ما هو مألوف وتبسيطي بالنسبة لهم.
في هذا الصدد، كان الراحل أنا تولي سولونيتسين ممثلاً رائعاً.. وكم أفتقده الآن. كذلك مرجريتا تريكوفا التي كانت في نهاية الأمر تفهم المطلوب منها و تؤدي في يسر و سلاسة، وبدون تحفظ، مؤمنة بهدف المخرج. ممثلون كهؤلاء لديهم ثقة صريحة بالمخرج.. وهذه القدرة على منح الثقة هي ملهمة على نحو استثنائي.
أناتولي سولونيتسن كان ممثلا سينمائيا بالفطرة، سهل التأثر بأفكار الآخرين، وبسهولة كان يمكن بث الانفعالات فيه وإحراز الحالة المناسبة.
من المهم جدا أن يكف الممثل السينمائي عن طرح تلك الأسئلة التقليدية و الملائمة تماما في المسرح (خصوصا أولئك الذين تربوا على أفكار ونظريات ستانيسلافسكي ): لماذا ؟ ما الغاية ؟ ما هو مفتاح الصورة ؟ ما هي الفكرة الضمنية ؟ وغيرها من الأسئلة التي اعتادوا على طرحها.
لقد كنت محظوظا جدا بالعمل مع سولونيتسين الذي لم يطرح أبدا أسئلة كهذه - و التي هي عبثية وغير مجدية تماما في نظري - ذلك لأنه كان يعرف الفرق بين المسرح و السينما.. أو نيكولاي جرينكو الحساس و النبيل كممثل وكانسان.إني أحبه كثيرا. روح صافية و رقيقة وبأعماق عظيمة.
ذات مرة، حين سئل رينيه كلير عن كيفية عمله مع الممثلين، أجاب بأنه لا يعمل معهم بل يدفع لهم. وراء التعبير الساخر الجلي، والذي قد يبدو للبعض أنها الغاية الوحيدة لملاحظته (هكذا فهم الأمر عدد من النقاد السوفييت ) يتوارى احترام عميق للممثل المحترف الذي هو سيد مهنته. قد يضطر المخرج الى العمل مع الشخص الأقل أهلية أو ملاءمة لأن يكون ممثلا. ماذا بوسع المرء أن يقول، على سبيل المثال، عن الطريقة التي يعمل بها أنتونيوني مع ممثليه في فيلمه "المغامرة"؟ أو أورسون ويلز في "المواطن كين"؟
كل ما ندركه هو الإقناع الفريد للشخصية.
للأسف لم أستطع أبدا تطوير علاقة عمل مع الممثل دوناتاس بانيونيس، الذي أدى الدور الرئيسي في "سولاريس"، ذلك لأنه ينتسب الى فئة الممثلين المغرمين بالتحليل، و الذين لا يستطيعون العمل دون أن يعرفوا السبب والدافع. إنه لا يقدر أن يؤدي شيئا بتلقائية من داخل نفسه. لا بد أولاً أن يبني دوره، ولا بد أن يعرف العلاقة بين اللقطات المتعاقبة، وما الذي يفعله الممثلون الآخرون، ليس فقط في مشاهده الخاصة إنما في الفيلم بأسره. إنه يحاول أن يستعير من المخرج. وهذا بلا شك ثمرة كل السنوات التي أمضاها في المسرح. إنه لا يستطيع أن يقر بأن الممثل في السينما لا يجب أن تكون لديه صورة شاملة عن المظهر الكلي للفيلم المكتمل، وكيف سيبدو عليه الفيلم أو تكون النتيجة. حتى أفضل مخرج، والذي يعرف تماما ما يريده، نادرا ما يستطيع أن يتخيل بدقة النتيجة النهائية لفيلمه. مع ذلك كان دوناتاس بارعا جدا بالفعل، و أنا ممتن له لأنه أدى دوره على نحو أفضل من أي ممثل آخر، رغم أن ذلك لم يكن سهلا.
الممثل ذو التوجه العقلاني، التحليلي أكثر، يعتبره أمرا مفروغاً منه أن يعرف الفيلم كما سيبدو عليه في صورته النهائية، أو عبر قيامه بدراسة السيناريو يبذل جهودا مضنية لتصور العمل في شكله النهائي.بافتراضه أنه يعرف كيف ينبغي أن يكون الفيلم، يبدأ الممثل في تأدية " الحصيلة الأخيرة"..أي مفهومه لدوره.وبفعل ذلك، هو ينكر وجود المبدأ الفعلي لخلق الصورة السينمائية.
لقد أشرت سابقا الى أن كل ممثل يحتاج الى تعامل مختلف، وحتى نفس الممثل يقتضي تعاملا على نحو مختلف في كل دور جديد.وعلى المخرج أن يكون مبتكراً في بحثه عن الوسائل الأفضل لجعل الممثل يفعل ما يريده.كوليا بورليائيف، عندما أدى دور ابن صانع الأجراس في "أندريه روبليوف"، كان يعمل معي للمرة الثانية بعد "طفولة إيفان". طوال فترات التصوير كنت أريد منه أن يفهم من خلال المساعدين لي في الإخراج بأنني مستاء تماما من أدائه، ومن المحتمل أن أعيد تصوير مشاهده مع ممثل آخر. أردته أن يشعر بان الكارثة مسلطة عليه، متدلية فوقه، وهي ربما على وشك السقوط عليه، وذلك لكي يشعر على نحو حقيقي باللا أمان وبعدم الاستقرار.
كوليا ممثل مولع بالتفاخر والتباهي، قليل العمق، مشتت تماما، ومتكلف المزاج. لهذا السبب كان علي أن الجأ الى مثل هذه الإجراءات القاسية. مع ذلك ،أداؤه لم يكن في المستوى نفسه كما أداء الممثلين المفضلين لدي :ايرما راوش، سولونيتسين، جرينكو ،بيشيناجيف، نازاروف.
لو نظرنا الى فيلم بيرجمان "العار"، للاحظنا بان الفيلم لا يحتوي على مشاهد يستعرض فيها الممثل مواهبه على هواه، و"يخون"فيها غاية المخرج، ويظهر موقفه الخاص تجاه الشخصية. الممثل هنا متوار تماما ضمن ديناميكية حياة الشخصية، متحدا معها.الأفراد في الفيلم تسحقهم الظروف، وهم يتصرفون فقط وفقا لوضعهم الخاص الذي يخضعون له.الممثل لا يقوم بأية محاولة ليفرض علينا أية فكرة وأية وجهة نظر لما يحدث، أو لاستدرار أي استنتاج. كل ذلك متروك الى الفيلم ككل، والى رؤية المخرج.وكم هو - الفيلم- منجز على نحو رائع. انك لا تستطيع أن تحدد في عبارات بسيطة أي الشخصيات طيبة وأيها شريرة.إنهم جميعا طيبون الى حدٍ ما، وسيئون الى حدٍ ما. كل بطريقته الخاصة.هنا لا يمكن إصدار أية أحكام، لأن ليس ثمة أي اثر للانحياز في أي ممثل، وظروف أو حالات الفيلم يستخدمها المخرج لسبر الاحتمالات الإنسانية التي يختبرونها، وليس لتوضيح فرضية ما.
شخصية ماكس فون سيدوف تتنامى بقوة وببراعة في البداية هو رجل طيب جداً، حنون وحساس، وهو موسيقار. لكن يتضح فيما بعد انه جبان. على أية حال، ليس كل رجل جسور هو كائن بشري طيب، وليس كل جبان هو وغد. بالطبع هو ضعيف ومتردد. زوجته أقوى منه بكثير، الى حد أنها تستطيع أن تقهر خوفها.البطل يفتقر الى تلك القوة. إنه معذب بسبب ضعفه وحساسيته وافتقاره الى المرونة. يحاول أن يختبئ، أن ينكمش في زاوية، أن لا يرى ولا يسمع.. وهو يفعل هذا مثل طفل.. بسذاجة وبصدق تام.لكن عندما ترغمه الظروف أن يدافع عن نفسه، يتحول على الفور الى وغد.انه يفقد كل ما كان فاضلاً وحسناً فيه.غير أن الدراما ولا معقولية وضعه، التي دفعته لأن يكون كذلك، هي التي تجعل تحوله ضرورية بالنسبة الى زوجته التي تتوقع منه الحماية والعون عوضا عن ازدرائه كما كانت دائما.حين يضربها على وجهها ويطلب منها أن تخرج، هي تذهب خلفه زاحفة. ثمة شئ هنا من الفكرة القديمة جدا عن الخير السلبي والشر الفعال..لكن التعبير عنها مركب للغاية . في بداية الفيلم، لا يستطيع البطل أن يقتل حتى دجاجة، لكن حالما يجد طريقه للدفاع عن نفسه، فانه يصبح قاسيا، مؤمنا بان السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية. ثمة شئ من هاملت في داخله: رأيي أن هاملت يموت ليس بعد المبارزة، أي جسمانياً، بل مباشرة بعد مشهد "الفأر"حيث يفهم الى أي مدى يتعذر إلغاء قوانين الحياة التي أرغمته، هو رجل الإنسانية والفكر، أن يتصرف مثل أي شخص وضيع وأدنى منزلة. فون سيدوف يتحول الى شخص شرير، حتى انه يقتل، ولا يخاف من شئ. وسوف لن يرفع إصبعا لإنقاذ رفاقه. ولا يسعى إلا وراء مصالحه الخاصة. الغرض من هذا، انك لابد أن تكون شخصاً ذا استقامة عظيمة لكي تشعر بالخوف إزاء الضرورة البشعة التي تدفعك لأن تقتل وتذل كائنا آخر. بإراقة ذلك الخوف، واكتساب الشجاعة ظاهريا، يفقد الفرد قوته الروحية واستقامته الفكرية وجوانب من براءته. الحرب هي التي تحفز العناصر الوحشية، اللاانسانية، في الأفراد.وبيرجمان يستخدم الحرب في هذا الفيلم تماما مثلما وظف مرض البطلة في فيلمه "عبر مرآة معتمة":لكي يسبر رؤيته للإنسان.
بيرجمان لا يسمح أبدا لممثليه أن يكونوا فوق الوضع الذي فيه يتم تعيين الشخصيات، ولهذا السبب هو يحرز نتائج ممتازة. في السينما، يتعين على المخرج أن ينفخ الحياة في الممثل لا أن يجعل منه ناطقا باسمه و ينقل أفكاره.
عادة أنا لا أعرف سلفا أي الممثلين ينبغي أن أختار.. باستثناء واحد هو سولونيتسين، لقد شارك في كل أفلامي. سيناريو "نوستالجيا" كان مكتوبا على أساس أن يؤدي هذا الممثل الدور، لكنه فارق الحياة قبل المباشرة في العمل. ويبدو أن موت هذا الممثل، على المستوى الرمزي، قد قسم مسيرتي الفنية الى جزئين:الأول في روسيا، والثاني يشتمل على الأعمال التي حققتها خارج روسيا.
البحث عن ممثلين ملائمين للأدوار مهمة شاقة و موجعة ومديدة. إن من الصعب تقرير - حتى منتصف فترة التصوير- ما إذا كنت قد قمت بالاختيار الصحيح و المناسب للممثل. بل إنني لا أبالغ إذا قلت بأن الأمر الأصعب بالنسبة لي هو أن أؤمن بأنني قد اخترت فعلا الممثل المناسب، و أن شخصيته الفردية تتوافق أو تتطابق مع ما خططت له.
لا بد من الإشارة هنا الى العون الكبير الذي تلقيته من المساعدين لي. حين كنا نحضّر لتحقيق فيلم "سولاريس"، ذهبت لاريسا (زوجتي ومساعدتي في كل أفلامي ) الى ليننغراد بحثا عن ممثل يؤدي دور "سنوت"، فأحضرت معها الممثل الأيستوني الرائع "يوري يارفيت"، الذي كان يؤدي آنذاك في فيلم "الملك لير" مع المخرج جريجوري كوزنتسيف.
من أجل دور "سنوت" كنا نعلم بأننا نحتاج الى ممثل يحمل سمات شخص ساذج، مذعور، مجنون. ويا رفيت، بعينيه الزرقاوين المدهشتين، تطابق بدقة مع ما تخيلناه. (الآن أشعر حقا بالأسف لإصراري على أن يلقي حواره بالروسية رغم اضطرارنا الى دبلجة حواره، كان يمكن أن يكون أكثر حرية، وبالتالي أكثر قوة وحيوية، لو أنه تحدث بلغته الايستونية).. ومع أن عدم إجادته اللغة الروسية قد سبّب بعض الصعوبات، إلا أنني كنت سعيدا بالعمل معه، فهو ممثل ممتاز تتوفر لديه درجة من الحدس الغريب على نحو ايجابي.
في إحدى المرات كنا نجري بروفة على مشهد ما و طلبت من يارفيت أن يعيد المشهد لكن بتغيير طفيف للحالة النفسية. أردت منه أن يكون "أكثر حزناً بعض الشيء. وقد نفّذ بشكل مرض ما طلبته منه، وعندما أنهينا المشهد، سألني بلغته الروسية المروعة: ماذا كنت تعني بقولك "أكثر حزناً بعض الشيء"؟
أحد الفروقات بين المسرح و السينما هو أن الشاشة تسجل الوجود الشخصي من فسيفساء من الطبعات على الفيلم يركّبها المخرج معاً في وحدة فنية. بالنسبة للممثل المسرحي، التساؤلات النظرية ذات أهمية كبيرة: يتعين عليك أن تعمل على أساس كل أداء فردي مستقل فيما يتعلق بالمفهوم الإجمالي للإنتاج، وتنمّي رسماً بيانياً لأفعال وتفاعلات الشخصيات، ومخططا للسلوك و الدافع الذي ينبغي أن يمتد عبر المسرحية.
في السينما، كل ما هو مطلوب صدق الحالة الذهنية في اللحظة المصورة.لكن كم هو شاق فعل ذلك أحيانا، كم هو شاق أن تمنع الممثل من عيش حياته الخاصة في اللقطة، كم هو صعب أن تنفذ الى الأعماق الأكثر إيغالاً لحالة الممثل السيكولوجية، أن تخترق ذلك المجال الذي يمكن أن يثمر وسيلة حيوية، على نحو رائع، لشخصيةٍ ما كي تعبّر عن نفسها.
بما أن السينما هي دائما واقع مسجل، فاني أشعر بالحيرة عند الكلام عن الصفة الوثائقية للمادة الممثلة و التي أصبحت منتشرة كثيرا في الستينات والسبعينات.
الحياة المعبّر عنها في قالب مسرحي لا يمكن أن تكون وثائقية. إن تحليل الفيلم المصور يمكن، بل و ينبغي، أن يتضمن مناقشة كيفية تنظيم المخرج للحياة أمام الكاميرا، لكن لا يمكن مناقشة المنهج المستخدم من قبل المصور.
أوتار يوسيلياني ، على سبيل المثال، منذ فيلمه falling leaves مروراً ب songthrush وحتى فيلمه pastorale، يتحرك بثبات مقتربا أكثر من الحياة، هادفا الى أسرها بمباشرية أكثر. فقط الناقد الشكلاني، الذي تعوزه الحساسية، الأكثر سطحية سوف يعجز عن التقدم عبر التفاصيل الوثائقية بحيث يخفق في إدراك الرؤية الشعرية التي تميز أفلام يوسيلياني. و بالنسبة لي، ليس مهماً أبداً ما إذا كانت كاميرته - فيما يتصل بكيفية تصوير لقطاته- هي "وثائقية" أو شعرية. كل فنان، كما يقال، يشرب من كأسه. وبالنسبة لمبدع فيلم pastorale لا شيء أكثر قيمة و أهمية من الشاحنة التي تُرى في طريق مغبر، أو الناس و هم يمضون في نزهة.. وهو المشهد الذي لا يمكن أن يكون ملفتا بذاته، لكنه مرصود بشمولية دقيقة، وهو حافل بالشعر. انه يرغب في أن يتحدث عن هذه الأشياء بدون إضفاء صبغة رومانسية عليها، وبدون تفخيم وتكلف. هذا التعبير عن حبه لموضوعه هو الأكثر إقناعا، على نحو لا يضاهى، من اتجاه أندريه كونشالوفسكي ذي النزعة الشعرية الزائفة، والطبقة العالية على نحو مقصود.
في فيلمه "حكاية رومانسية عن العشاق" ثمة نبرة متكلفة.. في الاتجاه العام و في مجاراة قواعد " نوع فني" كان يقصده المخرج وباستمرار يعود إليه، في نبرات عالية طوال التصوير. وبالنتيجة، فإن كل ما يتصل بالفيلم هو فاتر، تعوزه العاطفة، مدع على نحو لا يطاق، ومبتذل. ليس هناك أي "نوع فني" يستطيع أن يبرر استخدام المخرج المتعمد لصوت، ليس صوته الخاص، للتحدث عن أمور لا تقلقه ولا تثير اهتمامه.
عند يوسيلياني، يستحيل أن ترى نثراً مبتذلاً. وعند كونشالوفسكي يستحيل أن ترى شعراً راقياً. مع يوسيلياني، الشعري مغموس في ما يحبه، كجزء لا يتجزأ، وليس في شئ مختلق لتزيين رؤيته للعالم.. هذه الرؤية ذات الروح الرومانسية الزائفة.
إني أشعر بالرعب من النعوت والتصنيفات. أنا لا افهم، على سبيل المثال، كيف يمكن الحديث عن "رمزية" بيرجمان. بعيداً عن أن يكون رمزياً، بيرجمان – عبر طبيعية بيولوجية تقريباً – يصل الى الحقيقة الروحية بشأن الحياة الإنسانية التي هي هامة بالنسبة إليه.
القصد هنا أن عمق ومغزى ودلالة عمل المخرج لا يمكن قياسه أو تقديره إلا في ما يتصل بالشئ الذي يجعله يصور: الدافع هو العامل الحاسم، أما الطريقة و المنهج فهي أمور تصادفية وثانوية.
حسب تصوري، فإن الأمر الوحيد الذي يتعين على المخرج أن يقلق بشأنه هو التوكيد غير المتردد لأفكاره الخاصة. أي كاميرا يستخدم، فذلك أمر راجع له. المسائل التي تتعلق بالأسلوب الشعري أو الفكري أو الوثائقي فلا صلة لها بالغاية لأن الوثائقية و الموضوعية لا موقع لها في الفن. الموضوعية يمكن أن تكون خاصة بالمبدع فقط، وبالتالي هي ذاتية.. حتى عندما يتولى مونتاج شريط إخباري.
إذا توجب على الممثل السينمائي أن يؤدي فقط الحالات الدقيقة، فقد ينطرح هذا السؤال: ماذا عن الكوميديا السوداء، الكوميديا الصارخة (الفارس)، الميلودراما.. وكل الأمثلة التي قد يكون فيها أداء الممثل متسماً بالمبالغة؟
إني أعتقد بأن نقل الأنواع المسرحية، بالجملة، الى السينما هي ممارسة مشكوك فيها. إن تقاليد المسرح هي على مقياس مختلف. أي كلام عن "النوع الفني" في السينما يشير عادةً الى الأفلام التجارية: كوميديا الموقف، الويسترن، الدراما النفسية، الميلودراما، الفيلم الاستعراضي، البوليسي، أفلام الرعب أو الإثارة.. لكن ما علاقة كل هذا بالفن ؟ إنها تنتسب الى الإعلام الجماهيري، وهي موجهة الى المستهلك العام.
لكن للأسف، هي أيضا الشكل الذي فيه توجد السينما الآن عالميا، الشكل المفروض عليها من الخارج ولأسباب تجارية.هناك طريقة واحدة فقط للتفكير في السينما:شعريا.
فقط بهذا التعامل يمكن حل ما هو متناقض، ولكي تكون السينما وسيلة ملائمة للتعبير عن أفكار ومشاعر المبدع.
الصورة السينمائية الحقيقية مبنية على أنقاض النوع الفني، على التعارض معه. والمثل العليا، التي يسعى الفنان الى التعبير عنها، لا تقبل أن تكون محتجزة ضمن معايير نوع فني معين.
ما هو النوع الفني الذي من خلاله يعبّر بريسون؟ ليس لديه أي نوع. بريسون هو بريسون. هو بذاته نوع.انتونيوني، فلليني، بيرجمان، كيروساوا، دوفجنكو، فيجو، ميزوجوشي، بونويل.. كل واحد من هؤلاء يعين هويته الخاصة.المفهوم الفعلي للنوع الفني هو بارد كالقبر.وهل شارلي شابلن كوميدي؟ لا.. انه شابلن..ظاهرة فريدة لا يمكن أن تتكرر أبدا.في أدائه قد نجد مغالاة خالصة، لكنه يذهلنا في كل لحظات وجوده السينمائي على الشاشة من خلال صدق سلوك بطله.في أكثر الأوضاع والحالات عبثية أو لا معقولية، يبدو شابلن طبيعيا تماما، ولهذا السبب هو مضحك.لا يبدو على بطله انه يلاحظ المغالاة والمبالغة التي يتسم بها العالم من حوله، ولا يدرك المنطق الغريب الذي يعتمد عليه هذا العالم. .شابلن فنان كلاسيكي، كامل بذاته.
ما الذي يمكن أن يكون أكثر سخفاً وعبثية، أو اقل احتمالا، من شخص يبدأ على نحو غير مقصود-في التهام قصاصات ورق تنحدر من السقف لتحط في طبق السباجيتي الموضوع أمامه؟ لكن مع ذلك فإن الحدث، عند شخص مثل شابلن، يبدو طبيعيا وحيوياً. نحن نعلم بأن المسألة كلها منظمة ومبالغ فيها، لكن في أدائه المتسم بالمبالغة هو يكون طبيعياً ومحتملاً تماماً، وبالتالي مقنعا ومضحكا على نحو رائع. إنه لا يؤدي بل يعيش تلك الحالات الحمقاء..انه جزء لا يتجزأ منها.
إن طبيعة التمثيل السينمائي مقتصرة على السينما.كل مخرج، بالطبع، يعمل على نحو مغاير مع ممثليه..طريقة فلليني مختلفة تماما عن طريقة بريسون، لان كل مخرج يحتاج الى نماذج إنسانية مختلفة.
بالنظر الى أفلام ياكوف بروتوزانوف (16) الصامتة، التي كانت شعبية جدا في تلك الأيام، يشعر المرء بالحرج تقريبا من تسليم الممثلين الكلي بالأعراف المسرحية، واستخدامهم غير المكبوح لكليشيهات مسرحية بالية، والطريقة التي بها يمطون النمط الأدائي المتكلف. كانوا يحاولون بصعوبة فائقة أن يكونوا مضحكين في الأعمال الكوميدية أو معبرين في الحالات الدرامية.. وكلما بذلوا جهدا اكبر، اتضح أكثر أن "منهجهم"، طوال سنوات، كان فارغا و أجوف.
أغلب أفلام تلك الفترة تصير متخلفة على نحو سريع لأن الممثلين لم يكن لديهم فهم للمتطلبات النوعية و الخاصة التي يقتضيها الإنتاج السينمائي، ولهذا السبب كانت جاذبية الممثلين قصيرة الأجل.
ممثلو بريسون، من ناحية أخرى، سوف لن يبدوا متخلفين عن زمنهم أبدا، و الشيء نفسه ينطبق على أفلامه أيضا. لا شيء محسوب أو مدروس أو غير اعتيادي في أدائهم. هناك فقط الصدق العميق للإدراك الإنساني ضمن الوضع الذي يحدده المخرج. إنهم لا يمثلون شخصيات بل يعيشون حيواتهم الداخلية الخاصة أمام أعيننا. إن "موشيت" (الشخصية الرئيسية في فيلم بريسون) لا تعكس أمام جمهورها، أو تفكر في محاولة توصيل، "الأعماق" الكاملة لما يحدث لها.. و لو للحظة واحدة. إنها لا تعرض على الجمهور الحالة النفسية التي تعيشها. بل أنها لا ترتاب و لا يخامرها شعور بأن حياتها الداخلية قد تكون مرصودة أو يراقبها شاهدٌ ما.هي تعيش، توجد، ضمن عالمها الضيق و المركّز، والذي تسبر عمقه. ذلك هو سر فتنتها. و أنا لا أشك أبدا بأن هذا الفيلم، بعد عشرات السنين من الآن، سوف يكون ذا حضور غامر كما كان يوم عرضه الأول. كذلك فيلم كارل دراير "جان دارك"الصامت والذي لم يكف أبدا عن تحريك مشاعرنا و التأثير فينا بقوة.
لكن الناس، بالطبع، لا يتعلمون من التجربة. مخرجو اليوم يستخدمون على الدوام أساليب في الأداء تنتمي بوضوح الى الماضي. حتى فيلم لاريسا شيبتكو"صعود"أراه وقد تشوّه بسبب تصميم المخرجة على أن يكون الفيلم "معبرا"وذا مغزى. و النتيجة هي أن "حكايتها الرمزية" صار لها مغزى على مستوى واحد فقط. و كما يحدث غالبا، فإن محاولتها لتحريك و "إثارة" الجمهور تفضي الى توكيد مبالغ فيه على انفعالات شخصياتها.. كما لو أنها تخشى من أن لا تكون مفهومة. حتى الإضاءة مدروسة لغرض غرس "المعنى" في الأداء. للأسف ، التأثير يبدو متكلفاً وزائفاً . في سبيل إرغام الجمهور على التعاطف مع الشخصيات، إضطر الممثلون الى إظهار وشرح معاناتهم.. حيث كل شيء موجع ومعذب أكثر مما في الحياة الواقعية. و الانطباع الذي يتخلق يتسم باللامبالاة و الفتور لأن المخرجة لم تفهم غرضها الخاص. لقد شاخ الفيلم قبل أن يولد.
أبدا لا تحاول أن توصل فكرتك الى الجمهور.. إنها مهمة غير محمودة ولا معنى لها. اعرض عليهم الحياة و دعهم يجدون داخل أنفسهم الوسيلة لتقييمها و تقديرها. أمر محزن أن أضطر الى قول هذا عن مخرجة ملفتة وغير عادية مثل لاريسا شيبيتكو.
السينما لا تحتاج الى ممثلين "يؤدون ". مشاهدة هؤلاء عملية لا تطاق، لأننا أدركنا منذ زمن طويل ما كانوا يهدفون إليه، مع ذلك هم يثابرون بعناد في توضيح (بتعابير لا لبس فيها) معنى النص على كل مستوى ممكن. انهم لا يستطيعون التعويل على فهمنا دون مساعدة منهم. و المرء يجد نفسه مرغما على التساؤل: ما الذي يميّز هؤلاء المؤدين المعاصرين عن إيفان موزوكين (17).. نجم الشاشة الروسية قبل الثورة ؟ هل هو واقع أن هذه الأفلام متقدمة تقنيا أكثر ؟ لكن التقدم التقني ليس معيارا، واذا كان كذلك، فينبغي علينا أن نقبل بفكرة أن السينما ليست فنا. المسائل التقنية مهمة على الصعيد التجاري، فيما يتصل بالعرض، لكنها ليست محورية فيما يتصل بمشكلة السينما، و لا تلقي ضوءا على سر قدرة السينما الفذة على التأثير فينا.. و إلا لا ينبغي علينا بعد الآن أن نشعر بالتأثر، أو تهتز مشاعرنا، لدى مشاهدتنا أفلام شابلن أو دراير أو فيلم دوفجنكو "الأرض".. وهي أفلام لا تزال تلهب مخيلتنا اليوم.
أن تكون مضحكا ليس مثل أن تجعل الناس يضحكون. الفعلان مختلفان. كما أن إثارة التعاطف والمشاركة الوجدانية لا تعني استدرار دموع الجمهور. المبالغة مقبولة فقط كمبدأ بناء للعمل كله، كعنصر في منظومة الصور، وليس كمبدأ في منهج العمل.
أحيانا الوهمي، اللاحقيقي، ينجح في التعبير عن الواقع نفسه. يقول ميتينكا كرامازوف: "الواقعية شيء فظيع". أما فاليري فقد لاحظ بأن الحقيقي يجد تعبيره على نحو جوهري أكثر من خلال اللا معقول.
الفن وسيلة للمعرفة، بالتالي هو يتجه دائما نحو التمثيل الواقعي، لكن ذلك بالطبع يختلف تماما عن الطبيعية أو وصف الأعراف.
