القاهرة - “القدس العربي” عن دار “ميريت” في القاهرة صدر للشاعر إبراهيم المصري كتابه الشعري “الوعي والوجود” وقد يبدو عنوان الكتاب منافياً للسائد عربياً في عناوين كتب الشعر، وقد يبدو الكتاب كذلك تدخلاً بالشعر في حقل الفلسفة، غير أن الكتاب الذي جاء في 306 صفحات من القطع المتوسط، يتدخل بالشعر لا ليقول قولاً فلسفياً، ولكن لكي يطل من شرفة الشعر على وجود الإنسان ووعيه بهذا الوجود، انطلاقاً بالطبع من تجربة المصري الحياتية والإنسانية والشعرية.
*وكتاب “الوعي والوجود” الذي رسم غلافه الفنان أحمد مراد، مكون من ثلاثة أجزاء هي “الباب - الباب الخلفي - الخروج” وتشكل هذه الأجزاء مجمل الرؤية التي حاولها المؤلف في كتابه الشعري الجديد.
أصدر المصري عددا من الكتب والدواوين منها “لعبةُ المراكب الورقية (رواية) 1998 دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.(الرواية الفائزة بالمركز الثالث في الدورة الأولى لجائزة الإبداع العربي - الإصدار الأول، الشارقة) ، “الزَّهْرَوَرْدِيَّة “(شعر) 2007 طبعة خاصة. “رصيف القتلى ..مشاهدات صحافي عربي في العراق” 2007 المؤسسة العربية للدراسات والنشر،(الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة - فرع الرحلة الصحافية، 2006)، “الديوان العراقي” (شعر) 2008 المركز الثقافي العربي - السويسري، “مقتطفات البيرة” (شعر) 2008 دار شمس، “الوعي والوجود” (شعر) 2009 دار ميريت . وبمناسبة صدور كتاب “الوعي والوجود” تحدثنا الي ابراهيم المصري عن تجربته الشعرية والعلاقة بين عمله الإعلامي كمحرر ومراسل للأخبار ومعد للبرامج في الإعلام التلفزيوني، وعن رؤيته لراهن قصيدة النثر في العالم العربي وفي مصر. وهنا نص الحوار :
*لغتك الشعرية تنتمي إلى وعي خاص يحتفي ببلاغة غير تقليدية تجد صداها في التأصيل لفكرة الراهنية؟
بعيداً عن مسألة التقليدي وغير التقليدي بلاغياً، أود أن أوضح أمرين:
الأول هو أنني لا أكتب نصوصاً متفرقة ثم أجمعها تحت عنوان لتصبح “كتاباً شعرياً”، لقد فعلت ذلك في البدايات، ولكنني منذ عام 1990 أكتب “موضوعاً شعرياً” ومن ثم يصبح هذا الموضوع بعد كتابته “كتاباً شعرياً” ويمكن أن تتحقق من ذلك في كتب لي مثل (الليل أسود، لا ينسى أكثر ولا ينسى أقل، وحجر العين) وهي كتب مخطوطة، (وفي الديوان العراقي، مقتطفات البيرة، الوعي والوجود) وهي كتب منشورة.
الأمر الثاني مترتب على الأول، بمعنى أنني طالما أكتب “موضوعاً شعرياً في كتاب” فهذا الموضوع يأتي ببلاغته الخاصة به، ولهذا يمكن أن يختلف الأداء بلاغياً بين كتاب “الزَّهْرَوَرْديِّة” وكتاب “الديوان العراقي” وكلاهما منشوران، وثمة أداء مختلف، في كتاب ما زلت أشتغل عليه بعنوان “الديوان الإنساني”.
فكل كتاب أكتبه، يحمل موضوعه الخاص به وبالتالي يحمل بلاغته الخاصة.
أمَّا فكرة الراهنية، فلا تشغلني كثيراً، لأنني أيضاً أعتبر كل كتاب شعري “مُنتجاً” وهذا المُنتج يستمد راهنيته من موضوعه، وبالتالي أنا لا أدعي أنني أؤصل مثلاً لفكرة الراهنية. إنني ببساطة أكتب كما أحيا وأفكر وأتكلم وأعي العالم من حولي وهذا كل شيء.
