"ينزلون من الرحبة" رواية جديدة للكاتب السوري المقيم في أمريكا حسين سليمان. صدرت في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته ال 38 عن دار " رامة" للنشر والتوزيع في مصر. هي رواية "أجيال" تتوسّل تيار الوعي والمونولوج الداخلي وتعدد البنى السردية خلال خيط واضح من الواقعية السحرية والفانتازيا الشعرية. ترصد الصراع الأزلي بين التاريخ والمصير إذ تقدّم تصوّرًا باطنيًّا للعالم في لحظة البدء الأولى مرورًا بالعالم الجديد. قصة هبوط الإنسان من الجنة/هضبة الرحبة. سوى أن سبب الهبوط هنا لم يكن قرارًا عُلويًّا أو عقابًا إلهيًّا، كما في التراث الديني أو كما في "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، بل هو قرارٌ شخصي من قِبَل "سنان"("آدم" القديم) الذي أغراه النهر بالأسفل وكان يظنه "شريان الرب" يجري في السفح. رفضت زوجته "خود"/حواء أن ترافقه متمسكةً بأصولها الأولى في موطنها "الرحبة" لترمز إلى "التاريخ" العنيد الراسخ، فيما يرمز زوجها سنان إلى "المصير" المجهول المغامر. يهبط سنان في رفقة ثلاثة من أبنائه تاركًا "خود" العصية العنيدة في الأعالي مع أربعة من أولادهما. أحد الأولاد الباقين هو "رطب" الذي سيتخذ صورًا عديدة داخل العمل، فتارةً هو النبيٌّ الأول، وتارة سيرمز إلى "الإلهام" الذي يناديه الراوية كلما نضُب الحكي على لسانه، وتارةً هو خفاش صغير غامض يتعلق بعروق الخشب في سقف الرواق القديم ويراوغ الطفل "صوفي"/الراوية الرئيس في السرد. تركض الرواية عبر أكثر من بنية سردية ينتقل السارد عبرها في رشاقة ومباغتة تفوّت على القارئ فرصة التشبع بالحدث إذ يبتره السارد قبل الاكتمال. الزمن متشظٍ ومنتثر في فوضوي فنيّة محسوبة، حيث تتوازى وتتقاطع عدة خطوط زمانية: نقطة الصفر في التاريخ حيث قرار الهبوط ممتدٌ خطُّها حتى لحظتنا الراهنة، ومتقاطعةٌ معها عدة خطوط أخرى تسير عرضيًا عبر شبكة الوقت لتشكل فانتازيا زمانية/مكانية أسطورية، وإن تبدت خلالها إشارات لأحداث مفصلية واقعية تمثّل إسقاطات سياسية في بقعتين محددتين في الخارطة: سوريا، موطن الكاتب، ونظامها السياسي وأحداث الثمانينيات التي تسببت في هجرته، وأمريكا، مهجره الراهن. يعمد الكاتب إلى أسلوب "الساركزم" الهادئ للسخرية من أوضاع عبثية في الحياة، وينهل أحيانًا من التراث القديم، مثل عم إبراهيم الأعمى الذي أرسلته العشيرة كي يصعد إلى الرحبة ليأتيها بكتاب الدين علّه يرفع عنهم غُمّة الإعصار الوشيك. وملمح العبث أن الرجل الأعمى لن يستطيع أن يرى الكتاب فضلا عن قراءته، ما يذكرنا بديوجين الفيلسوف الإغريقي الأعمى الذي حمل مصباحه بحثًا عن الحقيقة. ومن جهة أخرى نجدها إسقاطة سياسية على سؤال شهير سبّب الكثير من أزماتنا العربية: أأهلُ الثقاة أم أهل الخبرة؟! ثم "العلوة ليست سورية ولا عراقية، إنها فقط "العلوة" أو بلدة "المياذين" التي تطل عليها من فوق ظلال شاهقة تكشف زيف التاريخ، ... سوف أرسم باسم اليهود دائرة طباشير" في إشارة إحالية إلى "دائرة الطباشير القوقازية".