لقد سبق أن قلت بأن من طبيعة المسرح أن يستخدم الأعراف وأن ينسق القوانين. الصور تتأسس بواسطة الإيحاء. ومن خلال تفصيله أو جزء ثانوي يمكن للمسرح أن يجعلنا نعي ظاهرة كاملة. كل ظاهرة، بالطبع، لها عدد من الأوجه والمظاهر والتي كلما قل إعادة إنتاجها على الخشبة لكي يعيد الجمهور بناء الظاهرة نفسها، صار المخرج يستخدم التقليد المسرحي على نحو أكثر دقة وأكثر فعالية. السينما ،على نحو مغاير ،تعيد إنتاج الظاهرة في أجزائها وتفاصيلها .. وكلما أعاد المخرج إنتاجها في شكلها المادي، المتماسك، الحسي، فانه يكون أكثر اقترابا من هدفه. ليس للدم الحق في أن يراق على الخشبة، لكن إذا استطعنا أن نشاهد الممثل وهو ينزلق على الدم- حيث لا يكون الدم مرئيا – فذلك هو المسرح.
أثناء إخراج مسرحية هاملت في موسكو، قررنا أن ننفذ مشهد مقتل بولونيوس بجعله يظهر من الموضع الذي يختبئ فيه، مجروحا بطعنة نافذة ومميتة على يد هاملت، وهو يضع على صدره عمامة حمراء كان يرتديها، كما لو يغطي بها جرحه.بعد ذلك هو يُسقط العمامة، يحاول استرجاعها ليأخذها معه، فمن القذارة أن تترك دما على الأرضية حيث بوسع مولاه أن يرى ذلك، لكنه يفتقر الى القوة التي بها يستطيع أن يعثر على العمامة. عندما يدع بولونيوس العمامة الحمراء تسقط، فان العمامة تظل عمامة لكنها في الوقت نفسه تصبح مجازأ للدم. في المسرح، الدم الحقيقي لا يمكن أن يكون مقنعا كإظهار للحقيقة الشعرية إذا كان له معنى على مستوى واحد فقط.. كوظيفة طبيعية.الدم في السينما، من جهة أخرى، هو دم..ليس علامة، وليس رمزا لأي شئ آخر. لذلك عندما يلقى بطل فيلم أندريه فايدا "رماد وجواهر" مصرعه وهو محاط بملاءات معلقة لكي تجف فيما يضغط إحدى الملاءات على صدره وهو يخر على الأرض، ودمه القرمزي ينتشر على القماش الأبيض ليخلق بالأحمر والأبيض رمزا للعلم البولندي، فإن الصورة الناتجة هي أدبية أكثر منها سينمائية، رغم أنها قوية عاطفيا.
السينما تعتمد على الحياة أكثر مما ينبغي، وتصغي إليها بتركيز أكثر مما ينبغي، لذلك هي لا تحتاج الى أغلال في هيئة نوع فني معين، أو إظهار عاطفةٍ ما بعونٍ من قوالب النوع الفني. السينما ليست مثل المسرح الذي يعمل من خلال الأفكار، حيث حتى الشخصية الفردية هي فكرة.
بالطبع كل فن هو اصطناعي. إنه في النهاية يرمز الى الحقيقة. ذلك جلي تماماً. لكن طبيعة الاصطناعية التي تأتي من الافتقار الى المهارة، الافتقار الى الحس الإحترافي، لا يمكن تمريرها وتقديمها بوصفها أسلوبا. عندما لا تكون المبالغة متضمنة في اللغة المجازية، إنما هي مجرد محاولة مبالغ فيها وتوق الى الإرضاء، فإنها تكون سمة تشير الى ضيق الأفق والى الرغبة في أن يكون المرء ملحوظا كفنان.ما يستحقه الجمهور هو الاحترام، الإحساس بالكرامة.لا تنفخ في وجوههم..ذلك شئ مكروه ،حتى القطط والكلاب لا تحب ذلك.
مرة أخرى، إنها مسألة الثقة بجمهورك.الجمهور فكرة مثالية، ذهنية: انك لا تفكر في كل شخص جالس في الصالة.الفنان دائما يحلم ببلوغ الحد الأقصى من الفهم، حتى لو أن ما يقدمه الى الجمهور مجرد جزء مما يأمله.هذا لا يعني انه ينبغي على الفنان أن يشغل باله بهذه المسألة، بل يتعين عليه باستمرار أن يتذكر بأن المهم هو إخلاصه وصدقه في تحقيق فكرته.
في أحوال كثيرة يطلبون من الممثلين أن "يجعلوا المعنى مفهوما"، والممثل يذعن ويحمل ثقل المعنى مضحيا بحقيقة الشخصية أثناء فعل ذلك. كيف يمكن لأي فنان أن لا يثق بالجمهور؟
ليس كافيا أبدا الرغبة في الالتقاء بالجمهور في منتصف المسافة.
يوسيلياني في فيلمه SONGTHRUSH اسند الدور الرئيسي الى ممثل هاو، ومع ذلك فإن مصداقية البطل لم تكن موضع أي شك. انه مفعم بالحيوية على الشاشة. حياته حقيقية، تامة، ويستحيل الارتياب فيها أو تجاهلها، ذلك لأن الحياة الحقيقية وثيقة الصلة بكل واحد منا، ولكل ما يحدث لنا.
لكي يكون الممثل مؤثراً وفعالاً على الشاشة، ليس كافيا أن يكون مفهوما. يتعين عليه أن يكون صادقا. و ما هو صادق، نادرا ما يسهل فهمه، ودائما يعطي إحساسا بالامتلاء، بالاكتمال. إنها دائما تجربة فذة والتي لا يمكن فهمها على نحو منعزل و على حده، و لا يمكن تفسيرها على نحو حاسم.
الموسيقى والأصوات
الموسيقى، بالطبع، جاءت الى السينما في أيام الأفلام الصامتة، مع عازف البيانو الذي كان يوضح ما يحدث على الشاشةبمصاحبة موسيقى ملائمة لإيقاع الفيلم والذروة العاطفية للصورة البصرية. لقد كانت طريقة آلية واعتباطية الى حد ما لإضافة الموسيقى على الصورة، وطريقة سطحية للتوضيح بغية تكثيف الانطباع الذي يخلقه كل حدث.الغريب في الأمر، أن السينما استمرت في استخدام الموسيقى بالطريقة ذاتها حتى يومنا هذا.الأحداث تكون مدعمة بمصاحبة موسيقية والتي تكرر، على نحو مضجر، الثيمة الرئيسية من أجل تصعيد رنينها العاطفي، أو أحيانا لمجرد تحسين مشهد لم ينفذ بالشكل المطلوب.
إني أجد الموسيقى في الأفلام مقبولة أكثر حين تستخدم مثل اللازمة.حين نصادف في الشعر لازمة، جملة متكررة، فإننا – وقد استحوذنا في ذلك الحين ما قرأناه- نعود الى السبب الأول الذي حث الشاعر على أن يكتب الأبيات في المقام الأول.اللازمة تعيدنا الى تجربتنا الأولى في دخول ذلك العالم الشعري، ونعود الى مصادره.
موظفة بهذه الطريقة، الموسيقى تقوم بما هو أكثرمن تكثيف الانطباع بالصورة البصرية، بتقديم إيضاح مواز للفكرة ذاتها.إنها تفتح الاحتمال لانطباع جديد ذي مظهر متغير، وللمادة نفسها: شئ مغاير في النوع والطبيعة.منغمرين في العنصر االموسيقي الذي تخلقه اللازمة، نحن نعود المرة تلو الأخرى الى الانفعالات التي وهبنا إياها الفيلم، وتجربتنا تتعمق في كل مرة بواسطة انطباعات جديدة.مع تقديم المتوالية الموسيقية، الحياة المسجلة في الكادر يمكن أن تغير لونها ومظهرها، وأحيانا حتى ماهيتها.
علاوة على ذلك، يمكن للموسيقى أن تجلب الى المادة المصورة سمة غنائية ولدت من تجربة المبدع.في فيلم "المرآة المتعلق بالسيرة الذاتية، على سبيل المثال، الموسيقى هي غالبا مقدمة كجزء من مادة الحياة، من التجربة الروحية لخالق العمل، وبالتالي كعنصر أساسي، مفعم بالحيوية، في عالم بطل الفيلم.
يمكن استخدام الموسيقى من اجل إحداث تحريف ضروري للمادة البصرية في إدراك الجمهور، لجعلها أكثر كثافة وثقلا أو أكثر خفة واحتمالا، أكثر شفافية، أكثر لطفا أو على العكس..أكثر خشونة. بتوظيف الموسيقى، يمكن للمخرج أن يحث انفعالات الجمهور في اتجاه معين، وان يوسع نطاق إدراكهم للصور البصرية. إن معنى الشيء لا يتغير، لكن الشيء نفسه يتخذ مظهرا جديدا.الجمهور يراه (أوعلى الأقل تتاح له الفرصة لرؤيته) كجزء من كينونة جديدة والتي إليها الموسيقى تكون متممة والإدراك يتعمّق.
لكن الموسيقى ليست مجرد تابع، أو جزء ثانوي، للصورة البصرية، بل يجب أن تكون عنصرا أساسياً لتحقيق الفكرة العامة ككل.عندما تكون الموسيقى موظفة على نحو لائق فإنها تملك القدرة على تغيير النبرة الانفعالية للمشهد.يجب أن تكون الموسيقى متحدة تماما مع الصورة البصرية بحيث إذا تم انتزاعها من جزء معين فإن الصورة لن تكون ضعيفة في فكرتها وتأثيرها فحسب، بل ستكون مختلفة نوعيا.
في أفلامي، لست واثقا من نجاحي، علىالدوام، في تحقيق المطالب النظرية التي أقدمها هنا. ويتعين عليّ أن أقول بأنني، في أعماقي، لا أعتقد بأن الأفلام تحتاج الى الموسيقى على الإطلاق.مع ذلك، فانا لم احقق بعد فيلماً بدون استخدام الموسيقى..مع إنني تحركت في ذلك الاتجاه مع فيلمي المتسلل (stalker) ونوستالجيا. الموسيقى كانت دائما تجد مكانا ملائما لها في أفلامي ، وكانت هامة و ثمينة.
الموسيقى لم تكن أبدا توضيحا مسطحا لما يحدث على الشاشة ، بل هي محسوسة كنوع من العبير العاطفي حول الأشياء المعروضة ، من أجل دفع الجمهور الى رؤية الصورة بالطريقة التي أردتها. الموسيقى في السينما بالنسبة لي جزء طبيعي من عالمنا الرنان، جزء من الحياة الإنسانية. مع ذلك، ممكن جدا في فيلم كامل و متماسك، والذي يتحقق بمتانة واتساق تام، أن لا يكون فيه موضع للموسيقى.. إذ سوف يستعاض عنها بالأصوات التي فيها تكتشف السينما باستمرار مستويات جديدة من المعنى. و ذلك ما كنت أهدف إليه في فيلمي المتسلل و نوستالجيا.
من أجل جعل الصورة السينمائية موثوقة على نحو جدير بالتصديق، في تناغمها الكلي، ربما ينبغي التنازل عن الموسيقى و عدم استخدامها. فالعالم الذي يتحول عن طريق السينما، والعالم الذي يتحول عن طريق الموسيقى، هما متوازيان و متعارضان مع بعضهما البعض.
إذا كان العالم منظما على نحو لائق في الفيلم فإنه يكون موسيقيا في جوهره و ماهيته، و تلك هي الموسيقى الحقيقية للسينما.
بيرجمان أستاذ في توظيف الصوت.. يستحيل التغاضي عما يفعله مع المنارة في فيلمه "عبر مرآة معتمة": الصوت على شفا أن يكون مسموعا.
بريسون رائع في استخدامه للصوت، كذلك انتونيوني في ثلاثيته، لكن مع ذلك، لدي شعور بأن هناك لابد من وجود طرق أخرى للاشتغال على الصوت، طرق قد تتيح للمرء أن يكون أكثر دقة، أكثر أمانة مع العالم الداخلي الذي نحاول إعادة إنتاجه على الشاشة.. ليس فقط عالم المبدع الداخلي، بل ما يكمن داخل العالم نفسه، ما هو أساسي فيه و لا يعوّل علينا.
أصوات العالم المعاد إنتاجها على نحو طبيعي في السينما يتعذر تخيلها: قد يكون هناك ذلك التنافر في النغمات. كل ما يظهر على الشاشة لا بد أن يكون مسموعا على شريط الصوت، والنتيجة سوف تعادل الصوت الذي لم تتم معالجته على الإطلاق في الفيلم. إذا لم تكن هناك عملية انتقاء فإن الفيلم عندئذ يكون معادلا للصمت بما أنه لا يملك تعبيرا صوتيا خاصا به. بذاته و بمعزل عن الأشياء الأخرى، الصوت المسجل بدقة وعلى نحو صحيح لا يضيف شيئا الى نظام الصورة في السينما، ذلك لأنه لا يملك محتوى جماليا.
حالما يتم انتزاع أصوات العالم المرئى، الذي تعكسه الشاشة، من ذلك العالم، أو يكون ذلك العالم مليئا - إكراما للصورة- بأصوات غريبة يعوزها الترابط و التي لا توجد واقعيا، أو تكون الأصوات الحقيقية محرفة بحيث لا تعود تتوافق مع الصورة.. عندئذ يكتسب الفيلم رنينا و أهمية.
على سبيل المثال، عندما يوظف بيرجمان الصوت على نحو طبيعي ظاهريا- وقع أقدام مكتومة، غير رنانة، في رواق خال، دقات ساعة كبيرة، حفيف ثوب - فان النتيجة هي في الواقع تضخيم للأصوات، عزلها، وجعلها تتسم بالمبالغة.. إنه يختار صوتا واحدا و يقصي كل الظروف العرضية أو الطارئة لعالم الصوت الذي قد يوجد في الحياة الواقعية. في فيلمه "ضوء الشتاء" يختار بيرجمان صوت المياه في النهر حيث على ضفته يتم العثور على جثة المنتحر . طوال المشهد، المصور في لقطات عامة ومتوسطة، لا شيء يمكن سماعه غير صوت الماء الذي لا يقاطعه شيء.. لا وقع أقدام و لا حفيف ثياب و لا كلمة يتبادلها الأفراد على الضفة. بتلك الطريقة يصبح الصوت معبرا في هذا المشهد.. وهكذا يوظف بيرجمان الصوت في السينما.
قبل كل شيء، أشعر أن أصوات هذا العالم جميلة جدا، بذاتها وبمعزل عن الأشياء الأخرى، الى حد أننا إذا استطعنا أن نتعلم كيف نصغي إليها على نحو مناسب و لائق فإن السينما سوف لن تحتاج الى الموسيقى على الإطلاق.
مع ذلك، ثمة لحظات في السينما الحديثة حين يتم استثمار الموسيقى ببراعة فائقة، كما في فيلم بيرجمان" العار" عندما تأتي إلينا نتف من لحن جميل، شاقة طريقها عبر طقطقات وصرير راديو ترانزستور صغير ومن نوع رديء.أو كما في فيلم فلليني "ثمانية ونصف" مع موسيقى نينو روتا الحزينة و الوجدانية، لكن التهكمية قليلا في الوقت نفسه.
الموسيقى الالكترونية تبدو لي أنها تملك إمكانيات غنية جدا للسينما. لقد استخدمناها، أنا وأرتيمييف، في بعض مشاهد فيلم "المرآة". هنا أردنا من الصوت أن يكون قريبا من الحفيف، من التنهد، وأن يكون مليئا بالإيحاء الشعري. كان على النغمات الموسيقية أن توصل حقيقة أن الواقع مشروط، وفي الوقت نفسه أن ينتج حالات ذهنية دقيقة و يولد أصوات العالم الداخلي لشخص ما. لقد تعين على أرتيمييف أن يستخدم حيلا معقدة جدا لإحراز الأصوات التي كنا نريدها. يجب أن تتخلص الموسيقى الالكترونية من أصولها"الكيميائية" بحيث ، ونحن نصغي إليها ، قد نأسر فيها أنغام العالم الأساسية.
الموسيقى العادية، الآلاتية، هي فنيا مستقلة جدا الى حد أن من العسير عليها أن تذوب في الفيلم الى النقطة التي تصير فيها جزءا عضويا من الفيلم. لذلك فإن استخدامها سوف يقتضي ضمنا درجة من التسوية، لأنها تكون دائما توضيحية. علاوة على ذلك، فإن الموسيقى الالكترونية تمتلك تلك القدرة على التشرب في الصوت. إنها يمكن أن تكون متوارية خلف أصوات أخرى و تظل غير واضحة أو لا يمكن تمييزها..مثل صوت الطبيعة، مثل أصوات حميمة غامضة، و يمكن أن تكون مثل شخص يتنفس.
الفصل السادس:
المبدع في بحثه عن الجمهور
موقع السينما الملتبس بين الفن والصناعة يفسر الكثير من الأشياء الشاذة في العلاقات بين المبدع والجمهور.انطلاقا من تلك الحقيقة، المسلم بها على نحو عام، أريد أن انظر الى واحدة أو إثنتين من الصعوبات التي تواجه السينما، واستنطق بعض نتائج هذا الوضع.
كل صناعة، كما نعلم، ينبغي أن تكون قابلة للحياة وللنمو.ولكي تعمل وتتطور، لا يكفي أن تسترجع ما أنفقته بل أن تحقق ربحا مؤكدا. والفيلم، بوصفه سلعة، قد ينجح أو يفشل، وقيمته الجمالية تتوطد على نحو متناقض ظاهريا، وفقا للعرض والطلب، وحسب قوانين السوق الصريحة.وتجدر الإشارة هنا إلى انه لم يتعرض فن آخر غير السينما الى مثل هذا النوع من الشروط والمعايير.
وطالما أن السينما تظل في وضعها الحالي فسوف لن يكون سهلا أبدا للعمل السينمائي الحقيقي أن يرى النور، وليس فقط أن يصل الى جمهور أوسع.
طبعاً المقاييس المعتمدة التي بواسطتها يتميز الفني عن اللافني أو الزائف هي نسبية، غير واضحة، ويتعذر البرهنة عليها الى حد أن لا شئ يمكن أن يكون أسهل من استبدال المعايير الجمالية بمقاييس منفعية محضة في التقييم، وهذه المقاييس تمليها الرغبة في تحقيق أضخم ربح مالي ممكن أو بدافع إيديولوجي ما.. وكلاهما، على حد سواء، بعيد تماما عن غاية الفن.
الفن بطبيعته أرستقراطي.وهو انتقائي في تأثيره على الجمهور، إذ حتى في تجلياته"الجماعية"، مثل المسرح أو السينما، نجد أن تأثيره متصل اتصالا وثيقا بالانفعالات الحميمة الشخصية جداً، لكل فرد يشاهد العمل. وكلما مست تلك الانفعالات والمشاعر أعماق الفرد واستحوذت عليه، إحتل العمل مكانة هامة في تجربته.
لكن الطبيعة الارستقراطية للفن لا تعفي الفنان، بأي حال من الأحوال، من مسؤوليته تجاه جمهوره وتجاه الناس عموما. على العكس تماماً، فبسبب إدراك الفنان لزمنه وللعالم الذي يعيش فيه، يصبح الفنان صوت أولئك الذين لا يستطيعون أن يصوغوا، أو يعبروا عن رؤيتهم للواقع. بهذا المعنى، الفنان هو فعلا صوت الشعب. لذلك هو مطالب بأن يخدم موهبته، والذي يعني أن يخدم شعبه.
في الواقع أنا لا أستطيع أن افهم المعضلة التي يسمونها "حرية"الفنان أو "فقدان" الفنان لحريته. الفنان ليس حراً أبداً. لا توجد جماعة من الناس تفتقر الى الحرية أكثر من فئة الفنانين. الفنان مكبّل بموهبته، بشعوره انه مدعو للقيام بعمل ما.
من ناحية أخرى، الفنان حرّ في الاختيار بين تحقيق موهبته بأكمل ما يستطيع، أو بيع روحه مقابل ثلاثين قطعة من الفضة.ألم يكن وعي تولستوي ودوستويفسكي وجوجول بمهمتهم وبدورهم المقدر هو الذي حثهم على البحث المسعور؟
لكنني مقتنع أيضا بأن أحداً من الفنانين سوف لن يعمل على تحقيق مهمته الروحية الشخصية لو كان يعرف بأن أحدا سوف لن يذهب لمشاهدة عمله.مع ذلك، وفي الوقت نفسه، حين يعمل يجب أن يضع ستاراً بينه وبين الآخرين لكي يكون محصنا من الآنية المبتذلة والعقيمة..ذلك لأن الأمانة والصدق، وإدراك المسؤولية الخاصة تجاه الآخرين، هو الذي يمكن أن يضمن تحقيق قدر الفنان الإبداعي.
خلال مسيرتي الفنية في الاتحاد السوفيتي كنت على الدوام متهما بـ "عزل نفسي عن الواقع"، كما لو أنني قد عزلت نفسي على نحو مقصود عن اهتمامات الناس اليومية.يجب أن اعترف صراحة بأنني لم افهم أبدا ما كانت تعنيه هذه الاتهامات. لا شك أن من المثالية تخيل أن فنانا، أو أي شخص آخر، قادر على قطع صلته بالمجتمع، وبزمنه، وان يكون "حرا" من الزمن ومن المكان الذي ولد فيه.كنت دائما اعتقد أن أي شخص، و أي فنان (أيا كان ابتعاد أو انفراد الفنان المعاصر في الأوضاع الجمالية والنظرية) يجب بالضرورة أن يكون نتاج الواقع الذي يحيط به.قد يتهم البعض الفنان بتأويل الواقع من وجهة نظر غير مرضية أو غير مقبولة، لكن ذلك لا يعني أنه مفصول عن الواقع. واضح أن كل فرد يعبر عن زمنه الخاص وبالضرورة يحمل في داخله قوانين تطوره، بصرف النظر عن حقيقة أن ليس كل شخص ميال الى اخذ هذه القوانين في الاعتبار أو الى مواجهة مظاهر الواقع التي لا يرغب فيها.
الفن، كما قلت سابقا، يحرك مشاعر الفرد وليس عقله. وظيفته، إن جاز التعبير، أن يدير ويطلق النفس البشرية، ويجعلها متفتحة على الخير.عندما تشاهد فيلما جيداً، أو تنظر الى لوحة ما، أو تصغي الى قطعة موسيقية (مفترضا، بالطبع، انه النوع المفضل لديك من الفن) فإنك تكون اعزلا ومنتشيا من البداية..وذلك بمعزل عن الفكرة،عن التفكير. وعلى أية حال، وكما قلنا من قبل، فإن فكرة العمل العظيم هي دائما ملتبسة، دائما ذات وجهين على حد تعبير توماس مان. إنها متعددة الأوجه وغامضة وغير محددة كما الحياة نفسها.المبدع، بالتالي، لا يستطيع أن يفترض بأن عمله يمكن أن يكون مفهوما بطريقة واحدة معينة، ووفقاً لإدراكه هو للعمل. كل ما يستطيع فعله هو أن يقدم صورته الخاصة للعالم الى الآخرين لكي يكونوا قادرين على النظر إليها من خلال عينيه وأن يكونوا ممتلئين بمشاعره وشكوكه وأفكاره.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالجمهور، فإنني واثق تماما انه أكثر فطنة وحدة ذهن مما يظنه أولئك المسؤولين عن توزيع الأعمال الفنية.إضافة الى انه لا يمكن أبداً التنبوء بحاجات ومطالب الجمهور.بالتالي فان إدراك الفنان للأمور، مهما كانت مركبة أو أكثر عمقا، قادر أن يجد جمهورا. حتى لو كان الجمهور صغيراً فسوف يكون في انسجام مثالي مع العمل.الخطب المسهبة بشأن ما إذا العمل يبدو مفهوما "للجمهور العريض"- للأغلبية الخرافية- تعمل هذه الخطب فحسب على إرباك تلك العلاقة بين الفنان والجمهور، وتجعل اتصال كل منهما بالآخر مغلفا بالضباب..كذلك اتصال الفنان بزمنه.
كتب الكسندر هيرزن في "أفكاري وزمني الذي مضى":"في أعماله الحقيقية، الشاعر أو الفنان هو دائما وطني.في كل ما يفعله، وأيا كان هدفه أو فكرته المطروحة في عمله، سوف يعبر دائما، شاء ذلك أم لم يشأ، عن عنصر ما من الشخصية الوطنية، و سوف يعبر عنها على نحو أعمق، وأكثر حيوية من التاريخ الوطني نفسه".
العلاقة بين الفنان والجمهور هي عملية متبادلة.عندما يظل الفنان أمينا مع نفسه، ومستقلا عن الآنية، فإنه يخلق مدارك جديدة ويرفع من مستوى الفهم عند الجمهور.
ووعي المجتمع المتنامي بدوره يوجد مخزونا من النشاط والذي فيما بعد سوف يفضي الى ولادة فنان جديد.
لو نظرنا الى أعظم الأعمال الفنية فسوف نلاحظ بأنها توجد كجزء من الطبيعة، جزء من الحقيقة، ومستقلة عن المبدع أو الجمهور.رواية تولستوي"الحرب والسلام"أو رواية توماس مان"يوسف وأخوته"لها ذلك الجلال والسمو الذي يرفعها عاليا فوق الاهتمامات اليومية، العادية، والمبتذلة لتلك الأزمنة التي كتبت فيها الرواية.
ذلك البعد، تلك الرؤية من الخارج، من شاهق روحي ومعنوي، هو ما يخول العمل الفني أن يعيش في زمن تاريخي، تأثيره متجدد دوماً، ومتغير دوماً..(لقد شاهدت فيلم بيرجمان"برسونا"مرات عديدة، وفي كل مرة كان الفيلم يهبني شيئا جديدا. كعمل فني حقيقي وصادق، هو دائما يتيح للمرء أن يتصل على نحو شخصي بعالم الفيلم، وفي كل مرة يفسره على نحو مختلف)
الفنان لا يستطيع، وليس له الحق في، أن ينزل نفسه الى مستوى تجريدي، ذي معايير معينة، من أجل مفهوم- يُساء تفسيره أو فهمه- عن إمكانية بلوغ عدد أكبر من الناس وبالتالي يكون العمل مفهوما من قبلهم. لو فعل ذلك، فسوف لن يفضي هذا إلا الى انحطاط الفن. نحن نتوقع من الفن أن يزدهر، ونؤمن أن الفنان لا يزال لديه موارد لم تكتشف بعد، وفي الوقت نفسه نعتقد أن الجمهور سوف يحدد مطالب جادة أكثر من أي وقت مضى..على أية حال، ذلك ما نرغب في الاعتقاد به.
قال كارل ماركس:"إذا أردت الاستمتاع بالفن، فيجب عليك أن تكون مثقفا فنيا". الفنان لا يستطيع أن يحدد هدفا معينا بأن يكون مفهوما.. ذلك سيكون منافيا للعقل، تماما كما هو النقيض: محاولة الفنان لأن يكون مبهما وغير قابل للفهم.
الفنان ونتاجه وجمهوره هم كينونة لا تتجزأ وغير قابلة للانقسام.. مثل كائن حي مرتبط بمجرى الدم ذاته. إذا حدث تعارض بين أجزاء الكائن الحي، فان ذلك يقتضي معالجة خبيرة ومعاملة حريصة. لاشيء يمكن أن يكون أكثر ضررا في التأثير من المستويات الأدنى للسينما التجارية أو المعايير الإنتاجية للتلفزيون. هذه الأشياء تفسد الجمهور الى درجة لا يمكن غفرانها، وتحرم الجمهور من اكتشاف الفن الحقيقي.
لقد فقدنا القدرة على إدراك الجمال كمعيار للفن، وعلى التعبير عن المثال. كل عصر مختوم بالبحث عن الحقيقة. ومهما تكن تلك الحقيقة ضارية ومروعة فإنها مع ذلك تسهم في الرخاء المعنوي للبلاد. إن إدراكها علامة لزمن صحي و لا يمكن أن تكون أبدا في تناقض مع الفكرة الأخلاقية. محاولات حجب الحقيقة أو إخفائها أو إبقائها سرية أو وضعها قبالة مثال أخلاقي محرف على أساس افتراض أن الحقيقة سوف لن يُعترف بها عند الأغلبية..مثل هذه المحاولات لا تعني إلا شيئا واحدا هو أن الاهتمامات الإيديولوجية قد حلت محل المعايير الجمالية.وحده البيان الصادق عن زمن الفنان قادر أن يعبّر عن المثال الأخلاقي الحقيقي كمقابل للدعائي.
ذلك كان موضوع فيلم "أندريه روبليوف".يبدو للوهلة الأولى كما لو أن الحقيقة القاسية للحياة، كما يرصدها الفنان هي في تناقض صارخ مع المثال المتناغم لعمله . مع ذلك، الفنان لا يستطيع أن يعبر عن المثال الأخلاقي لزمنه ما لم يتحسس كل المحن المتدفقة، وما لم يكابد ويعيش تلك المحن بنفسه. هكذا ينتصر الفن على الحقيقة "الزائفة"، المروعة، متعرفاً عليها بوضوح لما تكونه، باسم الغاية السامية: هذا هو دوره المقدّر.. ذلك لأن الفن يمكن اعتباره دينياً حيث أن التزامه بالهدف الأسمى هو الذي يلهمه.
الفن، عندما يتجرد من القيم الروحية، فانه يحمل بداخله مأساته الخاصة، إذ حتى في اعترافه بالخواء الروحي للأزمنة التي يعيش فيها، يتوجب على الفنان أن يتحلى بصفات الحكمة و الفهم. الفنان الحقيقي دائماً يخدم الخلود ويناضل لتخليد العالم، والإنسان ضمن العالم. الفنان الذي لا يحاول أن يبحث عن الحقيقة المطلقة، الذي يتجاهل الغايات الكونية، لا يمكن إلا أن يكون انتهازياً وينشد المصلحة الخاصة.
حين أنتهى من عملٍ ما، بعد فترة فاصلة قد تطول أو تقصر، و عندما يعرض العمل أخيراً، عندئذ أعترف بأنني أكفّ عن التفكير فيه. الفيلم ينسلخ عني، يمضي بعيدا عني، مستقلاً ووفق هواه، ليبدأ حياة راشدة بعيداً عن خالقه، وأنا لا أعود أملك أي رأي وأي كلمة أخيرة في ما سوف يحدث له.
أعلم سلفاً بأنه لا جدوى من التعويل على استجابة الجمهور، المتفق عليها بالإجماع، ليس فقط لأن البعض سوف يعجب به، في حين يجده البعض الأخير مثيراً للسخط والحنق، و إنما لأن على المرء أن يأخذ في الاعتبار واقع أن الفيلم سوف يكون مفهوماً على نحو مختلف، ويحلل بنواحٍ مختلفة، حتى من قبل أولئك الذين يتخذون منه موقفاً ودياً. وسوف أكون سعيداً لو استطاع الفيلم أن يتيح المجال للتأويلات المتعددة.
يبدو لي من غير المجدي أن نقدر "نجاح" فيلم ما بطريقة حسابية، بلغة شباك التذاكر. من الواضح أن الفيلم لا يكون مفهوماً أبداً بطريقة واحدة فقط، وباعتباره يعبّر أو يدل على شئ واحد فقط. إن معنى الصورة الفنية هو بالضرورة غير متوقع، نظراً لأنه تسجيل للكيفية التي بها رأى شخص واحد العالم على ضوء حساسيته وخصوصياته في البنية أوالمزاج. الذاتية والإدراك سوف يكونان قريبين من البعض، وغريبين تماما عن البعض الآخر. هكذا ينبغي أن يكون الحال. ومهما يكن فإن الفن سوف يستمر في التطور كما هو الحال دائما، بصرف النظر عن مشيئة ورغبة أي شخص. والمبادئ الجمالية، المهجورة في الوقت الحاضر، سوف يقهرها الفنانون أنفسهم المرة بعد الأخرى.
بناءً على ذلك، نجاح فيلمي لا يشغلني لأنه، في ذلك الحين، يكون الفيلم قد تم إنجازه وصار مستقلاً عني ولا املك أي سلطة لتغييره. لكن في الوقت ذاته لا أستطيع أن أصدق أولئك المخرجين الذين يزعمون بأنهم لا يهتمون ولا يبالون بالكيفية التي يستجيب بها الجمهور.
كل فنان يرجو أن يتحقق اللقاء بين عمله و الجمهور. ما يتوقعه، ما يأمله، ما يعتقده هو أن نتاجه الفني هذا سوف يثبت في النهاية انه متناغم مع الأزمنة، و بالتالي هو حيوي وأساسي بالنسبة للمتفرج، يصل الى أعماق روحه ويحرك مشاعره. ليس هناك تناقض في واقع أنني لا أقوم بأية محاولة لإرضاء الجمهور، ومع ذلك أرجو أن يكون فيلمي مقبولاً ومحبوباً وينال الاستحسان من أولئك الذين يشاهدونه. ازدواجية هذا الوضع تبدو لي أنها كائنة في اللب الحقيقي لمعضلة الفنان و الجمهور.. العلاقة المحفوفة بالتوتر.
لا يمكن للفنان أن يكون مفهوماً بصورة متساوية من قبل كل شخص، لكنه قادر أن يكوّن أنصاراً -أياً كان عددهم- بين رواد السينما.. هذا هو الشرط الطبيعي للوجود بالنسبة للفنان ذي الشخصية المتميزة، ولنشوء تقليد ثقافي في المجتمع.. بالطبع كل منا يرغب في إيجاد العدد الأقصى من الأرواح الشقيقة، من الذين سوف يقدروننا و يحتاجون إلينا، لكننا لا نستطيع أن نعتمد على نجاحنا الخاص ونحن عاجزون عن انتقاء مبادئنا الخاصة في العمل بطريقة تضمن ذلك. حالما يبدأ المرء في تقديم ضروب التسلية الى جمهور الصالة، فإننا عندئذ نتحدث عن صناعة الترفيه، الاستعراض، الجماهير، لكن بالتأكيد ليس عن الفن الذي بالضرورة يمتثل لقوانينه المتأصلة الخاصة بشأن التطور.
كل فنان يجترح مهمته الإبداعية بطريقته الخاصة. وسواء تكتّم عليها أم لا، فإن الاتصال و الفهم المتبادل مع الجمهور هو، على نحو ثابت، موضع آماله وأحلامه، أما الفشل فيصيب الجميع بالاكتئآب. يتذكر المرء هنا كيف أن سيزان، الذي أثنى عليه زملاؤه من الفنانين المعروفين واعترفوا بموهبته، شعر بحزن عميق لأن جاره لم يقدّر لوحاته. على الرغم من ذلك، لم يغير سيزان شيئاً من أسلوبه إرضاء لجاره والآخرين.
أستطيع أن أسلّم بأن فناناً قد يقبل تكليفاً من جهة ما للعمل في موضوع معين، لكنني لا أستطيع قبول فكرة أن يضع الفنان معالجته وتنفيذه للعمل تحت توجيه وسيطرة تلك الجهة. ذلك في نظري أمر غير مجدٍ تماماً. ثمة عوامل تحول دون جعل الفنان من نفسه أداة تابعة للجمهور أو لأي شخص آخر. إذا فعل ذلك فان مشاكله الخاصة، صراعه ووجعه الداخلي، سيكون عرضة للتحريف والتشوه من قبل أشياء لا تنتسب اليه. إن أكثر المظاهر تعقيداً وإرهاقا وايذاءً في عمل الفنان هو ما يكمن على نحو صارم في حقل الأخلاق: المطلوب منه هو الاستقامة و الصدق تجاه نفسه.. ذلك يعني أن يكون أميناً وصادقاً ومسؤولاً تجاه الجمهور.
المخرج ليس مخولاً لأن يحاول إرضاء و إمتاع أي شخص. ليس له الحق في تقييد نفسه أثناء معالجة عمله من أجل النجاح، واذا فعل ذلك فسوف يدفع الثمن حتماً. إن خطته وغايته، وتحقيقهما، سوف لن يتضمن المعنى ذاته بالنسبة اليه. حتى لو كان يعلم، قبل أن يباشر عمله، بأنه سوف لن يحوز الإعجاب الواسع، فليس من حقه إجراء تغييرات في ما طلب منه فعله.
وقد عبّر بوشكين عن ذلك على نحو رائع:
أنت ملك. عش بمفردك. اسلك الطريق الحر
و امض حيث يقودك ذهنك الحر.
قدّم الى الكمال ثمار أفكار محبوبة
لا تطلب مكافأة على إنجاز أعمال نبيلة
المكافآت في داخلك. الحكم الأسمى هو ذاتك
ولا أحد قادر أن يحكم على عملك بقسوة أكثر منك.
فنان متميز.. هل هذا يرضيك ويسعدك؟
عندما أقول أنني لا أستطيع أن أؤثر في موقف الجمهور تجاهي، فاني أحاول أن أصوغ واجبي المهني الخاص. انه بسيط جداً: أن يفعل المرء ما يتعين عليه فعله، واهباً الحد الأقصى من ذاته، وأن يحاكم المرء نفسه بالمعايير الأكثر صرامة. إذن كيف يمكن أن يكون هناك أي استفهام بشأن التفكير في "إرضاء الجمهور"، أو القلق بشأن "إعطاء الجمهور مثالاً يحتذى به"؟ وما هو الجمهور؟ جماهير مجهولة ؟ مخلوقات آلية ؟
يتطلب القليل لتقدير الفن: نفس حساسة، رهيفة، سهلة التأثر، منفتحة على الجمال و الخير، مؤهلة لتجربة جمالية عفوية. في روسيا، جمهوري كان يشتمل على العديد من الناس الذين لا يمكنهم التباهي بأي معرفة أو ثقافة خاصة. أعتقد أن الحساسية تجاه الفن توهب للفرد عند الولادة، وتعتمد لاحقاُ على نموه الروحي.
كنت دائماً اشعر بالحنق و الغيظ من هذا القول: "الناس لن يفهموا".. ما الذي يعنيه هذا؟ من يستطيع أن يزعم بأنه يعكس "رأي عامة الشعب" ويصدر التصريحات أو البيانات بالنيابة عن الآخرين معلناً أنه يعبّر عن وجهة نظر أغلبية السكان؟ من يستطيع أن يعرف ما سوف يفهمه الناس وما لا يفهمونه؟ ما يحتاجونه أو ما يريدونه ؟ هل قام أحدُ ما في أي وقت مضى بعمل استبيان أو مسح أو قام بأدنى محاولة، وفق ما يمليه الضمير، لاكتشاف اهتمامات الناس الحقيقية، طرائقهم في التفكير، توقعاتهم، آمالهم، أو حتى خيبات أملهم؟
أنا جزء من هذا الشعب: عشت مع رفاقي المواطنين، كنت ضمن حدود الجزء ذاته من التاريخ مثل أي شخص آخر في سني، لاحظت وفكرت بشأن الأحداث و العمليات ذاتها. وحتى الآن، أثناء إقامتي في الغرب، أظل ابن بلدي. أنا شظية منه، ذرة منه، وأرجو أنني اعبر عن أفكار تنبع من الأعماق الكامنة في تقاليدنا الثقافية و التاريخية.
عندما تحقق فيلماً فمن الطبيعي أن تكون واثقاُ من أن الأمور التي تثيرك وتهمك سوف تكون أيضاً ذات أهمية بالنسبة للآخرين، و أنت تأمل أن يستجيب الجمهور دون أن تضطر لأن تعمل سمساراً أو تتملقهم. احترام الجمهور أو أي محاور، لا يمكن إلا أن يكون مبنياً على الاقتناع بأنهم ليسوا أقل ذكاء منك. الشرط الضروري لأي محادثة هو توفر نوع من اللغة المشتركة. وكما قال غوته، إذا أردت إجابة ذكية، يجب أن تطرح سؤالاً ذكيا. الحوار الحقيقي بين المخرج و المتفرج ممكن فقط حين يمتلك الاثنان العمق ذاته من فهم المشكلات، أو على الأقل الاقتراب من مهمات المخرج على المستوى نفسه.
بينما تطور الأدب منذ ألفي سنة تقريباًُ، فان السينما لا تزال تبرهن أنها قادرة أن تكون ملائمة لمشاكل زمنها، تماماً كما كانت الفنون الأخرى المتكرسة. ومن المشكوك فيه الى ابعد حد أن تكون السينما قادرة حتى الآن على الادعاء بأن أياً من مبدعيها جدير بالوقوف جنباً الى جنب مع مبدعي الروائع العظيمة في الأدب العالمي. وشخصياً لا أظن أنها تستطيع الزعم بذلك لأن السينما، حسب شعوري الخاص، لا تزال تحاول أن تحدد شخصيتها المميزة ولغتها الخاصة، مع أنها أحيانا تقترب حقاً من فعل ذلك. إن ما يقرر ويحدد اللغة السينمائية مسالة لم يتم حلّها بعد، وهذا الكتاب يحاول فحسب أن يوضح نقطة أو نقطتين في هذا الشأن. ومهما يكن، فإن حالة السينما المعاصرة تلتمس منا أن نفكر المرة تلو الأخرى في مزاياها كشكل فني.
نحن لا نزال غير واثقين بشأن "المادة" التي فيها يتعين على الصورة السينمائية أن تصاغ وتتشكل، بخلاف الرسام الذي يعرف أنه سوف يعمل بالألوان، أو الكاتب الذي يعرف بأنه سوف يؤثر في قرائه بالكلمات. السينما ككل لا تزال تبحث عما يحددها. علاوة على ذلك، فان كل مخرج في هذا المجال يحاول أن يجد صوته الفردي الخاص، في حين أن الرسامين جميعاً يستخدمون الألوان وعدداً وافراً من الكانفاس يرسمون عليها. الكثير من العمل ينتظر المخرجين والجمهور معاً إذا أراد هذا الوسط، ذو الجاذبية الجماهيرية، أن يصبح شكلاً فنياً حقاً.
لقد ركزت عمداً على الصعوبات الموضوعية التي تواجه الجمهور و المخرجين معاً في الوقت الحاضر. الصورة السينمائية انتقائية في تأثيرها على الصالة، و هذا يوجد في طبيعة الأشياء. في حالة السينما، المشكلة تكون أكثر حدة. في الحاضر نحن نعيش وضعاً فيه متفرج السينما حر في اختيار المخرج الذي يصادف أن يكون على اتفاق معه، بينما المخرج غير مخول لأن يعلن بصراحة أنه ليس لديه أي اهتمام بتلك الشريحة من رواد السينما الذين يستخدمون الأفلام كوسيلة للترفيه وللهروب من محن وهموم ومعاناة الحياة اليومية.
هذا لا يعني توجيه اللوم الى المتفرج واعتباره مسؤولاً عن ذوقه الردئ، فالحياة لا تمنحنا جميعاً الفرص ذاتها لتطوير مداركنا الجمالية. هنا تكمن الصعوبة الحقيقية. لكن لن يكون مجدياً التظاهر بأن الجمهور هو "الحكم الأهم" أو المؤهل لإصدار حكم نقدي على الفنان.
من هو الجمهور؟ ما هو ؟ اؤلئك المسؤولين عن السياسة الثقافية ينبغي أن يهتموا بخلق مناخ ومعيار محدد للإنتاج الفني، بدلا من خداع الجمهور بإعطائه أشياء هي زائفة ووهمية على نحو صارخ ووقح، وبالتالي تفسد ذوقهم على نحو يتعذر تغييره.
لكن هذه ليست مشكلة ينبغي أن يحلها الفنان. لسوء الحظ، هو غير مسؤول عن السياسة الثقافية. نحن نستطيع فحسب أن نكون مسؤولين عن مستوى أعمالنا. الفنان سوف يتحدث بأمانة وصدق عن كل الأمور التي تهمه ولا يحجم عن قول شيء، إذا وجد الجمهور أن موضوع المحادثة مهم ويعنيه حقاً.
مرّ عليّ وقت، بعد فيلم "المرآة" -وبعد سنوات من العمل الشاق في تحقيق الأفلام- كنت فيه أفكر فعلاً في التخلي عن هذه المهنة كلها.. لكن ما إن بدأت في تلقي كل تلك الرسائل (التي ذكرت بعضها في مقدمة الكتاب) حتى أدركت بأن ليس من حقي القيام بفعل متطرف كهذا، وما دام هناك قطاع من الجمهور قادر أن يكون نزيهاً ومنفتحاً الى هذا الحد، و أن يحتاج حقاً الى أفلامي، فعندئذ يتعين عليّ أن استمر في العمل مهما كلفني الأمر ومهما كان الثمن.
لو كان هناك متفرجون يهمهم الدخول في حوار معي، فان ذلك هو الحافز الأعظم الذي أحتاجه في عملي. واذا كان البعض يتحدث اللغة ذاتها التي أتحدثها، فلماذا ينبغي أن أهمل و استخف باهتماماتهم إكراما لجماعة أخرى من الناس هي غريبة ونائية؟ مثل هذه الجماعة لديها " أربابها ومعبوديها"، ولا شيء مشترك بيننا.
كل ما يستطيع الفنان أن يقدمه الى الجمهور هو أن يكون منفتحا وصريحاً ونزيهاً في صراعه مع مادته. و الجمهور سوف يقدّر ما نبذله وما تعنيه جهودنا..
إذا حاولت أن ترضي الجمهور وتلبي على نحو غير نقدي ما تفرضه ميولهم و أذواقهم، فان هذا يعني شيئا واحداً هو أنك لا تكنّ احتراماً لهم: انك ببساطة ترغب في الحصول على نقودهم، وعوضاً عن توجيه الجمهور بتقديم أعمال فنية ملهمة، فانك توجه الفنان لأن يضمن دخله المالي فحسب. ومن جهته، الجمهور سوف يستمر – بطمأنينة وقناعة تامة- في الإحساس بأنه على صواب. الإخفاق في تنمية قدرة الجمهور على نقد أحكامنا الخاصة هو مساو للتعامل مع الجمهور بلا مبالاة تامة.
الفصل السابع:
مسؤولية الفنان
أرغب في أن ابدأ بالعودة الى المقارنة، أو بالأحرى التباين، بين الأدب والسينما.
الميزة البارزة التي يتقاسمها هذان الشكلان الفنيان المستقلان تماما، من وجهة نظري، هي حريتهما المدهشة في استخدام المادة كما يشاءان.
كتبت سابقا عن الاعتماد المتبادل للصورة السينمائية وتجربة المبدع والجمهور.النص الأدبي أيضا يعتمد على تجربة القارئ العاطفية والروحية والفكرية مثلما يفعل كل شكل فني.والأمر المثير للاهتمام بشأن الأدب هو انه مهما كانت دقة التفاصيل التي يضعها المؤلف في كل صفحة، فإن القارئ سوف يظل "يقرأ" و"يرى" فقط ما هيأته له تجربته الخاصة وما صاغته شخصيته، نظرا لأن هذه هي التي شكلت الميول والخاصيات والحساسيات في الذائقة التي أصبحت جزءاً منه. حتى المقاطع المفصلة والأكثر طبيعية في النص لا تبقى ضمن سيطرة وتحكم الكاتب: كل ما يحدث سوف يدركه ويعيه القارئ على نحو ذاتي.
السينما هي الشكل الفني الوحيد الذي يستطيع فيه المبدع أن يرى نفسه بوصفه خالقاً لواقع تام، غير مشروط، ولعالم خاص به.في السينما، الدافع المتأصل الى توكيد المرء لذاته يجد احد وسائله الأكثر مباشرة لتحقيق ذلك.الفيلم هو واقع عاطفي..هكذا يستقبله الجمهور: كواقع ثان.
الرؤية المقبولة على نحو واسع للسينما بوصفها نظاما من الإشارات تبدو لي بالتالي مخطئة جوهريا.
نحن هنا نتحدث عن أنواع مختلفة من التعالق مع الواقع الذي على أساسه كل شكل فني يبني وينمّي مجموعة خاصة به من التقاليد المتميزة وواضحة المعالم.في هذه النقطة، أنا أصنف السينما والموسيقى بين الأشكال الفنية المباشرة نظرا لأنها لا تحتاج أي لغة وسيطة أوغير مباشرة.هذا العامل المحدد الجوهري يعيّن حدود القرابة بين الموسيقى والسينما، ولنفس السبب يقصي السينما عن الأدب، حيث كل شئ يجد تعبيره بواسطة اللغة، بواسطة نظام من الإشارات.العمل الأدبي لا يمكن تلقيه إلا من خلال الرموز والمفاهيم، نظرا لأن ذلك هو ما تكونه الكلمات.غير أن السينما، مثل الموسيقى، تتيح إدراكا حسيا وعاطفيا مباشرا تماما للعمل.
بواسطة الكلمات يصف الأدب حدثا ما، عالماً داخلياً، واقعا ظاهريا، يرغب الكاتب في إعادة إنتاجه.السينما تستخدم المواد التي تقدمها الطبيعة نفسها، والزمن في مروره، والتي تتجلى ضمن المكان الذي نحن نلاحظه من حولنا.
إن صورة ما للعالم تنشأ في وعي الكاتب الذي، بواسطة الكلمات، يدونها على الورق. لكن "بكرة" ROLL الفيلم تطبع آلياً أشكال العالم غير المشروطة والتي دخلت في مجال بصر الكاميرا، و من هذه الأشكال تبنى فيما بعد صورة ذات وحدة كاملة.
الإخراج في السينما يعني ببساطة أن تكون قادرا على عزل الضوء عن الظلام، واليابسة الجافة عن المياه. إن سلطة المخرج هائلة الى حد أنها قادرة أن تخلق له الوهم بكونه قوة خلاقة، ولهذا السبب تمارس مهنته اغواءات خطيرة، ويمكن أن تقوده بعيدا جدا في الاتجاه الخاطئ. وهنا تواجهنا مسألة المسؤولية الضخمة والخطيرة في ما تتضمنه.. هذه المسؤولية التي يتعين على المخرج أن يتحملها. إن تجربته تصل الى الجمهور على نحو تصويري وفوري، بدقة فوتوغرافية، بحيث أن انفعالات الجمهور تصبح مماثلة لانفعالات شاهد عيان، إن لم تكن حقا انفعالات مبدع.
أريد أن أؤكد مرة أخرى بأن السينما، مع الموسيقى، هي الفن الذي يعمل مع الواقع. لهذا السبب أنا أعارض المحاولات البنيوية للنظر الى الكادر بوصفه إشارة لشيء آخر، والذي معناه يتلخص في اللقطة. المناهج أو الطرائق النقدية لفن ما لا يمكن أن ينطبق آلياً، وعلى نحو غير مقيد، على فن آخر. مع ذلك، هذا ما يحاول أن يفعله تعامل كهذا. خذ أصغر جزء من الموسيقى، ستجده هادئا وحرا من الايديولوجيا.
كذلك الأمر مع الكادر السينمائي الذي هو دائما مجرد ذرة من الواقع، و لا يحمل أية فكرة، فقط الفيلم ككل يمكن أن يزعم بأنه ينطوي على ترجمة أيديولوجية للواقع. لكن الكلمة، من جهة أخرى، هي بذاتها فكرة، مفهوم، والى حد ما فكرة تجريدية. الكلمة لا يمكن أن تكون صوتا فارغا.
في "حكايات من سفاستوبول" يصف ليف تولستوي حالات الرعب في مستشفى عسكري بتفصيل واقعي. لكن مهما كانت دقة وصفه لهذه التفاصيل الرهيبة فإن بإمكان القارئ أن يشتغل على الصور الطبيعية من أجل تعديلها وتكييفها وفقا لتجربته ورغباته ورؤاه الخاصة. النص دائما يؤخذ، ويتم تناوله، على نحو انتقائي من قبل القارئ، الذي يربط النص ذهنيا بقوانين المخيلة الخاصة به.
الكتاب الذي يقرأه ألف شخص مختلف يصير ألف كتاب مختلف. القارئ ذو المخيلة الناشطة، الحية، يستطيع أن يرى ما هو أبعد من الوصف الموجز، وأبعد من تصوير الكاتب نفسه..
(في الواقع، غالبا ما يتوقع الكاتب من القارئ أن يمضي الى أبعد مدى في التفكير). من جهة أخرى، القارئ الذي هو مكبوت ومكبوح بقيود أخلاقية وتابوات، سوف لا يرى الوصف القاسي، الأكثر دقة والشديد العناية بالتفاصيل، إلا من خلال المرشح (الفلتر) الأخلاقي والجمالي الموجود بداخله. نوع من التنقيح يحدث ضمن الإدراك الذاتي، وهذه العملية متأصلة في العلاقة بين الكاتب والقارئ. انه أشبه بحصان طروادة الذي في جوفه يشق الكاتب طريقه الى روح قارئه. الاختباء فيه هو واجب أو تعهد لا مفر منه لكي يقوم القارئ بتأدية دور في إبداع العمل.
لكن هل لدى جمهور السينما أي حرية في الاختيار؟
كل كادر، كل مشهد أو جزء، ليس مجرد وصف إنما صورة طبق الأصل لفعل ما، أو منظر، أو وجه. المعايير الجمالية هي بالتالي مفروضة على الجمهور. الظواهر المادية الملموسة معروضة على نحو بيّن لا لبس فيه، والفرد غالبا سوف يوجه مقاومة شديدة الى هذه المعايير معتمدا على قوة تجربته الشخصية.
لو انتقلنا الى الرسم على سبيل المقارنة، نجد أن هناك دائما مسافة بين اللوحة والمتفرج، مسافة كانت مرسومة ومعينة التخوم سلفا، والتي تبدي نوعا من التوقير تجاه ما هو مرسوم، والوعي بأن ما يوجد أمام الناظر- سواء وجدها قابلة للفهم أو عصية على الفهم- هو"صورة" للواقع: سوف لن يخطر أبدا لأي شخص أن يطابق اللوحة مع الحياة. تستطيع أن تتحدث عما إذا كان الموجود على الكانفاس شبيه بالحياة أو يحاكي الحياة الواقعية بدقة. لكن في السينما، الجمهور لا يفقد أبدا الإحساس بأن الحياة معروضة على قماش الشاشة هناك "فعلا". الفرد في أحوال كثيرة سوف يحكم على الفيلم بقوانين الحياة الواقعية، مستبدلا الافتقار الى الإدراك بتلك التي عليها بنى المبدع فيلمه، قوانين مستمدة من تجربته العادية، الرتيبة، اليومية. ولهذا السبب نجد تناقضات ظاهرية محتومة في الطريقة التي بها يدرك أو يقدّر الجمهور فيلماً ما.
لماذا الجمهور العريض غالبا ما يفضل أن يشاهد قصصا غريبة جدا على الشاشة، وأشياء لا علاقة لها بحياتهم ؟ انهم يشعرون بأنهم يعرفون ما يكفي عن حياتهم، وأن آخر شيء يحتاجونه ويرغبون في مشاهدته هو المزيد من ذلك، وهكذا هم في السينما يتوقون الى امتلاك تجربة شخص آخر، وكلما كانت هذه التجربة غريبة ومدهشة، وأقل تماثلا مع تجربتهم الخاصة، صارت جذابة ومثيرة أكثر، وصارت من وجهة نظرهم مرشدة أكثر.
بالطبع العوامل السوسيولوجية (الإجتماعية)تلعب دورا هنا، وإلا لم تتوجه جماعات من الناس الى الفن من اجل التسلية فقط، في حين يبحث آخرون عن حوار فكري؟ لماذا يقبل البعض كل ما هو سطحي و"جميل" ظاهرياً كشئ حقيقي مع انه سوقي وردئ ومبتذل وفظ، بينما هناك آخرون مؤهلون لتلقي التجربة الجمالية على نحو حقيقي؟أين ينبغي أن نبحث عن أسباب الصمم الجمالي –والأخلاقي أحيانا –لأعداد ضخمة من الناس ؟ذنب من هذا؟ وهل من الممكن مساعدة مثل هؤلاء الناس على اكتشاف الإلهام والجمال والبواعث النبيلة التي يطلقها أو يثيرها الفن الحقيقي في النفس؟
أو أظن أن السؤال يجيب على نفسه.لكن الآن أنا لا أريد أن أسهب أو أمعن النظر في الأمر بل أن أشير إليه فحسب. لسبب أولآخر، وتحت منظومات اجتماعية مختلفة، الجمهور العام يتغذى بشئ صنعي أو بديل، ولا أحد يهتم بشأن غرس أو تغذية الذوق.في الغرب، على الأقل، الجمهور تتاح له حرية الاختيار، وأفلام المخرجين العظام هي تحت تصرفهم في أي وقت يرغبون في رؤيتها.لا توجد هناك أي صعوبة في مشاهدتها، لكن تأثير هذه الأعمال بالكاد قادر أن يكون ذا شأن، ولو كان علينا أن نحكم بمدى ما تتعرض له هذه الأعمال من إنهاك وضعف في صراع غير متكافئ مع الأفلام التجارية التي تملأ الشاشات.
