يواصل الشاعر محمد سليمان رحلته الشعرية بصدور ديوانه الجديد أوراق شخصية الصادر حديثا عن دار العيش للنشر والتوزيع.
تتبلور بشكل لافت شعرية الهشاشة لدي سليمان منذ أول قصائد الديوان وحتي نهايته، حيث تبدو اللغة الشعرية في اقصي حالات استصفائها وتقشفها، مع احتفاظها بدرجة عالية من جرسها وغنائيتها، كذلك تتقلص عديد من المفاهيم المطلقة حول كائنات النص الشعري لتتبدي في حالة من التماس الفريد مع وقائعية الشعر والشاعر، لذلك تبدو تلك الكائنات في اقصي حالات حميميتها، بما في ذلك مفردات مثل الوطن والأرض والحرية، والعدل، وما إلي ذلك من مفردات كبري بجلتها شعرية الريادة، بمضامينها القومية وتجلياتها الوطنية.
ومحمد سليمان واحد من أبرز شعراء جيل السبعينيات الذي بلغ عدد من شعرائه سن الستين بقليل وبينهم الشاعر نفسه، وهو جيل يصارع الآن علي موطئ قدم في واقع شديد الرداءة والكابوسية، وفي زمن شديد السكونية، حتي يتبدي وكأنه نموذج شديد السلبية علي الواقع المعيشي.
ليس هذا فحسب، بل إن تلك التجربة ما زال يتم التعامل معها، علي أنها رافد جديد، وانها لم تملك الرسوخ الواجب لتقديمها كشعرية مستقرة، يمكنها الاستكانة ضمن كلاسيكيات الشعر العربي، فهي إذن شعرية ما زالت تحت الاختبار، رغم أن عددا لا بأس به من شعراء الجيل أصدر ما يجاوز العشرة دواوين، وهو فيما نحسب، عدد كاف لإقامة دولة الشعر علي أنقاض دولة الاستكانة والسلبية والسكون القاتل.
ولا شك أن تلك الشعرية كانت ضحية مثالية لدولة الفساد التي دافعت وقامت علي قيم متآكلة، وغير نبيلة في أغلب الأحوال، ولم يكن الشعر السبعيني هو الضحية المثلي لذلك المناخ، بل ينطبق الأمر علي الشعر الذي أتي بعد هذا الجيل، وعلي الكثير من فنون اللحظة من سينما ومسرح وغيرهما.
والديوان الجديد للشاعر محمد سليمان، لا تخلو ظلاله من هذا الألق المحطم الذي يتناثر كبلورات لامعة في أجواء قصائد الديوان، فرغم المناخات المثيرة للإحباط في عموم الواقع المعاش إلا أن الشعر ينجح في استنهاض كائناته الهشة التي تشكل العالم الشعري وتشكل في الوقت نفسه الواقع المعيشي، ويبتكر الشاعر لاستنهاضه الكثير من الحيل والاجتراحات لإضفاء الكثير من الحيوية علي حراكه.
إن الشعور العميق بالفشل والوحدة ومشارفة النهاية والهزيمة كلها مشاعر تتدفق عبر نهير شديد الصغر، لكنه شديد الصفاء، وإذا تأملنا ـ علي سبيل المثال ـ قصيدة يستحق وساما سنطالع علي الفور ذلك الإحساس المفجع بالوحدة والألم، فالشاعر يتحدث عن ظله من دون أن يفصح عن ذلك، فظله هو الوحيد الذي لم يسر خلف غيره، ولم يعلن عليه الحرب، والوحيد الذي ظل صاحبا ومصاحبا له، يقول الشاعر في ختام قصيدته القصيرة عن ظله:
الذي عندما سرت سار
وحين استدرت استدار
وحين حبوت حبا
يستحق وساما
وعشر قصائد مغسولة
بالهديل
ونخبا .
هذا الشعور بالخيبة والألم يبدو متأججا في قصيدته لم تعد تذكرني ويتناول فيها سليمان علاقته بقريته مليج وهي قرية صغيرة ضمن ريف محافظة المنوفية، يستعيد الشاعر تلك العلاقة الغامضة بمسقط رأسه ومسافات الحنين التي تخلقت عبر رحلة طويلة من البعد والخسران والألم، فهو ابن مليج الذي ابتعثته العناية إلي العاصمة ليكون الوالي أو الأمير ، كما يقول في قصيدة، لكنه لم يصبح شيئا من ذلك، لقد تقلص حلمه، وحلم مليج معه ليصبح شاعرا سماؤه الكلام وربما هذا هو ما يدفعه إلي أن يبدأ القصيدة من ذلك المعني الكسير الذي يمنح روح العلاقة وتراجعها الي مناطق الوجع والحدوس المنكسرة، يقول سليمان:
مليج لم تزل هناك في مكانها
تجتر مثل بقرة
ثم يقول بعد هذا المقطع:
مليج لم تعد تذكرني
أنا الذي في أول الصبا
أرسلت مثل جرة في الباص
كي أحتل شارع التحرير
والميدان والأبراد والأوبرا .
إذن ما الذي حدث لذلك الابن غير البار الذي أضاع حلم ناسه وأهله، هل هي خيانة الشاعر وصلفه، وما هذا الاختيار الشيطاني الذي أفلت من يد الزمن، وهل كانت مليج محقة ـ كما يقول سليمان ـ عندما أسقطت ملامحه من عينها ومن كتابها أسقطت ظلاله، نعم إنها تفعل ما هو أقسي من ذلك فهو يعترف بأنه خانها، فلم يعد الميدان في جيبه ولا عصا المعز أو محفظة الوالي، وحسبما ينهي قصيدته معترفا خذلتها، يا لخيبة محمد سليمان .
