ويعترف جابر عصفور، في مقدمته، بفقده القدرة على الحياد حيال هذا الديوان تحديدًا. وكيف لا، وقد مرَّ ناقدُنا بالمحنة ذاتها التي مرَّ بها الشاعر، أعني جلطة المخ التي كتبتْ هذه القصائد. "...وإنَّ الحدَّةَ الإيقاعية لهذه الشعرية تغدو قرينةَ درجةٍ لافتة من التكثيف الشعري الذي لا يعرف المطوّلات (...) وإنما يعرف الاندفاعة التي تشبه الموجة الانفعالية التي تنطلق لكي تصل سريعًا إلى هدفها دون معاظلة وفي بساطة وعفوية وتلقائية آسرة وموجعة في آن". هكذا تكلم د. عصفور عن "شعرية المرض" في مقدمته لديوان "مدائح جلطة المخ" للشاعر حلمي سالم، الصادر حديثًا عن سلسلة "كتاب الهلال" في سابقة جريئة تُحسب لرئيس تحرير سلاسل الهلال مجدي الدقّاق الذي استهلَّ الديوان بتصدير عنوانه "كتابُ الهلال... ديوانُه" مُشرِّعًا فيه بابًا جديدًا للشعر داخل أروقة مؤسسة الهلال العريقة، دشنّه بهذه المدائح. وهكذا، فكأنما غدا الديوانُ مرآةً شعريةً يستقرئُ عصفور على صفحتِها تجربتَه الخاصة ويستعيدُ محنته الصحية والوجودية التي إن كاد يبرحها، قبل أن يستّل مبضعَه النقديّ ليعالج النص فنيًّا. ولن أقول إن الشاعر غَنّى مدائحَه حين برحَه المرضُ، بل سأقول إن المرضَ قد برحَ جسَده حين أنشده مدائحه. فبظني أن المرضَ كائنٌ واعٍ مثلما الشعر ومثلما كل الموجودات، ومن ثم ينتظمه القانونُ الحيويّ الأشهر "البقاء للأقوى"، وكان الشعرُ أقوى. فأزاحه. يتأمل الشاعرُ حدوتة المرض ناسجًا خيوطه على الإنسانيّ تارةً، والعاطفيّ تارةً، والوجوديّ تارةً أخرى، وعلى الفنيّ دائمًا. فرسم بأدواته الشعرية لوحاتٍ تشكيليةً لأمكنةٍ وأحداثٍ وشخوصٍ، بعضُها شاركه المحنةَ وحملَ نصيبَه الخاصَ منها كما يليق بالأصدقاء، وبعضُها شخوصٌ استدعاها الشاعرُ من خزانة التاريخ لكي تجالسَه في غرفته بالمشفى فتؤانسه وتسامره وتبدد معه ساعاتِ الوحدة المستطيلة القاتمة التي تحطُّ بعدما يمضي الرفاق.
وطبيعيٌّ هنا أن تأتي القصائدُ نثريةً كانتثارِ النفس والجسد والروح وتفتتها لحظةَ المرض. وطبيعيٌّ أيضًا أن يأتي الشجو الموسيقيُّ على استحياء ورهافة وفي غير إثقال شأن الضيف الحيي. ولذلك سنرى القصائد نثريةً صادمةً في مجملها، على أن خيطًا خليليًّا رقيقًا كالدانتيلا يطرّزها، يظهر ويختفي بين تضاعيف الديوان ليبثه لحنًا موسيقيًّا يُذكي الروح ويشعلها كلما استقطبتها نداهات التفكّر الوجوديّ البعيدة. سنلتقي غير مرة الشطرَ الأشهر لأبي الحسن الحصري القيروانيّ الذي عارضه شوقي: "يا ليلُ الصبُّ متى غده"، يتبدى ويختفي كمفصلياتٍ ميلوديةٍ ينسج عليها الشاعرُ أغنيته الحزينة، كلما علا صوتُ الروحِ العطشى لينادي حبيبتَه البعيدة حين يجثم ظلامُ العنبر ويستطيلُ عليه الليلُ والتوحّد والوجع. ثم: "ستذهبينْ/ ولمْ تنشطِِ الدورةُ الدمويّةُ/ في الرَّجل الذي أسماكِ مُهرةً/ مفكوكةَ السَّرجِ/ وأقام مسرحاً رومانياً على طريق السويس/ ووضعَ على كل درجةٍ عشرةَ ولدانٍ مُخلّدين/ كلُّ ولدٍ في يده خمسةُ ناياتٍ/ وثلاثةُ دفوفٍ وعُودان/ وأمام كل ولدٍ/ حاملٌ عليه نوتةٌ للحنٍ حزين".