بالنظر الى منافسة السينما التجارية فإن لدى المخرج مسؤولية خاصة تجاه جمهوره. وبسبب قدرة السينما الفريدة في التأثير على جمهور الصالة وتحريك مشاعرهم –في تطابق الشاشة مع الحياة –فان الفيلم التجاري الزائف، الذي يخلو من المعنى، قادر أن يقوم بممارسة التأثير السحري على المتفرج اللاواعي، غير المثقف ، والذي لا يمتلك قدرات نقدية..تماما مثلما يمارس الفيلم الحقيقي تأثيره.الفارق المأساوي والحاسم هنا، انه إذا كان الفن قادرا على إثارة الأحاسيس والأفكار، فان السينما ذات الجاذبية الجماهيرية، وبسبب تأثيرها السهل والعفوي والذي لا يقاوم، تمحو كل آثار الفكر والشعور على نحو نهائي ويتعذر تغييره.الناس يكفون عن الإحساس بأية حاجة لكل ما هو جميل أو روحاني، ويستهلكون الأفلام مثلما يستهلكون قنينات الكوكاكولا.
الاتصال بين مخرج الفيلم والجمهور هو استثنائي وفريد، ذلك لأن السينما توصل تجربة مطبوعة على الفيلم في أشكال مؤثرة على نحو عنيد وبالتالي إلزامي.المتفرج يشعر بحاجة الى مثل هذه التجربة البديلة لكي يعوض الى حد ما عن ما هو نفسه قد خسره أو فاته. انه يلاحق ذلك على طريقة "البحث عن زمن ضائع".أما الى أي مدى ستكون إنسانية هذه التجربة المكتسبة حديثا، فذلك يعتمد فقط على مبدع الفيلم..ويالها من مسؤولية خطيرة.
إني أجد مشقة فائقة في فهم ما يتحدث عنه الفنانون بشأن حرية الإبداع المطلقة.أنا لا أفهم ما المقصود بذلك النوع من الحرية، إذ يبدو لي انك إذا اخترت عملا فنيا فانك تجد نفسك مقيدا بأغلال الضرورة أو الحاجة الملحة، ومقيدا بالواجبات التي كلفت نفسك بها وبالمهمة الفنية الخاصة.
كل شئ مشروط بالضرورة من نوع أو آخر.واذا كان ممكنا بالفعل إيجاد شخص يعيش حالة من الحرية الكاملة، فسوف يكون أشبه بسمكة من اسماك المياه العميقة والتي تُسحب الى السطح.انه أمر غريب إظهار أن روبليوف الملهم كان يعمل ضمن قيود الشريعة.كلما عشتُ فترة أطول في الغرب، بدت لي الحرية أكثر غرابة والتباسا.
هل هي حرية تعاطي المخدرات؟حرية أن تقتل؟حرية أن تنتحر؟
لكي تكون حرا يتعين عليك ببساطة أن تكون كذلك دون أن تلتمس إذناً من احد.
ينبغي أن تملك فرضيتك الخاصة بشأن ما تُستدعى لفعله، وتتبعه، لا أن تستسلم للظروف أو تذعن لها.لكن ذلك الضرب من الحرية يقتضي موارد داخلية فعالة، ودرجة عالية من وعي الذات، والشعور بمسؤوليتك تجاه نفسك وتجاه الآخرين.
للأسف، المأساة إننا لا نعرف كيف نكون أحرارا.نحن نطالب بالحرية لأنفسنا على حساب الآخرين، ولا نريد أن نتنازل عن أي شئ من حريتنا من أجل شخص آخر: ذلك سيكون تعديا على حقوقنا وانتهاكا لحريتنا الشخصية.كلنا مصابون اليوم بأنانية استثنائية.وهذه ليست حرية..الحرية تعني أن تتعلم كيف تطلب من نفسك فقط وليس من الحياة أو من الآخرين، وان تعرف كيف تمنح: التضحية باسم الحب.
لا أريد من القارئ أن يسئ فهمي:ما أتحدث عنه هو الحرية بالمعنى الأخلاقي، الجوهري.أنا لا أريد أن أهاجم أو أن القي ظلا من الشك على القيم التي لا يرقى إليها الشك والإنجازات التي تميز الديموقراطيات الأوروبية. لكن شروط هذه الديمقراطيات تؤكد معضلة الخواء الروحي و العزلة عند الإنسان. ويبدو لي أن في الصراع من أجل الحريات السياسية، الإنسان المعاصر قد شوّه تلك الحرية التي تمتع بها في كل عهد سابق: حرية أن يكون قادرا على منح نفسه الى الزمن والمجتمع اللذين يعيش فيهما.
بالنظر الآن الى الأفلام التي حققتها حتى اليوم، اكتشف بأنني كنت دائما أرغب في الحديث عن أفراد ممسوسين بالحرية الباطنية على الرغم من كونهم محاصرين من قبل الآخرين الذين هم، داخليا، خاضعون وغير أحرار. الضعف الجلي لأولئك الأفراد يتصل بقناعة أخلاقية واستشراف أخلاقي، وهذا الضعف في الواقع علامة قوة.
المتسلل stalker يبدو ضعيفا لكن جوهريا هو الذي لا يُقهر بسبب إيمانه و رغبته في أن يخدم الآخرين. الفنانون جوهريا يمارسون مهنتهم ليس من أجل إخبار شخص ما عن شيء ما، لكن كتوكيد على رغبتهم في خدمة الناس. أنا يذهلني أولئك الفنانين الذين يفترضون بأنهم يخلقون أنفسهم بحرية، وانه ممكن حقا فعل ذلك، ذلك لأن قدر الفنان أن يسلّم بأنه من خلق زمنه والناس الذين يعيش بينهم. وكما عبّر باسترناك:
كن يقظا، كن يقظا أيها الفنان
لا تستسلم الى النوم
فأنت رهين الأبدية
وسجين الزمن.
إني مقتنع بأن الفنان لو نجح في فعل شيء ما، فانه يحقق ذلك فقط لأن هذا هو ما يحتاجه الناس، حتى لو كانوا غير واعين له في حينه. هكذا فإن الجمهور هو الذي يربح، والذي يكسب شيئا ما، بينما الفنان يخسر، ويتعين عليه أن يدفع.
أنا لا أستطيع أن أتخيل نفسي حرا تماما الى حد أنني أقدر أن أفعل ما أريد. يتعين علي أن أفعل ما يبدو الأكثر أهمية وضرورة في أي مرحلة محددة. والاتصال بالجمهور ممكن فقط إذا تجاهل المرء واقع أن هناك ثمانين في المئة من الناس قد اقتنعوا، لسبب ما، بأننا ملزمون أو من المفترض فينا أن نسليهم ونرفه عنهم.
في الوقت نفسه نحن توقفنا عن احترام تلك النسبة، أي الثمانين في المئة، الى حد أننا مهيأ ون للترفيه عنهم، ذلك لأننا نعتمد عليهم في كسب المال و في إنتاج عملنا التالي.. و يا له من مستقبل مظلم.
مع ذلك، بالرجوع الى ذلك الجمهور الذي يمثل الأقلية، الذين لا يزالون يبحثون عن انطباعات جمالية حقيقية، ذلك الجمهور المثالي الذي هو، لا شعورياً، مصدر أمل كل فنان، هذا الجمهور سوف لن يستجيب من القلب وبصدق الى الفيلم إلا إذا عبّر المبدع عما عاشه و عاناه شخصياً. أني أحترم كثيراً هذا الجمهور ولا ارغب في خداعه وتضليله لتحقيق مآرب شخصية. إني أثق به، ولهذا السبب أملك الجرأة في إخبارهم بما هو أكثر أهمية وقيمة بالنسبة لي.
فان جوخ، الذي أعلن " بأن الواجب شئ مطلق"، و الذي اعترف بأن " لا ثناء يمكن أن يرضيني أكثر من أن يرغب عمال عاديون في تعليق أعمالي في غرفهم أو الورش التي يعملون بها". لم يكن يفكر أبدا في محاولة إرضاء أي شخص تحديداً، أو يجعل أي شخص يكون مثله. لقد كان يأخذ عمله بجدية تامة، واعياً للفحوى الاجتماعي لعمله، ويرى مهمته كفنان بوصفه مناضلاً بكل قوته، حتى النفس الأخير، مكافحاً بمادة الحياة، من أجل أن يعبّر عن تلك الحقيقة المثالية التي تكمن مختبئة داخلها.
هكذا كان يرى واجبه تجاه شعبه: العبء و الامتياز. لقد كتب في يومياته: " حين يعبّر الإنسان بوضوح عما يريد أن يقوله، أليس ذلك كافياً؟ عندما يكون قادراً على التعبير عن أفكاره بشكل جميل فأنا لا أشك بأن الإصغاء اليه سيكون أكثر متعة، لكن هذا لا يضيف الكثير الى جمال الحقيقة.. التي هي جميلة بذاتها".
بما أن الفن تعبير عن طموحات و آمال انسانية، فان له دور هام جداً ينبغي أن يؤديه في التطور الأخلاقي في المجتمع، أو ذلك ما يستلزم فعله. اذا أخفق الفن فان ذلك لا يعني الا أن ثمة خللاً ما في المجتمع. الفن لا يمكن أن تفرض عليه أهدافاً ذرائعية أو منفعية على نحو صرف. الفيلم المبني على أسس كهذه لا يمكن أن تتماسك أجزاؤه ككينونة فنية، ذلك لان تأثير السينما – أو أي فن آخر- على المشاهد هو أعمق و أكثر تعقيداً مما تسمح به شروط كهذه. الفن يعظم الإنسان ويضفي نبالة عليه بواسطة الحقيقة المجردة لوجوده. انه يخلق تلك الروابط الدقيقة بحيث لا تُلحظ أو تُدرك، و التي تجذب الجنس البشري معاً في جماعة مشتركة، ويخلق ذلك المناخ الأخلاقي الذي فيه، كما في الوسط الثقافي، الفن سوف ينشأ ويزدهر مرة أخرى، والا فانه سوف ينحل الى ثمرة برية. اذا لم يوظف الفن وفقاً لمهمته فانه يزول، وهذا يعني بأن أحدا لن يحتاج الى وجوده.
أثناء عملي لاحظت المرة بعد الأخرى بأنه إذا كان البناء العاطفي الخارجي لفيلم ما مبنيا على ذاكرة المبدع، واذا كانت إنطباعات حياته الشخصية متحولة الى صور سينمائية، عندئذ سوف يملك الفيلم القدرة على تحريك وإثارة مشاعر أولئك الذين يشاهدونه.
لكن إذا كان المشهد مستنبطا فكريا، متبعا معتقدات الأدب، فعندئذ سوف يترك أثراً فاترا في الجمهور حتى لو كان منجزا وفقاً لما يمليه الضمير وعلى نحو مقنع.في الواقع حتى لو يستوقف الفيلم البعض ويفتنه بوصفه مشوقا أو مثيرا للاهتمام، ويفرض نفسه بالقوة عند عرضه للمرة الأولى، فانه سوف لن يملك القوة الحيوية للصمود أمام امتحان الزمن.
بتعبير آخر، نظرا لأنك لا تستطيع أن تستفيد من تجربة الجمهور بالطريقة التي يفعلها الأدب، متيحا للاستيعاب الجمالي أن يحدث في وعي كل قارئ – في السينما هذا بالفعل غير عملي- فانه يتعين عليك أن تفصح عن تجربتك الخاصة بصدق وإخلاص قدر الامكان.هذا لا يعني أن الأمر سهل، بل ينبغي أن تملأ نفسك بالعزم والتصميم حتى تفعل ذلك.لهذا السبب نجد حتى اليوم، وعلى الرغم من أن الكثير من الناس، العديد منهم متعلمين على الصعيد المهني، لديهم الإمكانية لتحقيق الأفلام، إلا أننا في السينما لا نقدر أن نحصي غير حفنة من المخرجين الكبار في العالم بأسره.
أنا في الأساس، وعلى نحو جذري، معارض للطريقة التي بها استخدم ايزنشتاين الكادر لتصنيف وتنسيق صيغ فكرية.إن منهجي الخاص في توصيل التجربة الى الجمهور مغاير تماما.بالطبع، تنبغي الإشارة الى إن ايزنشتاين لم يكن يحاول أن يوصل تجربته الخاصة الى أي شخص، فقد أراد أن ينجز أفكارا على نحو صرف وببساطة، لكن بالنسبة لي فإن ذلك النوع من السينما هو ضار ومعادٍ تماماً. فضلا عن ذلك فإن المثال الذي يقدمه مونتاج ايزنشتاين، كما أراه، يناقض الأساس الفعلي للعملية الفذة، والذي بواسطتها يحرك الفيلم مشاعر الجمهور.انه يحرم الفرد من مراقبة ذلك الامتياز الذي يتمتع به الفيلم، والذي له علاقة بما يميز تأثيره على وعيه عن تأثير الأدب أوالفلسفة:تحديدا فرصة العيش من خلال ما يحدث على الشاشة كما لو أنها حياته الخاصة، فرصة تبني التجربة المطبوعة على الشاشة على نحو شخصي عميق، رابطا حياته الخاصة بما هو معروض على الشاشة.
ايزنشتاين يجعل من الفكر حاكما مطلقا ومستبدا:الفكر هنا لا يترك وراءه "جواً"، لا شئ من تلك المراوغة الإيحائية، التي هي ربما الخاصية الآسرة التي يتسم بها هذا الفن، والتي تجعل من الممكن بالنسبة للفرد أن يتصل بالفيلم. إنما أريد أن أحقق أفلاماً والتي لا تنطوي على أية لغة دعائية، خطابية، بل تكون فرصة ملائمة لتقديم تجربة حميمة بعمق.بالعمل في هذا الاتجاه، أنا واع لمسؤوليتي تجاه المتفرج، واعتقد أنني أستطيع أن امنحه التجربة الفريدة والضرورية، والتي لأجلها هو يدخل صالة السينما المظلمة.
أي شخص يرغب، بامكانه أن ينظر الى أفلامي كما لو ينظر في مرآة، والتي فيها سوف يرى نفسه.حين يعطي مفهوم فيلم ما أشكالا نابضة بالحياة، والتركيز يكون على أدائه الفعال والمؤثر بدلا من الصيغ الفكرية للقطات"الشعرية" (أي اللقطات التي فيها يكون الموقع، على نحو ظاهر، وعاء للأفكار) فعندئذ يكون ممكنا للجمهور أن يتصل بذلك المفهوم على ضوء التجربة الفردية.
قلت من قبل أن الإنحياز الشخصي يجب أن يكون متواريا دائما:القيام بإبراز وعرض ذلك قد يمنح الفيلم صلة وثيقة بالموضوع ومباشرة، لكن معناه سوف يكون مقتصرا على تلك المنفعة العابرة، الزائلة. إذا كان على الفن أن يدوم ويستمر في قوة وفعالية، فيتعين عليه أن يعتمد بعمق على جوهره الخاص.بهذه الطريقة فقط سوف يحقق الفن تلك الإمكانية الفريدة للتأثير وتحريك مشاعر الناس والتي هي بالتأكيد فضيلته المحتومة والتي لا علاقة لها بالدعاية أو الصحافة أو الفلسفة أو أي فرع آخر من المعرفة أو النظام الاجتماعي.
الظاهرة يعاد خلقها بصدق في العمل الفني من خلال محاولة إجراء تغييرات واسعة في بنية الصلات الداخلية، الحية كلها.حتى في السينما لا يمتلك الفنان حرية الاختيار فيما هو ينتقي ويضم حقائق من "كتلة الزمن"، مهما كانت تلك الكتلة سميكة أو كثيفة أو واسعة.إن شخصية الفنان، طوعا وبالضرورة، سوف تؤثر في اختياره وأيضا في عملية تقديم وحدة فنية الى ما هو منتقى.
الواقع مشروط بالكثير من العلاقات الطارئة، العرضية، والفنان يستطيع فحسب أن يمسك بجزء من هذه العلاقات.انه يجد نفسه متروكا مع تلك التي نجح في الإمساك بها وإعادة إنتاجها، والتي هي بالتالي تجل لشخصيته وفرادته.
علاوة على ذلك، كلما يطمح الفنان الى وصف واقعي، تعاظمت مسؤوليته تجاه ما يصنع. الإخلاص والصدق والبراءة هي الفضائل المطلوبة منه.
المشكلة (أو قد يكون ذلك هو السبب الأول للفن)أن أحدا لا يستطيع أن يعيد بناء الحقيقة الكاملة أمام الكاميرا.لذلك فإن مصطلح "الطبيعية"، عند تطبيقه في السينما، لا يمكن أن يتضمن معنى حقيقيا (مع أن هذا لا يمنع النقاد السوفييت من استخدام المصطلح كتعبير عن سوء استعمال اللقطات التي ينظرون إليها بوصفها قاسية أو وحشية بإفراط:إحدى التهم الرئيسية الموجهة الى فيلمي "أندريه روبليوف"كان تهمة "الطبيعية"، بمعنى إضفاء جمالية مقصودة على الوحشية دون ضرورة.)
الطبيعية مصطلح نقدي تم استخدامه للتعبير عن اتجاه محدد في الأدب الأوروبي في القرن التاسع عشر، وارتبط في الدرجة الأولى باسم إميل زولا.لكن المصطلح لا يمكن أن يكون أبدا أكثر من مفهوم نسبي في الفن، لأن لا شيء يمكن أن يعاد إنتاجه على نحو طبيعي تماما.
كل شخص يميل الى رؤية العالم حسب منظوره هو، وكما يدركه أو يحسه. لكن العالم ليس كذلك، والأشياء التي توجد "بذاتها وبمعزل عن الأشياء الأخرى "تبدأ في امتلاك وجود خاص"من أجلنا"خلال تجربتنا الخاصة.حاجة الإنسان أن يعرف الوظائف بهذه الطريقة تعني معرفة المعنى.الناس محدودون في قدرتهم على معرفة العالم بواسطة أعضاء الحواس التي منحتها لهم الطبيعة، واذا كان يتعين علينا حسب تعبير نيكولاي جوميليوف (الكاتب والناقد الروسي 1886-1921) أن "نلد عضواُ لحاسة سادسة" فعندئذ، وبوضوح، سوف يظهر لنا العالم في أبعاده الأخرى. كل فنان إذن محدود في إدراكه الحسي، في فهمه لعلاقات العالم الداخلية المحيطة به.لذلك لا معنى للحديث عن الطبيعية في السينما، كما لو أن الظواهر يمكن تسجيلها بالجملة بواسطة الكاميرا، بصرف النظر عن أي مبادئ فنية في حالتها الطبيعية.هذا النوع من الطبيعية لا يمكن أن يوجد.
في أحوال كثيرة، النقاد ببساطة يستفيدون من المصطلح أو التعبير كمبرر نظري "موضوعي "لاستجواب حق الفنان في رصد الحقائق التي تجعل الجمهور يرتجف من الرعب.هذا مصنف ك "مشكلة"من قبل جماعة الضغط الوقائية الذين يشعرون بأن الواجب يحتم عليهم أن يضمنوا بأن كل شيء سهل ومريح للعين والأذن..لكن يمكن هنا إتهام دوفجنكو وايزنشتاين، اللذين حصلا على التبجيل والتقدير، بأنهما خرقا مثل هذه القوانين، كذلك يمكن اتهام أي عمل وثائقي عن معسكر الاعتقال والذي لم يكن ممنوعا في تصويره للمعاناة والتفسخ البشري.
حين تنتزع الأجزاء من سياق فيلم "أندريه روبليوف"، من أجل اتهامي بالطبيعية (على سبيل المثال، مشهد فقء العين ولقطات معينة من سلب فلاديمير) فإنني حقيقة لم أكن افهم غاية الاتهام ولا زلت لا أعرف حتى الآن.وأنا، كفنان، لا اشعر بأن من واجبي أن اجعل الجمهور سعيدا.
على العكس تماما، ما يتعين علي أن افعله هو أن اخبر الناس الحقيقة بشأن وجودنا المشترك كما يبدو لي على ضوء تجربتي وفهمي.تلك الحقيقة نادرا ما تبشر بأنها ستكون سهلة ومريحة أو مرضية.فقط ببلوغ تلك الحقيقة وتلك "الواقعية"، بامكان المرء أن يحرز انتصارا معنويا عليها داخل نفسه.
من ناحية أخرى، لو كان علي أن اكذب في فني بينما ازعم أن هذا الفن مخلص وأمين للواقع، وأزيف هدفي الخاص خلف واجهة مشهد سينمائي هو بذاته "أمين للحياة"ظاهريا، وبالتالي مقنع في تأثيره على الجمهور، عندئذ استحق التوبيخ بلاشك وينبغي استدعائي للمحاسبة والمساءلة.
لم تكن مصادفة أن استخدم في بداية هذا الفصل عبارة"الضخمة والخطيرة"فيما يتصل بالمسؤولية التي يتحملها مبدع السينما.بإعطاء مزيد من القوة أو التوكيد الى فكرة مثل تلك –حتى لو كانت النتيجة هي المبالغة والتضخيم –فقد أردت أن أؤكد واقع أن أكثر الفنون إقناعا يقتضي مسؤولية خاصة من قبل أولئك الذين يعملون فيه:المناهج التي بها تؤثر السينما في مشاعر الجمهور يمكن استخدامها بسهولة وعلى نحو سريع من أجل تحللها الأخلاقي وهدم دفاعاتها الروحية أكثر من هدم وسائل الأشكال الفنية التقليدية والقديمة.إن توفير الأسلحة الروحية وإرشاد الناس الى الخير لابد أن يكون صعبا على الدوام.
مهمة المخرج أن يعيد خلق الحياة:حركتها، تناقضاتها، فعاليتها وتعارضاتها.من واجبه أن يكشف كل ذرة من الحقيقة التي رآها حتى لو لم تكن تلك الحقيقة مقبولة لدى كل شخص.بالطبع يمكن للفنان أن يضل طريقه، لكن حتى أخطاءه هي مثيرة للاهتمام شريطة أن تكون صادقة، ذلك لأنها تمثل واقع حياته الداخلية، واقع الارتحالات والصراع الذي وجد نفسه مقذوفا فيه من قبل العالم الخارجي. لكن هل يمتلك أحد ما، في أي وقت، الحقيقة الكاملة ؟ كل الجدل بشأن ما يجوز وما لا يجوز عرضه لا يمكن إلا أن يكون محاولة مبتذلة و لا أخلاقية لتحريف الحقيقة.
قال دوستويفسكي: انهم دائما يقولون أن على الفن أن يعكس الحياة، وأشياء من هذا القبيل. لكن ذلك هراء.. الكاتب (الشاعر) نفسه يخلق الحياة كما لو أنها لم تكن موجودة أبدا أمامه."
إلهام الفنان ينشأ في مكان ما في التجويفات الأعمق من ذاته. لا يمكن للإلهام أن تمليه اعتبارات "المهنة"، الخارجية. انه متصل على نحو محتوم بروح الفنان وضميره، وهو ينبثق من شمولية نظرته الى العالم.. واذا لم يكن كذلك، فسوف يكون عندئذ محكوما من البداية بأن يصير خاويا وعقيماً فنيا. من الممكن جدا أن تكون مخرجا محترفا أو كاتبا محترفا دون أن تكون فنانا: مجرد شخص منفذ لأفكار الآخرين.
الإلهام الفني الحقيقي هو دائما مصدر عذاب للفنان، الى حد أنه يعرض حياته للخطر. إن تحقق الإلهام مساو لعمل جسماني بطولي، على الرغم من الاعتقاد الخاطئ والشائع أن كل ما نفعله هو أننا نروي قصصا هي قديمة قدم العالم، بحيث نبدو أمام الجمهور مثل جدات هرمات، على رؤوسنا الأوشحة وبين أيدينا أدوات الحياكة، ونروي لهم كل أنواع الحكايات والنوادر من أجل إلهائهم وتسليتهم. قد تكون الحكاية مسلية أو آسرة لكنها سوف لن تلبي للجمهور إلا حاجة واحدة فقط: إنها تساعدهم على قضاء الوقت في هذر عديم الجدوى.
ليس للفنان الحق في فكرة لا يلتزم بها اجتماعيا، أو تحقيقها والذي قد يتضمن انقساماً بين نشاطه المهني وسائر حياته. في حياتنا الشخصية نحن نمارس أفعالاً كأفراد محترمين أو كأفراد بسمعة سيئة. إننا نقر بأن فعلا شريفا ومحترما قد يسبب ضغطا علينا أو حتى يجعلنا في تعارض ونزاع مع محيطنا.
لكن لماذا نحن غير مهيئين لأية مشكلة يمكن أن تنشأ من نشاطاتنا المهنية ؟
لماذا نحن خائفون من استدعائنا للمساءلة أو التوبيخ عندما نباشر العمل في فيلم ما ؟ لماذا نبدأ بأخذ ضمان أن الفيلم سيكون حميدا وغير مؤذ بقدر ما سيكون خاليا من المعنى ؟ أليس هذا لأننا نريد أن نستلم مكافأة عاجلة على عملنا سواء في شكل مال يدفع نقدا أو عونا معنويا؟
لا يسع المرء إلا أن يشعر بالذهول من غرور الفنانين المعاصرين إذا نحن عقدنا المقارنة بينهم و بين البنائين المتواضعين الذين بنوا الكاتدرائيات دون أن يعرف أحد أسماءهم. يتعين على الفنان أن يكون متميزا بالإخلاص واللاأنانية في تأدية الواجب.. لكننا تغاضينا عن ذلك منذ زمن طويل.
في المجتمع الاشتراكي، العامل في المصنع أو الشخص الذي يعمل في الحقل، كلاهما مسؤول عن صنع أشياء نافعة ماديا، معتبرين نفسيهما سادة الحياة. ومثل هؤلاء الأشخاص يدفعون نقودا من أجل أن يحصلوا على القليل من التسلية والترفيه من "فنانين" متلهفين على تقديم المساعدة، لكن مثل هذه اللهفة منطلقة من اللامبالاة، ذلك لأن هؤلاء "الفنانين" يستفيدون من الوقت الإضافي لدى الأشخاص البسطاء، الكادحين، مستغلين سذاجتهم وجهالتهم وافتقارهم الى الثقافة الجمالية، في سبيل هدم دفاعاتهم الروحية وكسب المال. إن نشاطات ذلك النوع من "الفنانين" هي بغيضة أخلاقيا. الفنان لا يثبت أهليته في عمله إلا حين يكون العمل حاسما لطريقته في الحياة: ليس عملا جانبيا، ثانويا أو طارئا، بل شكل وجود لذاته المنتجة. إن التضمينات الأخلاقية لتأليف كتاب هي ذات نظام آخر تماما. بمعنى ما، انه أنت الذي تقرر أي نوع من الكتب تريد أن تنتجه، لأن القارئ يقرر ما إذا سوف يشتري الكتاب أو يتركه ليغطيه الغبار على أرفف المكتبات. الوضع الموازي يوجد في السينما لكن بالحس الشكلي في أن الجمهور بوسعه أن يختار بين أن يذهب لرؤية الفيلم أو لا يذهب. لكن بسبب الاستثمار الهائل لرأس المال في صنع الأفلام فان السينما عدوانية على نحو استثنائي، ومثابرة في طرائقها لانتزاع الربح الأقصى.
الفيلم يباع مثل أي سلعة، وهذا يفضي الى جعل مسؤوليتنا أكبر تجاه"بضاعتنا".