ويتبدي ذلك الشعور في التناقص والتقلص عندما تتصاغر الأشياء لدي الشاعر إلي أن يكون بإمكانه أن يخفي حيواناته في محفظته، وأن يمنح نفسه في الظلمة لقب الباشا حسبما يقول في قصيدة الديوان الأولي، فبعد أن خسر العالم وصراعاته ليس أمامه سوي أن يقول:
أسمي الورقة عرشا
والقلم وزيرا
وربما يمكننا تفسير جانب من ذلك الإحباط العام الذي يكلل خطي الشاعر في قصيدته القاهرة عندما يقول:
إنها القاهرة
حاصرتها الدشاديش يا صاحبي
والغزاة أتوا من بعيد
ومن لحمها
هل ستعلن حربا علي الميتين
وتفتح للبحر بابا .
والقصيدة ذات المقاطع الأربعة تتمحور حول زوال ملامح المكان وتبدلات ناسه وتآكل قيمه وربما يبرر ذلك الاضطراب الشعوري ذلك الإضراب الايقاعي بتحولاته داخل القصيدة بين المتدارك والمتقارب بعللهما الكثيرة، غير أن الضبط الإيقاعي وانسيابيته سرعان ما يعودان إلي الشاعر في قصيدته أن تصبح شيخا وهي تجربة تبدو تعبيرا عن بلوغ الشاعر ستينيته قبل عدة أشهر، وهو ربما الشعور الذي يحايل الحكمة والهشاشة، حيث يقتضي الأمر أن يخطط ذلك العجوز محمد سليمان كالحكماء حتي يتمكن من عبور الشارع سالما غانما، وتتبدي أعراض الشيخوخة في ذلك الحس المأساوي الذي يعبر عن الانتقال الي مستويات أخري من الوعي بالزمن، يقول الشاعر:
أن تصبح شيخا
يعني
أن ينساك المخبر
والشوارع
وصيادو الأخبار
ويعني
أن تأمنك الحسناوات .
وتبدو قدرة الشاعر علي اقتناص الهموم العامة التي لا تخلو من أبعاد سياسية غير خافية، بل هي معلنة دائما، فقد نجحت الشعرية في تحويل مناخات القهر الذاتي، صورة صارخة للإدانة بمعناها السياسي المباشر، دون أن تقع الشعرية في الخطابية أو الثرثرة والرطانة، وهو ما يتبدي في العديد من قصائد الديوان لا سيما في صورة النيل التي تسربت في أكثر من قصيدة، فهو الذي يمكن أن يفاجئنا بالذهاب جنوبا أو غربا أو شرقا ليجف أو ينتحر، وتحول النيل الي تعويذة أولي للحياة ومن ثم اصبح غضبه كاسرا وعنيفا ويمكنه أن يغرق أسرتنا في لحظات هياجه، لقد حول الشاعر النيل الي وحش كاسر، يحاول أن يلجم غضبه علي ناسه، لكنه لا يتخلي عن كونه باعث الحياة، وربما لهذا هو غاضب ومخيف، والصورة التي تتبدي في قصيدة الكلاب في مختتم الديوان تشير إلي تلك القيمة المهدرة للحرية والعدالة والمساواة، بعد أن تحول الانسان الي كلب ليس كلبا فحسب بل كلب الباشا .
أما قصيدة الديوان عن جدارة فهي قصيدة مثل امرأة لا أعرفها التي تتكون من تسعة قصائد قصيرة أو مقطعية كما يحب سليمان أن يسميها وهي قصيدة تستعيد شعرية صافية رسخها سليمان منذ ديوانه سليمان الملك وامتدت في ديوانه بالأصابع التي كالمشط ، و اسمي ليس أنا وعدد آخر من دواوينه اللافتة.
فهي قصيدة بناء بامتياز، تتنامي فيها صورة شديدة التأثير للمرأة التي نسجت صورتها وجه الشاعر، الذي اعتبر الزمن الذي لا يمحي لا يمكن له أن يعصف بأنهار من هذا النوع، انها حياة تبدأ مع امرأة في العشرين وتستمر في الصعود مع الأشياء الجميلة، ثم التداعي مع الكثير من القيم التي تداعت ويختتم الشاعر قصيدته بتأييد ذلك الفقد المؤلم والنبيل معا:
لكنني رسمتها بحرا
لكي أظل سابحا كالحوت
في ظلامها
وكي أقول كلما رأيت ساقها أو يدها
لجامعي الفراش
هذه سواحلي .
إن ديوان أوراق شخصية للشاعر محمد سليمان يمثل عتبة مهمة في تجربته الشعرية، بل وربما في تجربة جيله، بما يحمله من فيوضات الفقد وعمق الألم الإنساني الذي تستبطنه لغة شفافة ورشيقة تستعيد الكثير من ألق الموسيقي وجرسها الصاخب أحيانا والهادئ في معظم الأحايين، ولم يعطر صفو بعض قصائد الديوان سوي الركون ـ أحيانا ـ الي بعض النقوش اللغوية المستهلكة للتراث التفعيلي الطويل الذي تسلل الي ثنايا بعض النصوص.
القدس العربي
29/05/2008