الحائط الرابع الذي هدمه بريخت، كي يتورطَ النظّارةُ في العمل، باعتبار أن المشهدَ المسرحيّ هو جزءٌ حيٌّ من الحياة، وأن المتفرجين جزءٌ متمم لتلك الحياة، فلا معنى إذًا لحجاب وهميّ (الحائط الرابع الافتراضيّ في المسرح الكلاسيك) بين الحدث وبين الرائي، اتخذ الهدم في هذا الديوان الجديد شكلا مغايرًا. الديوان الخامس عشر في مسيرة الشاعر المغامر حلمي سالم الصادر مؤخرًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر وحمل عنوان "عيد ميلاد سيدة النبع". استفاد الديوان من موتيفات المسرح الشعري أو بعضها، مثل رسم الشخوص ووصف المشهد من إضاءة وديكور وموسيقى وجوقة الخ. لكننا لا نستطيع أن نصنفه في خانة المسرح الشعري لأن الشخوص لا تتطور بذاتها شأن المسرح، لكن الشاعر يرصدها في لحظة تصدّع بعينها، كما أنه هشّم الزمن والتراتب الحدثي والخط الدراميّ المتصاعد الواصل بين أطراف هيكل المشروع منذ البدء وحتى المنتهى. فنجد بين أيدينا مجموعة من القصائد المنفصلة، شأن أي ديوان شعري، سوى أن خيطًا دراميًّا رهيفًا يربط تلك القصائد بنسيج محبوك يجعل من الديوان وحدة متكاملة تشبه المسرحية. واللعبة هنا أن القارئ بوسعه أن يقرأ كل قصيدة منفردة وبمعزل عن بقية القصائد فيخرج بمغزى شعريّ ما، وأما لو قرأ الديوان كاملا حسب ترتيبه الذي طرحه الشاعر فسوف يخرج بدلالة مختلفة حين تكتمل بمخياله الصورة المشهدية المتكاملة. وهذا برأيي ما يجعل الديوان يقف على الحافة الحرجة بين الشعر والمسرح الشعري. كونه يمكن قراءة قصائده منفصلةً كالديوان، وكونه لا يجب أن يُقرأ إلا كاملا كالمسرح. كما أنه لم يتوسل تيمتيْ السرد والحوار كما يفعل المسرح الشعري. لكنهما يظهران ويختفيان بين تضاعيف العمل كومضات تشحن الديوان بطاقة الدراما ولا تقول كل شيء، بل تترك القارئ يُكمل مناطق انقطاع الحكي ليكتمل المشهد. أما هدمه الحائط الرابع فلم يكن على النحو البرختي الذي يجعل القارئ مشاركا في العمل، بل جاء بوظيفة أكثر مكرًا وقسوة في آن. فالقارئ، بمجرد أن يوغل في القراءة، سوف يحتّل رأسا مكان أحد الشخوص في العمل. لا مناص من أن يرى كل قارئ نفسه في محفل سيدة النبع. لأن الديوان قد جمع كل الشرائح الإنسانية تقريبًا فلم يدع ولم يذر. بل سأتجاوز وأقول إن كل قارئ سوف يجد نفسه مرتين، أو سيلتقي بنسختين من ذاته فوق خشبة الديوان لو اعتبرنا إلى الحقيقة الفلسفية التي تقول إن نوازع الخير والشر كامنةٌ كليهما في كل روح بشرية: "وأن الإله كامن في السياسيين". أما لو اعتقدنا في الحقيقة الأخرى الفلسفية/الطبية التي تذهب إلى إن كل إنسان يحمل جينات الأنوثة والذكورة معا (وهو ما جعل ليوناردو دافنشي يرسم الموناليزا بوجه يقف بين الذكورة والأنوثة) لو آمنا بذلك فسوف أقول إن القارئ سيجد نفسه مرات عدة، أو بالأحرى سيجد أجزاءً من نفسه متشظيةً ومنتثرةً هنا وهناك داخل كل قصيدة. سيجد شِقَّه الطيب وشقّه الشرير وشقّه الأنثوي وشقّه الذكوري، شقة الظالم وشقه المخدوع الخ. من أجل كل ما سبق فلن نعرف أبدًا هل كان الشاعر صادقًا في مقدمة الديوان حين قال "وينوّه الشاعرُ بأن الشخصيات في هذا النص هي الشخصيات الواقعية عينُها. فليتحسّسْ كلٌّ مِنا رأسَه. وليفحصْ واحدُنا نفسَه." لن نعرف هل يرصد الشاعر شخوصًا بعينهم قابلهم أم أنه يرصد ملامحَ إنسانية عامة مجرّدة (مادة) ثم يُلبسها أجسادًا بشرية (شكل) لكي نراها؟ لن نعرف لأن الشعر الحقَّ لا يقولُ بل يرمي القارئَ في دائرة السؤال والتأمل وحسب، وهي أرفع حالات الإنسان وأجلّها، ومن أجل ذلك كان الشعر هو أرقى الفنون كونه يضعك في تلك الحال من شحذ الروح والعقل. أما الشخصية المحورية في الديوان فهي "سيدة النبع". المثال. وربما اختارها الشاعرُ امرأةً ليكرِّسَ مذهب الأنثوية الفلسفي الذي يدعو إلى الانتصار لقيم الجمال والخير والعدل في الحياة، فهي: "حولَها يتحلّقُ الأطفالُ يلقطونَ من يديها المَّن والسلوى/ ويحملون ذيلَ ثوبِها باتجاه الفردوس". لكن مهلا. هل رسم الشاعر هذه الشخصية على نحو كامل البيوريتانية باعتبارها المثال المطلق؟ كلا. لم يقع الشاعر في هذا الفخ، وحسنا فعل وإلا خسرَ الديوان الكثير. الأعمال الأدبية الكلاسيكية والحداثية المبكّرة كانت تقسم العالم إلى أخيار وأشرار، أبيض وأسود. فيما النهج الحديث في الفنِّ بعامة جعل يوظّف "النسبيّة" التي نوّرت العالم في مطلع القرن الماضي فراح الأدباء والفنانون يحاولون محاكاة العجينة البشرية العجيبة التي تنهل من الخير والشر والملائكية والإبليسية والأنثوية والذكورية بل والحيوانية والنباتية أيضًا. الإنسان يحمل كل جينات الطبيعة داخل جسده وخياله. ولهذا سنجد هذا "المثال"، المتمثل في سيدة النبع، لم ينج أيضًا من الخطيئة. ولأن للخطايا ألوانًا وأنماطًا عدة، حتى أن الصمت عن الخطيئة هو خطيئة في ذاته، فقد ساهمت المرأة في نحت تابوتها الخاص. لم ينج المثال/سيدة النبع من تصدّعات النفس، حتى ولو حملت الذاتُ الشاعرة بعض التعاطف معها إلا أنه سيقيم لها محاكمةً مُرّة في قصيدة بعنوان "تجديد محاكمة كافكا" في أواخر الديوان، حيث السفرجية وعمال الإنارة والمسحراتي وفاتحو المندل وحاملات القرابين وغيرهم يقرأون عريضة اتهامها. أما هي فتحاول أن تدافع عن نفسها عبر مونولوج شعري بالغ الجمال في قصيدة "مونولج سيدة النبع"، ثم: "أنا المعفيةُ من دمِّ المطعونين ومن دمّي". يرسم الديوان حفل عيد ميلاد سيدة النبع، ويرسم المدعوين على مائدتها. شخوص "سيجيئون فرادى" وآخرون "سيجيئون زُرافات" وبينهم السيدة المطعونة بمدعويها تارةً والرافلةُ في نعيمهم تارةً أخرى. فالمحفل يزخر بأعجب ما يمكن أن نصادف من تكوينات بشرية. ولذا فمن الطبيعي في عمل كهذا أن نجد الشِّعرَ يتراوح بين القطع الموزونة خليليًّا تارةً ومقاطع النثر الشعري أخرى، بين المجازات المحلّقة وبين المتعيّن الملموس. بين المونوفونية والبولوفونية. بين الساركزيم والكوميديا السوداء والميلوتراجيدي. بين الرعوية والمدنية. بين الفانتازيا والواقعية. وبين مجازات المشهد ومجازات اللغة ومجازات الدلالة الفلسفية. ولذلك لن نندهش إذا ظهر الهمُّ السياسي وحرب العراق ضمن فقرات الحفل، فهو "حَفْلٌ" بالمعنى المعجمي، أي أنه يحفل بالحياة ويحتفل بها وحافل بكل مفرداتها من همٍّ شخصي وهمٍّ جمعي وهمًّ قومي وكوني. "لابد أن شجرة هَوَتْ وأن عجوزًا لم يستطع الإفلاتَ من شظيةٍ/وأن بقرةً أُصيبَ ضرعُها فانسكبَ اللبنُ والدمُ علي رمل محترق/لابد أن عاشقًا لم تسعفه يداه علي إبعادِ رصاصةٍ عن حَلْمَة المحبوب/وأن مسؤولاً قياديًا فرَّ في مركَبة سوداء،...". ففي كل لحظة نعيشها ثمة مَنْ يُقتل وثمة من يخون. اللحظة الحاضرة الآنية التي هي فراغٌ بين عدميْن: الماضي والمستقبل، نحاسبها كمفردة تخصنا وحدنا (هي لحظةٌ حزينة إذا كنا حزانى، ولحظة فرح إذا كنا فرحين، ولحظة عدم إذا مرّت ونحن نيام أو موتى). لكنها في واقع الحال أكثر تعقيدًا من ذلك. فبينما أكتب الآن، ثمة من يموت وثمة من يولد وثمة من يحب وثمة من يبكي. اللحظة الكونية هي جُماع كل محصلة الحياة من زخم وتناقضات وأحداث ولا يجوز أن نتعامل معها بوصفها مُلكًا خالصًا لنا. ثمة لحظة "خاصة"، وعدد لا متناه من اللحظات غير الخاصة التي تخص "الآخر"، ولا سبيل مطلقا إلى تعريف ما يمكن أن نسميه "اللحظة العامة"، إذ لا عمومية في الشعور بالزمن. إذًا كيف سيحلُّ العاشقان، اللذان انتحيا مكانا قصيّا من الحفل، هذه الأزمة؟ صحيحٌ أنهما مهمومان بالعالم الذي يحتضر الآن، لكنهما في تلك اللحظة تحديدًا عاشقان في حاجة إلى أن يتواطئا مع الحياة كي يتسنى لهما خلق لحظتهما الخاصة، ولذلك ... "إذن، تعاليْ نصمت بعض الوقت، تعالي نمسِّد صدورَنا المرتعشةَ بأيدينا المرتعشةِ، تعاليْ نستمع إلي مقطوعة "العامرية" لنصير شَمَّة". في قصيدة "سيجيئون فرادى" ترصد عين الرائي العليم شخوص الديوان المصدوعة بالرذائل البشرية حين يدخلون مسرح الأحداث على شكل رؤوس مجزوزة ومعلقة في ربطات العنق. ثم يستمر الشاعر في قراءة أعماق هؤلاء المرضى والخطائين الذين ينهشون سيدة النبع تباعًا. وبين لحظة وأخرى تبرق روح طيبة تتجسد في شخوص نقيضة للشخوص الأولى. حتى إذا اكتمل الحفل بات لزامًا أن تُحاكَم السيدة التي تواطأت مع جلاديها وناهشيها لتنال قصاصها هي الأخرى. في عمل كهذا يصحُّ أن تغيبَ "الذات" انتصارًا للحضور الكثيف "للمضمون". فهل هذا ما حدث؟ كلا. فالذات حاضرةٌ بقوة رغم أن "الآخر" هو بطل الحفل. فإضافة لكون العين الراصدة للشخوص هي "عين الذات"، نجد أن الذات حاضرة بوصفها جزءًا من كل المحفل البشري. فهذه البانوراما الأنثروبولوجيه من السِّعة والشمولية بحيث لن تفلت منها ذاتٌ، أي ذات. ومن ثم فالمحاكِم والمحاكَم والديّان والمُدان والقاضي والمجرم والقانون والعُرف والخروج عليه، كل ما سبق وأكثر هو جزء من شخوص الديوان وجزء من نسيج الذات الشاعرة كذلك. أظن أن هذا الديوان هو تجربة جديدة في تاريخ حلمي سالم، بل وفي تاريخ الحركة الشعرية الراهنة. وليس هذا غريبا على شاعر يهوى التجريب كهدف وكوسيلة في آن. فإذا قال النفريُّ: "فلتنسَ كلَّ ما تعلمت"، فإن الشاعر يجب أن يقول لنفسه طوال الوقت: فلتنس كلَّ ما كتبت.