كنت دائما مأخوذا بأعمال روبير بريسون: تركيزه فريد واستثنائي. لا شيء عرضي أو تصادفي يمكن أن يتسرب الى اختياره، الزاهد على نحو صارم، لوسائل التعبير. وهو لا يمكن أبدا أن يحقق فيلما على عجل. انه جاد، عميق، ونبيل. وهو واحد من أولئك الأساتذة الكبار الذين كل فيلم لهم يصبح حدثا في كينونتهم الروحية.
فقط عند الضرورة الملحة من حالته الداخلية نراه يتقدم ليحقق فيلمه.
في فيلم بيرجمان "صرخات وهمسات"ثمة جزء قوي على نحو خاص، ربما هو الجزء الأكثر أهمية في الفيلم.شقيقتان تصلان الى منزل والدهما حيث شقيقتهما الكبرى ترقد وهي على وشك الموت.الفيلم يتنامى من توقع الموت..موت الأخت. هنا، وقد وجدن أنفسهن وحدهن معا، فإنهن على نحو مفاجئ وغير متوقع ينجذبن الى بعض برباط عائلية وبالتوق الى الاتصال الإنساني.إنهن يتحدثن ويتحدثن ويتحدثن..ولا يقدرن أن يقلن كل ما يرغبن في قوله..إنهن يلاطفن بعضهن البعض.
والمشهد يخلق انطباعا لافحاً بالحميمية الإنسانية..وبالهشاشة أيضا، نظرا لأن في فيلم بيرجمان مثل هذه اللحظات هي مراوغة وسريعة الزوال.في أغلب مشاهد الفيلم، الشقيقات لا يستطعن التوصل الى تسوية أو مصالحة بينهن، لا تستطيع الواحدة منهن أن تغفر للأخرى حتى في وجه الموت.إنهن مليئات بالضغينة، مستعدات لتعذيب أنفسهن وتعذيب بعضهن البعض.وعندما يتحدن لفترة قصيرة الأمد، يستغني بيرجمان عن الحوار ويستخدم موسيقى باخ.تأثير المشهد يكون قويا على نحو دراماتيكي، ويصبح أعمق.بالطبع هذا الارتفاع، هذا التحليق نحو الخير، هو وهْم، حلم لا سبيل الى تحقيقه.. حلم بشئ لا يوجد ولا يمكن أن يوجد.انه ما تنشده الروح الإنسانية وما تتوق إليه.تلك اللحظة الوحيدة تتيح وميضا من التناغم والتناسق، لمحة الى المثال.لكن حتى هذا الانطلاق الوهمي يمنح الجمهور إمكانية التنفيس، إمكانية التطهر الروحي والتحرر الذي يتحقق عبر الفن.
إني اذكر هذا لأنني أريد أن أؤكد إيماني الخاص بأن الفن يجب أن يحمل توق الإنسان الشديد الى المثال، يجب أن يكون تعبيرا عن رغبته في بلوغه..إيماني بأن الفن يجب أن يهب الإنسان الأمل والثقة التامة، وكلما كان العالم ميئوسا منه أكثر في عمل الفنان، كانت رؤيتنا للمثال ربما أكثر وضوحا وصفاء..والا فإن الحياة تصبح مستحيلة.
الفن يرمّز معنى وجودنا.
لماذا يسعى الفنان الى تدمير الاستقرار الذي ينشده المجتمع؟سيتمبريني في رواية توماس مان "الجبل السحري"يقول:"إني أثق، أيها المهندس، انك لا تكنّ شيئا ضد المكر.أنا اعتبره أكثر أسلحة العقل روعة ضد الظلمة والبشاعة. المكر، يا سيدي العزيز، هو روح النقد، والنقد مصدر التقدم والتنوير".
الفنان يسعى الى تدمير الاستقرار، الذي به يعيش المجتمع، من أجل الاقتراب أكثر من المثل الأعلى.المجتمع ينشد الاستقرار، الفنان يبحث عن اللاتناهي.الفنان معنيّ بالحقيقة المطلقة، لذلك هو يحدق إمامه ويرى الأشياء على نحو أقرب من الآخرين.
فيما يتعلق بالنتائج، نحن لا نكون مسؤولين عنها إنما عن اختيار تأدية أو عدم تأدية واجبنا. نقطة الانطلاق هذه تفرض على الفنان واجب أن يكون مسؤولا عن مصيره الخاص.إن مستقبلي هو الكأس الذي سوف لن اغفل عنه، وبالنتيجة لابد أن اشربه.
في كل أفلامي كان يبدو لي مهما محاولة أن أؤسس الصلات التي تربط الناس(غير تلك التي تربط الجسد)..تلك الصلات التي تربطني بالجنس البشري، وتربطنا جميعا بكل ما يحيط بنا.إني احتاج أن امتلك الإحساس بأنني الوريث في هذا العالم، وليس ثمة ما هو عرضي وغير مقصود بشأن وجودي هنا.داخل كل منا يوجد حتما ميزان للقيم.
في فيلمي"المرآة" أردت أن اجعل الناس يشعرون بأن باخ وبرجوليسي ورسالة بوشكين والجنود المرغمين على عبور بحيرة سيفاش، وأيضا الأحداث المحلية والعائلية الحميمة، أن يشعروا بأن كل هذه الأشياء هي، من بعض النواحي، هامة بصورة متساوية مثلما هي التجربة الإنسانية.فيما يتصل بتجربة الفرد الروحية فإن ما حدث له بالأمس قد يكون له الدرجة نفسها من الدلالة والأهمية تماما مثلما حدث للبشرية قبل مئة سنة.
في كل أفلامي كانت ثيمة الجذور ذات أهمية كبيرة: ارتباطات بمنزل العائلة، الطفولة، الوطن، العالم. كنت دائماً اشعر بأن من المهم أن ابرهن بأنني أنتمي الى تقاليد معينة، الى ثقافة خاصة، الى دائرة من الناس أو الأفكار.
ما يشكّل مغزى ودلالة كبيرة بالنسبة لي هي تلك التقاليد في الثقافة الروسية التي تجد بداياتها في أعمال دوستويفسكي..لكن تطورها في روسيا المعاصرة هو، على نحو جلي، ناقص وغير تام.في الواقع هي تتجه الى أن تكون عرضة للازدراء أو اللامبالاة أو حتى التجاهل تماما.ثمة أسباب عديدة لهذا، على رأسها ذلك التعارض التام مع المذهب المادي، ثم حقيقة أن الأزمة الروحية التي اختبرتها كل شخصيات دوستويفسكي هي أيضا مرئية بارتياب. لكن لماذا تثير هذه الحالة من "الأزمة الروحية" الخوف في روسيا المعاصرة؟
أعتقد أن من خلال الأزمة الروحية يحدث الشفاء دائما. الأزمة الروحية محاولة يقوم بها المرء لإيجاد ذاته، لإحراز إيمان جديد. إنها الحصة المقسمة لكل شخص والذي أهدافه تكون على المستوى الروحي. وكيف يمكن لها أن تكون غير ذلك و النفس تتوق الى التناغم والانسجام، والحياة تكون حافلة بالنزاع والتنافر. هذا الانقسام هو الحافز للحركة، وهو مصدر الألم و الأمل في آن: تأكيد لأعماقنا الروحية و تعزيز لإمكانياتنا.
هذا أيضا ما يتحدث عنه فيلمي STALKER: البطل يكابد لحظات من اليأس حين يتزعزع إيمانه.. لكن في كل مرة يصل الى إدراك متجدد لمهمته، أن يخدم أولئك الذين فقدوا آمالهم وأوهامهم. لقد شعرت بأن من المهم جدا أن يرصد الفيلم الوحدات الثلاث للزمن و المكان والفعل. إذا كنت في "المرآة" مهتما بأن يحتوي على لقطات من شريط إخباري، حلم، واقع، أمل، فرضية، تذكر للأحداث الماضية.. كل منها تتبع بعضها البعض في ذلك الخليط من الحالات والأوضاع التي تواجه البطل بمعضلات الوجود المتعذر اجتنابها. في STALKER لم أرغب في أن يكون هناك انقطاع زمني بين اللقطات. أردت أن أظهر الزمن ومروره، وأن تمتلك تلك اللقطات وجودها وبقاءها داخل كل كادر.. أن تكون المفاصل بين اللقطات استمراراً للفعل لا أكثر، و أن لا يعتري الزمن اضطراب، أو يعمل كآلية من أجل انتقاء و تنظيم المادة دراميا.. أردت من الفيلم أن يكون محققا برمته كما لو في لقطة واحدة.
مثل هذا التعامل البسيط والمتقشف يبدو لي غنيا بالاحتمالات. لقد أقصيت من السيناريو كل ما أستطيع من أجل امتلاك الحد الأدنى من المؤثرات الخارجية.كمسألة مبدأ أردت تجنب إلهاء أو مباغتة الجمهور بالتغيرات الفجائية للمشهد، وبجغرافية الحدث، وبالحبكة المعقدة. أردت أن يكون التكوين كله بسيطا.
على نحو متماسك أكثر من قبل، كنت أحاول أن أجعل الناس يؤمنون بأن السينما، كأداة فنية، لديها إمكانياتها الخاصة التي تعادل إمكانيات النص الأدبي. أردت أن أظهر مدى قدرة السينما على رصد الحياة دونما تدخل، على نحو فج أو بجلاء، في استمراريتها.. إذ ها هنا أرى الجوهر الشعري الحقيقي للسينما.
لقد خطر لي أن التبسيط الشكلي المفرط يمكن أن يجازف بالمثول في مظهر متكلف أو مفرط في التأنق، ولكي أتفادى ذلك، حاولت أن أزيل كل مسحة من الإبهام أو التلميح في اللقطات.. أي تلك العناصر التي ينظر إليها كسمات ل"الجو الشعري". ذلك النوع من الجو هو دائما مركب بجهد بالغ. وقد كنت مقتنعا بصحة وفعالية الاقتراب المعاكس، إذ لا يجب أن أهتم بالجو على الإطلاق، ذلك لأنه ينبثق من الفكرة الرئيسية من تحقيق المبدع لتصوره ومفهومه. و كلما كانت الفكرة الرئيسية مصاغة بدقة تامة، يتحدد لي معنى الفعل بوضوح أشد، والجو المتولد حوله سيكون ذا دلالة و أهمية أكبر. كل شيء سوف يبدأ في الارتداد كالصدى استجابةً للنغمة الغالبة: الأشياء، المنظر الطبيعي، أداء الممثلين.. كلها سوف تصبح مترابطة وضرورية. الشئ سوف يجد صداه في شيء آخر في ضرب من التبادل العام. والجو سوف ينشأ كنتيجة لهذا التركيز على ما هو أكثر أهمية.
(إن فكرة خلق جو كغاية بذاتها تبدو لي غريبة. لهذا السبب، وعلى نحو تصادفي، لم أشعر أبدا بالتآلف مع رسومات الانطباعيين الذين يشرعون في طبع اللحظة إكراما للحظة ذاتها، من أجل التفريغ اللحظي. ذلك يمكن أن يكون وسيلة في الفن لكن ليس غاية.)
في فيلم stalker، حيث حاولت أن أركز على ما هو أكثر أهمية، يبدو لي أن الجو الذي تشكل كنتيجة، كان أكثر فعالية والزاماً عاطفيا من جو أي فيلم آخر حققته من قبل.
ما هي إذن الثيمة الأساسية التي ينبغي أن تتردد عبر فيلم stalker؟
في أكثر التعابير عمومية، هي ثيمة الكرامة الإنسانية، ما تعنيه تلك الكرامة والى أي مدى يعاني الإنسان إذا افتقر الى احترام الذات.
عليّ أن أنبه القارئ بأن غاية الرحلة التي تقوم بها الشخصيات الثلاث -في الفيلم- الى المنطقة المحظورة هي حجرة معينة يقال أنها قادرة على تحقيق الأمنيات و الرغبات الأكثر سرية وصدقا. وفيما يجتاز الكاتب والعالِم - يقودهما الدليل- الطريق المحفوف بالمخاطر عبر الامتداد الغريب للمنطقة المحظورة، يروي لهما الدليل، عند موضع ما، حكاية حقيقية أو ربما أسطورية عن دليل آخر كان قد ذهب الى المكان السري (الحجرة) من أجل أن يلتمس عودة أخيه الى الحياة حيث انه قد مات مقتولا بسبب غلطة أو ذنب ارتكبه هو، لكن حين يعود هذا الدليل الى بيته يكتشف بأنه قد أصبح ثريا بشكل فاحش وخرافي، ذلك لأن الحجرة قد حققت رغبته الحقيقية الدفينة، الصادرة من القلب، وليس الأمنية التي اعتقد أنها أثيرة وصادقة.عندئذ شنق الدليل نفسه.
يصل الاثنان (الكاتب والعالِم) إلي غايتهما بعد إن اجتازا الصعاب، وخلال ذلك عبّرا عما يدور في الذهن، وأعادا تقييم نفسيهما، لكنهما لا يملكان الشجاعة لاجتياز العتبة ودخول الحجرة التي جازفا بحياتهما من أجل الوصول إليها. عند المستوى التراجيدي، الأعمق، من الوعي يدركان أنهما كائنان ناقصان. لقد شعرا بالرعب حين نظرا داخل نفسيهما.غير أنهما، في النهاية، يفتقران الى الشجاعة الروحية للإيمان بذواتهما.
إن وصول زوجة الدليل إلى الحانة التي يرتاح فيها الثلاثة، بعد عودتهم من الرحلة، يضع الكاتب والعالم في مواجهة ظاهرة محيرة ومبهمة بالنسبة لهما.ها هنا امرأة عانت الكثير وتحملت ما لا يحصى من الآلام والمحن بسبب زوجها، والد طفلتهما المريضة، مع ذلك فإنها تستمر في منحه الحب بنفس الدرجة من الإخلاص والتفاني والسخاء وإنكار الذات التي كانت تمنحه له في شبابها.هذا الحب هو المعجزة الأخيرة التي يمكن إطلاقها ضد عدم الإيمان والشكوكية التهكمية والخواء الأخلاقي الذي يسمم العالم الحديث حيث الكاتب والعالِم مجرد ضحايا.
ربما في هذا الفيلم، stalker، شعرت للمرة الأولى بالحاجة لأن أشير بوضوح وعلى نحو لا لبس فيه الى القيمة الأسمى التي بها يعيش الإنسان وروحه لا تريد.
فيلم "سولاريس"كان عن أفراد ضائعين في الكون ومجبرين، سواء أحبوا ذلك أم كرهوا، على إحراز وفهم جزء آخر من المعرفة.إن بحث الإنسان اللانهائي عن المعرفة، الموهوبة له بمجانية، هو مصدر توتر شديد، ذلك لأنها تجلب معها القلق الدائم، الأذى والأسى وخيبة الأمل، إذ أن الحقيقة النهائية لا يمكن معرفتها على الإطلاق.فضلا عن ذلك، فقد مُنح الإنسان ضميرا وهذا يعني انه يقاسي العذاب حين تخرق أفعاله القانون الأخلاقي، وبهذا المعنى فان حتى الضمير يشتمل على عنصر التراجيديا. إن خيبة الأمل تلازم الشخصيات في "سولاريس"، والمنفذ الذي وفرناه لها كان وهمياً تماماً.. فالمنفذ يكمن في الأحلام، في فرصة التعرف على جذورهم الخاصة..تلك الجذور التي، إلى الأبد، تربط الإنسان بالأرض التي انجبته.لكن حتى تلك الروابط قد أصبحت غير حقيقية بالنسبة لهم.
حتى في فيلم"المرآة"، الذي هو عن مشاعر إنسانية ثابتة، أبدية، وعميقة..هذه المشاعر كانت مصدر ارتباك وعدم فهم بالنسبة للبطل الذي لم يستطع أن يدرك لماذا هو محكوم بأن يعاني ويتعذب على الدوام بسببها، إن يعاني بسبب حبه وعاطفته.
في فيلم stalker أحاول تقديم بيان كامل مفاده إن الحب الإنساني وحده-على نحو إعجازي وخارق-هو برهان يدحض التوكيد الفظ والمتبلد على انه ليس ثمة أمل للعالم.هذا ما صرنا نؤمن به على نحو لا يقبل الجدل، رغم أننا لا نعود نعرف تماما كيف نحب.
الكاتب في stalker يعكس خيبة العيش في عالم قائم على الضرورة، حيث حتى الصدفة هي نتيجة ضرورة ما والتي تظل وراء نطاق الإدراك.ربما يمضي الكاتب الى المنطقة المحظورة كي يواجه المجهول، كي يثير هذا المجهول دهشته وذهوله.لكنها المرأة، في النهاية، التي تذهله بإخلاصها ونبلها وسموها الإنساني.إذن، هل كل شيء خاضع للمنطق، وهل يمكن فصل كل شيء الى عناصره أو أجزائه الأساسية أي مكوناته..وجدولتها؟
في هذا الفيلم -stalker- أردت أن اظهر ذلك الشيء الإنساني جوهريا، الذي لا يمكن أن يتلاشى أو يتفكك، الذي يتشكل مثل بلور داخل نفس كل منا ويعيّن قيمة وجدارة كل منا.حتى لو انتهت الرحلة ظاهريا بالإخفاق التام، فان كلا من الشخصيات الثلاث قد أحرز شيئا ذا قيمة يتعذر تقديرها:الإيمان.
انه يصبح واعيا لما هو أكثر أهمية من بين الأشياء، وهذا الشيء حي داخل كل فرد.
في stalker لم أعد مهتما بالحبكة الفانتازية مثلما كنت في فيلم"سولاريس".
هناك، للأسف، عنصر الخيال العلمي كان جليا وبارزا الى حد بعيد، وقد أدى الى إلهاء المتفرج وصرف انتباهه.كان مشوقا تشييد وتركيب الصواريخ والمحطات الفضائية التي تقتضيها رواية ستانيسلاف ليم، لكن يبدو لي الآن أن فكرة الفيلم كان يمكن أن تبرز بحيوية وعلى نحو واضح أكثر لو أننا حاولنا الاستغناء عن كل تلك الأشياء.أظن أن الواقع الذي إليه ينجذب الفنان، كوسيلة لقول ما يتعين عليه قوله عن العالم، يجب أن يكون حقيقيا بذاته، أي مفهوما من قبل الفرد، ومألوفاً لديه منذ طفولته.وكلما كان الفيلم حقيقيا، بذلك المعنى، كان بيان المبدع أكثر إقناعا.
في فيلم stalker، الموقع الأساسي فقط يمكن أن يعتبر فانتازيا.كان ذلك ملائما لأنه ساعد في رسم التناقض الأخلاقي المحوري للفيلم على نحو صارخ.لكن بالنسبة لما يحدث فعلا للشخصيات، فليس هناك أي عنصر من الفنتازيا.الفيلم يهدف الى جعل الجمهور يشعر أن كل شيء يحدث هنا والآن، وأن المنطقة المحظورة قريبة منا.
غالبا ما يسألني الناس عن مغزى وجود المنطقة المحظورة، وما ترمز إليه، ويشرعون في تقديم التخمينات الطائشة حول الموضوع.أسئلة كهذه تسبب لي حالة من الغضب والقنوط. المنطقة المحظورة لا ترمز الى أي شيء. في أفلامي الأشياء لا تقدم نفسها كرموز. المنطقة مجرد منطقة فحسب، أنها حياة، وفيما يتقدم الإنسان عبر المنطقة فانه قد يخفق أو قد يوفق. نجاحه أو إخفاقه يتوقف على مدى احترامه لذاته، وقدرته على التمييز بين ما هو مهم وما هو مجرد عابر وزائل.
مهمتي أن أحث الآخرين على التفكير بشأن ما هو إنساني وسرمدي جوهريا في نفس كل فرد، والذي غالبا ما يتم التغاضي عنه، حتى لو إن مصيره يقع تحت سيطرته أو تصرفه.
الفرد مشغول جدا بمطاردة الأشباح و الانحناء خضوعا للأوثان.في النهاية، كل شيء يمكن اختزاله الى عنصر بسيط والذي يمكن للفرد أن يعتمد عليه في وجوده:القدرة على الحب.هذا العنصر يمكن أن ينمو داخل الروح ليصبح العامل الأسمى الذي يحدد معنى حياة الفرد. وظيفتي أن اجعل كل من يشاهد أفلامي يعي حاجته الى الحب والى منح هذا الحب، وان يدرك بأن الجمال يستدعيه.
الفصل الثامن:
ما بعد نوستالجيا
"نوستالجيا" هو فيلمي الأول الذي حققته خارج بلادي..روسيا، وكان ذلك طبعا بموافقة رسمية من المسؤولين عن شؤون السينما هناك..هذه الموافقة التي اعتبرتها في ذلك الوقت محتمة الحدوث بما أنني كنت احقق الفيلم لمواطني بلدي، وعلى افتراض انه سوف يعرض في روسيا.مع ذلك فان الأحداث اللاحقة برهنت مرة أخرى الى اي مدى أهدافي وأفلامي هي غريبة أو مخالفة بالنسبة لبعض الرسميين القائمين على شؤون السينما في روسيا.
لقد أردت أن احقق فيلما عن النوستالجيا الروسية، عن الحنين الروسي الى الوطن، عن تلك الحالة الذهنية الخاصة بأمتنا والتي تؤثر في الروس البعيدين عن وطنهم.كان ذلك بالنسبة لي واجباً وطنيا.أردت للفيلم أن يكون عن الارتباط القدري للروس بجذورهم الوطنية، بماضيهم وثقافتهم، بأماكنهم الأصلية وعائلاتهم وأصدقائهم..الارتباط الذي يحملونه معهم طوال حياتهم،أينما حلوا، وأينما زج بهم القدر. الروس نادرا ما يكونون قادرين على التكيف بسهولة، والانسجام مع طريقة جديدة في الحياة.إن تاريخ الهجرة الروسية كله يؤكد ما تقوله النظرة الغربية بأن "الروس مهاجرون سيئون"أي أقل الشعوب تآلفا مع الغربة.الجميع يعرف عن عدم قابليتهم المأساوي للتكيف والإنسجام، وفشل جهودهم في تبني أسلوب حياة مغاير.كيف كان بوسعي أن أتخيل، فيما كنت احقق"نوستالجيا، إن الإحساس الخانق بالشوق، الذي يملأ فضاء الشاشة، سوف يصبح قدري حتى بقية حياتي؟..فمن الآن وحتى آخر أيام عمري، سوف احمل هذا المرض الموجع-الحنين-داخل نفسي.
على الرغم من تنفيذ الفيلم كله في ايطاليا، إلا انه كان روسياً حتى النخاع، ومن جميع النواحي:أخلاقيا ومعنويا وسياسيا وعاطفيا.انه عن شخص روسي يسافر الى ايطاليا في زيارة غير محددة الأمد لإنجاز مهمة معينة، وانطباعاته عن ذلك البلد.غير أنني لم أكن أهدف الى تقديم بيان سينمائي عن جمال ايطاليا الذي يذهل السياح كما في الصور المرسلة إلى جميع أنحاء العالم في شكل بطاقات سياحية منتجة على نطاق واسع.انه عن هذا الروسي الذي تسبب له تلك الانطباعات المحتشدة حوله إرباكا وتجعله يفقد الإحساس بالمكان والزمان.وفي الوقت نفسه، الفيلم هو عن عجزه المأساوي عن مشاطرة هذه الانطباعات مع أقرب الناس إليه، واستحالة توحيد تجربته الجديدة مع الماضي الذي يكبله منذ ولادته. انا نفسي مررت بتجربة مماثلة حين كنت بعيدا عن الوطن لفترة من الوقت: إلتقائي بعالم آخر وثقافة أخرى، وبدايات الارتباط بها قد أحدث لدي تهيجا لا يمكن إدراكه بسهولة لكنه غير قابل للشفاء..
انه بالأحرى أشبه بحب يُبذل بلا جزاء، أشبه بأمارة يأس من محاولة الإمساك بما هو لا نهائي، أو توحيد ما لا يمكن توحيده. انه تذكير بحقيقة تجربتنا على الأرض التي هي محدودة ومبتورة.. مثل إشارة تحذير بالقيود التي تقرر سلفا حياتك، و المفروضة ليس من قبل الظروف الخارجية (التي يسهل التعامل معها) لكن من قبل "المحرمات" القاطنة في داخلك.
كنت دائما مستغرقا في الإعجاب بأولئك الفنانين اليابانيين في القرون الوسطى الذين كانوا يعملون في بلاط أسيادهم حتى يحرزوا الاعتراف والتقدير فيمضون لإنشاء مدرسة خاصة بهم ثم، وهم في أوج شهرتهم، يتخلون عن كل شيء، يغيرون حيواتهم كلها بالانتقال الى مكان جديد ليباشروا العمل من جديد باسم مختلف و بأسلوب مغاير. ويقال أن بعضهم قد عاش خمس حيوات متميزة أثناء كينونتهم الدنيوية.. وهي ظاهرة كانت دائما تحرك مخيلتي، ربما لأنني أنا نفسي غير قادر تماما على القيام بأي تغيير في منطق حياتي أو ميولي الإنسانية و الفنية. انه كما لو أن شخصا قد وهبني هذه الميول نهائيا وعلى نحو حاسم.
جورشاكوف بطل "نوستالجيا"، شاعر يذهب الى ايطاليا لجمع مادة عن الموسيقار الروسي ماكسميليان بريوزوفسكي (18)، الذي كان عبدا مملوكا لإقطاعي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وقد أظهر موهبة موسيقية دفعت بسيده الى ابتعاثه الى ايطاليا لدراسة الموسيقى، وهناك بقي لسنوات طويلة قدم خلالها حفلات موسيقية ناجحة وأحرز الإعجاب و الإطراء. لكنه في النهاية، مدفوعا بلا شك من قبل تلك النوستالجيا الروسية التي لا مفر منها، قرر العودة الى روسيا، الى العبودية، حيث - بعد فترة قصيرة- انتحر شنقا.
إن قصة هذا الموسيقار موضوعة بالطبع في الفيلم على نحو مقصود كنوع من إعادة صياغة لحالة جورشاكوف الخاصة، الحالة التي فيها يعي بشكل حاد وضعه كشخص غريب، لا منتم، ولا يستطيع إلا أن يراقب حياة الآخرين عن بُعد، مسحوقا بذكريات ماضيه، بوجوه أحبائه الأعزاء، بأصوات وروائح بيته وموطنه، هذه الأشياء التي تهاجم ذاكرته بعنف.
عندما شاهدت، للمرة الأولى، المادة المصورة للفيلم، شعرت بالإجفال عندما وجدت بأنها تعبر عن كآبة غير مريحة. المادة كانت متجانسة كليا، سواء في المزاج أو في الحالة الذهنية. هذا لم يكن الشيء الذي قررت إنجازه. ما كان فريدا و ذا دلالة بشأن الظاهرة أمامي هو واقع أن -بصرف النظر عن نواياي ومقاصدي النظرية الخاصة - الكاميرا كانت تطيع في المقام الأول حالتي الداخلية أثناء التصوير: كنت مرهقا بسبب بعدي عن عائلتي وعن أسلوب الحياة التي اعتدت عليها، وبسبب العمل ضمن شروط و أوضاع غير مألوفة لدي تماما، وحتى بسبب استخدام لغة أجنبية. كنت مذهولا و مبتهجا في آن، لأن ما كان مطبوعا على الفيلم، وتكشّف لي الآن وللمرة الأولى في ظلمة السينما، برهن أن أفكاري بشأن قدرة الفن السينمائي على أن يصبح رحما للنفس المستقلة، وأن يوصل التجربة الإنسانية، لم تكن مجرد ثمرة تأمل عديم الجدوى بل ثمرة الواقع، والذي ينبسط أمام أعيننا على نحو لا جدال فيه.
في الحقيقة، لم أكن مهتما بتطور الحبكة وبسلسلة الأحداث.. مع كل فيلم أشعر بأن حاجتي اليها تقل أكثر فأكثر. كنت دائما مهتما بعالم الفرد الداخلي. والأكثر طبيعية بالنسبة لي أن أقوم برحلة في السيكولوجيا التي تشكل موقف البطل من الحياة، و في التقاليد الأدبية و الثقافية التي هي أساس عالمه الروحي.إني أدرك تماما بأن، من وجهة نظر تجارية، سيكون مفيدا أكثر الانتقال من مكان الى آخر، وتقديم لقطات مأخوذة من زاوية متقنة الى أخرى، وتوظيف مناظر طبيعية ساحرة ومواقع داخلية مؤثرة. لكن بالنسبة لما أحاول أساسا أن أفعله، فإن المؤثرات أو المظاهر الخارجية تؤدي ببساطة الى إقصاء و تضبيب الهدف الذي انشده. إني مهتم بالإنسان لأنه يحتوي الكون داخل ذاته. و من أجل إيجاد تعبير للفكرة، لمعنى الحياة الإنسانية، فانه ليس ثمة حاجة لبسط لوحة مزدحمة بالحوادث خلف الإنسان.