أسقط الكاتب الجدار بينه وبين القارئ فأطلعه على خطّة بناء الرواية والشخوص والمكان، بل أحيانًا يداعبه ويعترف أن الحكي توقف هنا ولا يجد ما يقوله ومن ثم فسنجد كلمة "النهاية" غير مرة في منتصف الرواية. أو قد يعلن أنه غير راض عن العنوان وربما يغيره بعد قليل، أو يعترف أن أحد الشخوص قد غافله واختفى وبحث عنه ولم يجده فكيف سيكمل الرواية، حتى أنه خصص فصلا كاملا لجملة واحدة: "أين أنت يا رطب؟" وقد ألمحنا أن رطب ربما هو "ملهم" الراوية ودليله. لعب الكاتب على المجاز المشهدي والصورة الشعرية: "ظهرت الشمس في ملامحها حنين وحكمة، متأنية في مشيتها كعجوز تنظر إلى الرحبة وفي يدها عصا السنين الطويلة ترفعها .." اللغة تتراوح بين الفصحى العربية والدارجة الشامية، كما نلمح الكثير من التمرد على أجروميات اللغة والصياغة وعلامات الترقيم التي يسقطها الكاتب عمدًا في أوقات بعينها وقد أعلن أنه سيكتب سؤالا دون علامة استفهام. وربما يلاحظ القارئ أن هذه التمردات تظهر كلما تناول الحكي ملمحًا سلبيًا يرفضه الكاتب في النظم العربية. ورغم أن المؤلف رجل إلا أننا سنلحظ بجلاء أن "الأنثوية" (وليس النسوية) تسيطر على العمل. بمعنى الانتصار لقيم الجمال والعدل والخير في الحياة وأن المرأة هي أصل كل ذلك. حيث تُعلي الرواية من شأن المرأة على نحو ملحوظ: خود هي الأكثر أصالة وتمسكًا بالجذور لم تبرح أرض الميلاد ولم تغرها طيوف السراب. وإن كانت النار رمزًا للتطهر المطلق فقد دخلتها "امرأةٌ" هي "هجع"، الفتاة السحرية وأيقونة الطهر دون كل شخوص الرواية، الفتاة التي احترقت في نار التكوين فداءً لعشيرتها، لكنها لم تمت بل تحولّت إلى روح تحلّق فوق سماء الرحبة، وهنا تماهي مع نظرية "التسامي" وهي ظاهرة فيزيائية تحول المادة الصلبة إلى غاز دون المرور بالحالة السائلة، أي دون موت، وتذكرنا بأسطورة "عروس النيل" الفرعونية ومبدأ "الفرد من أجل الجماعة". نحا السرد منحىً فلسفيًّا ذا مستويات تتناوب بين الأسطوريّ والواقعيّ والعتيق والحداثيّ عبر إحالات سياسية ووجودية ثرية. "المعرفة" لدى الشخوص تتطور تدريجيًّا في اطراد خلال التوغل في عمق النص، تماما كما تراكمت المعارف والخبرات لدى الإنسان الأول خلال توغله في عمق الحياة. فنجد سنان الذي لم يستطع في البدء أن يحدد سببًا لقرار نزوله، ثم اعترف بعدئذ أن شريان الرب استقطبه، ينفي ذلك بعد برهة ليقرَّ أنها شهوة التحرك إلى الأمام قد نادته كالمصير المحتوم. وهذا التطور المعرفي التدريجي يفسر غياب "الراوي العليم" واستبداله براوية يزعم الجهل بمآلات الشخوص وصيرورة الأحداث، إذ ينسج المشهد خطوةً خطوةً مع القارئ، ثم يتراجع أحيانًا عن بعض الأحداث فينقض بعض خيوط غزله ليعيد بناءه من جديد على نحو مغاير. وهي لعبة أجادها الكاتب بحق، فأضفت على العمل جوًّا مرحًا ينفي الرتابة والضجر ويفوّت على القارئ الشعور بطول الرواية رغم ضخامتها النسبية إذ بلغت أكثر من 350 صفحة من القطع المتوسط. ورغم أن الرواية تخاصم الميثولوجيا الموروثة إلا أنها ستنهل من التراث، لكن على نحو معاصر لا يخلو من سخرية ومرح. من ملامح ما بعد الحداثة في هذا العمل روح التوتر والقلق وعدم اليقين التي تشيع بين جنبات الرواية، حيث الشك والتفتت عند صخرة الواقع العجائبي الذي يحير الإنسان فيتخلى طائعًا عن صلفه القديم. حتى فكرة انقسام الأسرة الأولى تكرّس مفهوم التشرذم والتشظي والصدع الذي ضرب جزع "المفرد" الإنساني منذ الأزل فسبب كل تلك الحروب والخرائب في المعمورة. وفي الأخير، فالأولاد الباقون مع الأم أربعة، فيما المهاجرون مع الأب ثلاثة، فهل في ذلك إشارة إلى تفوق السلفية والمحافظة على التجديد والتمرد؟ أم هو إشارة إلى أن قوة التاريخ أعظم من قوة المصير؟ هذا هو السؤال الذي سيجيب عليه قارئ "ينزلون من الرحبة".
يذكر أن الكاتب متخرج في كلية الهندسة جامعة حلب عام 1980، ويكتب القصة والرواية والنقد الأدبي وله روايتان: "صدى الزور البعيد"، و"غابة ظليلة لحصان أبيض".