*من أي منطقة يأتي الشعر؟ هل من الراهن فحسب، وكيف تنظر لفكرة تاريخية النص الشعري أو لازمنيته؟
فكرة الراهنية مرتبطة في رأيي بالواقع، والشعر يأتي أكثر من الواقع ومن الراهن الذي نعيشه، لكن الإنسان كان شاعراً أم غير شاعر، يحمل تاريخ البشرية كلها وحاضرها وماضيها ومستقبلها في ذاته، وبالتالي يتجلى هذا المحمول في الشعر كما في أي منتج بشري آخر، وقد تتعدى نصوص مثل “المعلقات” راهن وزمنية إبداعها، لكنني لا أهتم كثيراً بمدى تحقق ذلك فيما أكتبه، وكل نص في النهاية يحمل وعي زمنه وأزماته وأحلامه، الشعر يأتي من الواقع ومن راهنية كاتبه، أمَّا إلى ماذا يؤدي فهذا أمر آخر.
*هل استطاعت قصيدة النثر العربية تحقيق قطيعة حقيقية واعية بدورها تاريخياً؟ وهل نص اللحظة الراهنة يحقق مسافة مقبولة بينه وبين ابتذالات الواقع وعاديته؟
على الأقل كانت جماعة “مجلة شعر” على سبيل المثال، واعية بأنها تعمل على قطيعة حقيقية، فالوعي هو وعي شعراء أنتجوا في النهاية نصوصاً مثّلت قطيعة، لكن قطيعة مع ماذا؟ بالطبع مع القول الشعري بشكليه المقفَّى والتفعيلي، لكني أشير إلى نقطة هامة هنا أشار إليها باحثون، وهي أن قصيدة النثر تمثل قطيعة مع الشفاهي والسمعي في الثقافة العربية، وكلاهما ثقافة جماعة، فيما قصيدة النثر تركز على الإنسان الفرد في مواجهة القصيدة، وبهذا المعنى فإنها تحرير كذلك لفردانية هذا الفرد من ثقافة الجماعة، ولا يعني هذا أن قصيدة النثر غير قابلة للقراءة في أمسية مثلاً، فقد حدث هذا ويحدث، لكنها تظل في النهاية قصيدة رسالة بين شاعر فرد ومتلق فرد، فالتطريب وخصال الجماعة لن تكون موجودة فيها، ولن يرى فيها المتلقي في الغالب سوى صورة كاتبها، التي قد تتقاطع مع صورة المتلقي بشكل أو بآخر، لكن لا جماعة هنا ولا: ملأنا البر حتى ضاق عنا... وماء البحر نملؤه سفينا.
وفي رأيي.. نعم.. قصيدة النثر بما أنتجه كتابها استطاعت تحقيق قطيعة واعية بدورها تاريخياً وإبداعياً كذلك.
أما كون نص اللحظة الراهنة قد حقق مسافة بينه وبين ابتذالات الواقع وعاديته، فهذا أمر يتطلب دارسة وافية لمُنتج نص اللحظة الراهنة، لكن أود أن أقول هنا، لماذا هذه المقارنة بين كتابة قصيدة والواقع؟ إن لكليهما قوانين مختلفة، والواقع قد يكون مبتذلاً وعادياً والنص كذلك، صحيح أن السؤال يعني أن الإبداع يعني درجة أرقى من الواقع، باستقطابه عبر نص شعري أو لوحة، لكن في النهاية الواقع هو الإنسان، والإنسان أرحب دائماً من أي نص..
والسؤال هو في الحقيقة أننا نعرف النص، لكن هل نعرف حقاً وبدرجة كافية الواقع والإنسان؟
وعلى أي حال، فالشعر في علاقته بالواقع، ليس حكراً على الشعراء، وكما قلت في كتاب “الشعر كائنٌ بلا.. عمل”:
لماذا نعطي الشعراء
الحقَّ الحصري
لجلب الشعر
يمكننا القيامُ بالمهمة
كأن نحرّكَ كرسيَّاً
من مكانهِ أمام الجدار
إلى الجلوس هكذا...
أمام النافذة.
*ماذا عن ديوان “مقتطفات البيرة” وكيف يمكن لمثل هذه الأفكار النوعية أن تحقق درجة من الشمول الإنساني؟
كتاب “مقتطفات البيرة” أحدث قدراً من الصخب المبهج حينما صدر العام الماضي عن دار شمس في القاهرة، وهو بالنسبة لي “تجربة لذيذة في الكتابة” فهل لهذا علاقة بنوعية الأفكار؟ إنني أقول أولاً إن الكتابة الشعرية عن وفي الخمريات تقليد قديم قدم البشرية ذاتها، وفي التراث العربي سوف نجد مناطق مضيئة شعرياً كخمريات أبي نواس مثلاً، والبيرة في الحقيقة مشروبٌ إنساني، والكتاب ليس مديحاً في البيرة بقدر ما هو كتاب شعر في البيرة، وبالطبع يحتفي بها، ومن هنا يمكن أن يجد الكتاب صدى في الإشارة إلى “الشمول الإنساني” وكل كتابة في الحقيقة تحمل قدراً من هذا الشمول الإنساني، لقد انبثق كتاب البيرة في مخيلتي أثناء سيري في الشارع عصر أحد الأيام، وحينما عدت إلى البيت كتبت عدة نصوص، لكنني أنجزت الكتاب كاملاً في بار وعلى مدى اثنين وأربعين يوماً متواصلة، وشعرت بعد أن أنهيت الكتاب بسعادة القول الشعري الذي يحتفي بالحياة، والشعر كله بالطبع في رأيي يحتفي بالحياة مهما كان موضوعه. إن كتاب “مقتطفات البيرة” من أحب الكتب التي كتبتها إلى نفسي.