ربما سيكون زائدا و غير ضروري الإشارة الى أن السينما كفيلم مغامرات على الطريقة الأمريكية لم تثر على الإطلاق، ومن البداية، أي اهتمام لدي. وآخر شئ أرغب في فعله هو استنباط فتنة وجاذبية. من "طفولة إيفان" الى "stalker"، كنت دائما أحاول أن أتجنب الحركة الخارجية، وقد حاولت أن أركز الحدث ضمن الوحدات الكلاسيكية. من هذه الناحية، حتى بناء"أندريه روبليوف" يستوقفني اليوم بوصفه مفككا وغير متماسك.
جوهريا، أردت لفيلم "نوستالجيا" أن يكون حرا من كل ما هو غير متصل بالموضوع، وما هو عرضي وتصادفي، والذي يعترض طريق هدفي الرئيسي: تصوير شخص في حالة عزلة عميقة عن العالم و عن ذاته، وغير قادر على إيجاد توازن بين الواقع والتناغم الذي يتوق إليه.. شخص في حالة حنين لا يثيرها بعده عن وطنه فحسب بل أيضاً توقه الشامل لوحدة الوجود الكلية. وأنا لم أكن راضيا عن السيناريو حتى تشكل أخيرا في نوع من الوحدة الميتافيزيقية الكاملة.
ايطاليا تدخل وعي البطل - جورشاكوف- في لحظة قيامه بقطع الصلة بالواقع (ليس بشروط وأوضاع الحياة فحسب، بل الحياة نفسها، التي لم تف أبدا المطالب التي حددها الفرد) وتمتد ايطاليا فوقه في شكل خرائب عظيمة ومهيبة، والتي تبدو كما لو أنها تنبت من اللاشيء. هذه الشظايا من حضارة عالمية وغريبة في آن هي أشبه بنقش على ضريح يبيّن عبث المسعى الإنساني، وهي علامة على أن البشرية قد اختارت طريقا لا يمكن أن يفضي إلا الى الهلاك. يموت جورشاكوف وهو غير قادر أن ينجو من أزمته الروحية، وعاجز عن تقويم هذا الوقت الذي هو –جلي حتى بالنسبة إليه أيضا – متنافر ومضطرب.
شخصية دومينيكو، التي تبدو للوهلة الأولى محيرة الى حد ما، لها تأثير خاص على حالة البطل الذهنية.هذا الرجل الخائف، الذي لا يوفر له المجتمع أية حماية، يجد في نفسه النبالة والقوة الروحية التي تجعله يعارض واقعاً يراه مهينا للإنسان.
كان دومينيكو ذات مرة مدرس رياضيات، وهو الآن "اللامنتمي" الذي يسخر من "ضآلته" ويقرر أن يعبر عن رأيه بحرية ومن غير تردد بشأن الحالة المأساوية التي وصل إليها عالم اليوم، مناشدا الناس أن يتخذوا موقفا إزاء ما يحدث.في نظر "الأسوياء" هو مجرد مجنون، لكن جورشاكوف يستجيب الى فكرته-النابعة من معاناة حقيقية-التي ترى أن إنقاذ الناس من جنون الحضارة العصرية لا يجب أن يتم على نحو مستقل وفردي بل بتكاتف الجميع.
بشكل أو بآخر، كل أفلامي تشير الى أن الناس ليسوا وحيدين ومهجورين في كون خال، إنما هم متصلون بالماضي والمستقبل بخيوط لا تحصى، وان كل فرد، فيما يعيش حياته الخاصة، يعقد رباطا مع العالم بأسره، ومع تاريخ البشرية كله..لكن الأمل بأن كل حياة منفصلة، وكل نشاط إنساني، له معنى جوهري يجعل مسؤولية الفرد، تجاه المسلك الإجمالي للحياة الإنسانية، أكبر على نحو لا يمكن التنبؤ به.
في عالم حيث يوجد تهديد حقيقي من حرب قادرة على إبادة الجنس البشري، حيث العلل الاجتماعية توجد على كفة ميزان تتمايل بشدة، حيث المعاناة الإنسانية تستصرخ السماء، لابد من العثور على سبيل للفرد كي يتصل بالآخر.هذا هو الواجب المقدس للجنس البشري تجاه مستقبلهم، والواجب الشخصي لكل فرد.إن جورشاكوف يصبح مرتبطا بدومينيكو لأنه يشعر بحاجة عميقة الى حمايته من النظرة العامة للأغلبية العمياء، القانعة والفاقدة للحس، والذي هو –دومينيكو-بالنسبة إليها مجرد مجنون غريب.مع ذلك فان جورشاكوف عاجز عن إنقاذ دومينيكو من الدور الذي اختاره لنفسه بعناد، دون أن يطلب من الحياة شيئا في المقابل.
جورشاكوف يتفاجأ بتطرف دومينيكو الطفولي، ذلك لأن هو نفسه، مثل سائر البالغين، مذنب لقيامه بسلسلة من التسويات والتنازلات.غير أن دومينيكو يعقد العزم على حرق نفسه حياً في رجاء جنوني بأن هذا الفعل الأخير، العلني والفظيع، سوف يجعل الناس يدركون بأنه لم يهتم بنفسه قدر اهتمامه بهم وقلقه عليهم، ويجعلهم يصغون الى صرخة التحذير الأخيرة.جورشاكوف يتأثر بنبل واستقامة هذا الرجل وأفعاله. واذا كان جورشاكوف يظهر مدى اكتراثه بنواقص وشوائب العالم فحسب، فان دومينيكو يأخذ على عاتقه فعل شيء إزاء هذه الشوائب، والتزامه يكون كاملا: الفعل النهائي يوضح بأن ليس هناك أبداً أي عنصر من التجريد في إحساس دومينيكو بالمسؤولية.وعند المقارنة، نجد أن عذابات جورشاكوف بسبب افتقاره الى الاستقرار والجلد، لا يمكن إلا أن تبدو عادية وبسيطة بالقياس الى عذابات دومينيكو.
سبق أن قلت بأنني شعرت بالإجفال حين اكتشفت الى أي مدى من الصحة والدقة قد انتقلت حالتي النفسية الى الشاشة أثناء تحقيق الفيلم.إحساس بالحرمان عميق جدا، وإنهاك متزايد، بعيدا عن الوطن والأحباء، يملأ كل لحظة من الوجود.ولهذا الإدراك الماكر والعنيد باعتمادك على ماضيك مثل مرض يصير احتماله أكثر صعوبة من أي وقت مضى، أعطيت اسم"نوستالجيا"..مع ذلك ينبغي أن انصح القارئ بأن من السذاجة والتبسيط مطابقة مبدع العمل مع بطله واعتبارهما شخصا واحدا. نحن بالطبع نستخدم انطباعاتنا المباشرة عن الحياة في أعمالنا بما أنها، للأسف، الانطباعات الوحيدة التي تحت تصرفنا.لكن حتى عندما نستعير حالات وحبكات على نحو صريح من حياتنا الخاصة فإن هذا لا يعني أن مبدع العمل يمكن أن يكون الشخص نفسه الذي يظهر في عمله، وهذا ربما يسبب خيبة أمل للبعض عندما يدركون بأن تجربة الفنان الغنائية أو العاطفية نادرا ما تتماثل مع ما يفعله حقا في الحياة الواقعية.
إن المبدأ الشعري للفنان ينبثق من التأثير الذي يحدثه فيه الواقع المحيط، ويمكن لهذا المبدأ أن يرتفع فوق ذلك الواقع، ويرتاب فيه ويستجوبه، وينهمك في صراع مرير معه..ليس فقط مع الواقع الذي يقع خارجه بل أيضا مع الواقع الذي يوجد بداخله.
العديد من النقاد يرون أن دوستويفسكي، على سبيل المثال، اكتشف أكثر من هاوية غائرة داخل ذاته، وأن شخصياته الورعة والشريرة هي إسقاطات لنفسه على حد سواء، غير أن ولا واحدة من هذه الشخصيات مماثلة لنفسه تماما، فكل شخصية تمثل صورة مصغرة لما يراه ويعتقده من الحياة، لكن ولا واحدة يمكن أن يقال عنها بأنها تجسد التناغم الكلي لذاتيته المميزة.
في فيلم "نوستالجيا"أردت أن أتابع ثيمة الرجل"الضعيف"الذي هو ليس محاربا فيما يتصل بخاصياته الخارجية، لكن مع ذلك أراه كمنتصر في هذه الحياة.الدليل في فيلم stalker يلقي مونولوجا دفاعا عن ذلك الضعف الذي هو القيمة الحقيقية وأمل الحياة.كنت دائما أميل الى أولئك الذين لا يستطيعون تكييف أنفسهم مع الحياة على نحو واقعي وعملي.في أفلامي لا يوجد أبدا أبطال (ربما باستثناء إيفان) لكن هناك دائما أفراد تكمن قوتهم في قناعتهم الروحية وإيمانهم الراسخ، والذين يأخذون على عاتقهم المسؤولية نيابة عن الآخرين (وهذا بالطبع يشمل إيفان).مثل هؤلاء الأفراد هم غالبا أشبه بالأطفال لكن فقط بدوافع أناس بالغين.من وجهة نظر الفطرة السليمة فإن وضعهم غير واقعي وأيضا غير أناني.
الراهب، روبليوف، كان ينظر الى العالم بعيني طفل محروم من الحماية، ويبشر بالحب والخير وعدم مقاومة الشر.ومع انه وجد نفسه يشهد أكثر ضروب العنف وحشية وتدميرا، العنف الذي يبدو متحكما في العالم ويفضي به الى خيبة أمل مريرة، إلا انه يعود في النهاية الى تلك الحقيقة ذاتها، المكتشفة من جديد، بشأن قيمة الخير والنبل الإنساني، وقيمة الحب المخلص الذي لا يفكر بالمخاطر والخسائر، الهبة الحقيقية التي يستطيع البشر أن يمنحوها لبعضهم البعض.
كيفلن (بطل سولاريس) الذي يبدو في البداية شخصية محدودة، ضيقة الأفق، ينتهي به الأمر الى أن يصبح مسكونا بـ "محرمات"(تابوات)إنسانية عميقة تجعله عضويا غير قادر على عصيان صوت ضميره، وعلى تجنب عبء المسؤولية الخطير تجاه حياته الخاصة وحيوات الآخرين.
بطل "المرآة"رجل ضعيف، أناني، غير قادر على أن يحب حتى أولئك الأقرب والأعز الى نفسه، الذين لا يتطلعون الى شيء مقابل الحب، ولهذا السبب يشعر بعذاب النفس في أيامه الأخيرة، حيث يدرك بأنه لا يملك أي وسيلة لإيفاء الدين الذي يدين به للحياة.
الدليل في "stalker"، غريب الأطوار والهستيري أحيانا، هو أيضا غير قابل للفساد، ويصرح على نحو بيّن لا لبس فيه بالتزامه الروحي إزاء عالم تنمو فيه الانتهازية مثل ورم خبيث.
ومثل الدليل يستنبط دومينيكو (في نوستالجيا)استجابته الخاصة ويختار طريقته الخاصة في الموت شهيدا، مفضلا ذلك على السعي وراء الامتياز المادي، الدنيوي، والشخصي في محاولة -بواسطة جهوده وبواسطة مثال تضحيته الخاصة- لسد الطريق الذي نحوه تتدافع البشرية بجنون متجهة الى هلاكها. لا شيء أكثر أهمية من الضمير الذي يواظب على السهر والحراسة و يمنع الإنسان من انتزاع ما يرغب من الحياة ثم يستلقي ممتلئا وقانعا. تقليديا، أفضل النخبة المثقفة الروسية كان الضمير هو الذي يرشدها، وكانت غير قادرة على الشعور بالرضا الذاتي، تحركها الشفقة على المحرومين في هذا العالم، ومكرسة نفسها للبحث عن الإيمان، عن المثال، عن الخير.. وكل هذه الأشياء رغبت أن أؤكدها في شخصية جورشاكوف.
إني أنجذب الى الإنسان الراغب في خدمة قضية أسمى، والذي هو غير مستعد-أو بالاحرى غير قادر- على المشاركة في المعتقدات المسلّم بها عموما بشأن "أخلاقية " دنيوية.. الإنسان الذي يدرك أن معنى الوجود يكمن قبل كل شيء في الصراع ضد الشر الذي بداخل ذواتنا، بحيث أنه أثناء حياته قد يتقدم خطوة واحدة على الأقل نحو الكمال الروحي، ذلك لأن الخيار الوحيد لذلك الاتجاه هو، للأسف، ذلك الذي يفضي الى الانحطاط والتفسخ الروحي. إن وجودنا اليومي والضغط العام للتكيف و الامتثال يجعل من السهل تماما اختيار هذا الطريق.
الشخصية الرئيسية في فيلمي الأخير "القربان" هو أيضا رجل ضعيف بالمعنى المبتذل والشائع للكلمة.انه ليس بطلا بل هو مفكر ورجل صادق ومستقيم، والذي يتضح في النهاية أنه قادر على التضحية باسم هدف أسمى. انه يرتفع الى مستوى الأحداث بدون محاولة فصل مسؤوليته أو محاولة إرغام أي شخص آخر على تحمل ذلك. انه في خطر أن لا يكون مفهوما أو أن يساء فهمه، ذلك لأن نشاطه الحاسم هائل الى حد أن ذلك الفعل بالنسبة لأولئك المحيطين به لا يمكن إلا أن يبدو هداما على نحو فاجع: ذلك هو التعارض التراجيدي لدوره. مع ذلك هو يقوم بالخطوة الحاسمة، وبتلك الوسيلة يخرق قواعد السلوك "السوي" ويكشف نفسه لتهمة ارتكاب الحماقة لأنه واع لصلته بالواقع الجوهري، بما يمكن أن يسمى قدر العالم. في كل هذا هو فحسب يطيع مهمته كما يحسها في قلبه. انه ليس سيد مصيره بل خادمه. ربما من خلال الجهود الفردية، مثل جهده الذي لا يلاحظه أو يفهمه أحد، يكون تناغم العالم مصونا.
الضعف البشري الذي أجده جذابا لا يسمح بتوسعية فردية أو بتوكيد الوجود الشخصي على حساب الآخرين أو الحياة نفسها، ولا الإلحاح على تسخير شخص آخر لتحقيق أهداف و متطلبات الفرد الخاصة. في الواقع أنا مفتون بقدرة الكائن البشري على الوقوف ضد القوى التي تدفع أشباهه نحو التنافس العنيف الأحمق.
أيضا هو أساس ولعي ب"هاملت"، الذي آمل أن أحقق عنه فيلما في المستقبل القريب.
هذه المسرحية التي تعد من أعظم المسرحيات تظهر معضلة الإنسان الأزلية، الذي هو ذو منزلة أخلاقية أرفع من نظرائه لكن الذي أفعاله بالضرورة تؤثر في، وتتأثر بالعالم الحقيقي الوضيع. انه كما لو أن إنسان المستقبل قد فُرض عليه أن يعيش في الماضي. ومأساة هاملت، كما أراها، لا تكمن في موته بل في واقع أنه قبل أن يموت يكون مضطرا لأن يتخلى عن بحثه الخاص عن الكمال و يصبح مجرد قاتل عادي. بمقتضى ذلك، لا يمكن للموت أن يكون مخرجا مرحبا به و إلا فسوف يتعين عليه أن يقتل نفسه.
فيما يتعلق بفيلمي التالي، سوف أصبو الى صدقٍ وإقناعٍ أكبر في كل لقطة، مستخدما الانطباعات المباشرة التي خلقتها الطبيعة والتي منها يكون الزمن قد خلف أثره الخاص. الطبيعة توجد في السينما بالدقة و الأمانة التي يتسم بها المذهب الطبيعي. وكلما كانت الدقة والأمانة أكبر صرنا نثق أكثر في الطبيعة كما نشاهدها في الكادر، وفي الوقت نفسه تكون الصورة المبتدعة أكثر جمالا.
مؤخرا وجدت نفسي على نحو متكرر أخاطب الجمهور، وقد لاحظت بأنني كلما صرحت بأن أفلامي تخلو من الرموز أو المجازات، يعبّر الحاضرون عن شكوكهم ويصرون على سؤالي، المرة تلو الأخرى، عما يعنيه المطر - مثلا- في أفلامي، عن مغزاه ودلالته، ولماذا يظهر في كل أفلامي، ولماذا الصور المتكررة للريح والنار والماء ؟ حقيقة أنا لا أعرف كيف أتعامل مع مثل هذه الأسئلة.
المطر، قبل كل شيء، عنصر نموذجي في المنظر الطبيعي الذي نشأت فيه. في روسيا، تجد تلك الأمطار المديدة، الكئيبة، المتواصلة. من جهة أخرى، أنا أحب الطبيعة ولا أحب المدن الكبيرة، وأشعر بسعادة بالغة حين أكون بعيدا عن أدوات الحضارة الحديثة. هذه السعادة وهذه الروعة كنت أشعرها أيضا في روسيا عندما كنت أقيم في منزلي الريفي الذي يبعد عن موسكو 300 كيلومتراً.
المطر، النار، الماء، الثلج، الندى، الريح.. كلها جزء من المحيط المادي الذي فيه نحن نقطن ونوجد.. بل أنها جزء من حقيقة حياتنا. بالتالي أشعر بالحيرة والارتباك حين يقال لي بأن الناس لا يستطيعون الاستمتاع بالنظر الى الطبيعة عندما يعاد إنتاجها بحب على الشاشة، إنما يرهقون أنفسهم بالبحث عن معنى خفي ومستور يعتقدون بأنه لا بد أن يكون متضمنا. بالطبع، يمكن النظر الى المطر كمجرد طقس سيء، غير أنني أستخدمه لخلق محيط جمالي خاص فيه تتشرب حركة الفيلم. لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الطبيعة مصورة في أفلامي بوصفها رمزاً لشيء آخر.
في السينما التجارية، الطبيعة- في الغالب- لا توجد أبدا. إننا لا نرى سوى إضاءة ملائمة ومواقع داخلية لغرض التصوير السريع. كل شخص يتابع الحبكة ولا أحد ينزعج من اصطناعية الموقع أو من الاستخفاف بالتفاصيل والأجواء.عندما تجلب الشاشة العالم الحقيقي الى الجمهور، العالم كما هو في الواقع، بحيث يستطيع أن يراه في عمقه ومن جميع جوانبه، أن يستحضر "رائحته"الحقيقية وان يشعر بنداوته أو جفافه على بشرته..عندما تفعل الشاشة ذلك ولا يستجيب المتفرج فإن هذا يعني أن المتفرج قد فقد القدرة على التسليم بالانطباع الجمالي العاطفي المباشر، ويبدأ فورا في كبح نفسه ويسأل:لماذا ؟لأي سبب أو غرض؟ .
الإجابة هي أنني أريد أن اخلق عالمي الخاص على الشاشة، في شكله المثالي والأكثر كمالا، كما أراه وأحسه.إني لا أحاول أن أتصرف بحياء مع جمهوري، أو أن اخفي بعض نواياي السرية:إني أعيد خلق عالمي بتلك التفاصيل التي تبدو لي الأكثر كمالا ودقة للتعبير عن المعنى المراوغ لوجودنا.
دعوني أوضح ما أعنيه بالإشارة الى بيرجمان: في فيلمه"النبع البكر"كنت مأخوذا دائما بتلك اللقطة للبطلة التي هي على وشك الموت، الفتاة التي تعرضت الى الاغتصاب بوحشية وبشاعة.شمس الربيع تلتمع من خلال الأشجار، وعبر الأغصان نرى وجهها ربما هي تحتضر أو قد تكون ميتة في ذلك الحين، لكن على أية حال، هي بوضوح لا تعود تشعر بالألم..نذير شر يبدو متدليا في الجو، معلقا مثل صوت ما..كل شيء يبدو جليا، مع ذلك نحن نشعر بثغرة..ثمة شيء مفقود..الثلج يبدأ في التساقط، ثلج ربيعي غريب.. وهذا ما كنا نحتاجه لرفع مشاعرنا الى ضرب من الاكتمال والتحقق: إننا نلهث جامدين.الثلج يعلق بأهدابها ويمكث هناك. مرة أخرى، الزمن يترك آثاره في اللقطة .. لكن كيف، وبأي حق، يمكن للمرء أن يتحدث عن معنى ذلك الثلج المتساقط، حتى لو ضمن امتداد وإيقاع اللقطة يكون هو الشئ الذي يرفع إدراكنا العاطفي الى الذروة ؟ بالطبع لا يستطيع المرء أن يتحدث عن ذلك.كل ما نعرفه أن هذا المشهد هو الشكل الذي وجده الفنان لتوصيل ما حدث بدقة. مهما يكن السبب فلا يجب الخلط بين الغرض الفني والايديولوجيا، والا فنحن سوف نفقد الوسيلة لإدراك الفن على نحو مباشر ودقيق.
يمكنني أن أسلّم باحتواء اللقطة الختامية في فيلم"نوستالجيا"على عنصر المجاز، عندما قدمت المنزل الروسي داخل الكاتدرائية الإيطالية.إنها صورة مركبة ذات نكهة أدبية: نموذج لحالة البطل، للانقسام الحادث داخله والذي يمنعه من العيش كما فعل حتى تلك اللحظة. أو ربما، على العكس، هي وحدته الكاملة الجديدة التي فيها تتواجد التلال الإيطالية والريف الروسي معاً على نحو سرمدي لا فكاك منه.انه يعي ذلك كشيء خاص به على نحو متأصل يندمج في كينونته وفي دمه، لكن في الوقت نفسه، الواقع يأمره بأن يفصل هذه الأشياء بالعودة الى روسيا.هكذا يموت جورشاكوف في هذا العالم الجديد حيث تلك الأشياء تتواجد معاً بذاتها وعلى نحو طبيعي، لكنها انقسمت نهائيا والى الأبد في وجودنا الأرضي، النسبي والغريب، لسبب ما أو على يد شخص ما. مع ذلك، حتى لو افتقر المشهد الى النقاء السينمائي فإنني اعتقد انه متحرر من الرمزية المبتذلة.النتيجة تبدو لي أكثر تعقيدا في الشكل والمعنى من أن تكون تعبيرا مجازيا لما يحدث للبطل، ورمزاً لشيء يقع خارجه ولا بد من حل شفرته.
ربما يتهمني البعض بالتناقض فيما أقوله هنا، لكن الأمر متروك للفنان لكي يستنبط أو يخترع القواعد ثم ينقضها ويحطمها.من المستبعد وجود عدة أعمال فنية تجسد بدقة المبادئ الجمالية التي يبشر بها الفنان.عادة، العمل الفني ينمو في تفاعل معقد مع أفكار الفنان النظرية والتي لا يمكن أن يحتويها كليا.فالنسيج الفني هو دائما أغنى من المخطط النظري.
الفصل التاسع:
القربان
فكرة فيلم "القربان" the sacrifice خطرت لي قبل أن أفكر في "نوستالجيا"بفترة طويلة.الملاحظات والتخطيطات الأولى يعود تاريخها الى الفترة التي عشتها في الاتحاد السوفيتي.نقطة الإرتكاز للفيلم كانت قصة الشخص، ألكسندر، الذي يشفى من مرض مميت بعد أن يقضي ليلة في الفراش مع ساحرة.منذ ذلك الحين، وطوال فترة اشتغالي على السيناريو، كنت مأخوذا على الدوام بفكرة التوازن، القربان، فعل التضحية.لقد أصبح هذا جزءا من وجودي الفعلي، كل ما اختبرته منذ إقامتي في الغرب قد ساعد في جعل هذا الاستغراق أكثر كثافة وحدّة. أستطيع أن أقول بان قناعاتي الأساسية لم تتغير منذ وصولي الى الغرب، إنما تطورت وتعمقت وأصبحت أكثر رسوخا.كانت هناك تغييرات في الفترة الفاصلة.بالتالي، مع تطور خطة الفيلم تدريجيا، اخذ الشكل يتغير لكنني كنت آمل بان تبقى الفكرة المركزية سليمة دون أي مساس بها.
الذي أثارني وحرك مشاعري كان ثيمة التناغم الذي يولد فقط من فعل التضحية، التبعية الثنائية للحب.إنها ليست مسألة حب متبادل:يبدو أن أحدا لا يفهم بأن الحب لا يمكن أن يكون إلا من طرف واحد، وانه لا يوجد غير هذا الحب، واذا اتخذ شكلا آخر فانه ليس حبا. إذا أشتمل على ما هو أقل من العطاء الكلي والمطلق فانه ليس حبا..سيكون عاجزا، عقيما، وعدما.
إني مهتم، قبل كل شيء، بالشخص الذي يكون قادرا على التضحية بنفسه وبأسلوب حياته، بصرف النظر عما إذا كانت تلك التضحية مقدمة باسم قيم روحية أو من أجل شخص آخر أو في سبيل خلاص الفرد نفسه، أو من أجل كل هذه الأمور معا.مثل هذا السلوك، بطبيعته الصرفة، يعوق كل تلك المصالح الأنانية التي تشكل الأساس المنطقي "السوي"للفعل.انه يدحض قوانين النظرة المادية، وغالبا ما يكون منافيا للعقل وغير عملي.مع ذلك –أو في الواقع لهذا السبب بالذات –الإنسان الذي يتصرف بهذه الطريقة يحدث تغييرات جوهرية في حياة الآخرين وفي سياق التاريخ.الحيز الذي يعيش فيه يصبح موضع تباين مميز ونادر مع المفاهيم التجريبية لتجربتنا.النطاق الذي يكون فيه الواقع حاضرا بقوة.
شيئا فشيئا قادني ذلك الوعي الى تعزيز رغبتي في تحقيق فيلم عن رجل يتحول من الاتكال على الآخرين الى الاستقلالية، والذي يرى بأن الحب عبودية وحرية مطلقة في آن.وكلما أدركت بوضوح أكثر طابع المادية على وجه كوكبنا (بصرف النظر عما إذا كنت أرصد ذلك في الغرب أو الشرق)، وصادفت أفراداً تعساء، ورأيت ضحايا الاضطرابات الذهنية المتسمة باختلال الصلة بالواقع أو عدم الرغبة في فهم سبب فقدان الحياة لكل بهجة وكل قيمة، ولماذا هي أصبحت قمعية وجائرة.. كلما كان ذلك ازداد إحساسي بالالتزام بهذا الفيلم بوصفه الشيء الأكثر أهمية في حياتي. ويبدو لي بأن الفرد اليوم يقف في مفترق الطرق مواجها هذا الخيار: إما أن يمارس حياة مستهلك أعمى خاضع لزحف لا سبيل الى تهدئته تقوم به تكنولوجيا حديثة، وسيل لا نهائي من السلع المادية، أو أن يبحث عن طريق سوف يفضي به الى المسؤولية الروحية، والذي في النهاية قد لا يعني خلاصه الشخصي فحسب لكن أيضا إنقاذ المجتمع ككل. بمعنى آخر، التوجه الى الله يستدعي من الفرد أن يحل هذه المعضلة لنفسه، فهو وحده الذي يستطيع أن يكتشف حياته الروحية السليمة. وحل ذلك ربما يقربه من الحالة التي فيها يقدر أن يكون مسؤولا عن المجتمع. تلك هي الخطوة التي تصبح تضحية، بالمعنى المسيحي للتضحية بالنفس.
مرة أخرى يتم تذكيرنا بأن حياتنا هنا على الأرض خُلقت من أجل أن نكون سعداء، ولا شيء آخر أكثر أهمية من السعادة للإنسان. مع أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا تعين على المرء أن يعدّل معنى كلمة السعادة، والذي هو مستحيل، فلا في الغرب و لا في الشرق (دون أن أشير الى الشرق الأقصى) سوف يؤخذ الصوت المغاير بجدية من قبل الأكثرية المادية.