والجديد اللافت في هذا الديوان، وهو ما يشي به عنوانه بجلاء، أن الشاعرَ لم يقع في فخ معاتبة المرض وخصامه، أو حتى رصد لحظات الألم الجسدي لعمل كشف حساب يشرعه في وجه الحياة والقدر ليحاكمهما، ومن ثم يتحول الديوان إلى فاتورة وبيان اتهام أو في أفضل الأحوال بكائية على لحظات الاتساق والسلامة الجسدية، وهذا ما عهدناه في معظم شعريات المرض على أية حال، لكن الشاعر قرر مصاحبة العلّةَ والاستئناس بها، بل وراح يتصيد الفتنة الخبيئة في المرض، إذ الحتميّ أن ثمة جمالا في كل قبح وثمة بياضًا في جوف كل بقعة معتمة. لكن أي جمال في أصابعَ ضربها الشللُ والعجز! سيما إذا تعلّق الأمرُ بشاعر حِرفتُه الكتابة بتلك الأصابع. هنا تتبدى العينُ التي بوسعها اقتناص الحياة من العدم، بل وخلقها من موات. فأصابعه المشلولة مازال بوسعها أن تؤدي أعمالا كثيرة مهمة كالبصم بالإبهام على وثيقة رفض تعذيب الحقوقيين، ورفع السبابة في وجه كاتب مزيف، وطبع كفٍّ غارقة في الدم على حوائط المؤسسات كصرخة ابن آدم، ووضع شاشة مبلولة على جبين فتاة مريضة! هنا روح الشاعر التي تذوب في الجمع وتنسى واحديتها رغم العجز ورغم الوجع. وهي اللعبة الصحيّة للشعر "الملتزم" الذي يسرّب الرسالةَ السياسية والاجتماعية والأخلاقيةَ والفكرية بأكثر طرائق الشعرية رهافةً دون جعجعة أو صراخ أو مباشرة. وهو ملمح يسم تجربة حلمي سالم في مجملها منذ ديوانه "سيرة بيروت" وحتى الأخير "مدائح جلطة المخ".
ويلعبُ الشاعر لعبة المقارنة والمناظرات الثنائية بين نقيضين أو شبيهين تفصل بينهما حدود قاطعة. ربما إيمانا بأن المحن الإنسانية هي ترجمات لبعضها والبشر على تنوعهم وثراء تبايناتهم هم ترجمات وأقنعة لبعضهم البعض. ولذلك لن تتكسر النصالُ على النصال، بل "تكسّر القناعُ على القناع". فصلاح منصور في الفيلم العبقري "الزوجة الثانية" سليمٌ يشخّص دور مشلول، وشاعرنا مشلول يحاول أن ينخرط في حياة الأصحاء مشخصًّا سلامة النفس التي تتوهج إذا سلمتِ الروحُ وسلمَ الدماغ وإن ضربته جلطة، فأيهما الأصل وأيهما المقلّد؟ ونيللي كريم راقصة البالية التي "تحوّل العذاب إلى عذوبة" وتقاوم الموتَ بالرقص، تشبه فتاته التي تجلس إلى جواره في قاعة السينما وقد هدّتها الانكسارات في مربع معتم.
ورغم طبيعة هكذا شعريةٍ يتخلّقُ نسغُها من خلايا الألم والترقّب والوجل، لن يفقدَ شاعرُنا حسَّه الساخرَ المداعبَ الذي يشي بروحٍ تحتفي بالحياة وتغني لها رغم مُرِّها، روح تعتلي صهوةَ المرضِ كي تعلو عليه وتسوسه وتقمعه ثم تكتبه شعرًا. فيحوّل الشاعرُ، شأنَ كلِّ فنانٍ، المحنةَ إلى جمال والألمَ إلى عذوبة. في قصائد: "المُنوِّر"، "قلب مفتوح"، "المحترف"، يشاغبُ الشاعر ثلاث شخصوص يزعم أنهم حاولوا محاكاته في محنته المرضية كي يفوزوا بالجمال المضمر في العلّة، ذاك الجمال الذي راح الشاعرُ على طول الديوان يتصيده ويثبته، حتى كاد واحدُنا يرجو لنفسه مرضًا مشابهًا أو محنةً مماثلة. فها هو جابر عصفور "يقلّد" الشاعر ويدخل في سديم الجلطة ذاتها، فهل يحقُّ للمعلِّم "المنوِّر" أن يقّلد تلميذه لمجرد أنه شرح له "طرفة بن العبد" ذات محاضرة؟ ثم شقيقه الذي يغيّر شرايينَ قلبه محاكاةً له كي يفوز بالتفاف الجميلات حول سريره! وكذا محمود الشاذلي الشاعر الذي سقط في الحال ذاتها بمجرد أن نجا منها صديقه وغفل عن تتبع الجلطة التي تسري من الساق إلى الرئة رغم كونه "المحترّف" الخبير في السحابات التي تضرب الشرايين.
هذا الديوان الجميل هو سفرٌ ضخم، على صغره، من المحبّات: محبة الحياة رغم عبثها، محبة الأصدقاء الذين يتجلى جمالُهم في لحظات الشدّة، ومحبة المرض ذاته إذا ما ضمن لنا قصيدةً جميلة، نسغُها شعرٌ وفرح وحبٌّ ونبالة، فنسامحه على الألم انتصارًا للجمال. فإذا ما أضفنا قصائد الديوان إلى مقدمة عصفور الضافية إلى الكلمة البديعة التي ذيّلت الديوانَ "يوم لحلمي سالم"، وكان كتبها الشاعر اللبنانيّ عباس بيضون في جريدة "السفير" إثر سقوط صديقه في براثن الجلطة، وهي للشعر أقرب منها للنثر والنجوى، سيصبحَ لدينا في الأخير سِفرٌ شعريٌّ أدبيٌّ رفيع احتشدتْ له ثلّةٌ من الأقلام الراقية في ساحتنا الأدبية الراهنة من أجل الغناء للمرض.
الحياة- 19 -6-2006