*كيف ترى مشهد قصيدة النثر العربية والمصرية في القلب منها؟
الكتابة كما كل فعل إنساني، هي احتفاء بالحياة، وينطبق هذا في رأيي على قصيدة النثر العربية والمصرية كذلك، وأن نتحدث عن المشهد وكيف أراه، فهذا أمر بالغ الصعوبة، لأنه يحتاج إلى إحاطة وافية، لكنني وبشكل عام أرى مشهد قصيدة النثر العربية والمصرية كذلك حيوياً للغاية، وما يؤذي هذا المشهد هو انقطاعه إلى حد كبير عن الناس أو إن شئت عن الجمهور، وهذا الانقطاع إن صح ليس مشكلة المشهد ولا مشكلة الشعراء ولا مشكلة الجمهور، إنه مشكلة الإعلام الذي يمكن أن يعطي لمطربة متواضعة القيمة أو لواعظ فضائي ما لا يعطيه لشاعر كي يطل على الناس والجمهور، والصفحات الأدبية أو الثقافية في الصحف والصحافة الأدبية بشكل عام هي صحافة مغلقة على أصحابها وكتابها، كما أن تلقي الناس أو الجمهور للشعر ما زال مرتبطاً بحاسة السمع والإنصات والشعر الموزون، والنصوص التي تحمل مواضع عامة كفلسطين مثلاً، ومهما كان الأمر فإن ثمة شعراء جيدين يكتبون قصيدة النثر في العالم العربي وفي مصر كذلك.
*ماذا عن علاقتك بالشعر السابق عليك وكيف ترى مستقبل الشعر لدينا؟
علاقتي بالشعر السابق عليَّ علاقة حياة، وكل نص جيد قديماً كان أو موغلاً في القدم هو بالنسبة إليّ نصٌّ حي وراهن، وثمة أسماء لها في نفسي مكانة خاصة، سواء أكانت معاصرة أم سابقة على زمننا هذا، وعلى سبيل المثال: علي قنديل، أسامة الدناصوري، طرفة بن العبد، المتنبي، وفي نفسي أيضاً مكانة خاصة للشاعر الفرنسي إيف بونفوا، ولشاعر بنغلاديش العظيم شمس الرحمن.
ومستقبل الشعر لدينا، هو بالضبط مستقبل الحياة، ولا أؤمن كثيراً بمقولات مثل انقراض الشعر، أو تراجع الشعر أمام الرواية، وعن مصر تحديداً، فإن ثمة أسماء شابة تكتب بوعي وذائقة إبداعية مختلفة، وعلى سبيل المثال: منتصر عبد الموجود من الإسكندرية، وأيضاً فإن شعر العامية في مصر له حضور لافت وحيوي، وثمة أسماء أيضاً تكتب شعراً عامياً بوعي وذائقة إبداعية مختلفة، وعلى سبيل المثال: أمينة عبد الله من الإسكندرية، والمهم ألا ننغلق في مقولات جامدة تجاه الشعر أو تجاه أي نشاط إنساني في الحياة، وأن نكون قادرين على المستقبل بكل ما نستطيع من إنتاج وإبداع وحرية وحياة.