إني أفترض بأن الإنسان العصري، في أغلب الأحوال، ليس مهيأ لإنكار ذاته ومصالحه من أجل أناس آخرين أو باسم ما هو أعظم وما هو أسمى. هو عن طيب خاطر سوف يقايض حياته الخاصة بكينونة إنسان آلي.
أنا أدرك بأن فكرة التضحية، المثال المسيحي لحب الجار، لا تتمتع بأي شعبية، و أن أحدا لا يطلب منا التضحية بالنفس، فهذا يعتبر مثاليا وغير عملي. لكن نتائج أسلوبنا في الحياة، نتائج سلوكنا، هي جلية تماما: تآكل الشخصية الفردية على يد الأنانية والمصالح الذاتية العلنية، انحلال الروابط الإنسانية نحو علاقات خالية من المعنى بين الجماعات البشرية. ومع ذلك فإن الأكثر إرعابا هو فقدان كل إمكانية للعودة الى ذلك الشكل الأرقى من أشكال الحياة الروحية التي وحدها تكون جديرة للجنس البشري، و التي تمثل الأمل الوحيد للإنسان في الخلاص. المثال سوف يوضح ما أعنيه بشأن الأهمية الرئيسية المتفقة مع المصالح المادية. الجوع الجسماني يمكن أن يكون مخففا ببساطة تامة بواسطة المال. اليوم نحن ننزع الى الاستخدام المبسط للصيغة الماركسية ذاتها التي تقول أن المال = البضائع، وذلك في محاولة منا للهروب من الحرمان العقلي. عندما نشعر بأعراض يتعذر تفسيرها للحصر النفسي أو الكآبة أو اليأس فإننا نتوجه فورا ومن غير إبطاء الى الخدمات التي يقدمها الطبيب النفساني أو، وهذا أفضل، العالم الخبير في شؤون الجنس، الذي اضطلع بدور كاهن الاعتراف، والذي نحن نظن بأنه يسكّن أذهاننا ويهدئ أمزجتنا ويعيدنا الى الحالة السوية.. وباطمئنان ندفع له في كل زيارة وبالسعر الذي يحدده. وعندما نشعر بالحاجة الى الحب فإننا نمضي الى أحد بيوت الدعارة، ومرة أخرى ندفع نقدا.
كل هذا يحدث على الرغم من واقع معرفتنا التامة باستحالة شراء الحب أو الطمأنينة أو راحة البال بأي عملة متداولة.
فيلم"القربان"حكاية ذات مغزى أخلاقي. الأحداث الهامة التي يحتويها يمكن تأويلها بأكثر من طريقة واحدة. المعالجة الأولى كانت بعنوان "الساحرة"، وتروي قصة الشفاء المذهل للبطل (ألكسندر) من مرض السرطان، رغم أن طبيب العائلة قد أكدّ له بأن أيامه معدودة. ذات يوم يطرق بابه عراف ويقدم له حلا غريبا، لا معقولا تقريبا، لكي يشفى: أن يذهب الى امرأة يقال أنها ساحرة، وأن يقضي الليل معها. الرجل المريض يذعن لأنه لا يملك مخرجا أو حلاً آخر. عندئذ ، بنعمة من الله ، يبرأ من مرضه . وهذا ما يؤكده الطبيب الذاهل. بعد ذلك، وفي ليلة عاصفة، رهيبة، تظهر الساحرة أمام بيت ألكسندر. ونزولا عند طلبها يهجر، بسعادة بالغة، بيته الفخم، ويتخلى عن كل ما يملك ليمضي معها دون أن يحمل شيئا غير معطف قديم.
في المحصلة النهائية، هذه ليست حكاية عن التضحية فحسب بل أيضا عن كيفية إنقاذ الفرد. وما كنت آمله هو أن يكون شفاء ألكسندر في اتجاه أكثر دلالة ومغزى: إنها ليست فقط مسألة الشفاء من مرض عضوي مميت، بل أيضا مسألة انبعاث روحي متجسد في صورة امرأة.
على نحو غريب وملفت للنظر، بينما كانت صور الفيلم في طور التخيل، وطوال فترة كتابة المسودة الأولى من السيناريو، بدأت الشخصيات في البروز والمثول بوضوح أكثر، والحدث أصبح محددا ومركبا وعلى نحو أكثر ثباتا. لقد كانت عملية مستقلة تقريبا تلك التي دخلت حياتي من تلقاء نفسها. علاوة على ذلك، وبينما كنت لا أزال أحقق "نوستالجيا"، لم أستطع الإفلات من الإحساس بأن الفيلم كان يمارس تأثيرا على حياتي. في سيناريو "نوستالجيا"، جورشاكوف يأتي الى ايطاليا لقضاء فترة قصيرة فقط، غير أنه يصاب بمرض ويموت هناك. بتعبير آخر، هو أخفق في العودة الى روسيا ليس بملء اختياره أو إرادته، إنما بسبب ما يمليه القدر. أنا أيضا لم أتصور بأنني، بعد انتهائي من تصوير "نوستالجيا"، سوف أبقى في ايطاليا.. لكن ، مثل جورشاكوف ، أنا خاضع لمشيئة أعلى . وثمة واقعة محزنة أخرى حدثت لتؤكد هذه الأفكار: وفاة أنا تولي سولونيتسن، الذي أدى الأدوار الرئيسية في كل أفلامي السابقة، والذي كان من المفترض أن يؤدي دور جورشاكوف في "نوستالجيا"ودور ألكسندر في "القربان".
لقد مات نتيجة المرض (السرطان) الذي شفي منه الكسندر والذي ابتليت به شخصيا بعد عام.
لا أعرف ما يعنيه هذا، اعرف فقط بأنه مخيف جدا، وليس لدي شك بأن شعرية الفيلم سوف تصبح واقعا محددا، وأن الحقيقة التي يلامسها الفيلم سوف تتجسد وسوف تجعل نفسها معلومة -وسواء شئت ذلك أم لم أشأ- سوف تؤثر في حياتي. لا يمكن أن يكون هناك أي مجال لأن يظل الفرد سلبيا ما إن يدرك حقائق تلك الحالة، ذلك لأنها تأتي إليه دون أن يكون مستعدا لها أو راغبا فيها، وهي تطيح بكل أفكاره السابقة بشأن ما يكونه العالم. بالحس الحقيقي هو يكون منقسما على نفسه، واعيا لكونه مسؤولا عن الآخرين، وانه أداة أو وسيط ملزم بأن يعيش ويعمل من أجل الآخرين.
ألكسندر بوشكين كان يرى بأن كل شاعر، كل فنان حقيقي (وأنا دائما أرى نفسي شاعرا أكثر من كوني سينمائيا)هو نبي بصرف النظر عما إذا أراد ذلك أو لم يرد.لقد رأى بوشكين في القدرة على النظر في الزمن والتنبوء بالمستقبل هبة مخيفة، والدور المكلف به سبّب له عذابا شديدا.كان مؤمنا بالخرافات فيما يتصل بالإشارات والعلامات.وعلينا فقط أن نتذكر كيف أن بوشكين في طريقه من بسكوف الى بيترسبورغ، أثناء انتفاضة الديسمبريين، اضطر الى تغيير رأيه والعودة دون أن يكمل سفره لمجرد انه رأى أرنباً برياً يمر عدواً أمامه..فقد كان يؤمن بالاعتقاد الشائع آنذاك من أن هذا نذير شؤم.وفي إحدى قصائده كتب عن العذاب الذي كان لزاماً أن يتحمله نتيجة وعيه بموهبته في قراءة الغيب، وعبء أن يكون شاعرا ونبيا.لقد نسيت كلماته، لكنني استحضرت قصيدته بدلالة جديدة، أشبه تقريبا بسفر الرؤيا.وأشعر أن القلم الذي كتب به هذه الأبيات في 1826 لم يمسكه ألكسندر بوشكين وحده:
مرهقا من جوع الروح
عبر أرض قاحلة ومروعة بحثت عن طريقي،
والساروفيم (19) ذو الأجنحة الستة جاء إليّ
عند الموضع الذي يتقاطع فيه طريقان.
برؤوس أصابع خفيفة كالنوم
هو مس بؤبؤ عينيّ،
والبؤبؤان، اللذان يتنبآن، انفتحا
مثل عينيّ نسر مذعور.
وما إن لامست أصابعه أذنيّ
حتى امتلأتا بهدير ورنين:
سمعت رعدة السماء،
وتحليق جبل الملاك،
ووحوش البحر تتحرك في الأعماق،
وتتكاثر كروم الوادي.
ضغط على فمي،
واقتلع لساني الأثيم،
وكل رياء كلماته الباطلة،
ثم أخذ لسان ثعبان حكيم
وأقحمه في فمي المتجمد
بيده اليمنى القرمزية.
وبسيفه شق صدري
وانتزع قلبي الراجف،
وفي صدري الفاغر وضع
جمرة متقدة باللهب.
مثل جثة تمددتُ في الأرض القاحلة
وسمعت صوت الرب ينادي:
"إنهض، أيها النبي، وانظر واسمع،
عهدت إليك بمشيئتي
فاذهب الى الجانب الآخر من المياه واليابسة
لتلهب بالكلمة قلوب البشر".
فيلم "القربان "، جوهريا، يحمل المسحة ذاتها كما هي أفلامي السابقة لكنه مختلف في التوكيد الشعري، المرسوم عمدا، على التنامي الدرامي.بمعني آخر، أفلامي الأخيرة كانت انطباعيه في البناء والتركيب. الأجزاء- باستثناءات نادرة- كانت مستمدة من الحياة اليومية، وبالتالي تنتقل الى الجمهور في وحدتها الكلية.
بالعمل في فيلمي الأخير، كنت لا أهدف فقط الى تنمية الأجزاء على ضوء تجربتي الخاصة وقوانين البناء الدرامي، بل كنت أهدف أيضا الى بناء الفيلم في وحدة شعرية تترابط فيها جميع الأجزاء على نحو متناسق ومتناغم.. وهذا الأمر شغل مساحة أقل من الاهتمام في أفلامي السابقة.بالنتيجة، البنية الكلية لفيلم "القربان"أصبحت أكثر تعقيدا واتخذت شكل حكاية رمزية، شعرية. في "نوستالجيا" التنامي الدرامي مفتقد تماما، بصرف النظر عن النزاع مع يوجينيا، وتضحية دومينيكو بنفسه، ومحاولات جورشاكوف الثلاث لنقل الشمعة نحو الجانب الآخر من البركة.في "القربان" على نحو مغاير، التعارض بين الشخصيات يوجد حتى نقطة التوهج.كل من دومينيكو وألكسندر راغبان في الفعل، ومصدر رغبتهما في فعل ذلك يكمن في هاجس التغيير الوشيك لديهما.كلاهما يحملان علامة التضحية، وكل منهما يقوم بتقديم نفسه قربانا.الفرق هو أن فعل دومينيكو لا يُحدث نتائج ملموسة.
ألكسندر ممثل هجر خشبة المسرح.الكآبة تسحقه على الدوام.كل شيء يملؤه بالضجر والإرهاق: ضغوطات التغيير، التنافر والتعارض بين أفراد عائلته، إحساسه الغريزي بالتهديد الماثل من جراء الزحف الشرس للتكنولوجيا.لقد ازداد كرها لخواء الكلام البشري، الذي منه يهرب الى الصمت حيث يأمل أن يجد الوئام والطمأنينة.
إن ألكسندر يقدم الى الجمهور إمكانية المشاركة في فعل التضحية وفي التأثير عاطفيا بنتائجها.مجاز الفيلم متساوق مع الحدث ولا يحتاج الى توضيح وشروحات.كنت أعلم أن الفيلم سيكون مفتوحا على عدد من التأويلات، لكنني تجنبت على نحو مقصود الإشارة الى استنتاجات محددة لأنني اعتقد أن على الجمهور التوصل إليها على نحو مستقل.في الواقع كان غرضي إثارة استجابات مختلفة، ومن الطبيعي أن تكون لدي رؤيتي وأفكاري الخاصة بشأن الفيلم، وأظن أن المتفرج سيكون قادرا على تأويل الأحداث التي يصورها الفيلم واكتشاف الخيوط العديدة التي تربط هذه الأحداث إضافة الى تناقضاتها أيضا.
ألكسندر يتوجه الى الله في صلاته.فيما بعد هو يعقد العزم على قطع الصلة بحياته كما عاشها. حتى تلك اللحظة.انه يحرق كل الجسور خلفه ولا يترك طريقا واحدا للعودة .
انه يدمر بيته، يتخلى عن ابنه الذي يحبه أكثر من أي شخص آخر، ثم ينحدر نحو الصمت المطبق كنقد أخير لانحطاط قيمة الكلمات في العالم الحديث.قد يرى بعض الأفراد المتدينين في الأحداث التي تعقب الصلاة ردا من الله على سؤال الإنسان "ما الذي يجب عمله لتجنب الكارثة النووية؟"..اي دعوة الى التوجه الى الله.والذين لديهم إحساس عال بالظواهر الخارقة قد يرون في الالتقاء بالساحرة، ماريا، مشهداً محورياً يفسر كل ما يحدث لاحقا.ولا شك أن آخرين سينظرون الى أحداث الفيلم كلها بوصفها مجرد ثمار مخيلة مريضة بما أن الحرب النووية لا تحدث في الواقع.
ولا واحدة من هذه الاستجابات لها علاقة بالواقع المعروض في الفيلم.المشهدان الأول والأخير - ارواء الشجرة غير المثمرة، والتي هي بالنسبة لي رمز للإيمان-هما الموضعان الرفيعان الذي بينهما تتفتح الأحداث بكثافة نامية. مع نهاية الفيلم، ليس ألكسندر فحسب الذي يبرهن أنه على حق ويثبت أنه قادر على بلوغ مرتبة أسمى واستثنائية، لكن الطبيب أيضا، الذي يظهر أولاً كشخصية بسيطة طافحة بالصحة ومكرسة نفسها لعائلة ألكسندر، يتغير الى حد أنه يقدر أن يشعر ويفهم الجو السام، المليء بالضغينة، الذي ينتشر بين أفراد الأسرة. ويثبت في النهاية أنه قادر ليس فقط على التعبير عن رأيه الخاص لكن أيضا اتخاذ قرار بقطع الصلة بما قد أصبح تدريجيا مكروها بالنسبة إليه، وبالهجرة الى استراليا.
كنتيجة لما يحدث، فإن حميمية جديدة تنشأ بين زوجة ألكسندر غريبة الأطوار والخادمة جوليا. مثل هذه العلاقة الإنسانية هي شيء جديد تماما بالنسبة الى الزوجة التي ظلت طوال الفيلم تقريبا تؤدي وظيفة تراجيدية: إنها تقمع أي شيء يواجهها، أي طموح فردي -حتى لو كان ضئيلا- لتوكيد الهوية الذاتية. وهي تسحق كل شيء وكل شخص، حتى زوجها، دون أن ترغب للحظة في فعل ذلك على نحو مقصود.إنها تعاني من افتقارها الى القيم الروحية، لكن في الوقت ذاته تلك المعاناة هي التي تمنحها الطاقة المدمرة، المتعذر ضبطها أو التحكم فيها، والتي تضاهي في التأثير ذلك الانفجار النووي. إنها أحد أسباب مأساة ألكسندر.
اهتمامها بالآخرين هو في تناسب عكسي مع غرائزها العدوانية ومع شغفها بتوكيد تفوقها على الآخرين. إن قدرتها على إدراك الحقيقة محدودة جدا بحيث لا يسمح لها أن تفهم العالم الآخر، عالم الناس. فضلا عن ذلك، حتى لو أمكن لها أن ترى ذلك العالم فسوف تكون غير قادرة وغير راغبة في دخوله.
ماريا هي نقيض الزوجة: بسيطة، جبانة، غير واثقة من نفسها على الدوام. في بداية الفيلم، أي صداقة بينها وبين سيد المنزل ستكون مستحيلة أو غير واردة. الاختلافات التي تفصل بينهما كبيرة جدا. لكن ذات ليلة هما ينامان معا، وتلك الليلة تصير نقطة التحول في حياة ألكسندر. إزاء الكارثة الوشيكة هو يعي حقيقة الحب الذي تمنحه هذه المرأة البسيطة كهبة من الله، كمبرر لحياته بأسرها. المعجزة التي تباغت الكسندر وتغيره.
لم يكن سهلا أبداً العثور على ممثلين ملائمين للأدوار الثمانية، لكنني أظن أن كل ممثل، ساهم في الفيلم، جاء متماهيا كليا مع شخصيته وأفعالها.
لم تكن لدينا مشاكل تقنية أو غير تقنية أثناء التصوير حتى تلك اللحظة قرب النهاية، حين أخفقت كل جهودنا في تحقيق هدفنا. فجأة، في المشهد الذي يشعل ألكسندر النار في بيته - والذي هو عبارة عن لقطة واحدة تدوم ست دقائق ونصف الدقيقة دون قطع- تعطلت الكاميرا ولم نكتشف ذلك إلا بعد أن اشتعل المبنى بأسره محترقا تماماً فيما كنا نحدق في يأس وخيبة. لم نتمكن من إخماد الحريق ولم نستطع أن نلتقط شيئا.. أربعة شهور ثمينة من العمل الشاق و المكثف من أجل لا شيء.
بعد ذلك، في غضون أيام، تم بناء بيت جديد مطابق تماما للبيت السابق. وكان ذلك يبدو أشبه بالمعجزة، ويبرهن على ما يستطيع الأفراد أن يفعلوه عندما يكونون مدفوعين بالاقتناع والإيمان الراسخ.
و فيما نصور ذلك المشهد للمرة الثانية كنا طافحين بالخوف والتوجس حتى توقفت الكاميرتان معا عن التصوير، الكاميرا التي يحملها مساعد المصور، والأخرى اتى يصور بها سفن نايكفست: القلق على نحو حاد.. سيد الضوء الرائع هذا. عندئذ بدا على الجميع فرح غامر كما لو أطلق سراحهم أخيرا، وبكينا كلنا تقريبا مثل الأطفال، و فيما كنا نتعانق ونحتضن بعضنا فهمت بوضوح الى أي مدى كان الرباط، الذي وحّد فريقنا، حميما وغير قابل للانحلال.
ربما المشاهد الأخرى -التي تظهر الحلم أو الشجرة غير المثمرة- ذات مغزى ودلالة من وجهة نظر سيكولوجية معينة أكثر من المشهد الذي فيه يحرق ألكسندر بيته في إيفاء مروع للنذر.
لكن من البداية كنت قد اتخذت قرارا بتركيز مشاعر الجمهور على سلوك (يبدو للوهلة الأولى عبثيا وبلا معنى تماما) شخص يعتبر كل ما هو ليس ضروريا للحياة شيئا تافها، عديم القيمة، وبالتالي أثيما.
أردت من أولئك الذين شاهدوا الفيلم أن يتأثروا على نحو مباشر بحالة ألكسندر، وأن يختبروا حياته الجديدة التي تخترق الزمن المحرف لإدراكه. ربما لهذا السبب يدوم مشهد الحريق ست دقائق كاملة.. لم يكن بالامكان تنفيذه بأية طريقة أخرى.
"في البدء كانت الكلمة، لكنك صامت مثل سلمون أبكم"، يقول ألكسندر لولده في بداية الفيلم. الابن يشفى بعد عملية الحنجرة لكن لا يسمح له بالكلام.انه يصغي في صمت فيما يروي له والده قصة الشجرة غير المثمرة. في ما بعد، عندما يشعر ألكسندر بالرعب لدى سماعه أنباء عن كارثة وشيكة، يأخذ هو على نفسه عهداً بالتزام الصمت.. " سوف أكون أبكما، سوف لن أتفوه أبدا بأية كلمة أخرى لأي شخص، سوف أتخلى عن كل ما يربطني بحياتي.. يا الهي، ساعدني على أن أفي بهذا العهد."
الله يستجيب لصلاة ألكسندر والنتائج تكون فظيعة وسارة في آن. النتيجة العملية أن ألكسندر يقطع صلته على نحو نهائي بالعالم وقوانينه التي كان يعترف بها حتى تلك اللحظة. وبفعل ذلك هو لا يفقد عائلته فحسب بل أيضا يضع نفسه خارج كل المعايير المسلم بها، وهذا يعد بالنسبة الى المحيطين به أكثر الأشياء إرعابا. مع ذلك، ولهذا السبب بالذات، أرى ألكسندر في صورة الرجل الذي اصطفاه الله. انه يستطيع أن يحس بالخطر، بالقوة المدمرة التي تقود آلية المجتمع الحديث في تقدمه الحثيث نحو الهاوية. لا بد للقناع أن يُنتزع إذا كانت هناك رغبة حقيقية في إنقاذ البشرية.
الى درجة ما، يمكن رؤية المشاركين الآخرين أيضا كأفراد اصطفاهم الله واستدعاهم.
أوتو، بموهبته في التكهن، يجمع الحوادث الغامضة، الملغزة، والتي يتعذر تفسيرها.لا أحد يعرف شيئا عن ماضيه أو كيف ومتى جاء الى القرية حيث تحدث العديد من الأمور الغريبة.
بالنسبة الى ابن ألكسندر الصغير والساحرة ماريا فإن العالم مليء بالعجائب التي لا يُسبر غورها ويتعذر فهمها، ذلك لأن كليهما يتحركان في عالم الخيال وليس"الواقع".بخلاف التجربيين والذرائعيين هما لا يؤمنان فقط بما يستطيعان لمسه، بل بالأحرى عن طريق المخيلة يدركان الحقيقة.أفعالهما لا تستجيب ولا تمتثل للمعايير"السويّة" للسلوك. انهما ممسوسان بالهبة التي كانت مدركة ومسلم بها في روسيا القديمة بوصفها سمة لـ "المجنون المقدس، ذلك الحاج أو الشحاذ بملابسه الرثة والذي حضوره يؤثر في الذين يعيشون حيوات"سوية"، والذي تكهنا ته وإنكاره للذات كانت دائما في تعارض مع أفكار العالم وقوانينه الراسخة.
اليوم، المجتمع المتحضر، والذي غالبيته العظمى لا تملك أي إيمان، صار يعني في استشرافه بالظواهر والوقائع اليقينية فحسب، لكن حتى هؤلاء يخفقون في ملاحظة عبثية الفرضية الماركسية القائلة بأن الكون موجود الى الأبد في حين أن الأرض هي تصادفيه فحسب.
الإنسان المعاصر غير قادر أن يأمل في اللامتوقع، في الأحداث المغايرة التي لا تتوافق مع المنطق"السوي".الخواء الروحي الذي ينشأ عن ذلك ينبغي أن يكون وافيا لإعطاء الإنسان نفسه فرصة التوقف من اجل التفكير.يتعين عليه أن يفهم بأن طريق الحياة لا يقاس بمقياس بشري بل يكمن في يد الخالق، الذي على إرادته يجب أن يتكل.
أحد ابرز مآسي العالم الحديث هو أن المعضلات المعنوية والعلاقات المتبادلة الأخلاقية ليست مطابقة للنمط الحديث. لقد تقهقرت الى الخلفية ولم تنل إلا اهتماما قليلا.العديد من المنتجين يتحاشون الأفلام الفنية ذات الرؤى الخاصة لأنهم لا يرون الى السينما بوصفها فنا بل وسيلة للثراء..الشريط السينمائي صار سلعة.
بهذا المعنى فإن فيلم "القربان"هو، من بين أشياء أخرى، إنكار للسينما التجارية.إن فيلمي لا يقصد تأييد أو دحض أفكار معينة، ولا إثبات أحقية لهذه الطريقة أو تلك من الحياة.ما أردته هو أن اطرح أسئلة واظهر معضلات تذهب الى اللب الحقيقي لحياتنا، بالتالي تعيد الجمهور الى منابع وجودنا الساكنة، المجففة.الصور البصرية قادرة على تحقيق تلك الغاية على نحو أفضل بكثير من أية لغة، الآن خصوصاً، حيث أن الكلمة قد فقدت كل الغموض والسحر، والكلام صار مجرد ثرثرة ولغو يخلو من المعنى..كما يلاحظ ألكسندر.
الإفراط في المعلومات، الى حد التخمة، يخنقنا.مع ذلك، وفي الوقت نفسه، تظل مشاعرنا غير متأثرة بالرسائل المهمة جدا التي يمكن أن تغير حياتنا.
ثمة انقسام في عالمنا بين الخير والشر، بين القيم الروحية والذرائعية. إن عالمنا الإنساني مركّب، مخطط، وفقاً لقوانين مادية، ذلك لأن الإنسان قد منح مجتمعه أشكال مادة جامدة وأخذ على عاتقه صياغة قوانينه.بالتالي هو لا يؤمن بالروح القدس وينكر وجود الله.انه يتغذى على الخبز وحده.كيف يمكن له أن يرى الروح القدس والمعجزة والله إذا لم يكن لهم، من وجهة نظره، أي موضع في البناء، واذا كانوا زائدين عن الحاجة. مع ذلك، توجد هناك حوادث اعجازية، خارقة وفجائية، حتى داخل نظام تجريبي مبني على الملاحظة والاختبار..أعني في الفيزياء. وكما نعلم فان الغالبية العظمى من الفيزيائيين المعاصرين والبارزين يؤمنون، لسببٍ ما، بالله.
يوما ما تحدثت الى العالم في الفيزياء، السوفيتي الراحل ليف لاندو عن هذا الموضوع.كان ذلك على شاطئ شينجل في كريميا.سألته:هل تؤمن بوجود الله؟..صمت لمدة ثلاث دقائق ثم نظر الى في وهن وعجز وقال:"أظن ذلك".
في ذلك الوقت كنت مجرد شاب سفعته الشمس.مجهول تماما .كنت إبناً لشاعر بارز ومتميز يدعى أرسيني تاركوفسكي.كانت المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها لاندو، في لقاء فريد تم بالصدفة.. ولهذا السبب أبدى العالم الحائز على جائزة نوبل رأيه بصدق وصراحة.
هل ثمة أي أمل للإنسان في النجاة على الرغم من كل علامات الصمت الرؤيوي الوشيك؟
ربما يمكن العثور على الإجابة في أسطورة الشجرة الجافة، المحرومة من ماء الحياة، والتي عليها بنيت هذا الفيلم الذي يحتل موقعا مهما وحاسما في مسيرتي الفنية:الراهب، خطوة خطوة ودلوا دلوا، يحمل الماء صاعدا التل ليروي الشجرة الجافة، مؤمنا على نحو مطلق بأن ما يفعله ضروري، دون أن يتردد للحظة في اعتقاده بالقوة الاعجازية لإيمانه بالله.لقد عاش ليرى المعجزة:ذات صباح، الشجرة تتفجر بالحياة، أغصانها تتغطى بالأوراق الصغيرة الطرية.
وتلك "المعجزة"بالتأكيد ليست سوى الحقيقة.
خاتمة
هذا الكتاب كان قيد الإنجاز لسنوات عديدة.واليوم، بالنظر الى الوراء على الخلفية التي يغطيها، اشعر بضرورة الإشارة الى بعض الاستنتاجات.بوسعي الآن أن أرى بأن الكتاب تعوزه الوحدة التي كان يمكن أن تتحقق لو كان مكتوبا كله في نفس واحد، على نحو متواصل وفي مدة معينة.مع ذلك فإن له عندي أهمية بوصفه تسجيلا للكيفية التي بها تغيرت أفكاري منذ أن جئت الى السينما لأول مرة: القراء الذين احتملوا معاناة قراءة الكتاب بصبر، قد شهدوا تطور هذه الأفكار حتى وقتنا الحاضر.
يبدو لي الآن أن الحديث عن الحياة أكثر أهمية من الحديث عن الفن بوجه عام أو عن وظيفة السينما بوجه خاص، ذلك لأن الفنان الذي لا يعي معنى الحياة هو غير مؤهل لتقديم أي بيان متماسك بلغة الفن الذي يمارسه.بناء على ذلك قررت أن أكمل هذا الكتاب ببعض الأفكار والتأملات الوجيزة عن معضلات زمننا كما تواجهني الآن، وعن تلك المظاهر التي تبدو لي أساسية والتي تتخطى اللحظة الراهنة الى معنى وجودنا.