*كتابك “رصيف القتلى - مشاهدات صحافي عربي في العراق” ، ماذا يعني لك هذا الكتاب الذي يبدو بعيدا عن حقلك الابداعي؟
هذا الكتاب أولاً هو توأم كتاب الديوان العراقي، بالرغم من أنه سرد عن رحلتي عمل في العراق، لقد عملت في العراق عامي 2003 و2004 كمراسل تلفزيوني، وكما قلت في مقدمة كتاب “رصيف القتلى..”، إنه ليس كتاب مغامرات مراسل تلفزيوني في منطقة حرب وأزمة، وإنما حاولت قدر ما سمحت به الظروف أن ألتقط الوجه الإنساني للحالة العراقية، عبر ثلاثين فصلاً، وأنا في الحقيقة مهمومٌ بالإنسان في عملي وكتاباتي، الإنسان في تعبه وعجزه وقلة حيلته أمام ما يحدث له وحوله وفيه، وهذا الكتاب حصل عام 2006 على جائزة ابن بطوطة - فرع الرحلة الصحافية التي يمنحها سنوياً مركز الأدب الجغرافي، وبالرغم من اختلاف وجهة نظري في الكتاب عن وجهة نظر المركز إلا إنه منح الكتابَ الجائزة، وهذا في حد ذاته أمر يستحق الشكر والتقدير والاحترام، لأن ثمة جوائز في العالم العربي ليست مبرأة من الخلط، وأن يكون الكتاب في قائمة أسبوعية لأكثر الكتب مبيعاً في العالم العربي كما جاء في قائمة “القدس العربي”، فهذا أمرٌ يسعدني أولاً، وثانياً يعني بالنسبة إليّ أن الرسالة التي أحببت أن أرسلها عبر كتابي تصل إلى القارئ العربي، وهي ببساطة أن التركة التي تركها النظام العراقي السابق كانت شديدة الوطأة على الشعب العراقي، وأن أحد نتائج هذه التركة، بل ربما نتيجتها الكبرى هي تعريض العراق للغزو الأمريكي، ومهما كان ما يحدث الآن أو حدث خلال السنوات الماضية، فإن العراق سوف ينجو كما قلت في آخر سطر من الكتاب: العراق سوف ينجو.
أود أن أشير كذلك إلى كتاب (RED FLAGS) الذي كتبه جندي عراقي هو عامر فارس، وقمت أنا بتحرير الكتاب الذي صدر بالإنكليزية هذا العام في الولايات المتحدة. إن الكتاب مذكرات جندي عراقي شارك بالفعل في الحرب الأخيرة على العراق، ومن يقرأ التفاصيل يدرك إلى أي مدى كان الجيش العراقي في وضع مؤسف، وكيف أن القيادة العراقية عرضت جيشها كما عرضت العراق لموقف غير متكافئ القوة، بل وساهمت بقصد أو بدون قصد فيما شاهدناه جميعاً يوم التاسع من نيسان (أبريل) عام 2003. وأتمنى أن تبادر دار نشر عربية إلى تبني نشر النسخة العربية من كتاب (RED FLAGS) أو (أعلام حمراء(
* تعمل صحافياً ومعداً للبرامج في التلفزيون، وتكتب الشعر، فأي تأثير متبادل بين المجالين فيما تنتجه منهما؟
أشير أولاً إلى رابط أساسي بين المجالين - التلفزيون والشعر - وهو (الصورة) حتى وإن كانت منتجة عبر التلفزيون واقعياً أو عبر جماليات الشاشة، حتى وإن كانت منتجة عبر الشعر بالمخيلة التي تعيد إنتاج الواقع شعرياً، وبدون أن يكون ثمة قصد في عملي وكتاباتي، فإن العمل التلفزيوني أفادني فيما يتعلق بتقنية الصورة الشعرية، فيما انعكست علاقتي بالشعر على الأداء المهني في عملي الصحافي والبرامجي، ولا يعني ذلك أنني أحوِّل المادة التلفزيونية إلى شعر، وإنما أهتم كثيراً بما أسميه “الصرامة” في العمل التلفزيوني، وهو عمل في الحقيقة يتطلب فعلاً قدراً كبيراً من الصرامة التي يجب أن تتوافر في الجملة الشعرية أيضاً حتى لا تتحول هذه الجملة إلى مجرد إنشاء لفظي.
كما أن العمل التلفزيوني والإخباري تحديداً، أفادني في الاطلاع المستمر على أحوال العالم والبشر، وبشكل مباشر أحياناً حينما أغطي أحداثاً، وهذا بالطبع أدى إلى توسيع الرؤية التي أنطلق منها في كتابة الشعر، فالشعر وإن كان إنتاجاً في اللغة، فإنه أيضاً مرئيات حياة، وكلما تعددت هذه المرئيات كلما كان الشاعر أقدر على الكتابة بالشمول الإنساني الذي أشرت إليه في سؤالك الخاص بمقتطفات البيرة، وفي النهاية العمل التلفزيوني عدا كونه مهنة فإنه أيضاً إبداع، ولهذا لم أشعر بالغربة المهنية التي يمكن أن يشعر بها شاعر أو كاتب مثلاً في عمله، فالشعر والتلفزيون كلاهما إبداع، وإن اختلفت قوانين الإنتاج فيهما.
القدس العربي
01/02/2010