من أجل تحديد مهماتي الخاصة، ليس فقط كفنان، بل قبل كل شيء، كفرد، وجدت نفسي ملزما بالنظر الى الحالة السائدة لحضارتنا والمسؤولية الشخصية لكل فرد بوصفه مشاركا في العملية التاريخية.
يبدو لي أن عصرنا هو الذروة النهائية لدورة تاريخية كاملة فيها السلطة الأسمى قد استخدمها قضاة التحقيق والقادة والشخصيات البارزة، الذين كانت تحثهم أو تحركهم فكرة تحويل المجتمع الى منظمة أكثر عقلانية و"عدلا".كانوا يسعون الى السيطرة على وعي الجماهير، وغرس أفكار اجتماعية وأيديولوجية جديدة في أذهان الجماهير، والدعوة الى إصلاح بنية الحياة العضوية من اجل سعادة الأغلبية.دوستويفسكي كان قد حذر الناس من "محاكم التفتيش" وأولئك القضاة الذين يتعهدون بتحمل المسؤولية من أجل إسعاد الآخرين.
لقد رأينا كيف أن توكيد مصالح الطبقة أو الجماعة، مصحوباً بتوسل خير البشرية و"الصالح العام"، أدى الى انتهاكات فاضحة وشنيعة لحقوق الفرد، الذي هو مبعد عن المجتمع.
طوال تاريخ الحضارة كانت العملية التاريخية تتألف جوهريا من طريقة "ملائمة"و"صحيحة"تتخيلها عقول الإيديولوجيين والسياسيين، والمقدمة الى الناس من أجل خلاص العالم وتحسين وضع الإنسان داخله. ولكي يكونوا طرفا في عملية إعادة التنظيم، كان على "القلة" في كل مرة التنازل عن طريقتهم الخاصة في التفكير وتوجيه جهودها خارج ذواتها لتنسجم مع خطة العمل المقترحة.هكذا فإن الفرد المنهمك في النشاط الخارجي الفعال من أجل "التقدم" الذي سوف ينقذ المستقبل والجنس البشري، هذا الفرد قد تغاضى عن كل ما كان خاصا به و شخصيا. ولأنه عالق في المسعى العام فإنه يبدأ في الاستخفاف بأهمية و دلالة طبيعته الروحية الخاصة، والنتيجة كانت نزاعاً لدوداً على الدوام بين الفرد والمجتمع. وبالاهتمام بمصالح السواد الأعظم، فإن أحداً لم يفكر في مصلحته هو بالمعنى الذي نصح به المسيح:"أحب جارك كما تحب نفسك ".أي، أحب نفسك كثيرا الى حد أن تحترم في ذاتك المبدأ السماوي، ما وراء الشخصي، الذي يمنعك من السعي خلف مصالحك الأنانية، الاكتسابية، ويطلب منك أن تهب نفسك بلا مجادلة ولا نقاش.
أن تحب الآخرين.. هذا يقتضي إحساسا حقيقيا بكرامتك وجلالك: القبول بالقيمة الموضوعية ودلالة ال"أنا" في مركز حياتك على الأرض، فيما هي تنمو في منزلة روحية، متقدمة نحو الكمال الذي فيه لا يمكن أن يكون هناك أي أنانية. في الصراع لأجل روحك، الإخلاص لنفسك يتطلب جهدا مخلصا ومتواصلا. الانزلاق والهبوط أيسر كثيرا من الصعود ذرةً على بواعثك الانتهازية الضيقة. الولادة الروحية الحقيقية صعب جدا إحرازها.
أن تتخلى عن مهمتك الفريدة سعيا وراء غايات ضئيلة القيمة و عامة أكثر، فإنك بذلك تتجاهل حقيقة أنك تخون نفسك و الحياة التي مُنحت لك لغرض ما.
إن نمط العلاقات الاجتماعية قد تشكل بطريقة فيها صار من الممكن للناس ألا يطلبوا شيئا من أنفسهم، وأن يشعروا بأنهم معفيون من كل واجب أخلاقي، و أن على الآخرين فقط أن يؤدوا المهمة و الواجب. صار بوسعهم دعوة الآخرين لأن يكونوا متواضعين وأن يضحوا بأنفسهم، وأن يقبلوا بتأدية دورهم في بناء المستقبل، بينما هم أنفسهم لا يشاركون في العملية ولا يقبلون تحمل أي مسؤولية شخصية بسبب ما يحدث في العالم. ثمة ألف طريقة يمكن ابتداعها لتبرير عدم الالتزام هذا وحقيقة أنهم لا يرغبون في التخلي عن مصالحهم الأنانية الضيقة في سبيل العمل من أجل هدف أنبل وأشرف. لا أحد يريد، أو يستطيع أن يحمل نفسه على النظر بهدوء واعتدال الى ذاته، ويقر بأنه مسؤول عن حياته الخاصة وروحه الخاصةعلى أساس أننا جميعا "معا"، أي أن الجنس البشري على قيد تشييد نوع من الحضارة، فإننا على الدوام ننصرف عن المسؤولية الشخصية، وبدون إدراك أننا نفعل ذلك، نقوم بتحميل الآخرين تبعة كل ما يحدث. بالنتيجة ، فإن التعارض بين الفرد و المجتمع يصبح أكثر فأكثر باعثا على اليأس ، والسور الذي يفصل بين الفرد والبشرية يصبح أكثر علوا من أي وقت مضى.
الغاية هنا أننا نعيش في مجتمع كان مبنيا بواسطة جهودنا "المتناغمة" وليس بواسطة جهود شخص معين.. مجتمع فيه الفرد كان لا يطالب بالإنصاف لنفسه فقط بل لكل الناس ويدافع عن حقوقهم لا عن حقه فقط. هكذا فإن الفرد يصير إما أداة لأفكار و طموحات الآخرين، أو يصبح هو نفسه الرئيس الذي يصوغ ويستفيد من طاقات الآخرين دون أي اعتبار لحقوق الفرد. فكرة أن كل شخص مسؤول عن نفسه تبدو أنها تلاشت ووقعت ضحية"النفع العام" المفهوم بشكل خاطئ.
منذ اللحظة التي فيها نحن عهدنا إلى الآخرين بحل مشاكلنا الخاصة، كان الرأب بين المادي والروحي يكبر و يزداد. إننا نعيش في عالم محكوم بأفكار استنبطها وأطلقها أناس آخرون، وعلينا أما أن نمتثل لمعايير هذه الأفكار أو نبعد أنفسنا عنها و ننكر صحتها.. وهو الوضع الذي يصبح ميئوساً منه أكثر فأكثر. إنها حالة غريبة ومقيتة.
أنا مقتنع بأن التعارض لا يمكن حله إلا إذا انسجم الباعث الفردي مع الحركة الاجتماعية.ما الذي يعنيه هذا القول:"أن تضحي بنفسك من أجل النفع العام"؟ يقينا هو ينذر بصدام مأساوي بين الشخصي و العام.
إذا لم يكن إحساس الشخص بالمسؤولية تجاه مستقبل المجتمع مبنيا على اقتناع باطني بالدور الذي يتعين عليه أن يؤديه، واذا كان يشعر بأنه مخول للاستفادة من الآخرين، موجها حياتهم نيابة عنهم وملقناً إياهم ما ينبغي أن يفعلوه في تنمية المجتمع، عندئذ لا يمكن للنزاع بين الفرد والمجتمع إلا أن يصبح أكثر مرارة وإيلاما.
حرية الإرادة لابد أن تعني بأننا نملك القدرة على تقييم الظواهر الاجتماعية بالإضافة الى علاقاتنا مع الآخرين، القدرة على القيام باختيار حر بين الخير و الشر. لكن الحرية غير منفصلة عن الضمير، حتى لو كان صحيحا أن كل الأفكار التي يطورها الوعي الاجتماعي هي نتاج الارتقاء والتقدم، فان الضمير كإحساس وكمفهوم معا، هو متأصل في الإنسان، ويرج الأسس ذاتها لمجتمع انبثق من حضارتنا المتصورة على نحو سقيم وفظ. الضمير يعمل ضد استقرار ورسوخ هذا المجتمع. تجلياته هي غالبا في تعارض مع مصالح -أو حتى بقاء- الأجناس. بلغة النشوء البيولوجي، الضمير لا معنى له كصنف، لكن لسبب ما هو مع ذلك موجود هناك، ويلازم الإنسان طوال كينونته و تطوره كعرق.
جلي لكل شخص أن التبجيل المادي للإنسان لم يكن متزامناً مع الارتقاء الروحي. لقد تم بلوغ الموضع الذي فيه يبدو أننا نعاني من عجز محتوم في السيطرة على إنجازاتنا المادية من أجل استخدامها لصالحنا ومنفعتنا.
لقد خلقنا حضارة راحت تهدد بإبادة الجنس البشري. إزاء كارثة على ذلك المستوى العالمي، النقطة الوحيدة التي ينبغي أن تطرح للنقاش هي مسألة مسؤولية الإنسان الشخصية و استعداده للتضحية، التي بدونها يكف أن يكون كائنا روحيا بأي معنى حقيقي.
أعني أن روح التضحية التي يجب أن تشكل الطريقة الطبيعية والأساسية لحياة كل كائن بشري، لا ينبغي اعتبارها محنة أو عقوبة مفروضة من الخارج.إن روح التضحية هذه تجد تعبيرها في الخدمة التطوعية للآخرين..وهي على نحو طبيعي تتخذ الشكل الوحيد،القابل للتطبيق ،للوجود.
مع ذلك، ففي عالم اليوم، العلاقات الشخصية هي في أحوال كثيرة مبنية على حافز انتزاع قدر المستطاع من الشخص المجاور لنا فيما نحمي مصالحنا الخاصة على نحو يقظ وغيور.المفارقة هنا، وفي وضع كهذا، هو أننا كلما ازددنا إذلالاً لأقراننا، شعرنا برضا أو إشباع اقل، وأصبحت عزلتنا اكبر.هذا هو ثمن خطيئتنا في الإخفاق في التوجه، باختيارنا الحر، الى الطريق البطولي الذي يفضي الى التحقق الإنساني لوجودنا، قابلين به، بكل مشاعرنا وإرادتنا، بوصفه الطريق الحقيقي الوحيد الذي نرغب فيه.
أي شيء اقل من مثل هذا القبول التام سوف يفاقم التعارض بين الفرد والمجتمع.سوف ينظر الإنسان الى المجتمع ككيان عنيف موجّه ضده لإلحاق الأذى به. إننا نشهد الآن انحدارا للروحي في حين أن المادي قد تطور منذ زمن طويل الى كائن حي يمتلك مجرى دم خاصاً به. وأصبح أساس حياتنا، المشلولة والمشوهة نتيجة تصلب الأنسجة. لقد صار جليا لكل شخص بان التقدم المادي بذاته، وبمعزل عن الأشياء أو الاعتبارات الأخرى، لا يجعل الناس سعداء. مع ذلك نحن نستمر على نحو متعصب في الإكثار من "إنجازاته"ومآثره.لقد بلغنا الموضع حيث الحاضر قد اندمج جوهريا مع المستقبل، بمعنى انه يتضمن كل الشروط لحدوث كارثة متأصلة..ونحن ندرك هذا لكننا لا نستطيع أن نفعل شيئا لمنع حدوثها.
العلاقة بين سلوك الإنسان وقدره قد تم تدميرها.وهذا الشرخ التراجيدي هو سبب إحساس الإنسان بضعفه وعدم استقراره في العالم الحديث.جوهريا، ما يفعله الإنسان ذو أهمية أساسية، لكن لأنه تكيف مع الاعتقاد بان أحدا أو شيئا لا يعتمد عليه وبان تجربته الشخصية سوف لن تؤثر في المستقبل، فقد انتهى الى الافتراض الزائف والمميت بأن ليس لديه أي دور يؤديه في صياغة مصيره وقدره الخاص.
لقد رأى عالمنا في مثل هذا التمزق لكل ما ينبغي أن يربط الفرد بالمجتمع الى حد انه قد أصبح مهما للغاية إحياء مشاركة الإنسان في مستقبله الخاص.هذا يفرض ضرورة أن يعود الإنسان الى الإيمان بروحه وبمعاناتها، ويربط أفعاله الخاصة بضميره.يتعين عليه أن يقر بأن ضميره سوف لن يكون أبدا مرتاحا ومتحررا من القلق طالما أن ما يفعله هو في تعارض مع ما يؤمن به، ويدرك هذا من خلال وجع روحه فيما هي تطالب بأن يعترف بمسؤوليته وخطأه.هذا يحول دون تبرير الذات عبر صياغات ملائمة ومريحة بشأن التأثير الحاسم الذي يمارسه الآخرون - وليس تأثيرنا نحن- على ما يحدث.انا مقتنع بأن أي محاولة لإعادة التناغم والانسجام في العالم لا يمكن أن يرتكز إلا على تجديد المسؤولية الشخصية.
يقول ماركس وانجلز في موضع ما إن التاريخ يختار لأجل تطوره الخاص أسوأ الأشكال المختلفة الموجودة، وهذا صحيح تماما إذا تعامل المرء مع المسألة من وجهة نظر وجودنا المادي.لقد توصلا الى ذلك الاستنتاج في وقت كان التاريخ يعتصر القطرات القليلة الأخيرة من المثالية، وعندما كف الإنسان –ككائن روحي-أن يكون ذا أهمية في العملية التاريخية.لقد لاحظا الوضع كما كان آنذاك، بدون تحليل الأسباب:اعني إخفاق الإنسان في إدراك انه كان مسؤولا عن قيمه الروحية الخاصة.
بناء على ذلك، صار يُنظر الى الإنسان في المقام الأول بوصفه حيوانا مفيدا اجتماعيا.
(المسألة الوحيدة هي كيفية تحديد أو تعريف الفائدة الاجتماعية ). بتوكيد الفائدة الاجتماعية لنشاط شخص ما الى حد تجاهل حقوق شخصيته الخاصة، فإننا نرتكب خطأ لا يغتفر ونخلق كل الشروط المهيئة للمأساة.
إن مسألة الحرية تثير جدلا حول التجربة والتربية، فالإنسان المعاصر في صراعه في سبيل الحرية يطالب بالتحرر الشخصي بمعنى منح الفرد حرية أن يفعل كل ما يشاء..لكن ذلك وهْم الحرية، والإنسان سوف لن يتجه الى التخلص من الوهم إلا إذا سعى وراءها. إن ذلك يقتضي نضالاً شاقاً وطويلاً من قبل الفرد لتحرير طاقاته الروحية.ينبغي إحلال الانضباط الذاتي محل التربية وإلا فسوف يكون قادرا فقط على فهم حريته المكتسبة حديثا بلغة الاستهلاكية المبتذلة.
من هذه الناحية، الوضع في الغرب يعطينا غذاء وافرا للفكر. الديموقراطية التي لا جدال فيها توجد جنبا الى جنب مع الأزمة الروحية الرهيبة والبيّنة بذاتها والتي تؤثر في المواطنين "الأحرار".لماذا، على الرغم من حرية الفرد، يوجد التعارض بين الفرد والمجتمع هنا على هذا النحو الحاد والخطير؟ أظن أن تجربة الغرب تبرهن أن الحرية لا يمكن اعتبارها محتمة الحدوث مثلما نسلم جدلا بان الماء يوجد في النبع ولا يكلف استخراجه بنساً واحداً ولا يحتاج الى أي جهد معنوي من أي شخص.واذا كان الإنسان ينظر الى الحرية هكذا فإنه لا يستطيع أبدا أن يستفيد من منافع الحرية في تغيير حياته الى الأفضل.الحرية ليست شيئا يمكن دمجه في حياة الإنسان مرة والى الأبد:ينبغي أن تكون متحققة باستمرار عبر بذل أخلاقي.في علاقته بالعالم الخارجي، الإنسان جوهريا غير حر لأنه ليس وحيدا، ليس بمفرده..لكن الحرية الداخلية يحوزها من البداية إذا استطاع فحسب أن يستجمع الشجاعة والتصميم على استخدام هذه الحرية، مسلما بأن تجربته الداخلية ذات دلالة اجتماعية.
الإنسان الذي هو حر حقا لا يستطيع أن يكون كذلك بالحس الأناني. ولا يمكن للحرية الفردية أن تكون نتيجة لجهد مجتمعي.إن مستقبلنا لا يعتمد على أي شخص غير أنفسنا.مع ذلك نحن اعتدنا أن ندفع مقابل كل شيء بكدح ومعاناة أناس آخرين وليس أبدا بما نملك وبما نكابد.نحن نرفض أن نأخذ في الاعتبار الحقيقة البسيطة التي تقول بان "كل شيء متصل ومترابط في هذا العالم".لاشيء، في أي وقت، يمكن أن يكون تصادفيا بما أننا موهوبون بحرية الإرادة والحق في الاختيار بين الخير والشر.
من الطبيعي أن الفرص لتوكيد إرادتك الحرة تحددها إرادة الآخرين، لكن يجب مع ذلك القول بأن الإخفاق في أن تكون حرا هو دائما نتيجة الجبن الداخلي والسلبية، وأيضاً نتيجة الافتقار الى العزم والتصميم في توكيد إرادتك وفقا لصوت الضمير.
في روسيا، الناس مولعون بترديد رأي كورولينكو (20) القائل"الإنسان مولود لأجل السعادة مثل يولد الطائر لأجل الطيران"يبدو لي أن لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن أساس الوجود الإنساني من هذه الكلمات.شخصيا لا أستطيع أبداً أن أرى أي معنى يمكن حقا أن يتضمنه مثل هذا المفهوم "للسعادة"بالنسبة الى أي واحد منا.هل يعني الرضا؟التناغم؟لكن الفرد لا يرضى أبدا، ذلك لان أنظاره ليست أبدا مركزة جوهريا على غايات محددة، بل على اللامتناهي نفسه.
حتى الكنيسة لا تستطيع أن تروي ظمأ الإنسان الى المطلق، ذلك –للأسف-لأن الكنيسة توجد فحسب كضرب من الملحق أو الجزء الإضافي الذي يحاكي المؤسسات الاجتماعية التي تنظم حياتنا اليومية.في عالم اليوم الذي يميل على نحو حاد الى المادي والتكنولوجي، فإن الكنيسة لا تظهر أي إشارة الى أنها قادرة على تقويم التوازن بالدعوة الى يقظة روحية.
في هذا الوضع، يبدو لي أن الفن مدعو لأن يعبر عن الحرية المطلقة للإمكانية الروحية لدى الإنسان.أظن أن الفن كان دائما سلاح الإنسان ضد الأمور المادية التي تهدد بافتراس روحه.وليس صدفة انه في غضون ألفي سنة تقريبا من المسيحية، تطور الفن منذ زمن طويل جدا في سياق الأفكار والأهداف الدينية.إن وجوده ذاته قد حافظ على اتقاد فكرة التناغم في البشرية المتنافرة، المنقسمة على نفسها.
الفن كان يجسد المثل الأعلى.كان مثالا للتوازن التام بين المبادئ الأخلاقية والمادية، كان برهانا على حقيقة أن مثل هذا التوازن ليس خرافة في حقل الأيديولوجيا، بل شيئا يمكن أن يتحقق ضمن أبعاد العالم الظاهراتي، المدرك بالحواس.لقد كان الفن يعبر عن حاجة الإنسان الى التناغم واستعداده لأن يشن الحرب ضد نفسه، ضمن وجوده الشخصي، من أجل إحراز التوازن الذي يهفو إليه.
إذا سلمنا بأن الفن يعبر عن المثل الأعلى وطموح الإنسان الى اللانهائي، فانه لا يمكن تسخيره لبلوغ أهداف استهلاكية دون أن يكون منتهكا في جوهره ذاته.المثال يتصل بأشياء لا توجد في عالمنا الخاص كما نعرفه، إنما يذكرنا بما ينبغي أن يوجد على المستوى الروحي.العمل الفني شكل موهوب الى هذا المثال الذي يجب في المستقبل أن ينتسب الى البشرية، لكن في اللحظة الراهنة ينبغي أن يكون للقلة، وفي المرحلة الأولى للعبقري الذي جعل من الممكن للإدراك الإنسانى بكل قصوره ونواقصه، أن يكون على اتصال بالمثال المجسد في فنه.بذلك المعنى، الفن، في جوهره، أرستقراطي.
انه يفرق بين مستويين من مستويات الكامن، وبالتالي يضمن التقدم من الأدنى الى الأعلى فيما الذاتية تتحرك نحو الكمال الروحي.بالطبع أنا لا اقترح أي نوع من المفهوم الطبقي عندما استخدم كلمة "ارستقرطي"، بل على العكس:بما أن النفس تلتمس التسويغ الأخلاقي وتبحث عن معنى الوجود، وتتحرك نحو الكمال أثناء ذلك البحث، فإن كل شخص هو في الوضع ذاته والجميع مخول بالتساوي أن يكون محسوبا بين المنتخب الروحي.الانقسام الأساسي هو بين أولئك الذين يرغبون في أن يفيدوا أنفسهم بهذه الإمكانية وأولئك الذين يتجاهلونها.لكن الفن مرارا يدعو الناس الى إعادة تقييم أنفسهم وحياتهم على ضوء المثال الذي يمنحه الفن شكلاً. إن تعريف كورولينكو لمعنى الوجود الإنساني، على أساس الحق في السعادة، يذكرني بـ "كتاب العمل"حيث التعبير عن الرؤية المعاكسة تماما:"الإنسان مجبول بالبلاء والعناء مثلما تتطاير الشرارات الى الأعلى". بمعنى آخر، المعاناة وثيقة الصلة بوجودنا. بدونها كيف يكون بوسعنا أن "نخلق الى الأعلى". وما هي المعاناة ؟ من أين تنبع أو تنشأ؟من عدم الرضا؟من الفجوة بين المثال والموضع الذي تجد نفسك فيه؟
الإحساس "بالسعادة "أقل أهمية من أن تكون قادرا على تقوية روحك في الكفاح من اجل تلك الحرية التي هي، بالمعنى الصحيح، مقدسة.
الفن يؤكد على كل ما هو نبيل وفاضل في الإنسان:الأمل، الإيمان، الحب، الجمال، الصلاة..ما يحلم به وما يرجوه.عندما يُلقى بشخص ما لا يحسن السباحة في الماء فان الغريزة تملي على جسده أي الحركات سوف تنقذه. الفنان أيضا مدفوع بنوع من الغريزة، وعمله يعزز بحث الإنسان عن ما هو أبدي وكائن فوق الوجود المادي ومقدس..غالبا على الرغم من إثم الشاعر نفسه.
ما هو الفن؟ هل هو صالح أم ضار؟ هبة من الله أم من الشيطان ؟ من قوة الإنسان أم من ضعفه؟ هل يمكن أن يكون ثمرة رفقة، نتاج مجموعة من الأصدقاء، مثال للتناغم الاجتماعي؟ هل يمكن أن يكون ذلك وظيفته؟.. مثل إعلان حب:الوعي باعتمادنا على بعضنا البعض.اعتراف.فعل لا واع والذي مع ذلك يعكس المعنى الحقيقي للحياة..الحب و التضحية.
لماذا، فيما نلتفت الى الوراء، نرى طريق التاريخ البشري تتقاطع من قبل الكوارث والنكبات والتغيرات العنيفة؟ ما الذي حدث حقا لتلك الحضارات؟ لماذا ركضت لاهثة، مقطوعة الأنفاس؟ هل كانت تفتقر الى الرغبة في العيش، هل فقدت قوتها المعنوية؟ يقينا ليس بوسع المرء أن يصدق بان كل ذلك حدث ببساطة بسبب عجز مادي.مثل هذا الإيحاء يبدو لي غريباً ومغايراً لكل ما هو طبيعي أو متوقع. فضلا عن ذلك، فانا مقتنع بأننا الآن نجد أنفسنا على شفا تدمير حضارة أخرى نتيجة للإخفاق في اخذ الجانب الروحي للتقدم التاريخي بعين الاعتبار. نحن لا نريد أن نعترف لأنفسنا بان العديد من المحن التي تحْدق بالجنس البشري هي النتيجة لكوننا قد أصبحنا ماديين على نحو لا يغتفر، على نحو جدير باللوم، وعلى نحو ميئوس منه.إن رؤيتنا لأنفسنا كمناصرين للعلم، ومن اجل جعل موضوعيتنا العلمية أكثر إقناعا، فقد قسمنا العملية الإنسانية الواحدة التي لا تتجزأ.وبتلك الوسيلة نكشف الزنبرك المعزول لكن المرئي بوضوح والذي نظهره بوصفه السبب الرئيسي لكل شيء، ونستخدمه ليس فقط لتعليل أخطاء الماضي بل أيضا لرسم برنامج عمل للمستقبل.
ربما انهيار تلك الحضارات يعني أن التاريخ ينتظر بصبر حتى يقرر الإنسان الإختيار المناسب الذي بعده سوف لن يعود التاريخ مسيرا نحو طريق مسدود ويجبر على إلغاء محاولة فاشلة بعد أخرى على أمل أن المحاولة التالية قد تنجح.ثمة شيء في الرؤية المقبولة على نحو واسع من أن أحدا لم يتعلم من دروس التاريخ وان الجنس البشري لا يلاحظ أو لا ينتبه الى ما فعله التاريخ.بالتأكيد كل كارثة متعاقبة هي برهان على أن الحضارة التي نتكلم عنها قد أخطئ في فهمها أو الحكم عليها.عندما يُرغم الإنسان على أن يبدأ من جديد، فإن ذلك لأن هدفه حتى تلك اللحظة شيء غير الكمال الروحي.
من بعض النواحي، الفن صورة للعملية المكتملة، للذروة..محاكاة امتلاك الحقيقة المطلقة (ولو فقط في شكل صورة ما)متجنبة درب التاريخ الطويل..اللانهائي ربما.
هناك لحظات يتوق فيها المرء الى الراحة، الى التخلي عن كل شيء، الى الانسحاب والانقطاع، الى رؤية للعالم شاملة..مثل الفيدا (من كتب الهندوس الدينية).
الشرق كان اقرب الى الحقيقة من الغرب.لكن الحضارة الغربية افترست الشرق بمطالباتها المادية من الحياة.قارن بين الموسيقى الشرقية والغربية.الغرب يصيح دائما:"هذا هو أنا، انظروا إليّ، استمعوا الي وأنا أتعذب وأنا أحب! كم أنا تعيس ! كما انا سعيد! انا، انا.."
في التقليد الشرقي هم أبدا لا يلفظون كلمة واحدة عن أنفسهم.الفرد مستغرق كليا في الله، الطبيعة، الزمن.انه يجد نفسه في كل شيء، مكتشفا كل شيء في ذاته.تأمل الموسيقى التاوية..الصين قبل المسيح بست مائة سنة..لكن في تلك الحالة، لماذا لم تنتصر مثل هذه الفكرة الرائعة، لماذا انهارت؟لماذا هذه الحضارة التي نشأت ونمت على أساس كهذا لم تصل إلينا في شكل عملية تاريخية تواكب تحققها واكتمالها؟لا بد أنها دخلت في نزاع مع العالم المادي الذي كان يحيط بها. ومثلما الهوية الشخصية تدخل في نزاع مع المجتمع، كذلك تلك الحضارة تصادمت مع أخرى.هي لم تهلك لذلك السبب فقط.لكن أيضا بسبب مواجهتها العالم المادي..عالم التقدم والتكنولوجيا .لكن تلك الحضارة كانت الموضع الأخير للمعرفة الحقيقية، ملح ملح الأرض. و وفقاً لمنطق التفكير الشرقي، فإن نزاعا من أي نوع هو، جوهريا، أثيم.
نحن جميعا نعيش في العالم الذي نتخيله، العالم الذي نخلقه..وبالتالي، عوضا عن التمتع بمنافعه، نكون ضحايا عيوبه وشوائبه.
في الختام، سوف افرض على القارئ –وأنا حسن الظن به تماما- أن يؤمن بأن الشيء الوحيد الذي خلقه الجنس البشري بروح الاستسلام المطلق هو الصورة الفنية.لعل معنى كل النشاط الإنساني يكمن في الوعي الفني، في الفعل الإبداعي، الخالي من الغرض واللا أناني.ربما قدرتنا على الخلق هي دليل على أننا نحن أنفسنا خُلقنا على صورة ومثال الله.